المعنى الإجماليُّ للحديث
(عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) تُخبر أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها كانت مع النبيِّ ﷺ في حُجرتها، فسَمِعت صوت رجل يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ أمِّ المؤمنين حَفْصَةَ بنتِ عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنهما.
قَالَتْ: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ)؛ أي: فأَخبرتْ رسول الله ﷺ بسماعها لصوت رجل يستأذن في الدخول على حفصةَ رضي الله عنها.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أُرَاهُ فُلاَنًا»، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ؛ أي: ردَّ عليها النبيُّ ﷺ: أظنُّه فلانًا، وذكر اسم عمِّ حفصةَ من الرضاعة.
قَالَتْ عَائِشَةُ: (لَوْ كَانَ فُلاَنٌ حَيًّا - لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - دَخَلَ عَلَيَّ؟)؛ أي: فسألتْ عائشة رضي الله عنها النبيَّ ﷺ: هل يجوز أن يَدخُل عليَّ عمِّي من الرضاعة لو كان حيًّا؟
فقال: «نَعَمْ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الوِلاَدَةُ» فأجابها ﷺ: بأنه يجوز أن يَدخُل عليها؛ لأن الرضاعة تحرِّم ما يحرِّمه النَّسَب.
الشرح المفصَّل للحديث
الإسلام دين الفِطرة السَّوِيَّة، يهذِّب الغرائز الإنسانية، ويحدِّد الأُطُر بين النساء والرجال في العلاقات الاجتماعية، يترفَّع بها عن الحيوانية، ويصل بها إلى الراحة المنشودة لكلٍّ من الرجل والمرأة، فلا يَنكِح الرجل أمَّه، ولا أختَه، ولا ابنتَه، ولا عمَّته، ولا خالتَه... إلى آخر المحرَّمات من النَّسَب؛
﴿وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلًا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَٰلَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلْأَخِ وَبَنَاتُ ٱلْأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِىٓ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰٓئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ ٱلْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»
وحرِّم كذلك من الرضاع مثلُ الذي يُحرَّم من النَّسَب، فلا شكَّ أن المرأة التي تُرضع طفلاً تكون بمثابة الأمِّ له، فقد غذَّته بلبنها، وضمَّته إلى صدرها؛ حتى نبت لحمُه، واشتدَّ عظمُه، وفي الحديث
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما، قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بِنْتِ حَمْزَةَ: «لاَ تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»
وفي الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ عِنْدَهَا): تُخبر السيدة عائشةُ رضي الله عنها، أمُّ المؤمنين، وزوجُ النبيِّ ﷺ، أنها كانت مع النبيِّ ﷺ في حُجرتها، وقد كانت حُجُرات زوجاته بجوار المسجد النبويِّ، (وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) فسَمِعت صوت رجل، ولم تُسَمِّ هذا الرجلَ، سمعته (يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) بنتِ عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنهما، أمِّ المؤمنين، وزوجِ النبيِّ ﷺ، "وإنما أضافت أولاً البيت إلى حفصة؛ باعتبارها مختصَّةً به ساكنةً فيه، وليس باعتبار الْمِلك، ففي امتلاك أمَّهات المؤمنين لبيوتهن خلاف، وأضافته ثانيًا إلى ضمير رسول الله ﷺ؛ باعتباره المالكَ صاحب الأمر والنهي فيه، وأن الزوجة شرعًا لا تأذن في بيته إلا بإذنه" [3].
قَالَتْ: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ)؛ أي: فأَعلَمت رسول الله ﷺ بسماعها لصوت رجل يستأذن في الدخول على حفصةَ رضي الله عنها.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُرَاهُ فُلَانًا»، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ)؛ أي: فردَّ عليها رسول الله ﷺ بقوله: أظنُّه فلانًا، وذكر اسم عمِّ حفصةَ من الرضاعة، وفيه دلالة على جواز دخوله على حفصةَ رضي الله عنها؛ لأنه يَحرُم عليها بسبب الرضاع.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا - ِلِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - دَخَلَ عَلَيَّ؟)؛ أي: فسألتْ عائشة رضي الله عنها رسول الله ﷺ: هل يجوز أن يَدخُل عليَّ عمِّي من الرضاعة لو كان حيًّا؟ وكانت قد سألته آنفًا عن دخول عمِّها "أَفْلَحَ" عليها، فأَذِن لها، فدلَّ ذلك على أنه عمٌّ آخَرُ غير "أفلح"؛ ولذلك سألت النبيَّ ﷺ مرَّةً ثانية؛ فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي القُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ ﷺ، فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا القُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي؛ وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي؛ عَمُّكِ؟»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي؛ وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ» [4].
ولا يُعرَف اسم عمِّ عائشةَ الذي سألتْ عنه، و"لم أَقِف على اسمه، ووَهِمَ من فسَّره بأفلحَ أخي أبي القُعيس؛ لأن أبا القُعيس أبو عائشة من الرضاعة، وأما أفلحُ فهو أخوه، وهو عمُّها من الرضاعة، وفي الحديث: أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشةَ، فأمرها النبيُّ ﷺ أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها: "لو كان حيًّا" يدلُّ على أنه كان مات، فيَحْتَمِل أن يكون أخًا لهما آخَرَ، ويَحْتَمِل أن تكون ظنَّت أنه مات لبُعْدِ عهدها به، ثم قَدِم بعد ذلك، فاستأذن" [5].
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ»؛ أي: فأجاب النبيُّ ﷺ عن سؤال عائشة رضي الله عنها بأنه يجوز أن يَدخُل عليكِ، وأنه يَحرُم من الرضاعة مثلُ الذي يَحرُم من الولادة والنَّسَب، وتُبيح ما تُبيحه، "وهذا إجماعٌ لا خلاف فيه بين الأئمَّة، فإذا حَرُمت الأمُّ، فكذا زوجُها؛ لأنه والدُه؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وانتشرت الحُرمة إلى أولاده، فأخو صاحب اللبن عمٌّ، وأخوها خالُه من الرَّضاع، فيَحرُم من الرضاع: العمَّاتُ، والخالاتُ، والأعمام، والأخوات، وبناتهن كالنسب، فيترتَّب على ذلك تنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النَّظَر، والخلوة، والسفر، ولا يترتّب عليه باقي أحكام الأمومة، من التوارث، ووجوب الإنفاق، وإسقاط القصاص" [6].
ولم يتعرَّض هذا الحديث إلى عدد الرضعات التي تحرِّم، بينما أثبتت الأحاديثُ الأخرى أن التحريم يَحصُل بخمس رَضَعات مُشبِعات معلومات؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» [7].
1. رواه البخاريُّ (5109)، ومسلم (1408)
2. رواه البخاريُّ (2645)، ومسلم (1447).
3. "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (5/ 509).
4. رواه البخاريُّ (4796)، ومسلم (1445).
5. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (9/ 140).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (20/ 92).
7. رواه مسلم (1452).
النقول
قال ابن بطال رحمه الله: "لا خلاف بين الأمَّة أنه يَحرُم من الرَّضاع ما يَحرُم من النَّسَب؛
﴿وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِىٓ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ﴾
فإذا كانت الأمُّ من الرَّضاع محرَّمةً، كان كذلك زوجُها، وصار أبًا لمن أرضعتْه زوجتُه؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وإذا كان زوج التي أرضعت أبًا، كان أخوه عمًّا، وكانت أخت المرأة خالةً، يَحرُم من الرَّضاع العمَّات، والخالات، والأعمام، والأخوال، والأخوات، وبناتُهن، كما يَحرُم من النَّسَب، هذا معنى قوله عليه السلام: «الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة». قال ابن المنذر: إذا أرضعتِ امرأةُ الرجل جاريةً، حَرُمت على ابنه، وعلى أبيه، وعلى جَدِّه، وعلى بني بَنِيه وبني بَناتِه، وعلى كلِّ وَلَدٍ ذكر، وولَد وَلَده، وعلى كلِّ جَدٍّ له من قِبَلِ أبيه وأمِّه، وإذا كان المرضَعُ غلامًا، حرَّم الله عليه وَلَدَ المرأة التي أرضعتْه، وأولادَ الرجل الذي أُرضِع هذا الصبىُّ بلَبَنِه، وهو زوج المرضِعة، ولا تَحِلُّ له عمَّتُه من الرضاعة، ولا خالتُه، ولا بنتُ أخيه، ولا بنتُ أخته من الرضاعة" [1].
قال ابن المنذر رحمه الله: "ولا بأس أن يتزوَّج الرجل المرأةَ التي أرضعت ابنَه، وكذلك يتزوَّج بنتَ المرأة التي هي رضيعةُ ابنه، ولأخي هذا الصبيِّ المرضَع أن يتزوَّج المرأة التي أرضعت أخاه، ويتزوَّج ابنتها التي هي رضيعُ أخيه، وما أراد من ولدها ووَلَدِ ولدها؛ وإنما يَحرُم نكاحهن على المرضَع" [2].
قال ابن عبد البرِّ رحمه الله: "هذا حديث صحيح نَقَله العُدول، وهو يبيِّن كتاب اللّه في الزّيادة في معناه؛ لأنّ اللّه إنّما ذَكَر في كتابه في التّحريم بالرّضاعة الأمَّهات والأخوات؛
﴿وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِىٓ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ﴾
وبيَّن رسول اللّه ﷺ أنّ كلَّ ما يَحرُم من النَّسَب، فمثلُه يَحرُم من الرّضاع، وإذا كانت الأمُّ من الرّضاع محرَّمةً، كان كذلك الأب؛ لأنّ اللّبن منهما جميعًا، وإذا كان زوج التي أرضعت أبًا، كان أخوه عمًّا، وكانت أخت المرأة خالةً، فحرَّم بالرّضاعة العمَّاتِ والخالات والأعمامَ والأخوال والأخوات وبناتهن كما يحرَّم بالنَّسَب، هكذا معنى قوله ﷺ: «إنّ الرّضاعة تحرِّم ما تحرِّم الولادة»، وفي هذا الحديث دليل واضح على أنّ لبن الفحل يحرِّم الذَّكَر العمَّ، ولولا لبنُ الفحل ما ذُكِر العمُّ؛ لأنّ بمراعاة لبن الرّجل صار أبًا، فصار أخوه عمًّا. فإن قيل: إنّه ليس في هذا الحديث شيء يدلُّ على التّحريم بلبن الفحل، فإنّه ممكِن أن يكون عمُّ حفصةَ المذكورُ قد أرضعته مع عمرَ بنِ الخطّاب امرأةٌ واحدة، فصار عمًّا لحفصة. فالجواب أن قوله: «إنّ الرّضاعة تحرِّم ما تحرِّم الولادة» يقضي بتحريم لبن الفحل؛ لأنّه معلوم أنّ الأب لم يلد أولاده بالحَمْل والوضع كما صنعت الأمُّ؛ وإنما وَلَدهم بما كان من مَائه المتولِّد منه الحَمل واللّبن، فصار بذلك والدًا كما صارت الأمُّ بالحَمل والولادة أمًّا، فإذا أرضعت بلبنها طفلًا كانت أمَّه، وكان هو أباه، وهذا يوضِّح ويرفع الإشكال فيه" [3].
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجُمْلة، وأنّ الرَّضَاع يحرِّم ما يحرِّمه النَّسَب، ولنذكر المحرَّمات من النَّسَب كلَّهنّ حتّى يُعلَم بذلك ما يَحرُم من الرّضاع، فنقول: الوِلادة والنَّسَب قد يؤثِّران التّحريم في النِّكاح، وهو على قسمين؛ أحدهما: تحريم مؤبَّد على الانفراد، وهو نوعان؛ أحدهما: ما يَحرُم بمجرَّد النّسب.
والنّوع الثّاني: ما يَحرُم من النَّسَب مع سبب آخَرَ، وهو المصاهرة، فيَحرُم على الرّجل حلائلُ آبائه، وحلائل أبنائه، وأمَّهات نسائه، وبنات نسائه المدخولُ بهنّ، فيَحرُم على الرّجل أمُّ امرأته وأمَّهاتها من جهة الأمِّ والأب وإن عَلَوْنَ، ويَحرُم عليه بنات امرأته، وهنّ الرّبائب وبناتهنّ وإن سَفَلْنَ، وكذلك بناتُ بني زوجته، وهنّ بنات الرّبائب، نصَّ عليه الشّافعيُّ وأحمدُ، ولا يُعلَم فيه خلاف. ويَحرُم عليه أن يتزوَّج بامرأة أبيه، وإن علا، وبامرأة ابنه وإن سَفَل، ودخولُ هؤلاء في التّحريم بالنَّسَب ظاهر؛ لأنّ تحريمهنّ من جهة نسب الرّجل مع سبب المصاهرة. وأمّا أمّهاتُ نسائه وبناتُهنّ، فتحريمهنّ مع المصاهرة بسبب نسب المرأة، فلم يَخرُج التّحريم بذلك عن أن يكون بالنّسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة، فإنّ التّحريم بالسّبب المجرَّد، والنَّسَبِ المضاف إلى المصاهَرة، يشترك فيه الرّجال والنّساء، فيَحرُم على المرأة أن تتزوَّج أصولَها وإن عَلَوا، وفروعَها وإن سَفَلوا، وفروعَ أصولها الأدنى وإن سَفَلوا من إخوتها، وأولاد الإخوة وإن سفلوا، وفروع أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم، فهذا كلُّه بالنَّسَب المجرَّد، وأمّا بالنَّسَب المضاف إلى الْمُصاهرة، فيَحرُم عليها نكاح أبي زوجها وإن علا، ونكاح ابنه وإن سَفَل بمجرَّد العقد، ويَحرُم عليها زوج ابنتها وإن سَفَلت بالعقد، وزوجُ أمِّها وإن علت؛ لكن بشرط الدّخول بها.
والقسم الثاني: التّحريم المؤبَّد على الاجتماع دون الانفراد، وتحريمُه يختصُّ بالرّجال؛ لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين، فكلُّ امرأتين بينهما رَحِم محرَّم يَحرُم الجمع بينهما، بحيث لو كانت إحداهما ذَكَرًا لم يَجُز له التّزوُّج بالأخرى، فإنّه يَحرُم الجمع بينهما بعقد النِّكاح. قال الشّعبيُّ: كان أصحاب محمّد ﷺ يقولون: لا يَجمَع الرّجلُ بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلًا لم يَصلُح له أن يتزوَّجها. وهذا إذا كان التّحريم لأجل النَّسَب، وبذلك فسَّره سفيانُ الثَّوْريُّ وأكثر العلماء، فلو كان لغير النَّسَب مثلَ أن يجمع بين زوجة رجل وابنته من غيرها، فإنّه يُباح عند الأكثرين، وكرهه بعض السَّلَف. فإذا عُلِم ما يَحرُم من النَّسَب، فكلُّ ما يَحرُم منه، فإنّه يَحرُم من الرَّضاع نَظيرُه، فيَحرُم على الرّجل أن يتزوَّج أمّهاتِه من الرَّضاعة وإن عَلَون، وبناتِه من الرّضاعة وإن سَفَلن، وأخواتِه من الرّضاعة، وبناتِ أخواته من الرّضاعة وعمَّاته وخالاته من الرّضاعة، وإن عَلَون دون بناتهنّ" [4].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لم أَقِف على اسمه، ووَهِمَ من فسَّره بأفلحَ أخي أبي القُعيس؛ لأن أبا القُعيس أبو عائشة من الرضاعة، وأما أفلحُ فهو أخوه، وهو عمُّها من الرضاعة، وفي الحديث: أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشةَ، فأمرها النبيُّ ﷺ أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها: "لو كان حيًّا" يدلُّ على أنه كان مات، فيَحْتَمِل أن يكون أخًا لهما آخَرَ، ويَحْتَمِل أن تكون ظنَّت أنه مات لبُعْدِ عهدها به، ثم قَدِم بعد ذلك، فاستأذن" [5].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "وهذا إجماعٌ لا خلاف فيه بين الأئمَّة، فإذا حَرُمت الأمُّ، فكذا زوجُها؛ لأنه والدُه؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وانتشرت الحُرمة إلى أولاده، فأخو صاحب اللبن عمٌّ، وأخوها خالُه من الرَّضاع، فيَحرُم من الرضاع: العمَّاتُ، والخالاتُ، والأعمام، والأخوات، وبناتهن كالنسب، فيترتَّب على ذلك تنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النَّظَر، والخلوة، والسفر، ولا يترتّب عليه باقي أحكام الأمومة، من التوارث، ووجوب الإنفاق، وإسقاط القصاص" [6].
قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى هذا أن المرأة إذا أَرضَعت طفلًا الرَّضاعَ الْمُعتبَر في المدَّة المعتبَرة، صارت أمًّا له بنصِّ كتاب اللّه، فتَحرُم عليه هي وأمَّهاتها، وإن عَلَون من نسب أو رَضاع، وتصير بناتها كلُّهنّ أخواتٍ له من الرّضاعة، فيَحرُمن عليه بنصِّ القرآن، وبقيَّة التّحريم من الرّضاعة استُفيد من السّنَّة. كما استُفيد من السُّنَّة أنّ تحريم الجمع لا يختصُّ بالأختين؛ بل المرأةِ وعمَّتها، والمرأة وخالتِها كذلك، وإذا كان أولاد المرضِعة من نسب أو رضاع إخوةً للمرتضِع، فيَحرُم عليه بنات إخوته أيضًا، وقد امتنع النّبيُّ ﷺ من تزويج ابنة عمِّه حمزةَ، وابنةِ أبي سلمةَ، وعلَّل بأنّ أبوَيهما كانا أخوين له من الرّضاعة.
ويَحرُم عليه أيضًا أخواتُ المرضِعة؛ لأنّهنّ خالاتُه، وينتشر التّحريم أيضًا إلى الفحل صاحب اللّبن الّذي ارتضع منه الطّفل، فيصير صاحبُ اللّبن أبًا للطّفل، وتصير أولاده كلُّهم من المرضِعة أو من غيرها من نسب أو رضاع إخوةً للمرتضِع، ويصير إخوته أعمامًا للطّفل المرتضِع، وهذا قول جمهور العلماء من السَّلَف، وأجمع عليه الأئمّة الأربعة ومن بعدَهم. وقد دلَّ على ذلك من السّنَّة ما روت عائشة أنّ أفلحَ أخا أبي القُعيس استأذن عليها بعد ما أُنزل الحجاب، قالت عائشة: فقلت: واللّه لا آذَنُ له حتّى أستأذن رسول الله ، فإنّ أبا القُعيس ليس هو أرضعني؛ ولكن أرضعتني امرأتُه، قالت: فلمَّا دخل رسول اللّه ﷺ، ذَكَرت ذلك له، فقال: «ائذني له؛ فإنّه عمُّكِ، تَرِبَتْ يَمينك»، وكان أبو القعيس زوجَ المرأة الّتي أرضعت عائشة. خرَّجاه في "الصّحيحين" بمعناه. وسُئل ابن عبّاس عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جاريةً والأخرى غلامًا، أيحلُّ للغلام أن يتزوَّج الجارية؟ فقال: لا، اللّقاح واحد" [7].
1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (7/ 193).
2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (7/ 194).
3. "الاستذكار" لابن عبد البرِّ (6/ 241).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 438-440).
5. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (9/ 140).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (20/ 92).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 440، 441).