المعنى الإجماليُّ للحديث
سأل عَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه النَّبِيَّ ﷺ قال: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللهِ؟ قَالَ ﷺ: «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»؛ أي: أداء الصلاة في الوقت المحدَّد لها هو أحبُّ الأعمال إلى الله. [قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ]؛ أي: ثم أيُّ العمل أحبُّ إلى الله بعد الصلاة؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»؛ لعِظَم منزلةِ وحقِّ الوالدينِ، وبِرُّ الوالدينِ يكون بالإحسان إليهما، والقيام بخِدمتهما، وتَرْك عُقوقهما. [قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟]؛ أي: ثم أيُّ العمل أحبُّ إلى الله بعد برِّ الوالدين؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبِيل اللهِ»؛ أي: الجهاد والقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله. ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي: أي: ولو طلبت منه الزيادة بالسؤال لزادني بالإجابة عن أسئلتي.
الشرح المفصَّل للحديث
تتنوَّع الأعمالُ الموصِّلةُ إلى رِضا اللهِ عز وجل وتتفاوتُ دَرَجاتُها كذلك، وكان الصحابةُ - رِضْوانُ الله عليهم - يحرصون على أفْضَلِها وأحبِّها إلى اللهِ عز وجل، وكانُوا يَسألونَ عن بيان منازلها ومراتبها؛ حُبًّا في العلم، ورغبةً فيه؛ حتَّى يلزموها فينالوا رضا الله عز وجل وثوابه.
وفي هذا الحديث يُخبِر عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ﷺ: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللهِ؟»؛ أيْ: أيُّ العمل أكثر تقرُّبًا إلى الله تعالى لكونه أفضلَ [1]؟ وقد سأل هذا السؤال؛ طلبًا لمعرفة ما ينبغي تقديمُه من العمل، وما هو الأصلُ الذي يجب أن تشتدَّ المحافَظةُ عليه [2]، وقد تكرَّر مثلُ هذا السؤال من الصحابة الكرام ﭫ، وأجاب رسولُ الله ﷺ بأجوبة مختلفة، وقد ذكر العلماءُ أن ذلك راجعٌ لاختلاف أحوال السائلين؛ بأن أعلم النبيُّ ﷺ كلَّ سائل كلامًا هو إليه أحوجُ، أو هو به ألْيقُ، أو راجعٌ لاختلاف الأوقات، ونحو ذلك [3].
وكان جوابُ رسول الله ﷺ: أن أوَّلها وأحبَّها إلى اللهِ: «الصَّلَاة عَلى وقْتِهَا»، والصلاةُ هي العبادة البَدنية المعروفة، وهي رُكنُ الإسلام الثاني بعد الشَّهادتينِ، وهي أساسُ العَلاقة بين العبد وربِّه، ولذا؛ جعل النبيُّ ﷺ الصلاةَ على وقتها أحبَّ الأعمال إلى الله عز وجل.
ومعنى قوله ﷺ: «عَلى وقْتِهَا»؛ أي: أداء الصلاة في الوقت المحدَّد لها؛ فليس في لفظ: «عَلى وقْتِهَا» ما يقتضي أولَ الوقت وآخرَه. وكأن المقصود به الاحترازُ عما إذا وقعت خارجَ الوقت قضاءً. وقد ورد في حديث آخر «الصلاة لوقتها» [4]، وهو أقرب لأن يُستدَلَّ به على تقديم الصلاة في أول الوقت من هذا اللفظ [5].
وللصلاة مكانةٌ عُظمى في دين الله عز وجل، وقد أمر اللهُ تعالى في كتابه العزيز بالمحافظة عليها،
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾
وبيَّن سبحانه أن من صفات المؤمنين المحافظةَ على الصلاة، فقال سبحانه:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾
وتوعَّد مَن يُضيع الصلاة بأشدِّ العقوبات، فقال تعالى:
﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾
ويذكر عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسولَ الله ﷺ عن أحبِّ الأعمال إلى الله عز وجل بعد الصلاة، قائلًا: «ثُمَّ أَيٌّ؟» فأجابه النبيُّ ﷺ قائلًا: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، فأتى ببِرِّ الوالدينِ في المنزلة الثانية بعد الصلاة؛ تأكيدًا لأهمية ذلك، وعِظَم منزلةِ وحقِّ الوالدينِ، وبِرُّ الوالدينِ يكون "بالإحسان إليهما، والقيام بخِدمتهما، وتَرْك عُقوقهما"[6].
وقد جاء الأمرُ ببِرِّ الوالدَين في القرآن الكريم في أكثرَ من موضعٍ؛ قال تعالى:
﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا۞ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
ويُخبر عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه
أنه سأل رسولَ الله ﷺ عن أحبِّ الأعمال إلى الله عز وجل بعد بِرِّ الوالدين، قائلًا: «ثُمَّ أَيٌّ؟» فبيَّن له النبيُّ ﷺ أن العملَ الثالث في المنزلةِ بعدَ هذيْنِ العمَلَين العظيمينِ هو الجِهادُ في سبيلِ اللهِ عز وجل؛ وهو: "محاربة الكفَّار لإعلاء كلمة الله، وإظهار شعائر الإسلام بالنفْس والمال"
والجهادُ هو ذِرْوةُ سَنام الإسلام؛ به تُرفَع رايةُ الدِّين، وتعلو كلمة الحقِّ إلى قيام الساعة، وبه يُعِزُّ الله المؤمنين، ويُذِلُّ أعداءه.
ولقد مدَح اللهُ الجهادَ، ووعد المجاهدين بالأجر العظيم فضلًا منه وكرَمًا،
﴿لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ۞ دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
"والحكمةُ في تخصيص الذِّكر بهذه الأشياء الثلاثة أن هذه الثلاثةَ أفضلُ الأعمال بعد الإيمان؛ مَن ضيَّع الصلاةَ التي هي عمادُ الدين مع العلم بفضيلتها، كان لغيرها من أمر الدين أشدَّ تضييعًا، وأشدَّ تهاونًا واستخفافًا، وكذا مَن ترَك بِرَّ والدَيْه، فهو لغير ذلك من حقوق الله أشد ترْكًا، وكذا الجهاد، مَن ترَكه مع قدرته عليه عند تعيُّنه، فهو لغير ذلك من الأعمال التي يُتقرَّب بها إلى الله تعالى أشدُّ ترْكًا، فالمحافِظُ على هذه الثلاثة محافظٌ على ما سواها، والمضيِّع لها كان لِما سواها أضيَعَ" [8].
ويَذكر ابنُ مسعود رضي الله عنه أن رسولَ الله ﷺ حدَّثه بهذه الأمور الثلاثة، قال: «ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»؛ أي: ولو طلبتُ من النبيِّ ﷺ الزيادةَ في السؤال، لزادني رسولُ الله ﷺ في الجواب. وطلبُه الزيادةَ يَحتمِل أن يكون أرادها من هذا النوع - وهي مراتب أفضل الأعمال - ويَحتمِل أن يكون أرادها من مُطلَق المسائل الْمُحتاج إليها بوجْهٍ عامٍّ.
وسُكوتُه عن الاستزادة من رسول الله ﷺ إنما هو من باب الأدب مع رسول الله ﷺ، وشفقةً عليه؛ لئلا يسْأَم ﷺ، ويؤيِّدُه ما رواه عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه:
«فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ»
أي: شفقةً عليه؛ لئلا يسْأم [10].
المراجع
- انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لمحمد بن علان الصديقي (3/ 145).
- انظر: "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 163).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (2/ 9).
- رواه البخاريُّ (75349)، ومسلم (85).
- "إحكام الأحكام شرع عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 163).
- "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (1/ 482).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيْنيِّ (5/ 14).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيني (5/ 14).
- رواه مسلم (85).
- انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيني (5/ 14).
النقول
قال ابنُ دقيقِ العيد رحمه الله : "وسؤاله عن أفضل الأعمال؛ طلبًا لمعرفة ما ينبغي تقديمه منها، وحرصًا على علم الأصل؛ ليتأكَّد القصد إليه، وتشتدَّ المحافظة عليه.
و"الأعمال" هاهنا لعلّها محمولة على الأعمال البدنيّة، كما قال الفقهاء: أفضل عبادات البدن الصّلاة. واحترزوا بذلك عن عبادة المال، وقد تقدَّم لنا كلام في العمل: هل يتناول عمل القلب أم لا؟ فإذا جعلناه مخصوصًا بأعمال البدن، تبيَّن من هذا الحديث: أنّه لم يُرِد أعمال القلوب؛ فإنّ من عملها ما هو أفضل؛ كالإيمان؛ وقد ورد في بعض الحديث ذكره مصرَّحًا به - أعني الإيمان - فتبيَّن بذلك الحديث: أنّه أريد بالأعمال ما يدخل فيه أعمال القلوب، وأريد بها في هذا الحديث: ما يختصُّ بعمل الجوارح. وقوله: «الصّلاة على وقتها» ليس فيه ما يقتضي أوّل الوقت وآخِره، وكأنّ المقصود به: الاحتراز عمّا إذا وقعت خارج الوقت قضاءً، وأنّها لا تتنزّل هذه المنزلة، وقد ورد في حديث آخر: «الصّلاة لوقتها» وهو أقرب لأن يُستدلَّ به على تقديم الصّلاة في أوّل الوقت من هذا اللّفظ، وقد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والّذي قيل في هذا: إنّها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص، أو من هو في مثل حاله، أو هي مخصوصة ببعض الأحوال الّتي ترشد القرائن إلى أنّها المراد، ومثال ذلك: أن يحمل ما ورد عنه ﷺ من قوله: «ألا أخبركم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم؟» [1] وفسّره بذكر اللّه تعالى، على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنّسبة إلى المخاطَبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم، أو من هو في صفاتهم. ولو خوطب بذلك الشّجاع الباسل المتأهِّل للنّفع الأكبر في القتال، لقيل له: "الجهاد"، ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال ولا يتمحَّض حاله لصلاحيّة التّبتُّل لذكر اللّه تعالى، وكان غنيًّا ينتفع بصدقة ماله، لقيل له: "الصّدقة"، وهكذا في بقيّة أحوال النّاس، قد يكون الأفضل في حقِّ هذا مخالفًا للأفضل في حقّ ذاك، بحسب ترجيح المصلحة الّتي تليق به" [2].
قال ابنُ رجب رحمه الله: "وفي قول النبيِّ ﷺ: «الصلاة على وقتها - أو على مواقيتها»: دليلٌ أيضًا على فضل أول الوقت للصلاة؛ لأن "على" للظرفية؛ كقولهم: "كان كذا على عهد فلان"، والأفعال الواقعة في الأزمان المتَّسِعة عنها لا تستقرُّ فيها؛ بل تقع في جزء منها؛ لكنها إذا وقعت في أول ذلك الوقت، فقد صار الوقت كلُّه ظرفًا لها حُكمًا؛ ولهذا سُمِّي المصلِّي مصلِّيًا في حال صلاته وبعدها، إما حقيقةً أو مجازًا، على اختلاف في ذلك، وأما قبل الفعل في الوقت، فليس بمصلٍّ حقيقةً ولا حُكمًا؛ وإنما هو مصلٍّ بمعنى استباحة الصلاة فقط، فإذا صلَّى في أول الوقت، فإنه لم يُسمَّ مصلِّيًا إلا في آخر الوقت" [3].
قال ابنُ حجر رحمه الله: "وَمُحَصِّلُ ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره ممّا اختلفت فيه الأجوبة بأنّه أفضل الأعمال: أنّ الجواب اختلف لاختلاف أحوال السّائلين، بأن أعلم كلَّ قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضلَ منه في غيره؛ فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضلَ الأعمال؛ لأنّه الوسيلة إلى القيام بها والتّمكُّن من أدائها، وقد تضافرت النّصوص على أنّ الصّلاة أفضل من الصّدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطرِّ تكون الصّدقة أفضلَ، أو أنّ "أفضل" ليست على بابها؛ بل المراد بها الفضل المطلَق، أو المراد من أفضل الأعمال، فحُذفت "من"، وهي مرادة، وقال ابن دقيق العيد: الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنيّة، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان؛ لأنّه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذ بينه وبين حديث أبي هريرة: «أفضل الأعمال إيمان باللّه» الحديث، وقال غيره: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين، لأنّه يتوقّف على إذن الوالدين، فيكون برُّهما مقدَّمًا عليه قوله: «الصّلاة على وقتها». قال ابن بطّال فيه: إنّ البِدَار إلى الصّلاة في أوّل أوقاتها أفضل من التّراخي فيها؛ لأنّه إنّما شرط فيها أن تكون أحبَّ الأعمال إذا أُقيمت لوقتها المستحبِّ. قلت: وفي أخذ ذلك من اللّفظ المذكور نظر. قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللّفظ ما يقتضي أوّلًا ولا آخرًا، وكأنّ المقصود به الاحتراز عمّا إذا وقعت قضاءً، وتُعقِّب بأنّ إخراجها عن وقتها محرَّم، ولفظ "أحبّ" يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت، وأجيب بأنّ المشاركة إنّما هي بالنّسبة إلى الصّلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصّلاة في وقتها كانت أحبَّ إلى اللّه من غيرها من الأعمال، فوقع الاحتراز عمّا إذا وقعت خارج وقتها من معذور كالنّائم والنّاسي، فإنّ إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتّحريم، ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال، مع كونه محبوبًا؛ لكنّ إيقاعها في الوقت أحبُّ" [4].
قال ابنُ رجب رحمه الله: "وقولُه: «ثم بِرُّ الوالدين»: لَمَّا كان ابنُ مسعود له أمٌّ احتاج إلى ذكر بِرِّ والدَيه بعد الصلاة؛ لأن الصلاة حقُّ الله، وحقَّ الوالدَين متعقِّب لحقِّ الله عزَّ وجلَّ
{أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ}
وقولُه: «ثم الجهادُ في سبيل الله»؛ لأن الجهاد فرض كفاية، والدخول فيه بعد قيام مَن سَقَط به حقُّ فرض الكفاية تطوُّعٌ إذا لم يتعيَّن بحضور العدوِّ؛ ولهذا تقدَّم بِرُّ الوالدين على الجهاد إذا لم يتعيَّن
كما قال النبيُّ ﷺ لمن أراد أن يجاهد معه:
«ألكَ والدان؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»
وفي رواية: «فأمره أن يرجع إليهما». فَذَكر النبيُّ ﷺ لابن مسعود أن أفضل الأعمال القيامُ بحقوق الله التي فرضها على عباده فرضًا، وأفضلها: الصلاة لوقتها، ثم القيامُ بحقوق عباده، وآكَدُه بِرُّ الوالدينِ، ثم التطوُّع بأعمال البِرِّ، وأفضلُها الجهادُ في سبيل الله. وهذا مما يستدِلُّ به الإمام أحمدُ ومن وافقه على أن أفضل أعمال التطوُّع الجهاد. فإن قيل: فقد رُوي خلاف ما يُفهَم منه ما دلَّ عليه حديث ابن مسعود هذا؛ ففي الصحيحين، عن أبي هريرة، أن النبيَّ ﷺ سئل: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: «إيمانٌ بالله ورسوله»، قيل: ثم أيٌّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: ثم أيٌّ؟ قال: «حجٌّ مبرور». وفيهما أيضًا: عن أبي ذرٍّ، أنه سأل النبيَّ ﷺ: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: «الإيمان بالله، والجهادُ في سبيله»، ولم يَذكُر في هذين الحديثين الصلاةَ ولا بِرَّ الوالدين، ورُوِيَ نصوصٌ أُخَرُ بأن الجهاد أفضل الأعمال مطلَقًا، ورُوي ما يدلُّ على أن أفضل الأعمال ذكرُ الله عزَّ وجلَّ، وجاء ذلك صريحًا عن جماعة كثيرة من الصحابة - رضي الله عنهم - قيل: هذا مما أَشكَل فَهْمُه على كثير من الناس، وذكروا في توجيهه والجمع بين النصوص الواردة به وجوهًا غير مُرْضِيَة؛ فمنهم من قال: أراد بقوله: "أفضل الأعمال كذا"؛ أي: أن ذلك من أفضل الأعمال، لا أنه أفضلها مطلقًا. وهذا في غاية البُعد. ومنهم من قال: أجاب كلَّ سائل بحسَبِ ما هو أفضلُ الأعمال له خاصَّةً، كما خصَّ ابنَ مسعود بذكر الوالدينِ؛ لحاجته إليه، ولم يَذكُر ذلك لغيره؛ لكنْ أبو هريرة كانت له أمٌّ أيضًا" [6].
قال ابنُ دقيقِ العيد رحمه الله: "وَأَمَّا بِرُّ الوالدين، فقد قُدِّم في هذا الحديث على الجهاد، وهو دليل على تعظيمه. ولا شكَّ في أنّ أذاهما بغير ما يجب ممنوع منه. وأمّا ما يجب من البرِّ في غير هذا ففي ضبطه إشكال كبير. وأمّا الجهاد في سبيل اللّه تعالى، فمرتبتُه في الدّين عظيمة، والقياس يقتضي أنّه أفضل من سائر الأعمال الّتي هي وسائلُ؛ فإنّ العباداتِ على قسمين، منها ما هو مقصود لنفسه، ومنها ما هو وسيلة إلى غيره. وفضيلة الوسيلة بحسب فضيلة المتوسَّل إليه، فحيث تُعظَّم فضيلة المتوسَّل إليه تعظَّم فضيلة الوسيلة، ولَمّا كان الجهاد في سبيل اللّه وسيلةً إلى إعلان الإيمان ونشره، وإخمال الكفر ودحضه، كانت فضيلة الجهاد بحسَبِ فضيلة ذلك. واللّه أعلم" [7].
قال ابنُ رجب رحمه الله: "والجهاد أفضل ما تُطُوِّع به من الأعمال، على ما دلَّت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة، وهو مذهب الإمام أحمد. وفي الصحيحين: عن أبي سعيد عن النبيِّ ﷺ قال: «أفضل الناس مؤمِنٌ آخذٌ بعِنان فرسه في سبيل الله، ثم رجل معتزل في شعب من الشِّعاب يعبد ربَّه، ويَدَع الناس من شرِّه». فهذا نصٌّ في أن المجاهد أفضل من المتخلِّي لنوافل العبادات من الصلاة والذكر وغير ذلك، فأما النصوص التي جاءت بتفضيل الذكر على الجهاد وغيره من الأعمال، وأن الذاكرين لله أفضلُ الناس عند الله مطلقًا، فالمراد بذلك أهل الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات، وليس الذكرَ مما يُقطَع عن غيره من الأعمال كبقية الأعمال؛ بل يمكِن اجتماع الذكر مع سائر الأعمال، فمن عَمِل عملًا صالحًا، وكان أكثرَ لله ذِكرًا فيه من غيره، فهو أفضل ممن عَمِل مثل ذلك العمل من غير أن يذكر الله معه، وقد وَرَد في نصوص متعدِّدة أن أفضل المصلِّين والمتصدِّقين والمجاهدين والحاجِّ وغيرهم من أهل العبادات أكثرُهم لله ذِكرًا" [8].
قال ابنُ حجر رحمه الله: قال القرطبيُّ وغيره: قوله: [لوقتها] اللّام للاستقبال
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
أي: مستقبِلات عدَّتهنّ. وقيل: للابتداء
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}
وقيل: بمعنى [في]؛ أي: في وقتها. وقوله: [على وقتها]. قيل: على بمعنى اللّام، ففيه ما تقدَّم، وقيل: لإرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقُّق دخول الوقت ليقع الأداء فيه. قوله: [ثمّ أيّ؟] قيل: الصّواب أنّه غير منوَّن؛ لأنّه غير موقوف عليه في الكلام، والسّائل ينتظر الجواب، والتّنوين لا يوقف عليه، فتنوينُه ووصله بما بعده خطأ فيوقف عليه وقفةً لطيفةً ثمّ يؤتى بما بعده. قاله الفاكهانيُّ، وحكى ابن الجوزيِّ عن ابن الخشّاب الجزم بتنوينه؛ لأنّه معرَب غيرُ مضاف، وتُعقِّب بأنّه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف لفظًا، والتّقدير: ثمّ أيُّ العمل أحبُّ؟ فيوقف عليه بلا تنوين، وقد نصَّ سيبويهِ على أنّها تعرَب؛ ولكنّها تُبنى إذا أُضيفت، واستشكله الزّجّاج. وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأنّ أعمال البرّ يفضَّل بعضها على بعض، وفيه السّؤال عن مسائلَ شتَّى في وقت واحد، والرّفق بالعالم، والتّوقُّف عن الإكثار عليه خشية مَلاله، وما كان عليه الصّحابة من تعظيم النّبيّ ﷺ والشّفقة عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشدين ولو شقّ عليه، وفيه أنّ الإشارة تتنزَّل منزلة التّصريح إذا كانت معيِّنةً للمشار إليه مميِّزةً له عن غيره. قال ابن بزيزة: الّذي يقتضيه النّظر تقديم الجهاد على جميع أعمال البدن؛ لأنّ فيه بذل النّفس، إلّا أنّ الصّبر على المحافظة على الصّلوات وأدائها في أوقاتها، والمحافظة على برِّ الوالدينِ، أمر لازم متكرِّر دائم لا يصبر على مراقبة أمر اللّه فيه إلا الصدّيقون، والله أعلم" [9].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «قَالَ: ثمَّ أَي؟»: قال الفاكهانيُّ: إنّه غير منوَّن لأنّه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينُه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة ثمّ يؤتى بما بعدَه. وقال ابن الجوزيِّ في هذا الحديث: [أيّ]: مشدَّد منوَّن، كذلك سمعت من ابن الخشّاب. وقال: لا يجوز إلّا تنوينه؛ لأنّه معرَب غير مضاف. وقال بعضهم: وتُعقِّب بأنّه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف، والتّقدير: ثمّ أيُّ العمل أحبُّ؟ فيوقف عليه بلا تنوين. قلت: قال النّحاة: إن أيًّا الموصولة والشرطية والاستفهامية معرَبة دائمًا، فإذا كانت: [أي] هذه معربة عند الإفراد، فكيف يقال: إنّها مبنيّة عند الإضافة؟ ولَمّا نُقل عن سيبويهِ هذا هكذا، أنكر عليه الزّجَّاج، فقال: ما تبيَّن لي أن سيبويهِ غلط إلّا في موضعين: هذا أحدهما، فإنّه يسلِّم أنّها تعرَب إذا أُفردت، فكيف يقول ببنائها إذا أُضيفت؟!
فإن قلت: ما الحكمة في تخصيص الذّكر بهذه الأشياء الثّلاثة؟ قلت: هذه الثّلاثة أفضل الأعمال بعد الإيمان، من ضيَّع الصّلاة الّتي هي عمادُ الدّين مع العلم بفضيلتها، كان لغيرها من أمر الدّين أشدَّ تضييعًا، وأشدَّ تهاونًا واستخفافًا، وكذا من ترك برَّ والديه فهو لغير ذلك من حقوق الله أشدَّ تركًا، وكذا الجهاد: من تركه مع قدرته عليه عند تعيُّنه، فهو لغير ذلك من الأعمال الّتي يتقرَّب بها إلى الله تعالى أشدُّ تركًا، فالمحافظ على هذه الثّلاثة حافظ على ما سواها، والمضيِّع لها كان لما سواها أضيعَ" [10].
المراجع
- رواه أحمد (21702)، والترمذيّ (3377)، وصحّحه الألبانيّ في صحيح الترغيب والترهيب (1493).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 162، 163).
- "فتح الباري" لابن رجب (4/ 209، 210).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9، 10).
- رواه البخاريُّ (3004)، ومسلم (2549).
- "فتح الباري" لابن رجب (4/ 210 - 212).
- إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 163، 164).
- "فتح الباري" لابن رجب (4/ 218).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10، 11).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (5/ 13، 14).