عن ابن عمرَ وأبي هُريرةَ رضي الله عنهم، أنهما سَمعا رسولَ اللهﷺ يقولُ على أعوادِ مِنْبَرِه: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عن وَدْعِهمُ الجُمُعاتِ، أو لَيَخْتِمَنَّ اللهُ على قُلوبِهم، ثم لَيَكونُنَّ منَ الغافِلينَ»
عن ابن عمرَ وأبي هُريرةَ رضي الله عنهم، أنهما سَمعا رسولَ اللهﷺ يقولُ على أعوادِ مِنْبَرِه: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عن وَدْعِهمُ الجُمُعاتِ، أو لَيَخْتِمَنَّ اللهُ على قُلوبِهم، ثم لَيَكونُنَّ منَ الغافِلينَ»
وَدْعِهِم: الوَدْعُ: مصدرُ وَدَعَ يَدَعُ؛ أي: تَركُ[1]
ليختمَنَّ: الختمُ: الطَّبْعُ، وأصلُه من التغطية[2]
المعنى الإجماليُّ للحديث
(روى ابن عمرَ وأبو هُريرةَ ﭭ أنهما سَمعا رسولَ الله ﷺ يقولُ على أعوادِ مِنْبَرِه)؛ أي: على درجات مِنبَره، أو مُتَّكِئًا على أعواد مِنْبَرِه في المدينة. «لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عن وَدْعِهمُ الجُمُعاتِ»؛ أي: فلينتهوا عن تركهم صلاة الجمعة. «أو لَيَخْتِمَنَّ اللهُ على قُلوبِهم، ثم لَيَكونُنَّ منَ الغافِلينَ»؛ أي: وإلا سيختم - الختم بمعنى الطَّبْعُ والتغطية - على قلوبهم، فتُمنَع من الهداية حتى لا تَعرِفَ معروفًا، ولا تُنكر منكرًا، ثم يصيرون في جُملة الغافلين.
الشرح المفصَّل للحديثفي هذا الحديث بيانٌ لوجوب الجُمُعة، والتحذير من تركها، وبيان عقوبة المتهاوِن في حضورها؛ فإن الجُمُعة فرضُ عَين على المسلمين جميعًا، وقد نقَل الإجماعَ على ذلك بعضُ أهل العلم؛ كابن المنذر[1]، وابن القطَّان[2] رحمهما الله، وقد شذَّ بعضُ العلماء، فزعَم أنها فرضٌ على الكفاية، ونُقل عن الشافعيِّ حكايةُ ذلك، ولا يصِحُّ ذلك عنه، وقال أصحابه: لا تحِلُّ حكاية ذلك عنه[3]
ووجهُ الدلالة من الحديث على الوجوب هو الوعيدُ الشديدُ؛ فإن العقاب، والوعيد، والطَّبْعَ، والخَتْمَ، إنما يكون على الكبائر[4]
والأدلَّة على وجوب الجُمُعة غيرَ هذا الحديث، منها:
قوله تعالى:
﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾
[الجمعة: 9]،
وقوله: (فاسْعَوْا)، وقوله: (وَذَرُوا): فعل أمر يقتضي الوجوب.
وعن أبي الجَعد الضَّمْريِّ رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال: «مَن ترَك ثَلاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بها، طَبَع اللهُ على قلبه»[5]، وعن حفصةَ زوجِ النبيِّ ﷺ، أن النبيَّ ﷺ قال: «على كل محتلِمٍ رَوَاحٌ إلى الجُمُعة، وعلى كل مَن رَاحَ إلى الجُمُعة الغُسل»[6].
ومعنى الحديث أن أحد الأمرينِ كائنٌ لا محالةَ، إما الانتهاء عن ترك الجُمُعات، أو ختم الله على قلوبهم؛ فإن اعتيادَ تَركِ الجُمُعة يُغلِّب الرَّيْنَ على القلوب، ويُزهِّد النفوسَ في الطاعة، وذلك يؤدِّي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين[7]
والختمُ: الطبعُ، وأصلُه: التغطية، وهو أن يُغطَّى على القلوب فتُمنَع من الهداية حتى لا تعرِف معروفًا، ولا تُنكرَ منكرًا، ومنه
قوله تعالى:
﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾
[البقرة: 7]،
فالله سبحانه وتعالى يجعل شيئًا على قلوبهم يمنعُها عن اتِّباع الحقِّ، ووصول الخير إليه؛ وذلك بسبب ذنوبهم[8]
وفي الحديث إشارةٌ إلى تحذير مَن ترك الجُمُعة إهمالًا لها مع اعتقاد وجوبها عليه، إلا أن فيه من التحذير لِمَن لا يَعتقد وجوب الجُمُعة ما هو أشدُّ مما هو لِمَن يتركها مع اعتقاد وجوبها؛ كفعل الرافضة الذين يتركونها بتأويل يُعلِّقونه على مُستحيل، وهو أنه لا تصحُّ الجُمُعة إلا خلفَ الإمام المعصوم[9]
النقول
قال الصنعانيُّ : "أي: منبره الّذي من عُود، لا على الّذي كان من الطِّين، ولا على الجِذع الّذي كان يستند إليه، وهذا الْمِنبر عُمِل له ﷺ سنةَ سبع، وقيل سنة ثمانٍ، عَمِله له غلام امرأة من الأنصار كان نجَّارًا، واسمه - على أصحّ الأقوال – ميمون، كان على ثلاث دَرَج، ولم يزل عليه حتّى زاده مروانُ في زمن معاوية ستَّ دَرَج من أسفله... قال: إنّما زدتُ عليه لَمّا كَثُر النّاس، ولم يزل كذلك حتّى احترق المسجد النّبويُّ سنةَ أربع وخمسين وستّمائة، فاحترق"[1]
قال ابن الأثير : "أي: عن تركهم إيَّاها والتخلُّف عنها، يقال: ودَع الشيءَ يَدَعُه وَدْعًا، إذا ترَكه"[2]
قال الملَّا علي القاري : "وقال الطّيبيُّ: والنّحاة يقولون: إنّ العرب أماتوا ماضي (يدع) ومصدره، واستغنَوا عنه بـ(ترك)، والنّبيُّ ﷺ أفصح العرب، وإنّما يُحمَل قولهم على قلَّة استعمالها، فهو شاذٌّ في الاستعمال، صحيح في القياس.اهـ.
وقد جاء في قراءة شاذّة
{ما وَدَعَكَ ربُّك}
[الضحى: 3]
بتخفيف الدّال، وأيضًا يردُّ على الصّرفيّين حيث قالوا: وحذف الواو في (يدع) يدلُّ على أنّ المحذوف واو لا ياء؛ لأنّه لو كان ياءً، لما حُذف، فكأنّهم ما تشرَّفوا بمعرفة القراءة والحديث، ولهذا قال التّوربشتيُّ من أئمّتنا: إنّه لا عبرة بما قال النّحاة؛ فإنّ قول النّبيّ ﷺ هو الحجّة القاضية على كلّ ذي لهجة وفصاحة"[3]
قال ابن الأثير : "الطَّبْعُ بالسكون: الخَتْمُ، وبالتحريك: الدَّنَسُ. وأصله من الوسخ والدَّنس يغشيانِ السَّيف. يقال: طَبَعَ السيفُ يطْبَعُ طبْعًا. ثم استُعمِل فيما يُشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من المقابح" [4]
قال ابن المنذر : "وأجمعوا على أن الجمعة واجبةٌ على الأحرار البالغين المقيمين الذين لا عُذْر لهم"[5]
قال ابن القطَّان الفاسيُّ : "وأجمعوا أن الجمعة واجبة على الأحرار والبالغين المقيمين الذين لا عُذر لهم إلا المسافر" [6]
قال النوويُّ : "فيه استحباب اتّخاذ المنبر، وهو سنَّة مجمَع عليها، وقوله: «وَدْعِهم»؛ أي: تركهم، وفيه أنّ الجمعة فرض عَين، ومعنى الخَتم: الطَّبع والتغطية"[7]
قال ابن رجب : "فتبيَّن بهذا: أن النبيَّ ﷺ أمر بإقامة الجُمُعة بالمدينة، ولم يُقِمْها بمكَّةَ، وهذا يدلُّ على أنه كان قد فُرِضت عليه الجمعة بمكَّةَ. وممن قال: إن الجُمعة فُرضت بمكَّةَ قبل الهجرة: أبو حامد الإسفرايينيِّ من الشافعية، والقاضي أبو يعلى في "خلافه الكبير" من أصحابنا، وابن عقيل في "عمد الأدلة"، وكذلك ذَكَره طائفة من المالكية، منهم: السهيليُّ وغيره. وأما كونه لم يفعله بمكَّةَ، فيُحتمل أنه إنما أمر بها أن يقيمها في دار الهجرة، لا في دار الحرب، وكانت مكَّةُ إذ ذاك دارَ حربٍ، ولم يكن المسلمون يتمكَّنون فيها من إظهار دينهم، وكانوا خائفين على أنفسهم، ولذلك؛ هاجروا منها إلى المدينة، والجُمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ، منها الخوفُ على النفس والمال" [8]
قال الملَّا علي القاري : "يقول على أعواد مِنبره؛ أي: درجاته، أو متّكئًا على أعواد منبره في المدينة، وذكره للدّلالة على كمال التّذكير، وللإشارة إلى اشتهار هذا الحديث، «لينتهينّ أقوام»، قيل: اللّام للابتداء، وهو جواب القسم، ذكره الطّيبيِّ. «عن ودعهم الجُمعات»؛ أي: عن تركهم إيّاها والتّخلُّف عنها، من: وَدَع الشّيء يَدَعُه وَدْعًا، إذا تركه... «أو ليختمنّ اللّه على قلوبهم»؛ أي: ليمنعنّهم لطفه وفضله، والختم الطّبع، ومثله الرّين، قال عياض: وقد اختلف المتكلّمون في هذا اختلافًا كثيرًا، فقيل: هو إعدام اللّطف وأسباب الخير، وقيل: هو خَلق الكفر في صدورهم، وهو قول أكثر متكلّمي أهل السّنَّة. «ثمّ ليكوننّ من الغافلين»؛ أي: معدودين من جملتهم، قال الطِّيبيُّ: (ثمّ) لتراخي الرّتبة؛ فإنّ كونهم من جملة الغافلين المشهود عليهم بالغفلة أدعى لشقائهم، وأنطق لخسرانهم من مُطلَق كونهم مختومًا عليهم، قال القاضي: والمعنى أنّ أحد الأمرين كائن لا محالة، إمّا الانتهاء عن ترك الجمعات، وإمّا ختم اللّه على قلوبهم؛ فإنّ اعتياد ترك الجمعة يغلِّب الرَّين على القلب، ويزهِّد النّفوس في الطّاعة، وذلك يؤدّي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين"[9]
قال الصنعانيُّ : "«لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ»؛ أَيْ: تَرْكِهِمْ «الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمن اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ» الْخَتْمُ: الاستيثاق من الشّيء بضرب الخاتم عليه؛ كتمًا له وتغطيةً؛ لئلّا يُتوصَّل إليه، ولا يُطَّلع عليه، شُبِّهت القلوب بسبب إعراضهم عن الحقِّ، واستكبارهم عن قبوله، وعدم نفوذ الحقِّ إليها، بالأشياء الّتي استُوثِق عليها بالختم، فلا يَنفُذ إلى باطنها شيء، وهذه عقوبة على عدم الامتثال لأمر اللّه، وعدم إتيان الجمعة من باب تيسير العسرى، «ثمّ ليكوننّ من الغافلين» بعد ختمه تعالى على قلوبهم، فيَغفُلون عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال، وعن ترك ما يضرّهم منها. وهذا الحديث من أعظم الزّواجر عن ترك الجمعة، والتّساهل فيها، وفيه إخبار بأنّ تركها من أعظم أسباب الخِذلان بالكلّيّة، والإجماع قائم على وجوبها على الإطلاق"[10]
قال الشوكانيُّ : "قَوْلُهُ: (وَدْعِهِمْ)؛ أَيْ: تَرْكِهِمْ. قَوْلُهُ: (أَوْ لَيَخْتِمنَّ اللَّهُ تَعَالَى). الْخَتْم: الطّبع والتّغطية. قال القاضي عياض: اختلف المتكلِّمون في هذا اختلافًا كثيرًا، فقيل: هو إعدام اللُّطف وأسباب الخير. وقيل: هو خلق الكفر في صدورهم، وهو قول أكثر متكلِّمي أهل السّنّة، يعني الأشعريّة. وقال غيرهم: هو الشّهادة عليهم. وقيل: هو علامة جعلها اللّه تعالى في قلوبهم ليعرف بها الملائكة من يمدح ومن يذمُّ. قال العراقيُّ: والمراد بالطّبع على قلبه أنّه يصير قلبه قلبَ منافق"[11]
قال ابن القيم : "إن فيه صلاة الجمعة التي خُصَّت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائصَ لا توجد في غيرها، من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإقامة، والاستيطان، والجهر بالقراءة"[12]
قال ابن العربيِّ : "التركُ للعبادة على ثلاثة أقسام: الأول لعُذر، والثاني لجَحْد، والثالث للإعْراض عنها جهلًا؛ فأما الأول فيُكتَب له أجرُه، وأما الثاني فهو كافرٌ، وأما الثالث فهو المتهاوِنُ، وهي من جملة الكبائر، وسواءٌ صلاها ظُهرًا، أو تركها أصلًا"[13]
قال ابن خُزيمة : "باب الدّليل على أنّ يوم الجمعة يوم عيد، وأنّ النّهيَ عن صيامه إذ هو عيد، والفرق بين الجمعة وبين العيدين: الفطرِ والأضحى، إذ جاء بنهي صومهما مفردًا، ولا موصولًا بصيامٍ قبلُ ولا بعدُ"[14]