عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّه عنهمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّه عنهمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»
يروي ابْنُ عُمَرَ رضي اللَّه عنهمَا، عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ»؛ أي: يأمرني بحفظ حقِّه من الإحسان إليه، ودَفْعِ الأذى عنه. «حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ أي: اعتقدتُ وترقَّبْتُ أن يَحكُم بميراث أحد الجارينِ من الآخَرِ.
الشرح المفصَّل للحديثفي هذا الحديث يُخبر النبيُّ ﷺ أن أمين الوحيِ جبريلَ - عليه السلامُ - كرَّر عليه الوصية بالجار، حتى ظنَّ النبيُّ ﷺ من كثرة وصيَّته به أنه يَرِث من مال جاره، "ولما أكَّد جبريلُ على النبيِّ ﷺ حقَّ الجِوَار، وكثَّر عليه من ذلك، غَلَب على ظنِّ النبيِّ ﷺ أن الله سيَحكُم بالميراث بين الجارين. وهذا يدلُّ على أن هذا الجارَ هنا هو جارُ الدار" [1].
قولُه: «ما زال جبريل يوصيني بالجار»؛ أي: يَأمُرني بحِفظ حقِّه، والإحسان إليه، ودفع الضَّرَر عنه، والجارُ يُقال على المجاوِر في الدار، وعلى الداخل في الجِوار، مسلمًا كان أو كافرًا، قريبًا أو أجنبيًّا، وكلُّ واحد منهم له حقٌّ، ولا بدَّ من الوفاء به، والجيرانُ ثلاثة: كافرٌ، فله حقُّ الجِوَار، ومسلمٌ أجنبيٌّ، فله حقُّ الجِوار، وحقُّ الإسلام، ومسلمٌ قريبٌ، فله حقُّ الجِوار، وحقُّ الإسلام، وحقُّ القَرابة" [2].
وأَوْلى الجيران بالإحسان مَن يكون أقربَهم بابًا؛ لمشاهدته ما يَدخُل في بيت جاره، فيتطلَّع إلى إحسانه إليه.
وحِفْظُ حقوق الجار، والإحسانُ إليه مما يقوِّي أواصرَ الحبِّ والمؤاخاة بين أفراد المجتمع، فإذا أكرم كلٌّ منا جاره، ائتلفت القلوب، واتَّفَقت الكلمة، وقام الإسلام بذلك، وإذا أهان كلٌّ منا جاره، تنافَرَت القلوب، واختلفت الكلمة، فانعكس الحال.
والله عزَّ وجلَّ قد أوصى بالجار؛
فقال سبحانه:
﴿وَٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ﴾
[النساء: 36]
﴿وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ﴾
أي: الجار القريب الذي له حقَّانِ: حقُّ الجِوار وحقُّ القَرابة، فله على جاره حقٌّ وإحسان راجع إلى العرف. (و) كذلك ﱡ
﴿وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ﴾
أي: الذي ليس له قَرَابةٌ، وكلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا، كان آكَدَ حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهَدَ جارَه بالهَدية والصَّدَقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيَّته بقول أو فعل" [3].
والجارُ مأمورٌ بالإحسان إلى جاره، وكذلك مأمورٌ بكفِّ الأذى عنه، وتحرُم أذيَّتُه لجاره تحريمًا أشدَّ من تحريم أذى المسلمين مُطلقًا، وقد بيَّن النبيُّ ﷺ أن ذلك من علامات الإيمان باليوم الآخر؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ...»
[4].
كما بيَّن ﷺ أن إيذاء الجار لجاره سببٌ في عدم دخوله الجنَّة؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
[5].
ونفى ﷺ الإيمانَ عمَّن لم يأمن جارُه بوائقه؛
فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»
[6].
وقال الحسن البصريُّ: "ليس حُسْنُ الجِوار كفَّ الأذى، ولكنْ حُسْنُ الجوار احتمالُ الأذى" [7].
و"حِفْظُ الجار من كمالِ الإيمان، وكان أهلُ الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَبِ الطاقة؛ كالهَدِيَّة، والسلام، وطَلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه، على اختلاف أنواعه، حسيَّةً كانت أو معنوية" [8].
قوله: «حتى ظننتُ أنه سيورِّثه»؛ أي: يَحكُم بميراث أحد الجارينِ من الآخَرِ، وقد خرج مخرج المبالغة في شدَّة حفظ حقِّ الجار.
"واختُلف في المراد بهذا التوريث، فقيل: يُجعَل له مشاركة في المال بفَرْضِ أسهمٍ مُعطاةٍ مع الأقارب، وقيل: المرادُ أن ينزَّل منزلةَ من يَرِث بالبرِّ والصِّلة، والأوَّل أظهر" [9].
1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 610).
2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 228)، "التعيين في شرح الأربعين" لسليمان بن عبد القويِّ (1/ 136) بتصرُّف.
3. "تفسير السعديِّ" (ص: 178).
4. رواه البخاريُّ (6018)، ومسلم: (47).
5. رواه مسلم (46).
6. رواه البخاريُّ (6016).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 353).
8. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
9. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441).
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ أَيْ: يَأْمُرُ عَنِ اللَّهِ بِتَوْرِيثِ الْجَارِ مِنْ جَارِهِ، واختُلف في المراد بهذا التوريث، فقيل: يُجعَل له مشاركة في المال بفَرْضِ أسهمٍ مُعطاةٍ مع الأقارب، وقيل: المرادُ أن ينزَّل منزلةَ من يَرِث بالبرِّ والصِّلة، والأوَّل أظهر" [1].
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "ولما أكَّد جبريلُ على النبيِّ ﷺ حقَّ الجِوَار، وكثَّر عليه من ذلك، غَلَب على ظنِّ النبيِّ ﷺ أن الله سيَحكُم بالميراث بين الجارين. وهذا يدلُّ على أن هذا الجارَ هنا هو جارُ الدار" [2].
قال ابن حجر رحمه الله: "واسم الجار يَشمَل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصّديق والعدوَّ، والغريب والبلديَّ، والنّافع والضّارَّ، والقريب والأجنبيَّ، والأقربَ دارًا والأبعد، وله مراتبُ بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصّفات الأُوَل كلُّها، ثمّ أكثرها، وهلمَّ جرًّا، إلى الواحد، وعكسُه من اجتمعت فيه الصّفات الأخرى كذلك، فيُعطى كلٌّ حقَّه بحسَبِ حاله. وقد تتعارض صفتان فأكثرُ، فيرجِّح أو يساوي، وقد حمله عبد اللّه بن عمرو - أحد من روى الحديث - على العموم، فأَمَر لَمّا ذُبِحت له شاة أن يُهدى منها لجاره اليهوديِّ، أخرجه البخاريُّ في "الأدب المفرد"، والتّرمذيُّ وحسَّنه، وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرتُه في حديث مرفوع أخرجه الطّبرانيُّ من حديث جابر رفعه: «الجيران ثلاثة: جار له حقٌّ، وهو المشرِك له حقُّ الجِوار، وجار له حقَّان، وهو المسلم له حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، مسلم له رحم، له حقُّ الجوار والإسلام والرّحم». قال القرطبيُّ: الجار يُطلَق ويُراد به الدّاخل في الجوار، ويُطلَق ويراد به المجاوِر في الدّار، وهو الأغلب، والّذي يظهر أنّه المراد به في الحديث الثّاني؛ لأنّ الأوّل كان يَرِث ويورَث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التّوريث بين المتعاقدينِ، فقد كان ثابتًا، فكيف يُترجَّى وقوعه وإن كان بعد النّسخ؛ فكيف يظنُّ رجوعه بعد رفعه؟! فتعيَّن أنّ المراد به المجاور في الدّار" [3].
قال السعديُّ رحمه الله:
﴿وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ﴾
أي: الجار القريب الذي له حقَّانِ: حقُّ الجِوار وحقُّ القَرابة، فله على جاره حقٌّ وإحسان راجع إلى العرف. (و) كذلك
﴿وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ﴾
أي: الذي ليس له قَرَابةٌ، وكلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا، كان آكَدَ حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهَدَ جارَه بالهَدية والصَّدَقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيَّته بقول أو فعل" [4].
قال أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: "حِفْظُ الجار من كمالِ الإيمان، وكان أهلُ الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَبِ الطاقة؛ كالهَدِيَّة، والسلام، وطَلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه، على اختلاف أنواعه، حسيَّةً كانت أو معنوية" [5].
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد نفى ﷺ الإيمان عمَّن لم يأمن جاره بوائقه؛ كما في الحديث الّذي يليه، وهي مبالغة تُنبئ عن تعظيم حقِّ الجار، وأنّ إضراره من الكبائر. قال: ويفترق الحال في ذلك بالنّسبة للجار الصّالح وغير الصّالح، والّذي يشمل الجميعَ إرادةُ الخير له، وموعظتُه بالحسنى، والدّعاءُ له بالهداية، وتركُ الإضرار له إلّا في الموضع الّذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والّذي يخصُّ الصّالح هو جميعُ ما تقدَّم، وغير الصّالح كفُّه عن الّذي يرتكبه بالحسنى على حسَبِ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكَر، ويَعِظُ الكافرَ بعرض الإسلام عليه، ويبيِّن محاسنه، والتّرغيب فيه برِفق، ويَعِظ الفاسق بما يناسبه بالرّفق أيضًا، ويَستُر عليه زَلَلـه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبِهِ، وإلّا فيهجره قاصدًا تأديبَه على ذلك مع إعلامه بالسّبب ليكُفَّ" [6].
قال ابن عثيمين رحمه الله: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ أي: سيَنزِل الوحيُ بتوريثه، وليس المعنى أن جبريل يَشرَع توريثه؛ لأن جبريل ليس له حقٌّ في ذلك؛ لكن المعنى أنه سينزل الوحي الذي يأتي به جبريل بتوريث الجار، وذلك من شدَّة إيصاء جبريلَ به النبيَّ ﷺ" [7].
قَالَ ابن أَبِي جَمْرَةَ: رحمه الله: " الميراث على قسمين: حسّيٌّ ومعنويٌّ، فالحسّيُّ هو المراد هنا، والمعنويُّ ميراث العلم، ويمكِن أن يُلحَظ هنا أيضًا؛ فإنّ حقَّ الجار على الجار أن يعلِّمه ما يحتاج إليه، واللَّه أعلمُ" [8].
1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441).
2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 610).
3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441، 442).
4. "تفسير السعديِّ" (ص: 178).
5. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
6. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
7. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 177).
8. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441).