41 - تجنُّب الرِّدةِ من الكفرِ والشركِ الأكبر

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» 

عناصر الشرح

غريب الحديث

بادروا بالأعمال فتنًا؛ أي: سابقوا بالأعمال الصالحة هجومَ الْمِحَن المانعة منها، السالبة لشرطها المصحِّح لها الإيمان[1]

كقطع الليل المظلم: قِطَع جمع قطعة، وهي الطائفة من الليل، أراد أن كلَّ فتنة سَوْداءُ مظلِمة، وشبَّه الفتن بالليل المظلِم تعظيمًا لشأنها، وعِظَم خطرها[2]

بعَرَض من الدنيا: عَرَضُ الدنيا: هو طَمَعُها، وما يَعرِض منها، ويَدخُل فيه جميع المال[3]

المراجع

  1.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 326).
  2.  "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (17/ 14).
  3.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 326).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»؛ أي: سابقوا بالأعمال الصالحة ظهورَ الفِتن والْمِحَن السوداء المظلِمة. «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا»؛ ففي هذه الفتن يتقلَّب الرجل بين الإيمان والكفر صباحًا ومساءً. «يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»؛ أي: يَبيعُ دينه وآخرَتَهُ بثمنٍ بَخْسٍ من متاعِ الدنيا القليل؛ من مالٍ أو منصبٍ أو غير ذلك.

الشرح المفصَّل للحديث

 يُلهِب رسول الله ﷺ عزائم المؤمنين إلى العمل الصالح، ويحذِّرهم من التراخي مع التمكُّن، ويخوِّفهم من تأخير طاعات اليوم إلى الغَدِ، فلا يدري المسلمُ ما يأتي به غَدُه، ويخوِّف رسول الله ﷺ بما هو أدهى من كلِّ ذلك؛ بمستقبَلٍ للمسلمين مُظلِمٍ ظلامَ الليل، لا يميِّزون فيه الخطأ من الصواب، ولا يحقِّقون فيه الأمور؛ بل ينجرفون وراء تيَّارات الفتن، وينزلقون وراء الهوى، وينقادون لأهواء الحياة وزينتها، فيبيعون دينهم بعَرَض حقير، ويخسرون آخرتهم بدنياهم.

يخوِّف رسول الله ﷺ من هذا المستقبَل الغامض، الذي تتطاير فيه الفتن تطايُرَ النار والشَّرر، فتُحرِق من تُحرق، وتُزعِج من تُزعِج، هنالك يُصبِح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافًرا، أو يُمسي مؤمنًا فتُحرِقه الفتنة، فيُصبح كافرًا.

فليَحذَرِ المؤمنُ، وليبادر الكَيِّس بالعمل الصالح، ولْيُسابقِ الزمن بفعل الحسنات قبل أن يَفُوت الأوان، فيكون حالُه كما قال الله تعالى عن المفرِّط في جَنْبِ الله:

( أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ)

[الزمر: 56]

أو يقول: لو أن لي عُمُرًا لَأكوننَّ من العاملين، أو يقول: لولا أخَّرني ربِّي إلى أجل قريب فأصَّدَّق وأَكُنْ من الصالحين. والله تعالى يقول:

(وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ) 

[المنافقون: 11].

والإنسانُ يعيشُ في هذه الدنيا عُمُرًا قصيرًا يَمُرُّ كالبَرقِ الخاطفِ في ظلام الليل، ولأن الأعمار قصيرةٌ؛ لا بُدَّ من عِمَارتِها بما يعودُ نفعُه على الإنسان في الدنيا والآخرة؛ ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بتفريغِ القلب من حبِّ الدنيا، والتَّخَلُّصِ من طول الأمل. قال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: "خمسٌ من علاماتِ الشَّقاوة: القَسوةُ في القلب، وجُمُودُ العَيْن، وقِلَّةُ الحياء، والرغبة في الدنيا، وطولُ الأمل"[1]

وما مرَّ زمانٌ إلَّا والذي يليه أشدُّ منه سوءًا، وأعظمُ فِتنًا، وعندما تَمُوجُ الفِتَن، يَنْشَغِلُ الناس بأمرها، ويَتَأَثَّرُ القلبُ بها، فيَنقَلبُ من نور الإيمان إلى ظُلماتِ الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية.

ولقد كان النبيُّ ﷺ يَتَعَوَّذُ من الفتن؛ يَقُولُ ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، ومِنْ عَذَابِ النَّارِ، ومِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ، ومِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»[2]. وكان يُكْثِرُ من قول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»[3]

وفي هذا الحديث يأمر النبيُّ ﷺ بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة قبل مَجِيءِ الْفِتَنِ الْمُظْلمة من القتل والنَّهب والاختلاف بين المسلمين في أمر الدّنيا والدّين، وقلَّة العلم بموت العلماء، وانتشار الجهل، وظهور البدع وعلماء السوء، وغير ذلك من الفتن العظيمة التي قد لا يُعرَف سببُها، ولا طريق الخلاص منها؛ كاللّيل الـمظلِم الذي لا يدري الإنسان فيه أين يذهب؟ فينشغل بها عن الأعمال الصالحة، ووصَف النبيُّ ﷺ نوعًا من شدائد تلك الفتن، وهو أن المرء يُمسي مؤمنًا، ثم يصبح كافرًا، أو عكسُه؛ وهذا لعظم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب، ويبيع دينه وآخرته بثمن بخس من متاع الدنيا القليل؛ من مال أو منصب أو غير ذلك[4]. فـ"مقصود هذا الحديث: الأمر بالتمسّك بالدّين، والتشدُّد فيه عند الفتن، والتحذير من الفتن، ومن الإقبال على الدنيا وعلى مطامعها[5]

فلا سبيل للنجاة من الفتن إلا بالتَّمَسُّكِ بكتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ؛ فكتابُ الله من اعتصم به كَفَاه وهَدَاه ووقاه، وسُنَّةُ نبيِّه ﷺ نورٌ على الطريق يومَ تعصِفُ ظلماتُ الفِتَن بالأمَّة. وفي الخبر عن رسول الله ﷺ: «وسترَوْنَ من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإيَّاكم والأمورَ الْمُحدَثاتِ؛ فإن كلَّ بِدعة ضلالة»[6]

المراجع

  1. ( رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (10/182)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/416).
  2.  رواه البخاريُّ (1311).
  3.  رواه أحمد (12107)، والترمذيُّ (2140)، وابن ماجه (3834)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (4801).
  4. "شرح النوويّ على مسلم" (2/133).
  5.  "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (2/89).
  6. رواه أبو داود (4607)، والترمذيُّ (2676)، وابن ماجه (42)، وصحَّحه ابن الملقِّن في "البدر المنير" (9/ 582)، وصحَّحه الألبانيُّ في المشكاة (165)، والإرواء (2455).

النقول

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «بادروا بالأعمال»؛ أي: سابقوا وقوع الفِتَن بالاشتغال بالأعمال الصالحة، واهتمُّوا بها قبلَ نزولها، كما رُوي: «بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا»، فالمبادرةُ: المسارعةُ بإدراك الشيء قبل فَوَاته، أو بدَفْعِه قبل وقوعه. وقولُه: «يُصبح الرجل» استئنافُ بيانٍ لحال المشبَّه. وهو قوله: «فتنًا». وقوله: «يبيع دينه بعرَض من الدنيا» بيانٌ للبَيَان"[1]

قال النوويُّ رحمه الله: "معنى الحديث: الحثُّ على المبادرة إلى الأعمال الصّالحة قبل تعذُّرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشّاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام اللّيل المظلِم، لا المقمِر، ووصف ﷺ نوعًا من شدائد تلك الفتن، وهو أنّه يمسي مؤمنًا ثمّ يصبح كافرًا، أو عكسه - شكَّ الرّاوي - وهذا لعظم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب"[2]

قال القاضي عياض رحمه الله: "الحديث بَيِّنُ المعنى كلُّه، وفائدة المبادرة بالعمل إمكانُه قبل شَغْلِ البال والحَشد بالفتن، وقطعها عن العمل"[3]

قال الطيبيُّ رحمه الله: "فيه وجوهٌ: أحدها: أن يكون بين الطائفتين من المسلمين قتالٌ لمجرَّد العَصَبية والغضب، فيستحِلُّون الدَّمَ والمال. وثانيها: أن تكون ولاةُ المسلمين ظَلَمةً، فيُريقون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حقٍّ، ويشربون الخمر، فيعتقد بعض الناس أنهم على الحقِّ، ويُفتيهم بعضُ علماء السوء على جواز ما يفعلون من المحرَّمات. وثالثها: ما يَجري بين الناس مما يُخالف الشرع من المعاملات والمبايعات وغيرها، فيستحِلُّونها، والله أعلم"[4]

قال القُرطبيُّ رحمه الله: "وقوله: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا»؛ أي: سَابِقُوا بالأعمالِ الصالحةِ هجومَ المِحَنِ المانعةِ منها، السالبةِ لشرطها المصحِّح لها الإيمان؛ كما قال: «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا»، ولا إحالةَ ولا بُعْدَ في حمل هذا الحديثِ على ظاهره؛ لأنَّ المِحَنَ والشدائد إذا توالَتْ على القلوب، أفسدَتْهَا بِغَلَبتها عليها، وبما تُؤَثِّرُ فيها مِنَ القَسْوة والغَفْلة التي هي سببُ الشِّقْوة. ومقصودُ هذا الحديثِ: الحَضُّ على اغتنامِ الفُرْصة، والاِجتهادُ في أعمالِ الخيرِ والبِرِّ عند التمكُّنِ منها قَبْلَ هجومِ الموانع. وقوله: «يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»: عَرَضُ الدنيا: بفتح العَين والراء: هو طَمَعُها وما يَعْرِضُ منها، ويدخُلُ فيه جميعُ المال؛ قاله الهَرَوِيُّ، فأمَّا العَرْضُ، بإسكان الراء، فهو خلافُ الطُّول، ويُقالُ على أمور كثيرة، والعِرْضُ، بكسر العين وسكون الراء: هو نسَبُ الرجلِ وحَسَبُهُ وذاتُهُ. ومقصودُ هذا الحديثِ: الأمرُ بالتمسُّك بالدِّين، والتشدُّدُ فيه عند الفتن، والتحذيرُ مِنَ الفتنِ، ومِنَ الإقبالِ على الدنيا وعلى مَطَامِعِهَا"[5]

المراجع

  1.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3406).
  2.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/133).
  3.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 405).
  4.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3406).
  5. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (2/89).

مشاريع الأحاديث الكلية