عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِ‍يَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبيل اللهِ» قَالَ: حَدَّثَنِ‍ي بِهِنَّ، ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِ‍ي. 

فوائد الحديث

الفوائد العلمية


  1. تتنوَّع الأعمالُ الموصِّلةُ إلى رِضا اللهِ وتتفاوتُ دَرَجاتُها كذلك.

  2. كان الصحابةُ رِضْوانُ الله عليهم يحرصون على أفْضَلِ الأعمال وأحبِّها إلى اللهِ، وكانُوا يَسألونَ عن بيانِ منازلِها ومراتبِها؛ حُبًّا في العلمِ، ورغبةً فيه؛ حتَّى يلزموها فينالوا رِضا اللهِ رضي الله عنه وثوابه. 

  3. تكرَّر مثلُ هذا السؤال عن أفضل الأعمال من الصحابة الكرام ﭫ، وأجاب رسولُ الله ﷺ بأجوبة مختلفة، وقد ذكر العلماءُ أن ذلك راجعٌ لاختلاف أحوال السائلين؛ بأن أعلم النبيُّ ﷺ كلَّ سائل كلامًا هو إليه أحوجُ، أو هو به ألْيقُ، أو راجعٌ لاختلاف الأوقات، ونحو ذلك [1]. 

  4. في الحديث أن أوَّل الأعمال وأحبَّها إلى اللهِ: «الصَّلَاة عَلى وقْتِهَا»، والصلاةُ هي رُكنُ الإسلام الثاني بعد الشَّهادتينِ، وهي أساسُ العَلاقة بين العبد وربِّه.

5. معنى قوله ﷺ: «عَلى وقْتِهَا»؛ أي: أداء الصلاة في الوقت المحدَّد لها؛ فليس في لفظ: «عَلى وقْتِهَا» ما يقتضي أولَ الوقت وآخرَه. وكأن المقصود به الاحترازُ عما إذا وقعت خارجَ الوقت قضاءً، وقد ورد في حديث آخر «الصلاة لوقتها» [2]، وهو أقرب لأن يُستدَلَّ به على تقديم الصلاة في أول الوقت من هذا اللفظ [3]. 

6. للصلاة مكانةٌ عُظمى في دين الله ، وقد أمر اللهُ  في كتابه العزيز بالمحافظة عليها؛

فقال تعالى:

﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾  

[البقرة: 238].

7. بيَّن سبحانه أن من صفات المؤمنين المحافظةَ على الصلاة، فقال سبحانه:

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾  

[المؤمنون: 9].

8. توعَّد الله تعالى مَن يُضيع الصلاة بأشدِّ العقوبات؛

فقال تعالى:

﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾    

[مريم: 59]. 

9. في الحديث أتى بِرُّ الوالدينِ في المنزلة الثانية بعد الصلاة؛ تأكيدًا لأهمية ذلك، وعِظَم منزلةِ وحقِّ الوالدينِ، وبِرُّ الوالدينِ يكون بالإحسان إليهما، والقيام بخِدمتهما، وتَرْك عُقوقهما.

10. جاء الأمرُ ببِرِّ الوالدَين في القرآن الكريم في أكثرَ من موضعٍ؛

قال تعالى:

 ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۞ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾  

 [الإسراء: 23، 24]، 

وقال تعالى:

﴿وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ﴾  

[لقمان: 14].  

11. في الحديث بيان أن العملَ الثالث في المنزلةِ هو الجِهادُ في سبيلِ اللهِ ، وهو: "محاربة الكفَّار لإعلاء كلمة الله، وإظهار شعائر الإسلام بالنفْس والمال"[4].

12. الحكمة من تخصيص هذه الأمور الثلاثة بالذِّكر دونَ سواها: أنها أفضلُ الأعمال بعد الإيمان.

13. مَن ضيَّع الصلاةَ التي هي عمادُ الدين مع العلم بفضيلتها، أو من ترَك بِرَّ والدَيْه، أو مَن ترَك الجهاد مع قُدرته عليه عند تعيُّنه، كان لغيرها من أمر الدين أشدَّ تضييعًا وتركًا، وأشدَّ تهاونًا واستخفافًا، وكذلك المحافِظُ على هذه الأعمال الثلاثة محافظٌ على ما سواها[5].

14.سُكوتُ ابن مسعود رضي الله عنه عن الاستزادة من رسول الله ﷺ إنما هو من باب الأدب مع رسول الله ﷺ، وشفقةً عليه؛ لئلا يسْأَم ﷺ، ويؤيِّدُه ما رواه عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه:

[فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ]

[6]؛

أي: شفقةً عليه؛ لئلا يسْأم [7].

15. الأعمال في الحديث لعلَّها محمولة على الأعمال البدنية، كما قال الفقهاء: أفضلُ عبادات البَدَن الصلاةُ. واحترزوا بذلك عن عبادة المال [8].

16. هل يتناول العملُ عملَ القلب أو لا؟ جعلناه مخصوصًا بأعمال البَدَن، حيث يتبيَّن من هذا الحديث: أنّه لم يُرِد أعمال القلوب؛ فإنّ من عملها ما هو أفضل؛ كالإيمان؛ وقد ورد في بعض الحديث ذكر الإيمان مصرَّحًا به، فتبيَّن بذلك أنّه أُريد بالأعمال ما يدخل فيه أعمال القلوب، وأريد بها في هذا الحديث: ما يختصُّ بعمل الجوارح [9].

17. الجهاد في سبيل اللّه تعالى، مرتبتُه في الدّين عظيمة، والقياس يقتضي أنّه أفضل من سائر الأعمال الّتي هي وسائلُ؛ فإنّ العباداتِ على قسمينِ، منها ما هو مقصود لنفسه، ومنها ما هو وسيلة إلى غيره. وفضيلة الوسيلة بحسَب فضيلة المتوسَّل إليه، فحيث تُعظَّم فضيلة المتوسَّل إليه تُعظَّم فضيلة الوسيلة، ولَمّا كان الجهاد في سبيل اللّه وسيلةً إلى إعلان الإيمان ونشره، وإخمال الكفر ودحضه، كانت فضيلة الجهاد بحسَب فضيلة ذلك [10]. 

18. قولُه ﷺ: «ثم الجهادُ في سبيل الله»؛ لأن الجهاد فرض كفاية، والدخول فيه بعد قيام مَن سَقَط به حقُّ فرض الكفاية تطوُّعٌ إذا لم يتعيَّن بحضور العدوِّ؛ ولهذا تقدَّم بِرُّ الوالدين على الجهاد إذا لم يتعيَّن؛ كما قال النبيُّ ﷺ لمن أراد أن يجاهد معه: «ألكَ والدان؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» [11]، فَذَكر النبيُّ ﷺ لابن مسعود أن أفضل الأعمال القيامُ بحقوق الله التي فرضها على عباده فرضًا، وأفضلها: الصلاة لوقتها، ثم القيامُ بحقوق عباده، وآكَدُه بِرُّ الوالدينِ، ثم التطوُّع بأعمال البِرِّ، وأفضلُها الجهادُ في سبيل الله [12].

19. رُوي خلاف ما يُفهَم منه ما دلَّ عليه حديث ابن مسعود هذا؛ ففي الصحيحين، عن أبي هريرة، أن النبيَّ ﷺ سئل: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: «إيمانٌ بالله ورسوله»، قيل: ثم أيُّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: ثم أيُّ؟ قال: «حجٌّ مبرور». ورُوِيَ نصوص أُخَرُ بأن الجهاد أفضل الأعمال مطلَقًا، ورُوي ما يدلُّ على أن أفضل الأعمال ذكرُ الله عزَّ وجلَّ.

20. لو جمعنا بين الأحاديث كلِّها في هذا الباب لوجدنا أن أفضل الأعمال الشهادتان مع توابعهما، وهي بقية مباني الإسلام، أو الصلاة مع توابعها أيضًا من فرائض الأعيان التي هي من حقوق الله عز وجل، ثم يلي ذلك في الفضل حقوقُ العباد التي هي من فروض الأعيان؛ كبِرِّ الوالدين، ثم بعد ذلك أعمال التطوُّع المقرِّبة إلى الله، وأفضلُها الجهاد [13].

21. الجهاد أفضل ما تُطُوِّع به من الأعمال، على ما دلَّت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة، فأما النصوص التي جاءت بتفضيل الذكر على الجهاد وغيره من الأعمال، وأن الذاكرين لله أفضلُ الناس عند الله مطلقًا، فالمراد بذلك أهل الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات، وليس الذكرَ مما يُقطَع عن غيره من الأعمال كبقية الأعمال؛ بل يمكِن اجتماع الذكر مع سائر الأعمال، فمن عَمِل عملًا صالحًا، وكان أكثرَ لله ذِكرًا فيه من غيره، فهو أفضل ممن عَمِل مثل ذلك العمل من غير أن يذكر الله معه، وقد وَرَد في نصوص متعدِّدة أن أفضل المصلِّين والمتصدِّقين والمجاهدين والحاجِّ وغيرهم من أهل العبادات أكثرُهم لله ذِكرًا [14].

22. مما أجاب به العلماء عن اختلاف أجوبته ﷺ عن أفضل الأعمال: أنّ "أفضل" ليست على بابها للتفضيل؛ بل المراد بها الفَضْل المطلَق، أو المراد: من أفضل الأعمال، فحُذفت "من"، وهي مُرادة [15].

23. قيل: الأعمال في هذا الحديث محمولةٌ على البَدَنيّة، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان؛ لأنّه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذ بينه وبين حديث أبي هريرة:

«أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ»

الْحَدِيثَ [16].

24. قيل: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفَرْضِ عَيْنٍ؛ لأنه يَتوقَّف على إِذْن الوالدَيْنِ، فيكون بِرُّهما مُقَدَّمًا عليه [17].

25. في الحديث تعظيمُ الوالدينِ وبيان فضْلهما، ووجوب الإحسان إليهما، ولو كانا كافِرَين [18].

المراجع

  1. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (2/ 9)
  2. رواه البخاريُّ (75349)، ومسلم (85).
  3. "إحكام الأحكام شرع عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 163).
  4. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيْنيِّ (5/ 14).
  5. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيني (5/ 14).
  6. رواه مسلم (85).
  7. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيني (5/ 14).
  8. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 162، 163).
  9. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 162، 163).
  10. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 163، 164).
  11. رواه البخاريُّ (3004)، ومسلم (2549).
  12. "فتح الباري" لابن رجب (4/ 210).
  13. "فتح الباري" لابن رجب (4/ 217).
  14. "فتح الباري" لابن رجب (4/ 218).
  15. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9).
  16. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9).
  17. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9).
  18. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسْقلاني (2/ 10).


الفوائد التربوية

26. في الحديث السؤال عن مسائلَ شتَّى في وقت واحد، وجوازُ تكرير السؤال، وَالرِّفْقُ بالعالم، والتَّوَقُّفُ عن الإكثار عليه خشيةَ مَلَالته.

27. في الحديث ما كان عليه الصّحابة من تعظيم النّبيِّ ﷺ والشَّفَقة عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشِدين ولو شقَّ عليه.

28. ينبغي اتِّساعُ صدر المربِّي والمعلِّم لسؤال الطالب واستفساره.

29. يجب الحرصُ على العِلْمِ، وتوقيرُ المعلِّمِ.

30. استحبابُ عدم الإكثار على المعلِّم في الأسئلة، والاكتفاء بالقدر المناسب، وتفقُّد وقت سآمته أو إرهاقه، والشفقة عليه.


الفوائد اللغوية

31. قوله ﷺ: «الصلاة على وقتها»: دليلٌ على فضل أول الوقت للصلاة؛ لأن "على" للظرفية؛ كقولهم: "كان كذا على عهد فلان"، والأفعال الواقعة في الأزمان المتَّسِعة عنها لا تستقرُّ فيها؛ بل تقع في جزء منها؛ لكنها إذا وقعت في أول ذلك الوقت، فقد صار الوقت كلُّه ظرفًا لها حُكمًا؛ ولهذا سُمِّي المصلِّي مصلِّيًا في حال صلاته وبعدها، إما حقيقةً أو مجازًا، على اختلاف في ذلك، وأما قبل الفعل في الوقت، فليس بمصلٍّ حقيقةً ولا حُكمًا؛ وإنما هو مصلٍّ بمعنى استباحة الصلاة فقط، فإذا صلَّى في أول الوقت، فإنه لم يُسمَّ مصلِّيًا إلا في آخر الوقت [1].

32. قوله: [على وقتها]. قيل: [على] بمعنى اللّام، فيكون معناها مثلَ رواية [لوقتها]؛ فاللّام للاستقبال؛ أي: مستقبِلاً وقتَها. وقيل: للابتداء؛ أي: لبداية وقتها. وقيل: بمعنى [في]؛ أي: في وقتها. وقيل: [على] لإرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقُّق دخول الوقت ليقع الأداء فيه [2].

33. قوله: [ثمّ أيّ]: حكى ابن الجوزيِّ عن ابن الخشَّاب الجزم بتنوينه؛ لأنّه مُعرَب غيرُ مضاف، وتُعُقِّب بأنّه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف لفظًا، والتّقدير: ثمّ أيُّ العمل أحبُّ؟ فيُوقَف عليه بلا تنوين، وقد نصَّ سيبوَيْهِ على أنّها تُعرَب؛ ولكنّها تُبنى إذا أُضيفت، واستشكله الزّجَّاج. وقيل: الصّواب أنّه غير منوَّن؛ لأنّه غير موقوف عليه في الكلام، والسّائل ينتظر الجواب، والتّنوين لا يوقَف عليه، فتنوينُه ووَصْلُه بما بعدَه خطأ، فيوقَف عليه وقفةً لطيفةً ثمّ يؤتى بما بعده. قاله الفاكهانيُّ [3]. وقال النُّحاة: إن أيًّا الموصولة والشرطية والاستفهامية معرَبة دائمًا، فإذا كانت: [أي] هذه معرَبة عند الإفراد، فكيف يُقال: إنّها مبنيَّة عند الإضافة؟ ولَمّا نُقل عن سيبويه هذا هكذا، أنكر عليه الزّجَّاج، فقال: ما تبيَّن لي أن سيبويهِ غلط إلّا في موضعين: هذا أحدُهما، فإنّه يُسلِّم أنّها تُعرَب إذا أُفرِدت، فكيف يقول ببنائها إذا أُضيفت؟! [4].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن رجب (4/ 209، 210).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10)
  3. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10)
  4. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (5/ 13، 14).


مشاريع الأحاديث الكلية