عن عمرِو بنِ العاصِ، أنه سَمِعَ رسولَ الله ﷺ يقول: «إذا حكَم الحاكمُ فاجتهدَ، ثم أصاب، فله أجرانِ، وإذا حكم فاجتَهدَ، ثم أخطأ، فله أجرٌ» متفق عليه.
عن عمرِو بنِ العاصِ، أنه سَمِعَ رسولَ الله ﷺ يقول: «إذا حكَم الحاكمُ فاجتهدَ، ثم أصاب، فله أجرانِ، وإذا حكم فاجتَهدَ، ثم أخطأ، فله أجرٌ» متفق عليه.
يروي عمرُو بنُ العاصِ، أنه سَمِعَ رسولَ الله ﷺ يقول: «إذا حكَم الحاكمُ فاجتهدَ»؛ أي: إذا أراد القاضي أو المفتي الحُكْمَ، فبذل وُسْعَه في طلب الحقِّ والصواب، «ثم أصاب» بأن وافَقَ حكمُه حكمَ الله، «فله أجرانِ»: أجرٌ لاجتهاده، وأجر لإصابته. «وإذا حكم فاجتهدَ، ثم أخطأ»؛ أي: وإذا أراد الحُكْمَ فبذل وُسْعَه في طلب الحقِّ والصواب، ثم لم يوافِقِ الحقَّ والصواب، «فله أجرٌ» على اجتهاده؛ لأن اجتهاده في طلب الحقِّ عبادة.
الشرح المفصَّل للحديث:إن العقل من أعظم هِبات الله - عزَّ وجلَّ - للإنسان، ومن أعظم الدلائل على طلاقة قُدرته سبحانه في الخَلق والإيجاد، والإسلامُ يدعو المسلمَ لإعمال العقل بالتأمُّل، والتدبُّر، والتفكُّر، وسائر العمليات العقلية الممكِنة، وضبط هذه العمليات بقواعدَ هاديةٍ وحاكمة من كتاب الله وسُنَّة رسول الله ﷺ؛ حتى لا يضلَّ سعْيُه، ويَخِيب رجاؤُه. وتَزداد خطورة العقل وأهميته، وضرورة انضباطه، إذا تصدَّر صاحبه لمقام الحُكم، وسياسة أمور الناس، والفصل بينهم في الْمُنازَعات ونحوِها.
وفي هذا الحديث يُرغِّب رسولُ الله ﷺ الحاكم في إعمال العقل في الحقِّ وبالحقِّ، ويبشِّره بالأجر من الله على ذلك، حتى وإن لم يُوفَّق في الوصول للصواب، فيقول ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجْران»، والمرادُ بالحاكم هنا: الإمامُ أو وَليُّ الأمر، وهو مَن بيدِه تصريفُ شؤون الرَّعِيَّة والفصل بينَهم، ومثلُه مَن قام مقامَه؛ كالقاضي، وهو مَن يُنصِّبه الإمام ليتولَّى الفصلَ في المنازعات والحُكم فيها، ولفظ «الحاكم» فيه بوجه عامٍّ يشمَل كلَّ مَن يتولَّى مسؤولية فضِّ المنازَعات والفصل في الخصومات[1]، ولفظ «الحاكم» هنا قد يشمَل المفتيَ أيضًا، فـ"المراد بالحاكم هنا القاضي، والظاهر أن المفتيَ مثلُه، يعني أن الإنسان إذا اجتهد في طلب الحقِّ، وتبيَّن له شيءٌ من الحقِّ، ثم أفتى به، أو حكم به، فهو على خيرٍ؛ إن أصاب فله أجرانِ، وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ، ولا يُضيع الله تبارك وتعالى أجرَ مَن أحسن عملًا"[2].
وقوله ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد» معناه: إذا أراد أن يَحكمَ، فعند ذلك يجتهد؛ لأن الحكمَ يأتي بعد الاجتهاد لا قبلَه، فلا يجوز الحكمُ قبل الاجتهاد اتِّفاقًا[3].
والمقصودُ بالاجتهاد بذلُ الوُسع والطاقة في تحرِّي الصواب بقَدْر ما عنده من جُهد[4]، فإن فعلَ ذلك وهو أهلٌ للاجتهاد بدايةً، وتوفَّرت فيه الشروطُ الْمُعتَبَرة فيمَن يتصدَّرُ لهذا المقام، بأن حصَّل العلوم والمعارف اللازمة، وتوفَّرت لديه القُدرات العقلية التي تؤهِّل للاجتهاد[5]، فعندها إن وُفِّق في إدراك الصواب، بأن وافق حكمُه حكمَ الله - عزَّ وجلَّ - في المسألة التي يفصِّل فيها، فله على ذلك من الله تعالى أجرانِ: أجرُ الاجتهاد، وأجرُ الإصابة[6].
وإذا لم يُوفَّق في إدراك الصواب، بعد أن بذلَ جُهدَه، واستفرغَ وُسْعَه، فوقع حكمُه بغير حكم الله - عزَّ وجلَّ - في الأمر الذي يحكم فيه، فله على ذلك أجرٌ واحدٌ، وهو أجر الاجتهاد وبَذلُ الوُسْع والطاقة في طلب الحقِّ. والأجرُ هنا ليس على الخطأ؛ وإنما هو أجرُ الاجتهاد، وتتَبُّع الحقِّ، وبَذْل الوُسْع، والخطأ معفوٌّ عنه بعد ذلك[7]. ومما يؤيِّدُ هذا المعنى: ما ورد في قصة اجتهاد نبيِّ الله داودَ وسليمانَ - عليهما السلام - في الحكم في أمر غَنَمِ الرجُل التي نَفَشت - أي: رَعَتْ ليلًا - في زرع أخيه فأفسدته
قال الله تعالى:
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ 78 فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}
[الأنبياء: 78، 79]
فأثنى اللهُ على سليمانَ - عليه السلام - في إصابته، ولم يَذُمَّ داودَ - عليه السلام[8]؛ بل أخبر عنه وعن ابنه سُليمانَ أنه آتاهما حُكمًا وعِلمًا.
وهذا الفضلُ الواردُ في الحديث مخصوصٌ بالحاكم المؤهَّل لهذا الحكم، أما إذا اجترأ على الحكم، وليس أهلًا له، فهو عاصٍ غيرُ مأجور، حتى وإنْ أصاب، وقد "أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكمٍ عالِمٍ أهْلٍ للحُكم، فإن أصاب فله أجرانِ: أجرٌ باجتهاده، وأجرٌ بإصابته، وإن أخطأ فله أجرٌ باجتهاده، قالوا: فأما مَن ليس بأهلٍ للحكم، فلا يَحِلُّ له الحكمُ، فإن حكم فلا أجْرَ له؛ بل هو آثمٌ، ولا يَنفُذ حكمُه، سواءٌ وافق الحقَّ أم لا؛ لأن إصابته –باتِّفاق - ليست صادرةً عن أصل شرعيٍّ، فهو عاصٍ في جميع أحكامه، سواءٌ وافق الصوابَ أم لا، وهي مردودةٌ كلُّها، ولا يُعذَر في شيء من ذلك، وقد جاء في الحديث:
«القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة، واثنانِ في النار؛ قاضٍ عرَف الحق فقضى به، فهو في الجنة، وقاضٍ عرَف الحق فقضى بخلافه، فهو في النار، وقاضٍ قضى على جَهْل فهو في النار»[9]"[10].
وهذا المعنى الواردُ في الحديث إذا كان الاجتهادُ فيما هو مستسَاغٌ، ويمكِن الاجتهادُ فيه من الفروع ونحوها، أما المسلَّمات والأمور المعلومة من الدِّين بالضرورات، فلا مجالَ للاجتهاد فيها.
وهذا إنما هو في الفروع المحتمِلة للوجوه المختلفة، دون الأصول التي هي أركانُ الشريعة، وأمَّهات الأحكام التي لا تَحتمِل الوجوه، ولا مدخلَ فيها للتأويل، فإن مَن أخطأ فيها غيرُ معذور في الخطأ، وكان حُكْمُه في ذلك مردودًا[11].
قال ابن عُثَيمين رحمه الله: "المراد بالحاكم هنا القاضي، والظاهر أن المفتيَ مثلُه؛ يعني: أن الإنسان إذا اجتهد في طلب الحقِّ وتبيَّن له شيء من الحقِّ ثم أفتى به أو حكم به، فهو على خير، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، ولا يُضيع الله تبارك وتعالى أجر من أحسن عملاً، فدلَّ ذلك على أن الإنسان إذا اجتهد وتحرَّى الحقَّ وبذل وُسْعَه في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يُثيبه على هذا، إن أصاب فله أجران: الأجر الأول على إصابة الحقِّ، والثاني على اجتهاده، وإن أخطأ فله أجر واحد، وهو الاجتهاد وبذل الوُسع والطاقة في طلب الحقِّ"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "قَالَ الْعُلَمَاء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكمٍ عالِمٍ أهْلٍ للحكم، فإن أصاب فله أجرانِ: أجرٌ باجتهاده، وأجرٌ بإصابته، وإن أخطأ فله أجرٌ باجتهاده، وفي الحديث محذوفٌ تقديرُه: إذا أراد الحاكم فاجتهد. قالوا: فأمّا من ليس بأهل للحكم، فلا يحلُّ له الحكم، فإن حكم، فلا أجر له؛ بل هو آثم، ولا يَنفُذ حكمه، سواء وافق الحقَّ أم لا؛ لأن إصابته اتِّفاقه ليست صادرةً عن أصل شرعيٍّ، فهو عاصٍ في جميع أحكامه، سواء وافق الصَّواب أم لا، وهي مردودة كلُّها، ولا يُعذَر في شيء من ذلك، وقد جاء في الحديث في السُّنن:
«الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِه،ِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِخِلَافِهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ»[2]
وقد اختلف العلماء في أنَّ كلَّ مجتهد مصيب أم المصيب واحد، وهو من وافق الحكم الّذي عند اللّه تعالى، والآخر مخطئ لا إثم عليه لعُذره، والأصحُّ عند الشّافعيِّ وأصحابه أنّ المصيب واحد، وقد احتجَّت الطّائفتان بهذا الحديث، وأمّا الأوّلون القائلون: كلُّ مجتهد مصيب، فقالوا: قد جُعل للمجتهد أجر، فلولا إصابتُه لم يكن له أجر، وأمّا الآخرون فقالوا: سمَّاه مخطئًا، ولو كان مصيبًا لم يسمِّه مخطئًا، وأمّا الأجر، فإنّه حصل له على تعبه في الاجتهاد. قال الأوّلون: إنّما سمَّاه مخطئًا لأنّه محمول على من أخطأ النّصَّ، أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ كالْمُجمَع عليه وغيره، وهذا الاختلاف إنّما هو في الاجتهاد في الفروع، فأمّا أصول التّوحيد، فالمصيب فيها واحد بإجماع من يُعتدُّ به، ولم يخالف إلّا عبد اللّه بن الحسن الَعْبتريُّ وداود الظّاهريُّ، فصوَّبا المجتهدين في ذلك أيضًا. قال العلماء: الظّاهر أنهما أرادا المجتهدين من المسلمين دون الكفَّار، واللّه أعلم"[3].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: قوله: (فاجتهد) عطف على الشرط على تأويل أراد أن يَحكُم فاجتهد، وقوله: (فأصاب) عطف على (فاجتهد)، و(فله أجران) جزاء الشرط. وإنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحقِّ؛ لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ؛ بل يوضع عنه الإثم فقط، وهذا فيمن كان جامعًا لآلة الاجتهاد، وعارفًا بالأصول، عالِمًا بوجوه القياس. وأما من لم يكن محلًّا للاجتهاد، فهو متكلِّف، ولا يُعذَر بالخطأ؛ بل يُخاف عليه الوزر، ويدلُّ عليه قوله ﷺ: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار»[4]. وهذا إنما هو في الفروع المحتمِلة للوجوه المختلفة، دون الأصول التي هي أركانُ الشريعة، وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه، ولا مدخلَ فيها للتأويل؛ فإن مَن أخطأ فيها غيرُ معذور في الخطأ، وكان حكمه في ذلك مردودًا.
واختلفوا في أن كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد؟ وهو من وافق الحكم الذي عند الله تعالي، والآخر مخطئ، والأصحُّ عند الشافعيِّ وأصحابه الثاني؛ لأنه سُمِّي مخطئًا، ولو كان مصيبًا لم يُسَمَّ مخطئًا؛ لأنه محمول على من أخطأ النصَّ، أو اجتهد فيما لا يَسُوغ فيه"[5].
قال المناويُّ رحمه الله: "«إذا حكم الحاكم فاجتهد» يعني: إذا أراد الحكم فاجتهد فحَكَم فهو من باب القلب على حدِّ
{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا}
[الأعراف: ٤]
قال عياض: والاجتهاد بذل الوُسع في طلب الحقِّ والصواب في النازلة. وابن الحاجب: استفراغ الوُسع لتحصيل ظنٍّ بحكم شرعيٍّ. «فأصاب»؛ أي: طابَقَ ما عند الله. «فله أجران» أجرٌ لاجتهاده وأجر لإصابته. فإن قيل: الإصابة مقارِنةٌ للحكم، فما معنى الفاء المفيدة للترتيب والتعقيب؟ فالجواب أن فيه إشارةً إلى علوِّ رُتبة الإصابة، والتعجُّب من حصولها بالاجتهاد. «وإذا حكم فاجتهد» فيه التأويل المارُّ «فأخطأ»؛ أي: ظنَّ أن الحقَّ في نفس الأمر في جهة، فكان خلافَه. «فله أجر واحد» على اجتهاده؛ لأن اجتهاده في طلب الحقِّ عبادة، وفيه أن المجتهِد يَلزَمه تحديد الاجتهاد لوقوع الحادثة، ولا يعتمد على المتقدِّم؛ فقد يَظهَر له خلافٌ، ما لم يكن ذاكرًا للدليل الأول، وأن الحقَّ عند الله واحد؛ لكن وسَّع الله للأمة، وجعل اختلاف المجتهدين رحمةً، وأن المجتهد يخطئ ويصيب، وإلا لما كان لقوله: (فأخطأ) معنًى، هذا ما عليه الشافعية، وتأوَّله الحنفية فأبعدوا. قال الحرَّانيُّ: والحكم قصر المتصرِّف على بعض ما يتصرَّف فيه، وعن بعض ما يتشوَّف إليه، والإصابة وقوع المسدَّد على حدِّ ما سُدِّد له من موافق لفرض النفس أو مخالف"[6].