عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»

عناصر الشرح

غريب الحديث

وتوادِّهم: بتشديد الدَّال، والأصلُ التّوادُد، فأُدغِم، والتّوادُدُ تفاعُلٌ من المودَّة، والوِدُّ والوِدادُ بمعنًى، وهو تقرُّب شخص من آخَرَ بما يحبُّ [1].

تراحمهم: رحمة المؤمنين بعضهم بعضًا.

عضو: جزء من مجموع الجسد؛ كاليَدِ والرِّجل والعَيْنِ والأُذن.

تداعى: دعا بعضُه بعضًا إلى المشاركة في الألم، ومنه قولهم: تداعت الحيطان؛ أي: تساقطت أو كادت [2].

السَّهَر: عَدَم النَّوم بالليل.

الحُمَّى: حرارة غريزيًّة تشتعل في القلب، فتَشِبُّ منه في جميع البَدَن، فتشتعل اشتعالًا يضرُّ بالأفعال الطَّبيعيَّة [3].


المراجع

1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).

2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).

3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).



المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»؛ أي: مَثَلُ المؤمنين في وُدِّهم وعطفهم وحبِّهم ورحمتهم بعضهم بعضًا، وتواصلهم، وتعاونهم، كمَثَلِ جزء من الجسد بالنسبة إلى جميع أعضائه، إذا تألَّم منه عضوٌ، دعا بقيةُ أعضائه، بعضه بعضًا، إلى المشاركة في الألم، وما يَنتِج عنه من عدم النَّوم وارتفاع الحرارة.

الشرح المفصَّل للحديث

إن الإسلام يُعنى ببناء المجتمع الإسلاميِّ المتماسِك الْمُتحابِّ، الذي يَنتِج منه خيرُ أمَّة أُخرِجت للناس، مجتمع يَسودُه الودُّ والمحبَّةُ والأُلْفة والعَطف والتعاون، وهلمَّ جرًّا، وقد حضَّ النبيُّ ﷺ على هذه المكارم لتكون هي صفاتِ المؤمِنين الصادقِين فيما بينَهم، فيصيروا كالبُنيانِ المرصُوصِ يشُدُّ بعضُه بعضًا؛ أو كالجسدِ الواحدِ، كلُّ فرد منهم كالعضو من هذا الجسد، فإذا اشتكَى منهُ عضوٌ، أصابت الشكوى كلَّ الجسد، فتَداعى ل‍ذلك العضوِ بقيَّةُ أعضاء الجسد بالسَّهر والأَرَق وعدم النوم، والحُ‍مَّى والحرارة الشديدة.

هذا حال أمَّة الإسلام التي دعا إليها النبيُّ ﷺ، وإن أُخوَّة الإسلام التي يجتمِعُ تحتَ ظلالها المسلمون في شتَّى بِقاعِ الأرض تُوجِبُ عليهم أمورًا وواجباتٍ تُجاهَ إخوانهم المسلمين، فلا يَكمُلُ إيمانُ المرءِ إلَّا إذا أحبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفْسهِ مِن الخيرِ، ويَكرهُ لأخيهِ ما يَكرَهُ لنفْسِه مِن الأذَى والشرِّ؛

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»

[1]

والعلاقة بين المسلمين لا تَقِف عند حدِّ الحبِّ فقط؛ بل ثَمَّةَ أمورٌ تَشمَل حياة المؤمنين، لا بدَّ منها؛ من أجل قيام أمَّة الإسلام التي تكون مثالاً للخير والمكارم، شاخصًا أمام البشر.

وفي حديث الباب بيانُ حضِّ الإسلامِ على المؤاخاةِ والأُلفةِ والتوادِّ والتعاطف والمواساةِ بين المؤمنينَ، وأنْ يَكونوا مُتعاضدِين مِثلَ الجَسدِ الواحدِ، ومثلَ البُنيانِ المرصوصِ؛ لتَقْوى وَحْدتُهم، وتَتَّفِقَ كَلِمتُهم؛ فيُرشِد النَّبيُّ ﷺ أُمَّتَه في هذا الحديثِ إلى ما يحتاج إليه بناء أمَّة قوية متحابَّة، يغشاها التوادُّ والتَّراحُمَ والحبُّ والتعاطف؛ بضرب المثل الذي لا بد أن يكون عليه أفراد هذه الأمَّة المؤمنة، التي هي خير أمَّة أخرجت للناس؛ 

فيقول ﷺ:

«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ»

أي: مَثَلُهم في علاقاتهم بعضهم ببعض، حيث الودُّ والمحبَّةُ في الله بينهم، وحيث يَرحُم بعضهم بعضًا ويَعطِف بعضهم على بعض؛ بسبب أُخوَّة الإيمان، لا لأسباب دنيوية.

و"الّذي يَظهَر أنّ التّراحم والتّوادد والتَّعاطُف، وإن كانت متقاربةً في المعنى؛ لكنْ بينها فرق لطيف، فأمَّا التّراحمُ، فالمراد به أن يَرحَم بعضهم بعضًا بأخوَّة الإيمان، لا بسبب شيء آخر، وأمّا التّوادُد، فالمراد به التواصل الجالب للمحبَّة؛ كالتّزاور والتّهادي، وأمّا التّعاطف، فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثّوب عليه ليقوِّيه" [2].

قوله ﷺ:

«مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»

أي: مَثَلُهم كمثَلِ الجسدِ بالنِّسبةِ إلى جميعِ أعضائِه، إذا اشتكى عُضوٌ منه، دعَا بقيةُ الجسد، بعْضُه بعضًا، إلى المشاركةِ بالسَّهَرِ؛ لأنَّ الألمَ يَمنَعُ النَّومَ، والحُمَّى ترفع الحرارة؛ أي: إنَّ المسلمين يستَشعِرَون آلامَ بعضِهم البعض، ومصائِبَهمْ، فيتعاونون بتقديمِ مُساعدةِ بعضِهم بعضًا، كمَثَلِ الجَسَدِ الواحِدِ، إذا مرِضَ منه عضوٌ، تأثَّر به سائرُ جَسَدِه، وهذا تنبيهٌ للمُسلِمين بأن يكونوا كذلك في جميعِ شُؤونِهم.

"فتشبيهُه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيلٌ صحيح، وفيه تقريب للفَهم، وإظهار للمعاني في الصُّوَر المرئيَّة، وفيه تعظيمُ حقوق المسلمين، والحضُّ على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا" [3].

إذن؛ هكذا المؤمنون، هم كالجَسَد الواحد، إذا اشتكت عَيْنُه اشتكى الجِسْمُ كلُّه، وإذا اشتكت يدُه، اشتكى الجسم كلُّه، ومعلومٌ حال الجسد إذا أُصِيب بألمٍ أو مرضٍ في أيِّ موضع منه، حتمًا سيَعُمُّ الألم والتَّعَب والشكوى.

لقد ضرب النبيُّ ﷺ في هذا الحديث مَثَلاً عظيمًا، يدعو إلى التعاضد والتعاون والتعاطف بين المسلمين، فيَرفُق المسلم بأخيه المسلم، ويُواسيه إذا احتاج، ويُعينه على قضاء حوائجه كدَيْنٍ ونحوه، ويَدفَع عنه الظُّلم، ويجتهد في كلِّ خير يَنفَعه، ويدفع عنه كلَّ شرٍّ ما استطاع.

وقد قال الله تعالى:

﴿وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ﴾

[التوبة: ٧١]؛

"أَيْ: قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادُدِ، وَالتَّحَابُبِ، وَالتَّعَاطُفِ؛ بِسَبَبِ ما جَمَعَهم من أَمْر الدِّينِ، وضَمَّهُم من الإيمان باللَّه" [4].

والأحاديث كثيرة فيما يتعلَّق بحقِّ المسلم على أخيه؛ منها:

عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:

«المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا ستَره الله يوم القيامة»

[5].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»

[6].

وعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ

[7].

"ولهذا كان المؤمن يَسُرُّه ما يَسُرُّ المؤمنين، ويَسُوءُه ما يسوءُهم، ومن لم يكن كذلك، لم يكن منهم" [8].



المراجع

1.  رواه البخاريُّ (13)، ومسلم (45).

2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).

3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).

4. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/ 434).

5. رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).

6. رواه مسلم (2699).

7. رواه البخاري (481)، ومسلم (2585)

8. مجموع الفتاوى (2/ 373)

النقول

قال ابن أبي جمرة رحمه الله: "الّذي يَظهَر أنّ التّراحم والتّوادد والتّعاطف، وإن كانت متقاربةً في المعنى؛ لكنْ بينها فرق لطيف، فأمَّا التّراحمُ فالمراد به أن يَرحَم بعضهم بعضًا بأخوَّة الإيمان، لا بسبب شيء آخر، وأمّا التّوادُد، فالمراد به التواصل الجالب للمحبَّة؛ كالتّزاور والتّهادي، وأمّا التّعاطف، فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثّوب عليه ليقوِّيه" [1].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (وتوادِّهم) بتشديد الدَّال، والأصلُ التّوادُد، فأُدغِم، والتّوادُدُ تفاعُلٌ من المودَّة، والوِدُّ والوِدادُ بمعنًى، وهو تقرُّب شخص من آخَرَ بما يحبُّ. قولُه: (وتعاطفهم)... ووقع في رواية الأعمش عن الشَّعبيِّ وخيثمةَ فرقهما عن النُّعمان عند مسلم: «المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسَه، تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر»، وفي رواية خيثمة: «اشتكى، وإن اشتكى رأسُه كلُّه». قوله: «كمثل الجسد»؛ أي: بالنِّسبة إلى جميع أعضائه، ووجهُ التَّشبيه فيه التَّوافق في التَّعب والرَّاحة. قولُه: «تداعى»؛ أي: دعا بعضُه بعضًا إلى المشاركة في الألم، ومنه قولهم: تداعت الحيطان؛ أي: تساقطت أو كادت. قوله: «بالسَّهَر والحمَّى»، أمَّا السَّهر، فلأنّ الألم يمنع النَّوم، وأمّا الحمَّى فلأنَّ فَقْدَ النَّوم يُثيرها، وقد عرَّف أهل الحِذْقِ الحمَّى بأنّها حرارة غريزيًّة تشتعل في القلب، فتَشِبُّ منه في جميع البَدَن، فتشتعل اشتعالًا يضرُّ بالأفعال الطَّبيعيَّة" [2].

قال القاضي عياض رحمه الله: "فتشبيهُه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيلٌ صحيح، وفيه تقريب للفَهم، وإظهار للمعاني في الصُّوَر المرئيَّة، وفيه تعظيمُ حقوق المسلمين، والحضُّ على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا" [3]. 

قال ابن أبي جمرة رحمه الله: "شبَّه النبيُّ ﷺ الإيمانَ بالجسد، وأهلَه بالأعضاء؛ لأن الإيمان أصلٌ، وفروعَه التكاليفُ، فإذا أخلَّ الْمَرء بشيء من التكاليف، شأن ذلك الإخلالِ بالأصل، وكذلك الجسدُ أصلٌ كالشجرة، وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضوٌ من الأعضاء، اشتكتِ الأعضاء كلُّها؛ كالشجرة إذا ضُرِب غُصْنٌ من أغصانها، اهتزَّت الأغصان كلُّها بالتحرُّك والاضطراب" [4].

قال النوويُّ رحمه الله: "«مَثَلُ الْمَؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ»... إِلَى آخِرَه، هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ في تعظيم حقوق المسلمين بعضِهم على بعض، وحَثِّهِم على التَّرَاحُم والْمُلاطفة والتَّعَاضُدِ في غَير إِثْمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وفيه جواز التشبيه، وَضَرْبِ الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام" [5]. 

قال ابن عثيمين رحمه الله:

«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»

فأنت إذا أحسستَ بألم في أطرف شيء من أعضائك، فإن هذا الألم يسري على جميع البدن، كذلك ينبغي أن تكون للمسلمين هكذا، إذا اشتكى أحدٌ من المسلمين، فكأنما الأمر يرجع إليك أنت" [6].

قال الشوكانيُّ رحمه الله:

قولُه:

﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ﴾

أَيْ: قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادُدِ، وَالتَّحَابُبِ، وَالتَّعَاطُفِ؛ بِسَبَبِ ما جَمَعَهم من أَمْر الدِّينِ، وضَمَّهُم من الإيمان باللَّه" [7].

قال ابن تيميَّةَ رحمه الله: "ولهذا كان المؤمن يَسُرُّه ما يَسُرُّ المؤمنين، ويَسُوءُه ما يسوءُهم، ومن لم يكن كذلك، لم يكن منهم" [8].

المراجع

1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).

2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).

3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).

4. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 440).

5. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 139، 140).

6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 398).

7. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/ 434).

8. "مجموع الفتاوى" (2/ 373).


مشاريع الأحاديث الكلية