غريب الحديث:
مَنكبي: الْمَنْكِب هو مَجْمَعُ عَظْم العَضُد والكَتِف[1].
المراجع
- "مختار الصحاح" للرازي (ص: 319).
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي عبد الله بنِ عمرَ ﭭ أن رَسول اللهِ ﷺ أخذ بمَنْكِبِه، فَقالَ له: «كُنْ في الدُّنْيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عابِرُ سَبِيلٍ»؛ أي: عش حياتك كأنك غريب في هذه الدنيا، أو كأنك عابرُ سبيل، فلا إقامة طويلة، وعليك بالاستعداد للرحيل والرجوع إلى موطنك (الجنة).
وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: «إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَساءَ»: يحضُّ ابن عمر المسلمَ أن يجعل الموتَ نُصبَ عينيه، فيستعدَّ له بالعمل الصالح، ويحضُّه على تقصير الأمل، وترك الْمَيل إلى غرور الدنيا. «وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ»؛ أي: اغتنم الطاعاتِ والأعمالَ الصالحة في صحتك قبلَ أن يَحُول بينك وبينها المرض. «ومِنْ حَياتِكَ لِمَوْتِكَ»؛ أي: اغتنم الطاعاتِ والأعمالَ الصالحة في حياتك قبلَ أن يَحُول بينك وبينها الموت.
الشرح المفصَّل للحديث:
كتب اللهُ تعالى على الدنيا الفناءَ والهوانَ، فلا يحياها المؤمنُ إلا ليتزوَّد منها للآخرة الباقية، فمَن ركن إليها، واطمأنَّ إليها، خَسِر آخرتَه، وفي هذا الحديث يُبيِّن النبيُّ ﷺ حالَ المؤمن مع الدنيا، فيُخاطب عبدَ الله بنَ عمرَ ﭭ، وقد أخذ بمَنكِبه، فيقول له: «كنْ في الدنيا كأنكَ غريبٌ»؛ لأن الغريب في أرض غُربته تقِلُّ معرفته بالناس، فلا يَحمِل لهم حِقدًا وحَسَدًا، ومُقامُه في أرض الغربة قليلٌ، وهكذا حالُ السائر إلى الله، فلا يتَّخِذ الدنيا وطنًا له ومَسكنًا، بحيث يَشغَله ذلك عن وطنه الحقيقيِّ في الجنَّة.
ثم يقول ﷺ: «أو عابرُ سبيل»؛ وذلك لأن الغريبَ قد يَسكُن في بلاد الغُربة، بخلاف عابرِ السبيل، القاصدِ البلدَ الشاسع، وبينه وبينها مفاوزُ مُهلكةٌ، ومُراقَب من قُطَّاع الطريق، فلا يمكِنه الإقامةُ لحظةً. والأقربُ أن "أو" هنا ليست للتخيير والإباحة؛ ولكنها للإضراب؛ بمعنى "بل"؛ فكأنه قال: «كنْ في الدنيا كأنك غريب؛ بل عابر سبيل»[1].
فالمؤمنُ حالُه في الدين على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريبٌ مقيمٌ في بلد غُربة، همُّه التزوُّدُ للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافرٌ غيرُ مُقيم البتَّةَ؛ بل هو ليلَه ونهارَه يَسير إلى بلد الإقامة، وفي كلا الحالين قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يرجِعُ إليه[2].
و"لَمَّا كان الغريبُ قليلَ الانبساط إلى الناس؛ بل هو مستوحشٌ منهم؛ لأنه لا يكاد يعرفه أحدٌ، فهو ذليلٌ في نفْسه خائفٌ، وكذلك عابرُ السبيل لا يَنفُذ في سَفَره إلا بقوَّته، معه زادُه وراحلته يُبلِّغانِه إلى بُغيته من قصدِه - شبَّهه بهما، وفي ذلك إشارةٌ إلى إيثار الزُّهد في الدنيا، فكما لا يحتاج المسافرُ إلى أكثرَ مما يُبلِّغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمنُ في الدنيا إلى أكثرَ مما يُبلِّغه المحلَّ"[3].
وما أحسنَ ما قيل:
فحيَّ على جنَّات عدنٍ فإنَّها = منازلُكَ الأُولى وفيها المخيَّمُ
ولكنَّنا سَبيُ العدوِّ فهل ترى = نعودُ إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى = وشطَّتْ به أوطانُه فَهْوَ مُغْرَمُ
وأيُّ اغتراب فوق غُربتنا التي = لها أضحتِ الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ[4]
وقوله: "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ"، هو من كلام ابن عمر ﭭ، وهو حضٌّ منه على أن يجعل المسلمُ الموتَ نُصبَ عينيه، فيستعدَّ له بالعمل الصالح، وحضٌّ له على تقصير الأمل، وترك الْمَيل إلى غرور الدنيا.
وقوله: "وخُذْ من صحتك لمرضكَ"؛ أي: على المرء أن يغتنِم أيامَ صحته فيمهِّد فيها لنفْسه؛ خوفًا من حلول مرض به يمنعه من العمل. وكذلك قوله: "ومن حياتكَ لموتكَ" تنبيهٌ على اغتنام أيام حياته؛ حتى لا يمرَّ عُمُرُه باطلًا في سهوٍ وغفلةٍ؛ لأن مَن مات فقد انقطعَ عملُه، وفاتَه أملُه، وعظُمت حسرتُه على تفريطه، فما أجمعَ هذا الحديثَ لمعاني الخير وأشرفَه![5].
المراجع
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/234).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/378).
- انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطِّال (10/149) بتصرُّف.
- "حادي الأرواح" لابن القيم (ص: 11).
- انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/149).
النقول:
قال ابن رجب رحمه الله: "وأمّا وصيّة ابن عمر رضي اللّه عنهما، فهي مأخوذة من هذا الحديث الّذي رواه، وهي متضمِّنة لنهاية قِصَر الأمل، وأنّ الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصّباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، بل يظنُّ أنّ أجَلَه يُدركه قبل ذلك، وبهذا فسَّر غير واحد من العلماء الزّهد في الدّنيا، قال الْمَروزيُّ: قلتُ لأبي عبد اللّه - يعني أحمد - أيُّ شيء الزُّهْدُ في الدّنيا؟ قال: قِصَر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي، قال: وهكذا قال سفيان. قيل لأبي عبد اللّه: بأيّ شيء نستعين على قِصَر الأمل؟ قال: ما ندري إنّما هو توفيق. قال الحسن: اجتمع ثلاثة من العلماء، فقالوا لأحدهم: ما أَمَلُكَ؟ قال: ما أتى عليَّ شهر إلّا ظننت أنّي سأموت فيه، قال: فقال صاحباه: إنّ هذا لأمل، فقالا لأحدهم: فما أملك؟ قال: ما أتت عليَّ جُمعة إلّا ظننت أنّي سأموت فيها، قال: فقال صاحباه: إنّ هذا لأَمَلٌ، فقالا للآخر: فما أملك؟ قال: ما أَمَلُ مَن نفسُه في يد غيره؟! قوله: «وخذ من صحّتك لسقمك، ومن حياتك لموتك»؛ يعني: اغتنم الأعمال الصّالحة في الصّحّة قبل أن يَحُول بينك وبينها السَّقَم، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت، وفي رواية: «فإنّك يا عبد اللّه لا تدري ما اسمك غدًا» يعني: لعلّك غدًا من الأموات دون الأحياء"[1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال أبو الزناد: معنى هذا الحديث الحضُّ على قلَّة المخالطة، وقلَّة الاقتناء، والزهد في الدنيا. قال المؤلِّف: بيانُ ذلك أن الغريبَ قليلُ الانبساط إلى الناس؛ بل هو مستوحشٌ منهم؛ إذ لا يكاد يمرُّ بمن يعرفه فيأنس به، ويَستكثِر بخُلطته؛ فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابرُ السبيل لا يَنفُذ في سَفَره إلا بقوَّته عليه، وخفَّته من الأثقال غير متشبِّث بما يمنعه من قطع سفره،، معه زادُه وراحلته يُبلِّغانِه إلى بُغيته من قصدِه، وهذا يدلُّ على إيثار الزُّهد في الدنيا، وأخذ البُلغة منها والكَفاف؛ فكما لا يحتاج المسافرُ إلى أكثرَ مما يُبلِّغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمنُ في الدنيا إلى أكثرَ مما يُبلِّغه المحلَّ. وقوله: «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء» حضٌّ منه على أن يجعل الموت نُصْبَ عينيه، فيستعدَّ له بالعمل الصالح، وحضٌّ له على تقصير الأمل، وترك الميل إلى غرور الدنيا. وقوله: «خُذ من صحَّتك لمرضِكَ» حضٌّ على اغتنام أيام صحَّته، فيمهِّد فيها لنفسه؛ خوفًا من حلول مرض به يمنعه من العمل. وكذلك قوله: «ومن حياتك لموتك» تنبيهٌ على اغتنام أيَّام حياته، ولا يمرُّ عُمره باطلًا في سَهْوٍ وغَفلة؛ لأن من مات فقد انقطع عمله، وفاتَه أَمَلُه، وحَضَره على تفريطه نَدَمُه، فما أجمعَ هذا الحديثَ لمعاني الخيرِ وأشرفَه!"[2].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "في هذا الحديث ما يدلُّ على أن رسول الله ﷺ حضَّ على التشبُّه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدةً لم يُنافس أهلها في مجالسهم، ولا يَجزَع أن يراه أحدٌ على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون متدابرًا معهم، وكذلك عابر السبيل لا يتَّخِذ دارًا، ولا يَلِج في الخصومات مع الناس يُشاحِنهم، ناظرًا إلى أن لَبْثَه معهم أيَّامٌ يسيرة؛ فكلُّ أحوال الغريب وعابر السبيل مستحبَّةٌ أن تكون للمؤمن في الدنيا؛ لأن الدنيا ليست وطنًا له؛ لأنها تَحبِسه عن داره، وهي الحائلة بينه وبين قراره. وأما قول ابن عمر: «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء»، فهو حضٌّ منه على أن المؤمن يستعدُّ أبدًا للموت، والموتُ يُستعَدُّ له بالعمل الصالح، وحضٌّ على تقصير الأمل؛ أي: لا تنتظر بأعمال الليل الصباح؛ بل بادر بالعمل، وكذلك إذا أصبحتَ فلا تحدِّث نفسك بالمساء، وتؤخِّر أعمال الصباح إلى الليل.
قوله: «وخذ من صحتك لمرضك» حضٌّ على اغتنام صحَّته، فيجتهد فيها خوفًا من حلول مرض يمنعه من العمل، وكذلك قوله: «ومن حياتك لموتك» تنبيهٌ على اغتنام أيام حياته؛ لأن من مات انقطع عمله وفاتَ أَمَلُه، وعَظُمت حَسْرَتُه على تفريطه وندمه، ولْيَعْلَمْ أنه سيأتي عليه زمان طويل وهو تحت التراب لا يَستطيع عملاً، ولا يمكِنه أن يَذكُر اللهَ عزَّ وجلَّ، فيبادر في زمن سلامته، فما أجمعَ هذا الحديثَ لمعاني الخير وأشرفَه!" [3].
قال ابن رجب رحمه الله: " وإذا لم تكن الدّنيا للمؤمن دارَ إقامة، ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إمّا أن يكون كأنّه غريب مقيم في بلد غُربة، همُّه التّزوُّد للرّجوع إلى وطنه، أو يكون كأنّه مسافر غير مقيم البتَّةَ؛ بل هو ليلَه ونهارَه يسير إلى بلد الإقامة؛ فلهذا وصّى النّبيّ ﷺ ابن عمر أن يكون في الدّنيا على أحد هذين الحالين. فأحدهما: أن يترك المؤمن نفسه كأنّه غريب في الدّنيا يتخيَّل الإقامة؛ لكن في بلد غُربة، فهو غير متعلِّق القلب ببلد الغربة؛ بل قلبه متعلِّق بوطنه الّذي يرجع إليه، وإنّما هو مقيم في الدّنيا ليقضيَ مَرمَّة جهازه إلى الرّجوع إلى وطنه. قال الفُضيل بن عياض: المؤمن في الدّنيا مهموم حزين، همّه مرمَّة جهازه. ومن كان في الدّنيا كذلك، فلا همَّ له إلّا في التّزوّد بما ينفعه عند عَوده إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الّذي هو غريب بينهم في عزِّهم، ولا يَجزَع من الذّلِّ عندهم. قال الحسن: المؤمن كالغريب لا يجزع من ذُلِّها، ولا ينافس في عزِّها، له شأن، وللنّاس شأن. لَمّا خُلق آدم عليه السّلام أُسكن هو وزوجته الجنّة، ثمّ أُهبطا منها ووُعدا بالرّجوع إليها، وصالح ذرّيّتهما، فالمؤمن أبدًا يحنُّ إلى وطنه الأوّل، وحبُّ الوطن من الإيمان، كما قيل:
كَمْ مَنْزِلٍ لِلْمَرْءِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى = وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ
كَانَ عَطَاءٌ السُّلَيْمِيُّ يقول في دعائه: اللّهمّ ارحم في الدّنيا غُربتي، وارحم في القبر وَحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يديك"[4].
قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «أو عابر سبيل»: (أو) فيه يجوز أن يكون للتخيير والإباحة، والأحسنُ أن يكون بمعنى (بل)... قال الجوهريُّ: يريد بل أنت، شبَّه الناسِكَ السالك أولًا بالغريب الذي ليس له مَسكَن يُؤويه، ولا سَكَن يُسْلِيه، ثم ترقَّى وأَضرَب عنه بقوله: «أو عابر سبيل»؛ لأن الغريب قد يَسكُن في بلاد الغُربة، ويُقيم فيها، بخلاف عابر السبيل القاصدِ للبلد الشاسع، وبينه وبينها أَوْدِيَة مُرْدِيَة، ومفاوزُ مُهلِكة، وهو بمرصد من قطَّاع طريقه، فهل له أن يُقيم لحظةً، أو يَسكُن لَمْحةً؟ لا؛ ومن ثَمَّ عقَّبه ابنُ عمر في باب الأمل بقوله: «وعُدَّ نفسك في أهل القبور»، وقال هنا: «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء»؛ أي: سِر دائمًا، ولا تَفتُر عن السير ساعة؛ فإنك إن قصَّرت في السَّير، انقطعتَ عن المقصود، وهَلَكْتَ في تلك الأودية. هذا معنى المشبَّه به، والمشبَّه هو قوله: «وخذ من صحَّتك لمرضك»؛ يعني: عُمرك لا يخلو من الصحة والمرض، فإذا كنتَ صحيحًا، سِرْ سَيركَ القَصْدَ؛ بل لا تقنع به، وزِدْ عليه ما عسى أن يَحصُل لك الفتورُ بسبب المرض. وفي قوله: «ومن حياتك لموتك» إشارةٌ إلى أخذ نصيب الموت، وما يَحصُل فيه من الفتور من السُّقْم؛ يعني: لا تَقعُد في المرض من السَّير كلَّ القعود؛ بل ما أمكنك منه فاجتهد فيه، حتى تنتهيَ إلى لقاء الله وما عنده من الفلاح والنجاح، وإلا خبتَ وخسرتَ"[5].
قال ابن رجب رحمه الله: "وكان عليُّ بنُ أبي طالب رضي اللّه عنه يقول: إنّ الدّنيا قد ارتحلت مدبرةً، وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلةً، ولكلّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدّنيا؛ فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل. قال بعض الحكماء: عجبتُ ممّن الدّنيا مولِّية عنه، والآخرة مقبلة إليه، يَشغَل بالمدبِرة، ويُعرِض عن المقبِلة. وقال عمر بن عبد العزيز في خُطبته: إنّ الدّنيا ليست بدار قراركم، كَتَب اللّه عليها الفناء، وكتب اللّه على أهلها منها الظَّعن، فكم من عامر موثَق عن قليل يَخرَب، وكم من مقيم مغتبِط عمّا قليلٍ يَظعَن! فأحسنوا - رحمكم اللّه - منها الرّحلة بأحسن ما بحضرتكم من النُّقْلة، وتزوَّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى"[6].
قال المناويُّ رحمه الله: "طولُ الأَمَلِ غُرورٌ وخِداعٌ؛ إذ لا ساعةَ من ساعاتِ العُمر إلا ويمكِن فيها انقضاءُ الأَجَل، فلا معنى لطُول الأمل المورِّثِ قسوةَ القلبِ، وتسليط الشيطان، وربما جرَّ إلى الطغيان"[7].
قال ابن رجب رحمه الله: " قيل لمحمّد بن واسع: كيف أصبحتَ؟ قال: ما ظنُّك برجل يرتحل كلَّ يوم مرحلة إلى الآخرة؟ وقال الحسن: إنّما أنت أيّام مجموعة، كلّما مضى يوم مضى بعضك. وقال: ابنَ آدمَ إنّما أنت بين مطيَّتين يُوضِعانِك، يوضعك النّهار إلى اللّيل، واللّيل إلى النّهار، حتّى يُسلمانِك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بن آدم خطرًا. وقال: الموت معقود في نواصيكم، والدّنيا تُطوى من ورائكم. قال داود الطّائيُّ: إنّما اللّيل والنّهار مراحل ينزلها النّاس مرحلةً مرحلةً حتّى ينتهيَ ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدِّم في كلِّ مرحلة زادًا لما بين يديها، فافعل؛ فإنّ انقطاع السّفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنّك بالأمر قد بغتُّك. وكتب بعض السّلف إلى أخ له: يا أخي يخيَّل لك أنّك مقيم، بل أنت دائب السّير، تُساق مع ذلك سوقًا حثيثًا، الموت موجَّه إليك، والدّنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكارٍّ عليك يوم التّغابن.
قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدّنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟! وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستّون سنةً، قال: فأنت منذ ستّين سنةً تسير إلى ربّك يوشك أن تبلغ، فقال الرّجل: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره تقول: أنا للّه عبد وإليه راجع، فمن علم أنّه للّه عبد، وأنّه إليه راجع، فليعلم أنّه موقوف، ومن علم أنّه موقوف، فليعلم أنّه مسؤول، ومن علم أنّه مسؤول، فليُعِدَّ للسّؤال جوابًا، فقال الرّجل: فما الحيلة؟ قال يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسِن فيما بَقِيَ يُغفَر لك ما مضى، فإنّك إن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي. قال بعض الحكماء: من كانت اللّيالي والأيّام مطاياه، سارت به وإن لم يسر. وفي هذا قال بعضهم:
وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إِلَّا مَرَاحِلُ = يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى الْمَوْتِ قَاصِدُ
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ - لَوْ تَأَمَّلْتَ - أَنَّهَا = مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ
وَقَالَ آخَرُ:
أَيَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ نَهَارٍ يَقُودُهَا = إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْتَى وَلَيْلٍ يَذُودُهَا
قال الحسن: لم يزل اللّيل والنّهار سريعينِ في نقص الأعمار، وتقريب الآجال، هيهاتَ قد صحبا نوحًا وعادًا وثمودَ وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فأصبحوا أقدموا على ربّهم، ووردوا على أعمالهم، وأصبح اللّيل والنّهار غضَّيْنِ جديدين، لم يُبلِهما ما مرَّا به، مستعدَّين لمن بَقِيَ بمثل ما أصابا به من مضى! وكتب الأوزاعيُّ إلى أخ له: أمّا بعدُ، فقد أُحيط بك من كلّ جانب، واعلم أنّه يُسار بك في كلّ يوم وليلة، فاحذر اللّه والْمَقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسّلام"[8].
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 386، 387).
- انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطِّال (10/ 148، 149).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 133).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378، 379).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (4/ 1364).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378).
- "فيض القدير" للمناويِّ (5/417).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382- 384).