عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ».

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن رَسُولِ اللَّهِ   أنه قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ»؛ أي: من كانت عليه مَظلِمة لأحد من الناس. «مِنْ عِرْضِه أَوْ شَيْءٍ»، وسواءٌ كانت هذه المظلمةُ في العِرْضِ؛ كغِيبةٍ، أو نميمة، أو سبٍّ وشتم، أو كانت في أكلِ مال، أو غصْب أرض بغير حقٍّ. «فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ»؛ أي: ليَطلُبْ من المظلوم أن يعفوَ عنه ويُسامحَه، أو ليُؤَدِّ إليه حقَّه ومَظلِمته، وليسارع في التحلُّل من المظالم اليوم في الدنيا. «قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ»؛ أَيْ: قبل يَوْم الْقِيَامَةِ. «إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ»؛ أي: إن كان للظالم حسنات وعملٌ صالح، ولم يؤدِّ الحقَّ إلى صاحبه، أو يتحلَّله منه، جاء المظلوم يومَ القيامة، وأَخَذ من حسنات الظالم على قدر الظُّلم الذي وقع عليه. «وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ»؛ أي: إن لم يكن للظالم حسنات، وُضِع عَلَى الظَّالِمِ من سيئات المظلوم.

الشرح المفصَّل للحديث:

الظُّلم من أقبح المعاصي، وأشدِّها حُرمةً، شرُّه عظيم، وعاقبتُه وَخيمة، وأعظمُ أنواع الظُّلم: الشركُ بالله؛

قال تعالى:

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

[لقمان: 13]

فهو تجاوزٌ للحدِّ مع الله تعالى؛ إذ أَمَر بتوحيده، وهو أعظم الذنوب وأكبرُها؛

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ  ﷺ:

"أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»

[1]؛

ولذلك كان عقاب فاعله شديدًا؛

قال تعالى:

إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

[إبراهيم: 22]


وقال تعالى:

وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرً

ا[الفرقان: 19]

 ويليه: ظُلْمُ العباد، وسواءٌ أكان هذا الظلم ظلمًا ماديًّا أم ظلمًا معنويًّا، فقد حذَّرنا الله منه؛

قال تعالى:

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

[الشورى: 42]

 وهو ظُلمات على صاحبه يوم القيامة؛

عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ  ﷺ قَالَ:

«الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ»

[2]

 وقد حرَّمه الله على نفسه ابتداءً، ثم حرَّمه على العباد؛

قال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

[يونس: 44]

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ  ﷺ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:

«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا… »

[3]

وتوعَّد الله الظالمين بتعجيل العقوبة لهم في الدنيا؛

فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ:

«مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»

[4]

 وإذا كان الأمر كذلك، كان من الواجب علينا أن نتوب إلى الله من هذه المظالم؛ إلا أن المظالم التي تتعلَّق بالعباد لها شرط خاصٌّ بها غير شروط التوبة العامَّة، وهو التحلُّل من المظالم، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، فشروط التوبة هي: إخلاص النية لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على ارتكابها، والعزم على عدم العودة إلى المعصية، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها إذا كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوق العباد، وأن تكون في الوقت المخصَّص لقَبولها؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل لحظة الموت.

لذا؛ حثَّنا النبيُّ   على المسارعة إلى أداء الحقوق، وردِّ المظالم إلى أهلها في الدنيا، حتى ولو كانت ببذل الأموال، فهي أَهْوَنُ من أخذ الحسَنات منه، وحمل السيِّئات عليه يوم القيامة، فقال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ»؛ أي: من كانت عليه مَظلِمة لأحد من الناس، والْمَظلِمة: اسمٌ لِمَا أُخِذ بغير حقٍّ، «مِنْ عِرْضِهِ»، وسواءٌ أكانت هذه المظلمةُ في العِرْضِ؛ كغِيبةٍ، أو نميمة، أو سبٍّ وشتم، وإنما قدَّم العِرض لأن أكثر مظالم الناس في العِرض، «أَوْ شَيْءٍ»؛ يعني: أو كانت المظلمة في أكلِ مال، أو غصْب أرض بغير حقٍّ؛

قال تعالى:

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ

[البقرة: 188]

وقال تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا  الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ

[النساء: 29]،

«فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ»؛ أي: ليَسأَلْه أن يجعلَه في حِلٍّ، ويطلُب براءةَ ذمَّته ومسامحته في الدنيا، أو ليؤدِّ إليه مَظلَمته قبل يوم القيامة، والتحلُّل إنما يكون للظالم قِبَل المظلوم، يَطلُب منه أن يعفوَ عنه، ويسامحَه؛ ولكن هل يبيِّن الظالم للمظلوم قَدْرَ ظُلمه أو لا؟ وهل يُشترَط أن يَعرِف المظلوم مقدارَ الظُّلم الذي وقع عليه أو ماهيَّته؟ "قال المهلَّب: إن بيَّن فهو أطيبُ وأصحُّ في التحلُّل؛ لأنه يعرف مقدار ما يحلِّله منه معرفة صحيحة، وقد اختلف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد معاملة وملابسة، ثم حلَّل بعضهم بعضًا من كلِّ ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم: إن ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يبيِّن مقداره، وقال آخرون: إنما تصحُّ البراءة إذا بيَّن له، وعَرَف ما له عنده، أو قارب ذلك بما لا مُشاحَّة في مثله. قال المهلَّب: وهذا الحديث حُجَّة لهذا القول؛ لأن قوله عليه السلام: «أخذ منه بقدر مظلمته» يدلُّ أنه يجب أن يكون معلومَ القَدْرِ، مشارًا إليه"[5]

قوله ﷺ:

«قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ»

يريد يومَ القيامة، وفي التعبير بهذا اللفظ إشارةٌ إلى أن التعامل بالأموال ينقطع يومَ القيامة، ويكون بالحسنات والسيِّئات، وأن التعامل بالأموال في الدنيا عند ردِّ الْمَظالم أَهْوَنُ من التعامل بالحسنات والسيِّئات في الآخرة.

قوله ﷺ:

«إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ»

 أي: إن كان للظالم عملٌ صالح، ولم يؤدِّ الحقَّ إلى صاحبه، أو يتحلَّله منه، جاء المظلوم يومَ القيامة، وأَخَذ ثواب بعض أعماله الصالحة على قدر الظُّلم الذي وقع عليه، وفي معناه

حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ:

«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»

[6]

قولهﷺ:

«وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»؛ أي: وإن لم يكن للظالم حسنات، أُخِذ من سيِّئات المظلوم، فوُضِعت عليه، {ولا تعارُض بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ}

[الإسراء: 15]

لأنه إنما يُعاقَب بسبَب فعله وظُلمه وجِنايته، فلمَّا دفَع لغُرمائه حسناته، ولم يَبْقَ منها بقيةٌ، أُخِذ قدر سيئاته، فعُوقِبَ بها"[7].

وإن كانت هذه المظالم يتعلَّق بها حقوقٌ مالية لله، أو للآدميِّين، فلا بدَّ من ردِّها، "إن تعلَّق بالمعصية حقٌّ ماليٌّ؛ كمنع الزكاة، والغَصْبِ، والجنايات في أموال الناس، وَجَب مع ذلك تبرئة الذمَّة عنه، بأن يؤدِّيَ الزكاة، ويردَّ أموال الناس إن بَقِيَت، ويَغرَم بَدَلها إن لم تبقَ، أو يستحلَّ المستحقَّ، فيبرِّئه، ويجب أن يعلم المستحِقُّ إن لم يَعلَم به، وأن يوصِّله إليه إن كان غائبًا، إن كان غصبُه منه هناك، فإن مات، سلَّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبرُه، دَفَعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتُه وديانته، فإن تعذَّر، تصدَّق به على الفقراء بنِيَّة الغرامة له إن وَجَده"[8]

المراجع

  1.  رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
  2.  رواه البخاريُّ (2447)، ومسلم (2579).
  3.  رواه مسلم (2577).
  4.  رواه أبو داود (4902)، وابن ماجه (4211)، والترمذيُّ (2511)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
  5.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 577).
  6.  رواه مسلم (2581).
  7.  "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" لشمس الدين البرماويِّ (7/ 451)
  8.  "روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنوويِّ (11/ 246)


غريب الحديث

الْمَظْلِمَة: ما تَطلُبه عند الظالم، وهو اسم ما أَخذَه منك بغير حقٍّ[1]

عِرْضه: الْعِرْض: موضع المدح والذمِّ من الإنسان، سواءٌ كان في نفسه أو في سلفه، أو من يَلزَمه أمره، وقيل: هو جانبُه الذي يَصُونه من نفسه وحَسَبه، ويحامي عنه أن يُنتقَص ويُثلَب، وقال ابن قُتيبة: عِرض الرجل: نفسُه وبَدَنه لا غيرُ[2]

فَلْيَتَحَلَّلْه: التَّحَلُّل والاستحلال: طَلَبُك إلى الرجل أن يجعلك فِي حِلٍّ[3]

المراجع

  1.  " مختار الصحاح" للرازيِّ (ص: 197).
  2.  "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 209).
  3.  "الفائق في غريب الحديث والأثر" للزمخشريِّ (1/ 312).



النقول:

قال الملا علي القاري رحمه الله : "«مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ»: بكسر اللّام وبفتح، اسمُ ما أَخَذه الظّالم أو تعرَّض له «لأخيه»؛ أي: في الدّين. «من عِرضه»: بيان للمظلمة، وهو بكسر العين، جانِبه الذّي يصونه من نفسه ونَسَبه وحَسَبه، ويتحامى أن ينتقص، «أو شيء»؛ أي: أمر آخر؛ كأخذ ماله، أو المنع من الانتفاع به، أو هو تعميمٌ بعد تخصيص، «فليتحلّله»؛ أي: فليَطلُب الظّالم حلَّ ما ذُكر «منه»؛ أي: من المظلوم في النّهاية. يُقال: تحلَّلته واستحللتَه، إذا سألتَه أن يجعلك في حلٍّ، «اليومَ»؛ أي: في أيّام الدّنيا لمقابلته بقوله: «قبل أن لا يكون»؛ أي: لا يوجد «دينار ولا درهم»: وهو تعبير عن يوم القيامة، وفي التّعبير به تنبيه على أنّه يجب عليه أن يتحلَّل منه، ولو بذل الدّينار والدّرهم في بذل مَظلمته؛ لأنّ أخذ الدّينار والدّرهم اليوم على التّحلُّل أهون من أخذ الحسنات، أو وضع السّيّئات على تقدير عدم التّحلُّل، كما أشار إليه بقوله: «إن كان له عمل صالح»؛ أي: بأن يكون مؤمنًا ظالِمًا غير معفوٍّ من مظلومه، «أُخِذ»: بصيغة المجهول؛ أي: عمله الصّالح، «منه»؛ أي: من صاحبه الظّالم على غيره، «بقدر مظلمته»: ومعرفة مقدار الطّاعة والمعصية كمِّيّةً وكَيفيّةً مفوَّض علمها إلى اللّه سبحانه، هذا وقال الطّيبيُّ: قوله: إن كان استئنافًا، كأنّه لَمّا قيل: فليتحلَّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم يؤخذ منه بدل مظلمته، توجَّه لسائل أن يسأل: فما يؤخذ منه بدل مظلمته بعد أن كان... إلخ. اهـ. «وإن لم تكن»؛ أي: لم توجد «له حسنات»؛ أي: باقية أو مطلَقًا، «أُخِذ من سيّئات صاحبه»؛ أي: المظلوم، «فحُمِل عليه»: بصيغة المجهول مخفَّفًا؛ أي: فوُضِع على الظّالم. قال ابن الملك: يحتمل أن يكون المأخوذ نفسَ الأعمال بأن تتجسَّم فتصير كالجواهر، وأن يكون ما أُعِدَّ لهما من النِّعم والنِّقم إطلاقًا للسّبب على المسبِّب، وهذا لا ينافي

قوله تعالى:

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ

[الأنعام: 164]

لأنّ الظّالم في الحقيقة مجزيٌّ بوِزر ظُلمه، وإنّما أُخذ من سيّئات المظلوم تخفيفًا له وتحقيقًا للعدل"[1].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلَّب: إن بيَّن، فهو أطيبُ وأصحُّ في التحلُّل؛ لأنه يَعرِف مقدار ما يحلِّله منه معرفة صحيحة، وقد اختَلَف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد مُعامَلة ومُلابَسة، ثم حلَّل بعضهم بعضًا من كلِّ ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم: إن ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يبيِّن مقداره، وقال آخرون: إنما تصِحُّ البراءة إذا بيَّن له، وعَرَف ما له عنده، أو قارب ذلك بما لا مُشاحَّة في مثله. قال المهلَّب: وهذا الحديث حُجَّة لهذا القول؛ لأن قوله عليه السلام: «أخذ منه بقدر مظلمته» يدلُّ أنه يجب أن يكون معلومَ القَدْرِ، مشارًا إليه"[2].

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «مظلمة» الْمُغرب: المظلِمة الظُّلم، واسم للمأخوذ. يقال: عند فلان مَظلَمتي وظُلامتي؛ أي: حقِّي الذي أُخِذ مني ظُلمًا. انتهى كلامه. والمرادُ من «اليوم» أيَّام الدنيا؛ لمقابلته بقوله: «قبل أن لا يكون دينار ولا درهم» وهو معبِّر عن يوم القيامة. يقال: تحلَّلتَه واستحللتَه إذا سألتَه أن يجعلك في حِلٍّ من قِبَلِك. أقول: قوله: «إن كان» استئنافٌ؛ كأنه لَمَّا قِيل: «فليتحلَّلْه منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم» ويؤخذ منه بدل مظلمته، توجَّه لسائلٍ أن يسأل: فما يؤخذ منه بدل مظلمته؟ قيل «إن كان ....» إلخ"[3]

قال ابن حجر رحمه الله: " من كانت له مظلمةٌ عند الرّجل، فحلَّلها له، هل يُبيِّن مظلمته؟ المظلمة بكسر اللّام على المشهور، وحكى ابن قُتيبة وابن التّين والجوهريُّ فتحها، وأنكره ابن القُوطيّة، ورأيت بخطِّ مغلطاي أنّ القزَّاز حكى الضّمَّ أيضًا، وقوله: هل يُبيّن؟ فيه إشارة إلى الخلاف في صحّة الإبراء من المجهول، وإطلاق الحديث يقوِّي قول من ذهب إلى صحّته، وقد ترجم بعد باب إذا حلَّله ولم يبيِّن كم هو، وفيه إشارة إلى الإبراء من المجمَل أيضًا، وزعم ابن بطّال أنّ في حديث الباب حجَّةً لاشتراط التّعيين؛ لأنّ قوله: مظلمة، يقتضي أن تكون معلومةَ القَدْر، مشارًا إليها. ولا يخفى ما فيه. قال ابن المنير: إنّما وقع في الحديث التّقدير، حيث يقتصُّ المظلوم من الظّالم حتّى يأخذ منه بقدر حقّه، وهذا متَّفق عليه، والخلاف إنّما هو فيما إذا أَسقَط المظلوم حقَّه في الدّنيا، هل يُشترط أن يعرف قدره أم لا؟ وقد أطلق ذلك في الحديث، نعم قام الإجماع على صحَّة التّحليل من المعيَّن المعلوم، فإن كانت العين موجودةً، صحَّت هِبتها دون الإبراء منها. قوله: «من كانت له مظلمة لأخيه» اللّام في قوله: (له)، بمعنى: (على)؛ أي: من كانت عليه مظلمة لأخيه. قوله: «من عرضه أو شيء»؛ أي: من الأشياء، وهو من عطف العامِّ على الخاصِّ، فيدخل فيه المال بأصنافه، والجِراحات، حتّى اللّطمةُ ونحوُها، وفي رواية التّرمذيّ: «من عرض أو مال». قوله: «قبل أن لا يكون دينار ولا درهم»؛ أي: يوم القيامة، وثبت ذلك في رواية عليِّ بنِ الجعد عن ابن أبي ذئب عند الإسماعيليِّ. قوله: «أُخذ من سيّئات صاحبه»؛ أي: صاحب المظلمة، «فحُمِل عليه»؛ أي: على الظّالم، وفي رواية مالك: «فطُرِحت عليه»"[4]

قال ابن القيم رحمه الله: "سبحان الله! كم بَكَت في تنعُّم الظالم عَيْنُ أرملة، واحترقت كَبِدُ يتيم، وجَرَت دمعة مِسكين!

كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَﱠ

[المرسلات: 46]،

وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۭ

[ص: 88]

ما ابيضَّ لون رغيفهم حتى اسودَّ لَوْنُ ضعيفهم، وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام من استأثروا عليه، لا تحتقر دعاء المظلوم؛ فشَرَرُ قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك، ويحكَ! نِبَالُ أدعيته مصيبة، وإن تأخَّر الوقت، قوسُه قلبُه المقروح، ووترُه سَواد الليل، وأستاذه صاحب «لأنصرنَّكِ ولو بعد حين»، وقد رأيتَ ولكنْ لستَ تَعتبِر. احذَرْ عَدَاوةَ من ينام وطرفُه باكٍ، يقلِّب وجهه في السماء، يرمي سهامًا ما لها غَرَضٌ سوى الأحشاء منك، فربَّما ولعلَّها إذا كانت راحةُ اللذَّة تُثمر ثمرة العقوبة لم يَحسُن تناولها، ما تساوي لذَّةُ سنة غمَّ ساعة، فكيف والأمرُ بالعكس؟! كم في يمِّ الغرور من تمساح، فاحذر يا غائصُ، ستعلم أيُّها الغريمُ قِصَّتك عند تعلُّق الغُرماء بك. من لم يتتبَّع بمِنقاش العدل شَوْكَ الظُّلم من أيدي التصرُّف، أثَّر ما لا يؤمَن تعدِّيه إلى القلب"[5].

قال شمس الدين البِرْماويُّ رحمه الله: "ولا تعارُض بين هذا وبين قوله تعالى:

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ}

[الإسراء: 15]

لأنه إنما يُعاقَب بسبَب فعله وظُلمه وجِنايته، فلمَّا دفَع لغُرمائه حسناته، ولم يَبْق منها بقيةٌ، أُخِذ قدر سيئاته، فعُوقِبَ بها"[6].

قال النوويُّ رحمه الله: "إن تعلَّق بالمعصية حقٌّ ماليٌّ؛ كمنع الزكاة، والغَصْبِ، والجنايات في أموال الناس، وَجَب مع ذلك تبرئة الذمَّة عنه، بأن يؤدِّيَ الزكاة، ويردَّ أموال الناس إن بَقِيَت، ويَغرَم بَدَلها إن لم تبقَ، أو يستحلَّ المستحقَّ، فيبرِّئه، ويجب أن يعلم المستحِقُّ إن لم يَعلَم به، وأن يوصِّله إليه إن كان غائبًا، إن كان غصبُه منه هناك، فإن مات، سلَّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبرُه، دَفَعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتُه وديانته، فإن تعذَّر، تصدَّق به على الفقراء بنِيَّة الغرامة له إن وَجَده"[7] 

المراجع

1. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3201).

2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 577).

3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (10/ 3254).

4. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 101).

5. "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 242).

6. "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" لشمس الدين البرماويِّ (7/ 451).

7."روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنوويِّ (11/ 246).


مشاريع الأحاديث الكلية