عن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»
عن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»
سِرْبه: بكسر السين على الأشهر؛ أي: في نفسه، ورُوِي بفتحها (سَرْبه)؛ أي: في مَسلَكه، وقيل: (سَرَبِه) بفتحتين؛ أي: في بيته [1].
حيزت: أي: ضُمَّت وجُمِعت.
1. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 68).
المعنى الإجماليُّ للحديثيروي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِحْصَنٍ الخَطْمِيُّ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ»؛ أي: من أصبح آمنًا في نفسِه وأهله وعياله، أو في طريقه، غيرَ خائف من عدوٍّ ونحو ذلك. «مُعَافًى فِي جَسَدِهِ»؛ أي: صحيحًا في بَدَنه. «عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ»؛ أي: توفَّر له رِزقُ يومِه وما يَحتاجُه مِن مَؤونةٍ وطعامٍ وشرابٍ يَكْفي يومَه. «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»؛ أي: فكأنما ضُمَّت وجُمِعت له الدنيا؛ لأنه اجتمعت له النِّعَم وما يحتاجه، وتمكَّن من الانتفاع بها، فقد تكاملت في حقِّه النِّعمة.
الشرح المفصَّل للحديثإن نِعَم الله تعالى على الإنسان لا تُعَدُّ ولا تُحصى، فضلًا عن أن يستطيع شُكرَها؛ حتى إن أكثر النِّعَم لا يَدرِيها الإنسان؛ لأنه يَألَفُها، وهذه النِّعَم تَغمُر الإنسانَ، وتَكمُن فيه هو ذاته، وتَفيِض منه، وهو ذاتُه إحدى هذه النِّعَم، التي لا يَشعُر بها إلا حين يفتقدها؛ فمثلًا لا يُدرك الإنسان نِعَم الله تعالى في جسده وما به من أعضاء وأجهزة ووظائفَ مُحكَمةٍ تعمل بغاية الدقَّة، ولا يَشعُر بما في جسده من إنعام إلا حين يُدرِكه الْمَرَض، فيُحِسُّ بالاختلال، وقيمة نعمة صحَّة جَسَده، وكذلك لا يُدرك قيمة الماء إلا حين يَفقِده فيشتدُّ عليه العطش، وهلمَّ جرًّا.
فكيف يَشكُر المرء هذا الفَيض الغامر من النِّعم الْمُتاحة الْمُباحة من غير ثمن ولا كَدٍّ ولا معاناة؟! ولو أمضى المرء حياته يستعرض آلاء الله عليه، فسيُنفِق عُمُرَه كلَّه، ويبذل جُهده كلَّه، ولا يبلغ من شكر النِّعَم شيئًا.
وفي هذا الحديث بيانُ ضَرورةِ حاجةِ الإنسانِ إلى الأمانِ والعافيةِ والقُوتِ؛ يقول النبيُّ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ»؛ أي: من أصبح في يومه، وفيه إشارة للمؤمن ألَّا يخشى المستقبَل ولا يَحمِل همَّه؛ فإن أمره بيد ربِّه، مدبِّر الأمور، ومقدِّر الأقدار، ومصرِّف الأحوال، وما عليه إلا أن يُحسِن الظنَّ بالله تعالى، ويستبشر ويتفاءل بالخير.
«آمِنًا فِي سِرْبِهِ»؛ أي: آمنًا في نفسِه وأهله وعياله وبَيته، أو في طريقه، غيرَ خائف من عدوٍّ، آمنًا أن يقتله أحدٌ أو يَسرِقه أو نحو ذلك.
"«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ»؛ أي: أيّها المؤمنون «آمنًا»؛ أي: غيرَ خائف من عدوٍّ، أو من أسباب عذابه تعالى بالتَّوبة عن المعاصي، والعِصمة عن الْمَناهي، ولذا؛ قيل: ليس العيدُ لمن لَبِس الجديد؛ إنّما العيد لمن أَمِن الوعيد" [1].
والأمنُ من أعظم نعم الله على عباده في الدنيا والآخرة، وهو كسائر النِّعم، لا يُدرِك قيمتَها حقًّا إلَّا مَن فَقَدها، وقد وعد الله المؤمنين بالأمن في الدنيا إن حقَّقوا التوحيد، وأخلصوا الإيمان، وعملوا الصالحاتِ؛
قال تعالى:
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ
[النور: 55].
ووعد المؤمنين المخلِصين الذين لم يَلبِسوا إيمانهم بظُلم بأن لهم الأمنَ من المخاوفِ والعذاب والشقاء؛ قال تعالى:
ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوٓا إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ
[الأنعام: 82].
وبشَّر أولياءه بالأمن وعدم الخوف؛
قال تعالى:
﴿أَلَآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٢﴾ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿٦٣﴾ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْأَخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ﴾
[يونس: 62 - 64].
قوله ﷺ: «مُعَافًى فِي جَسَدِهِ»؛ أي: صحيحًا سالِمًا من العلل والأسقام، حيث تَحصَّلَت له العافيةُ في الجسَدِ فسَلِم مِن المرَضِ والبلاءِ، وكان النبيُّ ﷺ يسأل ربَّه صباحَ مساءَ العافية يقول: «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْت» [2].
وقد أخبر النبيُّ ﷺ أن الكثير من الناس مغبون في هذه النعمة؛
فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال:
قال النبيُّ ﷺ: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغُ»
[3].
وأرشد النبيُّ ﷺ أمَّته إلى اغتنام الصحَّة قبل المرض؛
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»
[4].
وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: «إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَياتِكَ لِمَوْتِكَ» [5].
قوله ﷺ: «عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِه»؛ أي: توفَّر له رِزقُ يومِه وما يَحتاجُه مِن مَؤونةٍ وطعامٍ وشرابٍ يَكْفي يومَه. «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»؛ أي: فكَأنَّما مَلَك الدُّنيا وجمَعها كلَّها؛ فمَن توَفَّر له الأمانُ والعافيةُ والرِّزقُ لا يَحتاجُ إلى شيءٍ بعدَ ذلك، فكان كمَن ملَك الدُّنيا، وجمَعها، فلا يَحتاجُ إلى شيءٍ آخَرَ، وعلى العبدِ أنْ يحَمْدَ اللهَ تعالى ويشكُرَه على هذه النِّعمِ.
"يعني: مَن جَمَع الله له بين عافية بَدَنه وأَمْنِ قَلْبِه حيث توجَّه، وكَفَاف عَيْشِه بقُوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع اللهُ له جميع النِّعَم التي مَن مَلَك الدنيا لم يَحصُل على غيرها، فينبغي أن لا يَستقبِل يومَه ذلك إلا بشُكرها بأن يَصرِفها في طاعة المنعِم، لا في معصية، ولا يَفتُر عن ذكره" [6].
1."مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3250).
2. رواه البخاريُّ في "الأدب المفرد" (701)، وأحمد (20701)، وأبو داود (5090)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد".
3. رواه البخاريُّ (6412).
4. رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (7846)، وقال: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخَين ولم يُخَرِّجاه، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3355).
5. رواه البخاريُّ (6416).
6. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 68).
قال الملا علي القاري رحمه الله: "«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ»؛ أي: أيّها المؤمنون «آمنًا»؛ أي: غيرَ خائف من عدوٍّ، أو من أسباب عذابه تعالى بالتَّوبة عن المعاصي، والعِصمة عن الْمَناهي، ولذا؛ قيل: ليس العيدُ لمن لَبِس الجديد؛ إنّما العيد لمن أَمِن الوعيد. «فِي سِرْبِهِ»: المشهور كسر السّين؛ أي: في نفسِه، وقيل: السِّرْب الجماعة، فالمعنى: في أهله وعياله، وقيل: بفتح السِّين؛ أي: في مَسلَكه وطريقه، وقيل: بفتحتين؛ أي: في بيته؛ كذا ذَكَره شارح. وقال التُّورِبِشْتِيُّ رحمه اللّه: أبى بعضهم إلّا السَّرَب بفتح السّين والرّاء أن: في بيته، ولم يذكر فيه روايةً، ولو سَلِم له قوله أن يُطلَق السِّرْب على كلِّ بيت، كان قوله هذا حَرِيًّا بأن يكون أقوى الأقاويل، إلّا أنّ السَّرَب يُقال للبيت الّذي هو في الأرض. وفي القاموس: السِّرْب الطّريق، وبالكسر: الطّريق والبال والقلب والنّفس، وبالتّحريك: جحر الوحش، والحقير تحت الأرض. اه. فيكون المراد من الحديث المبالغة في حصول الأمن، ولو في بيت تحت الأرض ضيِّق كجحر الوحش، أو التّشبيه به في خفائه وعدم ضيائه. «معافًى»: اسم مفعول من باب المفاعلة؛ أي: صحيحًا سالِمًا من العيوب، «في جسده»؛ أي: بدنه ظاهرًا وباطنًا، «عنده قوت يومه»؛ أي: كفاية قوته من وجه الحلال، «فكأنّما حيزت»: بصيغة المجهول من الحيازة، وهي الجمع والضّمُّ. «له»: والضّمير عائد لـ(مَن) رابط للجملة؛ أي: جُمعت له «الدّنيا»؛ أي: «بحذافيرها»: كما في نسخة مصحَّحة؛ أي: بتمامها، والحذافير: الجوانب، وقيل: الأعالي، واحدها حِذْفار أو حُذْفُور، والمعنى، فكأنّما أُعطِي الدّنيا بأسرها" [1].
قال المناويُّ رحمه الله: "«من أصبح منكم آمنًا في سربه»: بكسر السين على الأشهر؛ أي: في نفسه، ورُوِي بفتحها؛ أي: في مَسلَكه، وقيل: بفتحتين؛ أي: في بيته. «معافًى في جسدِه»؛
أي: صحيحًا بَدَنُه، «عنده قوتُ يومه»؛ أي: غداؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك؛ يعني: مَن جَمَع الله له بين عافية بَدَنه وأَمْنِ قَلْبِه حيث توجَّه، وكَفَاف عَيْشِه بقُوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع اللهُ له جميع النِّعَم التي مَن مَلَك الدنيا لم يَحصُل على غيرها، فينبغي أن لا يَستقبِل يومَه ذلك إلا بشُكرها بأن يَصرِفها في طاعة المنعِم، لا في معصية، ولا يَفتُر عن ذكره، «فكأنما حِيزت» بكسر المهمَلة «له الدنيا»؛ أي: ضُمَّت وجُمِعت «بحذافيرها»؛ أي: بجوانبها؛ أي: فكأنما أُعطيَ الدنيا بأسرها... وفيه حُجَّةٌ لمن فضَّل الفَقْرَ على الغنى" [2].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «في سربه»: هو بالكسر؛ أي: في نفسِه، وفلانٌ واسِع السِّرب؛ أي: رَخِيَّ البال، ويُروى بالفتح، وهو الْمَسلَك والطريق، يقال: خل سربه؛ أي: طريقه. أبي بعضهم إلا (السَّرَب) بفتح السين والراء؛ أي: في بيته. ولم يَذكُر فيه رواية، ولو سَلِم له قوله - أن يُطلَق السَّرَب على كلِّ بيت - كان قولُه هذا حَريًّا بأن يكون أقوى الأقاويل، إلا أن السرب يُقال للبيت الذي هو في الأرض. والحيازة: الضمُّ والجمع" [3].
1. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3250).
2. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 68).
3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (10/ 3292).