الفوائد العلمية
في الحديث تعظيمُ حقوق المسلمين بعضِهم على بعض، والحضُّ على التَّرَاحُم والْمُلاطفة والتَّعَاضُدِ في غَير إِثْمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ.
يحضُّ الإسلام على التآلف والتراحم والتوادِّ؛ حتى تَعْلُوَ عقيدة الإسلام عن أدران الأرض، فيعيش المسلم بين إخوانه معزَّزًا مكرَّمًا، في عُسره ويُسره، وقوَّته وضعفه، وفي سائر أحواله.
ليس من صفات المسلمين القسوةُ والإعراض والتناسي والتجاهل للآخرين، وكلَّما ضعف الإيمان في قلوب الناس، ظهرت هذه الصفات السيِّئة بقوة، وتلاشَت الهُوِيَّة والنُّصرة للمؤمنين، وضَعُفت العلاقة بأمَّة الإسلام.
إن الإسلام يُعنى ببناء المجتمع الإسلاميِّ المتماسِك الْمُتحابِّ، الذي يَنتِج منه خيرُ أمَّة أُخرِجت للناس، مجتمع يَسودُه الودُّ والمحبَّةُ والأُلْفة والعَطف والتعاون، وهلمَّ جرًّا، وقد حضَّ النبيُّ ﷺ على هذه المكارم لتكون هي صفاتِ المؤمِنين الصادقِين فيما بينَهم، فيصيروا كالبُنيانِ المرصُوصِ يشُدُّ بعضُه بعضًا؛ أو كالجسدِ الواحدِ، كلُّ فرد منهم كالعضو من هذا الجسد، فإذا اشتكَى منهُ عضوٌ، أصابت الشكوى كلَّ الجسد، فتَداعى لذلك العضوِ بقيَّةُ أعضاء الجسد بالسَّهر والأَرَق وعدم النوم، والحُمَّى والحرارة الشديدة.
نظَّمت شريعة الإسلام علاقة الناس بربهم سبحانه؛ حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الوقت نفسِه شرع لهم الإسلام ما ينظِّم علاقتهم بعضهم ببعض؛ حتى تَسُود الأُلفة والمحبَّة في المجتمع المسلم، ولا يتحقَّق ذلك إلا إذا حرص كلُّ فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصَه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلاميُّ القويُّ المترابط، ذو الأساس المتين.
من أجل قيام أمة واحدة، ومجتمع إسلامي متماسك؛ أرشد النبيُّ ﷺ أمَّته إلى تحقيق مبدأ التكافل والإيثار؛ فقال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، فبيَّن أن من أهمِّ عوامل رسوخ الإيمان في القلب: أن يحبَّ المسلم لإخوانه حصول الخير الذي يحبُّه لنفسه، من حلول النِّعم وزوال النِّقم، وبذلك يكتمل الإيمان في القلب.
إن من ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم أن ينشأ في الأمَّة مجتمع فاضل، يَنعَم أفراده فيه بأواصر المحبة الوُثقى، وترتبط لَبِناته حتى تغدوَ قوية متماسكة كالجسد الواحد، الذي لا تقهره الحوادث، ولا تغلبه النوائب، فتتحقَّق للأمة وَحْدتُها.
في الحديث بيانُ حضِّ الإسلامِ على المؤاخاةِ والأُلفةِ والتوادِّ والتعاطف والمواساةِ بين المؤمنينَ، وأنْ يَكونوا مُتعاضدِين مِثلَ الجَسدِ الواحدِ، ومثلَ البُنيانِ المرصوصِ؛ لتَقْوى وَحْدتُهم، وتَتَّفِقَ كَلِمتُهم؛ فيُرشِد النَّبيُّ ﷺ أُمَّتَه في هذا الحديثِ إلى ما يحتاج إليه بناء أمَّة قوية متحابَّة، يغشاها التوادُّ والتَّراحُمَ والحبُّ والتعاطف؛ بضرب المثل الذي لا بد أن يكون عليه أفراد هذه الأمَّة المؤمنة، التي هي خير أمَّة أخرجت للناس.
"الّذي يَظهَر أنّ التّراحم والتّوادد والتَّعاطُف، وإن كانت متقاربةً في المعنى؛ لكنْ بينها فرق لطيف، فأمَّا التّراحمُ، فالمراد به أن يَرحَم بعضهم بعضًا بأخوَّة الإيمان، لا بسبب شيء آخر، وأمّا التّوادُد، فالمراد به التواصل الجالب للمحبَّة؛ كالتّزاور والتّهادي، وأمّا التّعاطف، فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثّوب عليه ليقوِّيه" [1].
المؤمنون، هم كالجَسَد الواحد، إذا اشتكت عَيْنُه اشتكى الجِسْمُه كلُّه، وإذا اشتكت يدُه، اشتكى الجسم كلُّه، ومعلومٌ حال الجسد إذا أُصِيب بألمٍ أو مرضٍ في أيِّ موضع منه، حتمًا سيَعُمُّ الألم والتَّعَب والشكوى.
عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:
«المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا ستَره الله يوم القيامة»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»
13.
عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ
1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
2. رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
3. رواه مسلم (2699).
4. رواه البخاريُّ (481)، ومسلم (2585).
الفوائد العقدية
14. حتى تصِحَّ عقيدةُ المؤمن؛ لا بدَّ أن يواليَ المؤمنين ويَنصُرَهم ويحبَّهم، ويتمنَّى لهم الخير.
15. لا يَكمُلُ إيمانُ المرءِ إلَّا إذا أحبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفْسهِ مِن الخيرِ، ويَكرهُ لأخيهِ ما يَكرَهُ لنفْسِه مِن الأذَى والشرِّ؛
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
16. من مقتضيات الإيمان: العمل بما تستلزمه الأخوَّة بين المؤمنين من التراحم والتوادِّ والتعاطف، وأن التقصير في ذلك والتهاون فيه ضعفٌ في الإيمان؛ "ولهذا كان المؤمن يَسُرُّه ما يَسُرُّ المؤمنين، ويَسُوءُه ما يسوءُهم، ومن لم يكن كذلك، لم يكن منهم" [2].
17.
﴿وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ﴾
أَيْ: قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادُدِ، وَالتَّحَابُبِ، وَالتَّعَاطُفِ؛ بِسَبَبِ ما جَمَعَهم من أَمْر الدِّينِ، وضَمَّهُم من الإيمان باللَّه" [3].
1. رواه البخاريُّ (13)، ومسلم (45).
2. "مجموع الفتاوى" (2/ 373).
3. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/ 434).
الفوائد التربوية
18. من أساليب الدعوة والتربية ضرب المثل وتشبيه المعاني بالصور الحسية، فتظهر المعاني في الصور المرئية، ولا يخفى ما في ذلك من تقريب الفَهم للمَدعوِّ.
الفوائد اللغوية
19. قوله: (وتوادِّهم): بتشديد الدَّال، والأصلُ التّوادُد، فأُدغِم، والتّوادُدُ تفاعُلٌ من المودَّة، والوِدُّ والوِدادُ بمعنًى، وهو تقرُّب شخص من آخَرَ بما يحبُّ.
20. شبَّه النبيُّ ﷺ المؤمنين بالجسد الواحد، وهو غاية التضامن والتآلف والتحابب، ووجهُ تشبيه العلاقة بين المؤمنين بالعلاقة بين أعضاء الجسد الواحد: هو التَّوافق في التَّعب والرَّاحة، وتداعي بعضِه بعضًا إلى المشاركة في كلِّ ما يُلِمُّ به.
21. شبَّه النبيُّ ﷺ الإيمانَ بالجسد، وأهلَه بالأعضاء؛ لأن الإيمان أصلٌ، وفروعَه التكاليفُ، فإذا أخلَّ الْمَرء بشيء من التكاليف، أثَّر ذلك في الإخلالِ بالأصل، وكذلك الجسدُ أصلٌ كالشجرة، وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضوٌ من الأعضاء، اشتكتِ الأعضاء كلُّها؛ كالشجرة إذا ضُرِب غُصْنٌ من أغصانها، اهتزَّت الأغصان كلُّها بالتحرُّك والاضطراب [1].
22. قولُه: «تداعى»؛ تفاعل من الدعوة؛ أي: دعا بعضُه بعضًا إلى المشاركة في الألم، ومنه قولهم: تداعت الحيطان؛ أي: تساقطت أو كادت.
23. الحمَّى: هي حرارة غريزيًّة تشتعل في القلب، فتَشِبُّ منه في جميع البَدَن، فتشتعل اشتعالًا يضرُّ بالأفعال الطَّبيعيَّة [2].
1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 440).
2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).