عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ،وَلِرَسُولِهِ،وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»
عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ،وَلِرَسُولِهِ،وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»
يروي تَمِيمٌ الدَّارِيُّ عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»؛ أي: عِمَادُ الدِّينِ وقِوامُه النَّصِيحةُ. "قلنا لمن؟" يا رسول الله، «قال: لله»: بالإيمان به، والإخلاصِ له، وتوحيدِه، ووصفه بصفات الكمال والجلال، والقيام بطاعته، واجتنابِ معصيته، «ولكتابه»: بالإيمان به، وتِلَاوَته، وحِفْظِه، وتدبُّره، وتعلُّم ألفاظه ومعانيه، والاجتهاد في العمل به، «ولرسوله»: بالإيمان به ﷺ، وطاعته، ونُصرتِه، وإقامة سنَّته، وتبليغ رسالته، «ولأئمَّة المسلمين»: العلماء والأمراء؛ فنصيحةُ العلماء بتلقِّي ما عندهم من العلم، وعدم تتبُّع زلَّاتهم، ونصيحةُ الأمراء بطاعتهم في الحقِّ، ومعونتهم عليه، ونُصحُهم دون ما يَغُرُّ من المدح، «وعامتهم»: بإِرَادَة الْخَيْر لَهُم، والسعيِ فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، ودعوتهم إلى الْحقِّ.
الشرح المفصَّل للحديثهذا الحديثُ يدورُ عليه الدِّين كلُّه، فهو مَدارُ الإسلام؛ وذلك لأن النصيحةَ كلمةٌ عامَّةٌ جامعةٌ لكل معاني الخير، ويقال: إن هذه الكلمةَ من وَجِيز الأسماء ومختصَر الكلام؛ فإنه ليس في كلام العرب كلمةٌ مفردةٌ تُستوفى بها العبارةُ عن معنى هذه الكلمة، حتى يُضَمَّ إليها شيءٌ آخَرُ، كما قالوا في "الفَلَاح": إنه ليس في كلام العرب كلمةٌ أجمعُ لخيرَيِ الدنيا والآخرة منه، حتى صار ليس يَعدِله شيءٌ من الكلام في معناه، ولذلك قالوا: أفلحَ الرجُلُ: إذا فاز بالخير الدائم الذي لا انقطاع له[1].
وأصل النصيحة من "نصحَ الرجلُ العسلَ"، إذا صفَّاه، أو من "نصح الرجلُ الثوبَ"، إذا خاطَه، والنِّصاح: الخيطُ الذي يُخاط به، والناصح: الخيَّاطُ. وعليه؛ فهو الذي يَلُمُّ شَعْثَ أخيه كما تَلُمُّ النصيحةُ خَرْقَ الثَّوب، أو على المعنى الأول: أن يصفوَ الرجل لأخيه كما يصفو العسل[2].
والنصيحة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقط عن غيره، وهي لازمةٌ على قدر الطاقة[3].
وعن جَريرِ بنِ عبدِ الله البَجَليِّ رضى الله عنه قَالَ: «بَايَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ – فَلَقَّنَنِي - فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»[4].
وفي قوله ﷺ: "الدينُ النصيحةُ" مجازٌ؛ فإنه جعل الدينَ كلَّه في النصيحة؛ كأنه لا دينَ إلا النصيحةُ، وهذا على طريق المبالغة، فإن في الدين خصالًا أخرى غير النصيحة[5]، والمعنى أن النصيحة أفضلُ الدين، كما يقال: المالُ الإبلُ[6].
ومعنى النصيحة لله - عزَّ وجلَّ - منصرِفٌ إلى الإيمان به، ونَفْي اعتقاد الشِّرك معه، وترك الإلحاد في صفاته، وبَذْل الطاعة له، وإخلاص العمل فيما أَمر به ونَهى عنه، ومُوالاة مَن أطاعه، ومُعاداة مَن عصاه، والاعتراف بنعمه، والشُّكر له عليها، وحقيقةُ هذه الإضافةِ راجعةٌ إلى العبد في نصيحة نفْسه لله، ودعوة غيره من الخَلق إلى هذه الخصال في أمر خالقه - عزَّ وجلَّ - والله سبحانه غنيٌّ عن نُصح كلِّ ناصح، وإرشادِ كلِّ مرشِد، وبه نال الرشدَ المرشِدون، وبنوره اهتدى المهتدون، وبرحمته نجا الفائزون[7].
ومن النصيحة لله: أن يكون الإنسان دائمًا ذاكرًا لربِّه بقلبه ولسانه وجوارحه، أما القلبُ فإنه لا حدودَ لذِكْره، والإنسانُ يستطيع أن يذكُر الله بقلبه على كلِّ حال، وفي كلِّ ما يشاء، وفي كل ما يسمَع؛ لأن في كل شيء لله تعالى آيةً تدُلُّ على وحدانيته وعظمته وسلطانه، فيفكِّر في خلق السموات والأرض، ويفكِّر في الليل والنهار، ويفكِّر في آيات الله من الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدوابِّ، وغير ذلك، فيُحدِث هذا ذِكرًا لله - عزَّ وجلَّ - في قلبه.
والنصيحة لله - تبارك وتعالى -: توحيدُه، ووصفُه بصفات الكمال والجلال جميعًا، وتنزيهه عما يضادُّها ويُخالفها، وتجنُّب معاصيه، والقيام بطاعاته، ومحابِّه، بوصف الإخلاص، والحبُّ فيه، والبُغض فيه، وجهاد مَن كفر به تعالى، وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك، والحثُّ عليه[8].
ومن النصيحة لله: أن تكون غَيْرته لله؛ فيَغار لله - عزَّ وجلَّ - إذا انتُهِكَت محارمُه، كما كان النبيُّ ﷺ هكذا، فإنه - عليه الصلاة والسلام - كان لا ينتقِم لنفْسه أبدًا، مهما قال الناس فيه؛ ولكنه إذا انتُهكت محارمُ الله، صار أشدَّ الناس انتقامًا ممن ينتهك حُرُماتِ الله تعالى، فيَغار الإنسان على ربِّه، فلا يَسمَع أحدًا يسُبُّ الله، أو يشتُم الله، أو يستهزئ بالله، إلا غار من ذلك، وأنكر عليه، حتى ولو رفع أمره لوليِّ الأمر؛ لأن هذا من النصيحة لله عزَّ وجلَّ[9].
وأما النصيحةُ لكتابه، فهي الإيمان به، وتحسينُ تلاوته، وتفسير معانيه، وتدبُّر آياته، ودعوة الناس إلى الإيمان به وتلاوته، وأن يدافع الإنسان عنه، يدافع مَن حرَّفه تحريفًا لفظيًّا، أو تحريفًا معنويًّا، أو مَن زعَم أن فيه نقصًا، أو أن فيه زيادةً، وكذا بنشر معانيه الصحيحة التي لا تحريفَ فيها ولا تأويلَ، وأن تؤمن بأن الله تعالى تكلَّم بهذا القرآن حقيقةً، وأنه كلامه - عزَّ وجلَّ - الحرف والمعنى، ليس الكلامُ الحروفَ دونَ المعاني، ولا المعاني دونَ الحروف؛ بل إنه كلام الله لفظًا ومعنًى، تكلَّم به وتلقَّاه منه جبريلُ - عليه السلام - ومن ذلك أيضًا احترامُ قُدسيته، فلا يُمَسُّ إلا من طاهرٍ من الحدَثَين الأصغرِ والأكبر، إلا أن يمسَّه من وراء حائل، وألَّا يوضَع في مكان يُمتهَن[10].
وأما النصيحةُ لرسوله ﷺ فإنما هي في تصديقه على الرسالة، وقَبول ما جاء به ودعا إليه، وطاعته فيما سنَّ وشَرَع، وبيَّن من أمر الدين وشرح، والانقياد له فيما أمر، ونهى، وحَكَم، وأمضى، وترك التقديم بين يديه، وإعظام حقِّه، وتعزيره، وتوقيره، ومؤازرته، ونُصرته، وإحياء طريقته في بثِّ الدعوة، وإشاعة السُّنة، ونفي التُّهمة في جميع ما قاله، ونَطَق به[11].
ومن النصيحة للنبيِّ ﷺ: احترامُ أصحابه، وتعظيمُهم، ومحبَّتهم؛ لأن أصحاب الإنسان لا شكَّ أنهم خاصَّتُه من الناس، وأخصُّ الناس به، ولهذا كان الصحابةُ خيرَ القرون؛ لأنهم أصحاب رسول الله ، فمن سبَّ الصحابة أو أبغضهم، أو لَمَزَهم، أو أشار إلى شيء يَبهَتهم فيه، فإنه لم ينصح للرسول ﷺ، وإن زعم أنه ناصح للرسول فهو كاذب، كيف تَسُبُّ أصحاب الرسول ﷺ وتُبغضهم وأنت تحبُّ الرسول ﷺ وتنصح له؟![12]
والنصيحةُ لرسول الله على وجهين: فنصيحةُ مَن صاحَبَهُ وشاهَدَه، ونصيحةُ مَن لم يَرَه. فأما صحابتُه، فإن الله شَرَط عليهم أن يُعزِّروه، ويوقِّروه، ويَنصُروه، ويعادوا فيه القريب والبعيد، وأن يسمعوا له ويطيعوا، وينصحوا كلَّ مسلم، فَوفَّوْا بذلك، وأثنى الله عليهم به. وأما نصيحة مَن لم يَرَه، فأن يحفظوا سُنَّته على أمَّته ويَنقُلوها، ويعلِّموا الناس شريعته ودينه، ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكَر، فإذا فعلوا ذلك، فهم ورثةُ الأنبياء[13].
ومن النصيحة لرسول الله ﷺ أن ينصح الناسَ على صحيح الحديث وضعيفه، وأن يتكلَّم بعلمٍ في الجرح والتعديل، فيذكُر للناس مَن يصلح أن يأخذوا دينَهم عنه، ومَن لا يصلح. قيل لأحمدَ بنِ حنبلٍ: الرجُلُ يصوم، ويُصلِّي، ويَعتكف، أحبُّ إليك، أو يتكلَّم في أهل البِدَع؟ فقال: إذا قام، وصلَّى، واعتكف، فإنما هو لنفْسه، وإذا تكلَّمَ في أهل البدع، فإنما هو للمسلمين، هذا أفضلُ[14].
أما أئمَّة المسلمين، فعلى قسمين: الأمراء والعلماء:
فأما نصيحة الأمراء، فهي طاعتُهم في الحقِّ، ومعونتُهم عليه، وتذكيرُهم به، وإعلامُهم بما غفلوا عنه، أو جهِلوه في أمر دينهم، ومصالح دنياهم، والصلاةُ خلفهم، والجهادُ معهم، وتركُ الخروج بالسيف عليهم، إذا ظهر منهم حَيْف أو سوء سيرة، وتنبيهُهم عند الغفلة، وألَّا يُغَرُّوا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدعى بالصلاح لهم[15].
ولا يكون من نصيحتهم الكذبُ عليهم، والمدح المفرِط لهم، وتسويل الباطل في أعينهم؛ فقد روى جابرُ بنُ عبد الله رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ:
«أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ»، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: «أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي، لَا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ؛ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي»
[16].
ونصيحة الأمراء إنما هي على قَدْر الاستطاعة؛ فإذا أَمِن مِن ضُرِّهم فعليه أن ينصحَهم، فإذا خَشيَ على نفْسه، فحسبُه أن يُغَيِّر بقلبه، وإن علِم أنه لا يقدر على نُصحهم، فلا يدخُل عليهم؛ فإنه يغشُّهم ويَزيدهم فتنةً، ويُذهب دينَه معهم.
وأما العلماء، فنصيحتُهم بالاستماع لهم، والتواضُع معهم، وأن يحرِص على تلقِّي ما عندهم من العلم، وألَّا يتتبَّع الإنسان عَوْراتِهم، وزلَّاتهم، وما يُخطئون فيه؛ لأنهم غير معصومين، قد يَزِلُّون، وقد يُخطئون[17].
ومن النصيحة للعلماء ألَّا يتعصبَ لمذهب معيَّنٍ، فلا يُفتي إلا به، ولا يرى الحقَّ في غيره، فيكون خائنًا لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم؛ فإنه لم يخفْ مقامَه بين يدَيِ الله، واجترأ على الإفتاء بغير ما يراه صحيحًا[18].
وأما نصحُ عامَّة المسلمين، فهو إرشادُهم لمصالحهم، ومعونتُهم في أمر دينهم ودنياهم بالقول والعمل، وتنبيهُ غافلهم، وتعليمُ جاهلهم، ورِفْدُ محتاجهم، وسَتر عَوْراتهم، ودَفْع المضارِّ عنهم، وجَلْب المنافع في الدين والدنيا إليهم، وأن يريد الخيرَ لهم في الدنيا والآخرة، وكفَّ الأذى عنهم، وأن يحبَّ لهم من الخير ما يحبُّ لنفْسه[19].
وكان جرير بن عبد الله رضى الله عنه إذا عَرَضَ سلعةً بصَّر المشتريَ عيوبَها، ثم خيَّره، فقال: إن شئتَ فاشترِ، وإن شئتَ فاتركْ، فقيل له: إذا فعلتَ هذا لم ينفذ لك بيعٌ، فقال: إنا بايَعْنا رسولَ الله على النُّصح لكل مسلم[20].
وجماعُ القول فيه أن النصيحةَ هي خُلوص المحبَّة للمنصوح له، والتحرِّي فيما يستدعي حقَّه، فلا يبعد أن يدخل فيه نفْسه بأن ينصحها بالتوبة النصوح، وأن يأتيَ بها على طريقتها متداركة للفُرُطات، ماحية للسيِّئات. ويجعل قلبه محلًّا للنظر والفِكر، ورُوحه مُستقَرًّا للمحبَّة، وسرَّه مِنَصَّة للمشاهدة. وعلى هذا أعمال كل عضو من العَين، بأن يحمِلَها على النظر إلى الآيات الناصَّة من الآفاقية والأنفسية، والأُذُن على الإصغاء إلى الآيات النازلة والأحاديث الواردة، واللسان على النُّطق بالحقِّ، وتحرِّي الصدق، والمواظبة على ذِكْر الله وثنائه
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾
[الإسراء: 36][21].
قال ابن الأثير رحمه الله: "النَّصِيحَةُ: كَلِمةٌ يُعَبَّر بها عن جُمْلَة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يُمكِن أن يُعَبِّر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تَجْمَع معناه غيرُها"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "هذا حديثٌ عظيمُ الشَّأن، وعليه مَدَارُ الإسلام، كما سنذكره من شرحه، وأمَّا ما قاله جماعاتٌ من العلماء أنه أحدُ أرباعِ الإسلام؛ أي: أحدُ الأحاديث الأربعة التي تَجمَع أمور الإسلام، فليس كما قالوه؛ بل الْمَدَارُ على هذا وَحدَه"[2].
قال ابن الصَّلاح رحمه الله: "النصيحة لله - تبارك وتعالى -: توحيدُه، ووصفه بصفات الكمال والجلال جميعًا، وتنزيهُه عما يضادُّها ويُخالفها، وتجنُّب معاصيه، والقيام بطاعاته، ومحابِّه، بوصف الإخلاص، والحبُّ فيه، والبُغض فيه، وجهاد مَن كفر به تعالى، وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك، والحثُّ عليه"[3].
قال الخطّابيُّ رحمه الله: "النَّصيحةُ: كَلِمةٌ جامعة، معناها حيازة الحظِّ للمنصوح له. ويقال: إن هذه الكلمة من وَجِيز الأسماء، ومختصَر الكلام؛ فإنه ليس في كلام العرب كلمةٌ مُفرَدة تُستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة حتى يُضَمَّ إليها شيءٌ آخَرُ، كما قالوا في (الفلاح): إنه ليس في كلام العرب كلمةٌ أجمعُ لخير الدنيا والآخرة منه، حتى صار ليس يَعدِله شيءٌ من الكلام في معناه، ولذلك قالوا: أفلحَ الرجُلُ، إذا فاز بالخير الدائم الذي لا انقطاع له، ويقال: إن أصل النصيحة مأخوذ من قولهم: نَصَحَ الرجُلُ ثَوْبَه إذا خاطَه، والنِّصاح الخيط: شبَّهوا فعل النَّاصِح فيما يتحرَّاه من صلاح المنصوح له بفعل الخيَّاط بما يسدُّه من خلل الثَّوب، ويلأمه من فُتوقه، ويجمعه من الصلاح فيه. وقيل: إنّها مأخوذة من نَصَحْتَ العَسَل إذا صفَّيْتَه من الشَّمع، شبَّهوا تخليص القول والعمل من شوب الغشِّ والخيانة بتخليص العسل من الخلط الذي فيه.
وقوله: «الدين النصيحة» ثلاثًا، يريد أن عِمَادَ أمرِ الدِّين وقِوَامَه إنما هو النصيحة، وبها ثباتُه وقوَّته... كما قال: «الحجُّ عَرَفَةُ»؛ أي: عمادُه ومُعظَمه عَرَفَةُ" [4].
قال المازِريُّ رحمه الله: "النصيحةُ يُحتمَل أن تكون مشتقَّةً من نصحتَ العَسَلَ إذا صفَّيْتَه، ويُحتمَل أن تكون من النُّصْح، وهي الخياطة، والإبرة الْمِنْصَحَة، والنِّصَاح الخيط الذي يُخاط به، والنَّاصح الخيَّاط، فمعناه: أنه يَلُمُّ شَعْثَ أخيه بالنُّصح كما تَلُمُّ الْمِنْصَحةُ خَرْق الثوب. قال نِفْطَوَيْهِ: يُقالُ: نصح الشيء إذا خَلَص، ونصَحَ له القولَ؛ أي: أخلصَه له، وهذا الذي قاله نِفْطَوَيْهِ يرجع إلى الاشتقاق الأول؛ لأنه يصفو لأخيه كما يصفو العسل"[5].
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "والنُّصح للّه الإيمان به، ونفيُ الشّرك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلِّها، وتنزيهه تعالى عن جميع أنواع النّقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معاصيه، والحبّ فيه، والبُغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وغير ذلك ممَّا يجب له تعالى. قال الخطَّابيُّ: وجميع هذه الأشياء راجعة إلى العَبْدِ من نصيحة نفسه، واللّه تعالى غنيٌّ عن نُصح النّاصحين. والنّصيحةُ لكتابه: الإيمانُ بأنّه كلامه تعالى، وتحَليلُ ما حلَّله، وتحريم ما حرَّمه، والاهتداء بما فيه، والتَّدبُّر لمعانيه، والقيام بحقوق تلاوته، والاتّعاظ بمواعظه، والاعتبار بزواجره، والمعرفة له. والنَّصيحةُ لرسول اللّه : تصديقُه بما جاء به، واتِّباعه فيما أَمَر به، ونهى عنه، وتعظيم حقِّه، وتوقيره حيًّا وميِّتًا، ومحبَّة مَن أَمَرَ بمحبَّته من آله وصَحْبِه، ومعرفة سنَّته، والعمل بها، ونشرها، والدّعاء إليها، والذّبُّ عنها. والنّصيحة لأئمَّة المسلمين: إعانتهم على الحقِّ، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتذكيرهم لحوائج العِبَاد، ونُصحُهم في الرِّفق والعَدْلِ، قال الخطّابيُّ: ومن النّصيحة لهم: الصَّلاةُ خلفهم، والجهاد معهم.
وتَعْداد أسباب الخير في كلٍّ من هذه الأقسام لا تنحصر. قيل: وإذا أُريد بأئمَّة المسلمين العلماء: فنُصحهم بقَبول أقوالهم، وتعظيم حقِّهم، والاقتداء بهم، ويُحتمَل أنّه يُحمَل الحديث عليهما، فهو حقيقة فيهما. والنّصيحة لعامَّة المسلمين بإرشادهم إلى مصالحهم في دنياهم وأُخراهم، وكَفِّ الأذى عنهم، وتعليمهم ما جَهِلوه، وأَمْرِهم بالمعروف، ونَهْيِهم عن المنكَر، ونحوِ ذلك"[6].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "معنى هذا الباب: أن النصيحة تسمَّى دينًا وإسلامًا، وأن الدِّين يَقَعُ على العَمَل كَمَا يقع على القول... والنصيحةُ فرضٌ يجزئ فيه من قام به، ويَسقُط عن الباقين، والنصيحةُ لازمةٌ على قَدْرِ الطاقة، إذا عَلِم الناصح أنه يُقبَل نُصحُه، ويُطاَع أمرُه، وأَمِن على نفسه المكروهَ، وأما إن خَشِيَ الأذى، فهو في سَعَةٍ منها"[7].
قال ابن حزم رحمه الله: "إذا نصحتَ فانصح سرًّا لا جهرًا، أو بتعريض لا بتصريح إلا لمن لا يفهم، فلا بد من التصريح له، ولا تنصح على شرط القَبول منك، فإن تعدَّيْتَ هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالبُ طاعة لا مؤدِّي حقِّ ديانة وأُخوَّة، وليس هذا حُكْمَ العقل، ولا حكم الصداقة؛ ولكن حكم الأمير مع رَعِيَّته، والسيِّد مع عبيده"[8].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "والنصيحة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقط عن غيره، وهي لازمةٌ على قدر الطاقة"[9].
قال ابن رجب الحنبليُّ رحمه الله: "وقال الْفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ: ما أَدرَك عندَنا من أَدرَك بكثرة الصلاة والصيام؛ وإنَّما أَدرَك عندنا بسَخاء الْأَنْفُس، وسلامةِ الصدور، والنُّصح للأُمَّة. وسُئل ابنُ الْمُبارَك: أَيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: النُّصح لِلَّه. وقال مَعْمَرٌ: كان يُقال: أنصحُ الناس لك من خاف اللَّهَ فيك. وكان السَّلَفُ إذا أرادوا نصيحة أحد، وَعَظوه سِرًّا حتى قال بعضهم: مَن وعَظَ أخاه فيما بَيْنَه وبينه، فهي نصيحةٌ، ومَن وعَظَه على رؤوس الناس فإنما وَبَّخَه. وقال الفُضَيل: المؤمنُ يَسْتُرُ ويَنصَح، والفاجرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ"[10].
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: «الدّين النَّصِيحَة»: الْمَعْنى أَن النَّصِيحَة أفضلُ الدّين وأكمله، كَمَا يُقَال: المَالُ الْإِبِلُ، وَمعنى النَّصِيحَة: إِرَادَة الْحَظِّ للمنصوح. وَفِي اشتقاق النَّصِيحَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه من قَوْلهم: نَصَحَ الرجل ثَوْبَه، إِذا خاطه، وَكَأن الناصح جَمَع الصّلاح للمنصوح جَمْعَ الناصح ثَوْبَه بالخياطة. وَالثَّانِي: أَنه من قَوْلهم: نصحتُ الْعَسَل، إِذا صفَّيْتُه من الشَّمع، فَشبَّه خُلوص النُّصح من شَوب الْغِشِّ والخيانة بخلوص الْعَسَل من كَدره.
وَاعْلَم أَن النَّصِيحَة لله - عزَّ وَجلَّ -: المناضلة عَن دينه، والمدافعة عَن الْإِشْرَاك بِهِ، وَإِن كَانَ غَنِيًّا عَن ذَلِك؛ لَكِن نَفعه عَائِد على العَبْد، وَكَذَلِكَ النصح لكتابه: الذبُّ عنه، والمحافظة على تِلَاوَته، والنصيحة لرَسُوله: إِقَامَة سنَّته، وَالدُّعَاء إِلَى دَعوته، والنصيحة لأئمَّة الْمُسلمين: طاعتهم، وَالْجهَاد مَعَهم، والمحافظة على بيعتهم، وإهداء النصائح إِلَيْهِم دون المدائح الَّتِي تَغُرُّ. والنصيحة لعامَّة الْمُسلمين: إِرَادَة الْخَيْر لَهُم، وَيَدخُل في ذلك تعليمهم، وتعريفهم اللَّازِمَ، وهدايتهم إِلَى الْحقِّ"[11].
قال الخطابيُّ رحمه الله: "فأما النصيحة لله - عزَّ وجلَّ - فمعناه منصرِفٌ إلى الإيمان به، ونَفْي اعتقاد الشِّرك معه، وترك الإلحاد في صفاته، وبَذْل الطاعة له، وإخلاص العمل فيما أَمر به ونَهى عنه، ومُوالاة مَن أطاعه، ومُعاداة مَن عصاه، والاعتراف بنعمه، والشُّكر له عليها، وحقيقة هذه الإضافةِ راجعةٌ إلى العبد في نصيحة نفْسه لله، ودعوة غيره من الخَلق إلى هذه الخصال في أمر خالقه - عزَّ وجلَّ - والله سبحانه غنيٌّ عن نُصح كلِّ ناصح، وإرشادِ كلِّ مرشِد، وبه نال الرشدَ المرشدون، وبنوره اهتدى المهتدون، وبرحمته نجا الفائزون[12].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال أبو بكر الآجُرِّيُّ رحمه الله: والنصيحةُ لرسول الله على وجهين: فنصيحة مَن صاحَبَهُ وشاهَدَه، ونصيحة مَن لم يَرَه. فأما صحابتُه، فإن الله شَرَط عليهم أن يُعزِّروه، ويوقِّروه، ويَنصُروه، ويعادوا فيه القريب والبعيد، وأن يسمعوا له ويطيعوا، وينصحوا كلَّ مسلم، فَوفَّوْا بذلك، وأثنى الله عليهم به. وأما نصيحة مَن لم يَرَه، فأن يحفظوا سُنَّته على أمته وينقلوها، ويعلِّموا الناس شريعته ودينه، ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر، فإذا فعلوا ذلك، فهم ورثةُ الأنبياء"[13].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وجماعُ القول فيه أن النصيحةَ هي خُلوص المحبَّة للمنصوح له، والتحرِّي فيما يستدعي حقَّه، فلا يبعد أن يدخل فيه نفْسه بأن ينصحها بالتوبة النصوح، وأن يأتيَ بها على طريقتها متداركة للفُرُطات، ماحية للسيئات. ويجعل قلبه محلًّا للنظر والفِكر، ورُوحه مُستقَرًّا للمحبَّة، وسرَّه مِنَصَّة للمشاهدة. وعلى هذا أعمال كل عضو من العين، بأن يحمِلَها على النظر إلى الآيات الناصَّة من الآفاقية والأنفسية، والأُذُن على الإصغاء إلى الآيات النازلة والأحاديث الواردة، واللسان على النُّطق بالحقِّ، وتحرِّي الصدق، والمواظبة على ذِكْر الله وثنائه
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾
[الإسراء: 36][14].
النَّصِيحَةُ: كَلِمةٌ يُعَبَّر بها عن جُمْلَة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يُمكِن أن يُعَبِّر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تَجْمَع معناه غيرُها[1].
أئمَّة المسلمين: العلماء والأمراء، وأهلُّ الحلِّ والعَقد.