عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً،  وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ».

عناصر الشرح

غريب الحديث

«الدُّثور» الأموال الكثيرة، واحدُها (دَثْرٌ).

بُضْع: يُطلَق على الجِمَاع، وعلى الفَرْجِ نفسِه.

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو ذَرٍّ – رضي الله عنه -: (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ)؛ أي: استأثر أصحاب الأموال الأغنياء بالأجور، وأخذوها عنَّا. (يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ)؛ أي: نحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال، ونحن لا نَملِك المالَ، فلا نتصدَّق.

قال : «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» أي: إذا فاتتكم الصدقة بالمال، فهناك الصَدَقة بالأعمال الصالحة؛ بالتسبيح والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر. «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»؛ أي: في جِمَاع أحدِكم حَلِيلتَه صَدَقةٌ.

قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟) وكأنَّهم تعجَّبوا أن يؤجروا على إتيان شهواتهم، فسألوا عن ذلك.

 قال : «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»؛ أي: كما أنه يأثم بوَضْعِها في الحرام، سيُثاب على وضعها في الحلال إذا نوى قضاءَ حقِّ الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف، أو طلب وَلَد صالح، أو إعفاف نفسه وزوجتِه، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.

الشرح المفصَّل للحديث

لقد خَلَق الله تعالى الخَلْقَ متفاوتين في الحياة، ومما يتفاوتون فيه الأرزاقُ؛ فهناك الغنيُّ والفقيرُ وما بينهما، فعلى الغنيِّ الشُّكر، وعلى الفقير الصبر، وقد جَعَل الله تعالى الحياة للإنسان دارَ اختبار، ومَزرَعةً للآخرة، ومجالًا رَحْبًا للتنافس على طاعة الله، والتسابُق في ميادين الخير؛

قال تعالى:

﴿وَسَارِعُوٓا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾

[آل عمران:  ١٣٣]،

وقال تعالى:

﴿خِتَٰمُهُۥ مِسْكٌ ۚ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ﴾

[المطففين: ٢٦].

ولقد كان التنافس في الخير هو همَّ الصحابة الأوَّل، وهدفَهم الأسمى، فشَمَّروا عن سَواعِد الجِدِّ، وانطلقوا مسارِعين إلى ربِّهم وجنَّة عرضُها السمواتُ والأرض، وقلوبُهم ملأى بالشَّوق إلى الجنَّة، ونفوسُهم تَتُوق إلى رؤية ربِّهم فيها.

لذا؛ كان الصَّحابةُ – رضوان الله عليهم - يَحزنون على ما يَتعذَّرُ عَليهم فِعلُه مِنَ الخَيرِ ممَّا يَقدِرُ عليهِ غَيرُهم؛ مثلما حَزِنَ الفُقراء على التَّخلُّف عنِ الخُروجِ في الجِهادِ؛ لِعدمِ القُدرةِ على آلتِه؛

كَما قالَ تَعالى:

﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾

[التوبة: 92].

وحَزِنوا أنهم يستطيعون المنافَسةَ في ميادينِ الصلاة والصيام ونحوِها؛ ولكنهم خارجَ مَيْدانِ المنافسة في مَيدان الصَّدقة بالمال؛ حيث إنها مقصورةٌ على أغنياء المسلمين القادرين على الجُود بالمال، فحَزِنوا على فَوَات هذا الْمِضمار من مَضامير الخير، وكلَّما سَمِعوا آيةً أو حديثًا يَحُثُّ على التصدُّق، ويبيِّن فضل الصدقة، وما أَعَدَّ الله لأهلها، حزَّ ذلك في نفوسهم، فلَجَؤوا إلى رسول الله ﷺ شاكِين له، وقد روى هذا الموقفَ كثيرٌ من الصحابة، ولنقِفْ مع رواية أبي ذرٍّ الغفاريِّ – رضي الله عنه – لذلك الموقف العظيم.

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه - أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ َ ﷺ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ)؛ يعني: اسْتَأْثَر أصحاب الأموال الكثيرة والغِنى بالأجور، وأخذوها عنَّا، " وفيه دليلٌ على أنّ الصّحابة - رضي اللّه عنهم - لشدَّة حرصهم على الأعمال الصالحة، وقوَّة رغبتهم في الخير؛ كانوا يحزنون على ما يتعذَّر عليهم فِعْلُه من الخير ممَّا يَقدِر عليه غيرُهم، فكان الفقراء يحزنون على فَوَاتِ الصَّدَقة بالأموال التي يَقدِر عليها الأغنياء، ويحزنون على التَّخلُّف عن الخروج في الجهاد؛ لعدم القُدرة على آلته، وقد أخبر اللّه عنهم بذلك في كتابه،

فقال:

﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾

[التوبة: 92]،

وفي هذا الحديث: أنَّ الفقراء غَبَطوا أهلَ الدُّثُور - والدُّثُور: هي الأموال - ممَّا يَحصُل لهم من أجر الصَّدقة بأموالهم، فدَلَّهم النَّبيُّ ﷺ على صَدَقات يَقدِرون عليها" [1].

قولهم: (يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ)؛ أي: نحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال، ونحن لا نَملِك المال، فلا نتصدَّق.

"فانظر إلى الهِمَم العالية من الصحابة - رضي الله عنهم - يَغبِطون إخوانهم بما أَنعَم الله عليهم من الأموال التي يتصدَّقون بها، وليسوا يقولون: عندهم فضولُ أموال؛ يَركَبون بها المراكبَ الفخمة، ويَسكُنون القُصور المشيَّدة، ويَلبَسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خيرٌ وأبقى، وهو الآخِرة؛ فهم اشتكَوْا إلى الرسول ﷺ شكوى غِبطة، لا شَكْوى حَسَد، ولا اعْتِراض على الله - عزَّ وجلَّ - ولكن يَطلُبون فضلًا يتميَّزون به عمَّن أغناهم الله، فتصدَّقوا بفضول أموالهم" [2].

فقال النبيُّ ﷺ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَدَّقون به؟!»؛ يعني: إذا فاتتكم الصَّدَقة بالمال، فهناك الصَّدَقةُ بالأعمال الصالحة؛ «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ أي إن فقراء الصحابة ظنُّوا أن لا صدقةَ إلَّا صدقةُ المال، التي يَعجِزون عنها، فأخبرهم النبيُّ ﷺ أن جميع أنواع فِعْل المعروف والإحسان صَدَقَةٌ؛ فالصدقة تُطلَق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان، وفي الصحيحين أن النبيَّ ﷺ قال: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» [3]، حتى إنَّ فضل اللَّه الواصلَ منه إلى عباده صَدَقَةٌ منه عليهم، وقد ورد ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبيِّ ﷺ، منها قولُه في قَصْرِ الصلاة في السَّفَرِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» [4]، وقوله: «مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ» [5]، وغيرها من الأحاديث.

وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: "إِن اللَّه يَتَصَدَّقُ كلَّ يوم بصدقة، وما تَصَدَّق اللَّهُ على أحد من خَلقه بشيء خَيْرٌ من أن يتصدَّق عليه بذِكره" [6].

"والصَّدَقة بغير المال نوعان؛ أحدهما: ما فيه تَعْدِيةُ الإحسان إلى الخَلْق، فيكون صدقةً عليهم، وربّما كان أفضلَ من الصَّدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنّه دعاءٌ إلى طاعة اللّه، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النّافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطَّريق، والسَّعي في جلب النَّفع للنَّاس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدَّعاءُ للمسلمين والاستغفار لهم" [7].

"والنَّوع الثّاني من الصّدقة التي ليست ماليَّةً: ما نَفْعُه قاصرٌ على فاعله؛ كأنواع الذِّكر: من التّكبير، والتّسبيح، والتّحميد، والتّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجد صَدَقةٌ، ولم يَذكُر في شيء من الأحاديث الصَّلاةَ والصِّيامَ والحجَّ والجهادَ أنّه صدقةٌ، وأكثرُ هذه الأعمالِ أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة؛ لأنّه إنّما ذُكِر جوابًا لسؤال الفقراء الذين سألوه عمَّا يُقاومُ تطوُّعَ الأغنياء بأموالهم، وأمَّا الفرائضُ، فإنَّهم قد كانوا كلُّهم مشتركين فيها" [8].

وقد تَكاثَرت النُّصوص بتفضيل الذِّكْر على الصَّدَقة بالمال وغيرِها من الأعمال؛

قال رسول الله ﷺ:

«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

[9].

وقال ﷺ:

«مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»

[10].

و"يَحتمِل تَسْمِيَتَها صدقةً أنَّ لها أجرًا كما للصَّدقة أجرٌ، وأنّ هذه الطّاعاتِ تُماثِل الصّدقاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقةً على طريق المقابَلة، وتَجنِيس الكلام، وقيل: معناه أنّها صدقةٌ على نفسه"[11].

قوله : «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ فالأمر بالمعروف، والنهيُ عن المنكَر، من أفضل الصدقات؛ لأنَّ به فُضِّلت هذه الأمَّة على العالَمين؛

قال تعالى:

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ ﴾

[آل عمران: 110].

قَوْلُهُ ﷺ:

«وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»

فيه إشارةٌ إلى ثُبوت حُكم الصَّدقة في كلِّ فَرد من أفراد الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكَر؛ ولهذا نَكَّره، والثَّوابُ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثرُ منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، ولا يُتصوَّر وقوعُه نفلًا، والتّسبيحُ والتّحميد والتّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛

لقوله عزَّ وجلَّ:

«وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»

[12]" [13].

قوله: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»؛ أي: في جِمَاع أحدِكم حَلِيلتَه صدقةٌ، والبُضْعُ "يُطلَق على الجِمَاع، ويُطلَق على الفَرْجِ نفسِه، وكلاهما تصِحُّ إرادته هنا، وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تَصِير طاعاتٍ بالنِّيَّات الصَّادقات؛ فالجماعُ يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقِّ الزَّوجة ومُعاشَرتها بالمعروف الذي أَمَر اللّه تعالى به، أو طَلَبَ ولدٍ صالح، أو إعفافَ نفسِه، أو إعفاف الزَّوجة، ومَنْعَهما جميعًا من النّظر إلى حرام، أو الفِكْرِ فيه، أو الهمِّ به، أو غيرِ ذلك من المقاصد الصَّالحة" [14].

قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟) وكأنهم تعجَّبوا أن يؤجروا على إتيان شهواتهم، فسألوا عن ذلك.

قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»؛ أي: كما أنه يأثم بوضعها في الحرام، سيُثاب على وضعها في الحلال إذا نوى نيَّة صالحة، "ومعنى ذلك: أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام، كان له بهذا الاستغناء أجر" [15]

"وفي هذا الحديث فَضِيلةُ التَّسبيح، وسائرِ الأذكار، والأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكَر، وإحضارُ النّيَّة في المباحات، وذِكْرُ العالِم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيهُ الْمُفتي على مختصَر الأدلَّة، وجَوَازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يَخفى من الدَّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنّه لا يَكرَه ذلك، ولم يَكن فيه سُوءُ أَدَبٍ" [16].

وعن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالُوا:

ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيَعْتِقُونَ وَلَا نَعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً»، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»"

[17].

المراجع

1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 56، 57).

2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 161، 162).

3. رواه البخاريُّ (6021)، ومسلم (1005).

4. رواه مسلم (686).

5. رواه النسائيُّ (1784)، ابن ماجه (1344)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (601).

6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 59).

7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 59).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 66).

9. رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).

10. رواه البخاريُّ (3293)، ومسلم (2691).

11. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 91).

12. رواه البخاريُّ (6502).

13. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).

14. شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).

15. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 165).

16. شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 93).

17. رواه البخاريُّ (843)، ومسلم (595).

النقول

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال المؤلِّف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي ذرٍّ -ـ رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، ذَهَب أهلُ الدُّثور بالأجور؛ يعني: استأثروا بالأجور وأخذوها عنا، وأهلُ الدُّثور: يعني أهلَ الأموال؛ يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالهم؛ يعني: فنحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بفضول أموالهم؛ أي: بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال؛ يعني: ولا نتصدَّق... فانظر إلى الهِمَم العالية من الصحابة - رضي الله عنهم - يَغبِطون إخوانهم بما أَنعَم الله عليهم من الأموال التي يتصدَّقون بها ويُعتِقون منها، وليسوا يقولون: عندهم فضولُ أموال؛ يَركَبون بها المراكبَ الفخمة، ويَسكُنون القُصور المشيَّدة، ويَلبَسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خيرٌ وأبقى، وهو الآخِرة... فهم اشتكوا إلى الرسول ﷺ شكوى غِبطة، لا شَكْوى حَسَد، ولا اعْتِراض على الله - عزَّ وجلَّ - ولكن يَطلُبون فضلًا يتميَّزون به عمَّن أغناهم الله، فتصدَّقوا بفضول أموالهم، فقال النبيُّ ﷺ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَدَّقون به؟!»؛ يعني: إذا فاتتكم الصَّدَقة بالمال، فهناك الصَّدَقةُ بالأعمال الصالحة؛ «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»...

قوله ﷺ: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ فإن الأمر بالمعروف، والنهيَ عن المنكَر، من أفضل الصدقات؛ لأن هذا هو الذي فضَّل الله به هذه الأمَّة على غيرها؛

فقال تعالى:

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ ﴾

[آل عمران: 110]" [1].

قال النوويُّ رحمه الله: "«ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ»: الدُّثُورُ بضمِّ الدال:ِ جَمْعُ "دَثْرٍ" بفتحها، وهو المال الكثير. قولُه ﷺ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؛ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ». وأمَّا قولُه ﷺ: «مَا تَصَّدَّقُونَ» فالروايةُ فيه بتشديد الصاد والدال جَمِيعًا، ويجوز في اللُّغة تخفيف الصاد، وأمَّا قولُه ﷺ: «وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً» فرَوَيناه بوجهين: رَفْعُ صَدَقة وَنَصْبُه؛ فالرفع على الاستئناف، وَالنَّصْبُ عَطْفٌ على أَنَّ بِكُلِّ تسبيحة صَدَقَةً. قَالَ الْقَاضِي: يَحتمِل تَسْمِيَتَها صدقةً أنَّ لها أجرًا كما للصَّدقة أجرٌ، وأنّ هذه الطّاعاتِ تُماثِل الصّدقاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقةً على طريق المقابَلة، وتَجنِيس الكلام، وقيل: معناه أنّها صدقةٌ على نفسه" [2].

قال ابن رجب رحمه الله: "وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دليلٌ على أنّ الصّحابة - رضي اللّه عنهم - لشدَّة حرصهم على الأعمال الصالحة، وقوَّة رغبتهم في الخير؛ كانوا يحزنون على ما يتعذَّر عليهم فِعْلُه من الخير ممَّا يَقدِر عليه غيرُهم، فكان الفقراء يحزنون على فَوَاتِ الصَّدَقة بالأموال التي يَقدِر عليها الأغنياء، ويحزنون على التَّخلُّف عن الخروج في الجهاد؛ لعدم القُدرة على آلته، وقد أخبر اللّه عنهم بذلك في كتابه،

فقال:

﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾

[التوبة: 92]،

وفي هذا الحديث: أنَّ الفقراء غَبَطوا أهلَ الدُّثُور - والدُّثُور: هي الأموال - ممَّا يَحصُل لهم من أجر الصَّدقة بأموالهم، فدَلَّهم النَّبيُّ ﷺ على صَدَقات يَقدِرون عليها. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ،

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالُوا:

ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيَعْتِقُونَ وَلَا نَعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً»، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»"

[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» فيه إشارةٌ إلى ثُبوت حُكم الصَّدقة في كلِّ فَرد من أفراد الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكَر؛ ولهذا نَكَّره، والثَّوابُ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثرُ منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، ولا يُتصوَّر وقوعُه نفلًا، والتّسبيحُ والتّحميد والتّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛ لقوله عزَّ وجلَّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» [4]" [5].

قال ابن رجب رحمه الله: "وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْفُقَرَاءَ ظنُّوا أن لا صدقةَ إلَّا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبيُّ ﷺ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ صَدَقَةٌ. وفي "صحيح مسلم" عن حُذَيْفَةَ، عن النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ من حديث جابر عن النَّبِيِّ ﷺ. فَالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ على جميع أنواع فِعْلِ المعروف والإحسان، حتى إن فضل اللَّه الواصلَ منه إلى عِبَادِهِ صَدَقَةٌ منه عليهم، وقد كان بعض السلف يُنْكِر ذلك، ويقول: إِنَّمَا الصَّدَقَةُ مِمَّنْ يَطْلُبُ جَزَاءَهَا وَأَجْرَهَا، والصحيح خِلافُ ذلك، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وقال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ نَوْمٌ فَنَامَ عَنْهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وغيره من حديث عائشةَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ من حديث أبي الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: إِن اللَّهَ يَتَصَدَّقُ كلَّ يَوْمٍ بِصَدَقَةٍ، وما تَصَدَّقَ اللَّهُ على أحدٍ من خَلْقِه بشيء خَيْرٌ من أن يَتَصَدَّقَ عليه بذِكْره" [6].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "ثم قال النبيُّ ﷺ: «وفي بُضْعِ أَحَدِكم صَدَقةٌ»؛ يعني: أن الرجل إذا أتى امرأته، فإن ذلك صدقةٌ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتُم لو وَضَعها في الحرام، أكان عليه وِزْرٌ؟»؛ يعني: لو زنى ووَضَع الشهوة في الحرام، هل يكون عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: «فكذلك إذا وَضَعها في الحلال، كان له أجرٌ» والحمد لله. ومعنى ذلك: أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام، كان له بهذا الاستغناء أجر" [7].

قال ابن رجب رحمه الله: "والصَّدَقة بغير المال نوعان؛ أحدهما: ما فيه تَعْدِيةُ الإحسان إلى الخَلْق، فيكون صدقةً عليهم، وربّما كان أفضلَ من الصَّدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنّه دعاءٌ إلى طاعة اللّه، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النّافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطَّريق، والسَّعي في جلب النَّفع للنَّاس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدَّعاءُ للمسلمين والاستغفار لهم" [8].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» هُوَ بِضَمِّ الْبَاء، ويُطلَق على الجِمَاع، ويُطلَق على الفَرْجِ نفسِه، وكلاهما تصِحُّ إرادته هنا، وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تَصِير طاعاتٍ بالنِّيَّات الصَّادقات؛ فالجماعُ يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقِّ الزَّوجة ومُعاشَرتها بالمعروف الذي أَمَر اللّه تعالى به، أو طَلَبَ ولدٍ صالح، أو إعفافَ نفسِه، أو إعفاف الزَّوجة، ومَنْعَهما جميعًا من النّظر إلى حرام، أو الفِكْرِ فيه، أو الهمِّ به، أو غيرِ ذلك من المقاصد الصَّالحة. قَوْلُهُ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَام،ٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»: فيه جواز القياس، وهو مذهبُ العلماءِ كافَّةً، ولم يخالف فيه إلّا أهلُ الظّاهر، ولا يُعتدُّ بهم، وأمَّا المنقول عن التّابعين ونحوهم من ذمِّ القياس، فليس المرادُ به القياسَ الّذي يعتمده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس، واختلف الأصوليّون في العمل به، وهذا الحديث دليلٌ لمن عَمِل به، وهو الأصحُّ، واللّه أعلم" [9].

قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ»: هذا يسمَّى عند الأصوليّين "قياس العكس"، والنّوع الثّاني من الصَّدَقة الّتي ليست ماليّةً: ما نَفْعُه قاصرٌ على فاعله؛ كأنواع الذِّكْر: من التّكبير، والتّسبيح، والتّحميد، والتّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجد صَدَقةٌ، ولم يَذكُر في شيء من الأحاديث الصَّلاةَ والصّيام والحجَّ والجهاد أنّه صدقة، وأكثرُ هذه الأعمال أفضلُ من الصّدقات الماليَّة؛ لأنّه إنّما ذُكِر جوابًا لسؤال الفقراء الّذين سألوه عمَّا يُقاوم تطوُّع الأغنياء بأموالهم، وأمّا الفرائضُ، فإنّهم قد كانوا كلُّهم مشتركين فيها" [10].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وفي حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - تنبيهٌ على ما يسمِّيه الفقهاءُ "قياس العكس"، وهو إثباتُ نَقْصِ حُكم الأصل في ضِدِّ الأصل؛ لمفارقة العِلَّة؛ فهنا العِلَّة في كَون الإنسان يؤجَر إذا أتى أهله، هو أنه وَضَع شهوتَه في حلال، نَقِيضُ هذه العلَّة: إذا وَضَعَ شهوته في حرام، فإنه يُعاقَب على ذلك، وهذا هو ما يسمَّى عند العلماء بقياس العكس؛ لأن القياس أنواعٌ: قياسُ عِلَّة، وقياس دلالة، وقياس شَبَه، وقِياس عَكْسٍ" [11].

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد تكاثَرَتِ النّصوص بتفضيل الذِّكر على الصَّدقة بالمال وغيرها من الأعمال؛ كما في حديث أبي الدّرداء،

عن النّبيِّ ﷺ قال:

" «ألا أُنبِّئُكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذّهب والفِضَّة، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عَدُوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «ذِكْرُ اللّه عزَّ وجلَّ»

[12]

أخرَّجه الإمام أحمدُ والتّرمذيُّ، وذكره مالك في "الموطَّأ" موقوفًا على أبي الدّرداء. وفي "الصّحيحين"

عن أبي هريرة، عن النّبيِّ ﷺ، قال:

«من قال: لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريكَ له، له الْمُلْكُ، وله الحمدُ، يُحيي ويميت، وهو على كلِّ شيء قدير، في يوم مائةَ مرَّةٍ، كانت له عَدْلَ عَشْرِ رقابٍ، وكُتِبت له مائةُ حسنة، ومُحِيَت عنه مِائةُ سيِّئة، وكانت له حرزًا من الشَّيطان يومَه ذلك حتَّى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممّا جاء به إلّا أحدٌ عَمِل أكثرَ من ذلك»"

[13].

قال النوويُّ رحمه الله: "وفي هذا الحديث فضيلةُ التّسبيح، وسائر الأذكار، والأمرِ بالمعروف والنّهيِ عن المنكَر، وإحضارُ النّيَّة في المباحات، وذِكْرُ العالم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيهُ المفتي على مختصَر الأدلَّة، وجوازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يخفى من الدّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنّه لا يَكرَه ذلك، ولم يكن فيه سُوءُ أَدَبٍ، واللّه أعلمُ" [14].

المراجع

1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 161، 162).

2."شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 91).

3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 56، 57).

4. رواه البخاريُّ (6502).

5. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).

6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 58، 59).

7. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 165).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 59).

9. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).

10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 66).

11. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 165).

12. رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).

13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 66، 67). 

14. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 93).





مشاريع الأحاديث الكلية