عن أبي سُليمانَ مالكِ بنِ الحُوَيْرثِ رضي الله عنه، قال:أَتَينا النبيَّﷺ ونحن شَبَبةٌ مُتقارِبون، فأقمْنا عنده عِشرين ليلةً، فظنَّ أنَّا اشتَقْنا أهْلَنا، وسألَنا عمَّن ترَكْنا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رفيقًا رحيمًا، فقال: «ارْجِعوا إلى أهلِيكم،فعلِّموهم ومُروهم،وصلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي،وإذا حضَرتِ الصلاةُ، فلْيُؤذِّنْ لكم أحدُكم، ثم لِيَؤُمَّكم أكبَرُكم»

عناصر الشرح

غر يب الاحديث

شَبَبةٌ: يُقَالُ: شَبَّ يَشِبُّ شَبَابًا، فَهُوَ شَابٌّ، وَالْجَمْعُ شَبَبَةٌ وشُبَّانٌ [1].


المراجع

    1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 438).


    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يقول مالكُ بنُ الحُوَيْرثِ رضي الله عنه: (أَتَينا النبيَّ ): وكانت وِفادةُ بني الليث، رهطِ مالكٍ، في سنة الوفود سنةَ تسع، قبل غزوة تبوك. (ونحن شَبَبةٌ مُتقارِبون)؛ أي: في السنِّ، وقيل: في العلم أو القراءة. (فأقمنا عنده عشرين ليلةً): يتلقَّوْن العلم والحديث، فلمَّا طال مُكْثُهم، أشفق عليهم ؛ (فظنَّ أنَّا اشتقنا أهْلَنا)؛ أي: ظن أنهم اشتاقوا أهليهم، ووجدوا في أنفسهم من الشَّوق لهم. (وسألَنا عمَّن ترَكْنا في أهلنا، فأخبرناه)؛ أي: فسألهم ﷺ عن أهلهم، وعمَّن تركوا منهم، فأخبروه. (وكان رفيقًا رحيمًا)؛  

    قال تعالى: 

    ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ 

    [التوبة: ١٢٨].

    فقال : «ارجعوا إلى أهليكم، فعلِّموهم ومُروهم»: نَدَبهم ﷺ للرجوع إلى أهليهم لنَقْل ما تعلَّموه إلى أهلهم، وتبليغهم الدعوةَ والرسالة. «وصلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»: فيجب اتِّباع النبيِّ ﷺ  في جميع أموره في الصلاة؛ من كيفياتها وهيئته فيها، وما يُقال فيها، وما يُبطلها، وسائر أحكامها. «وإذا حضَرتِ الصلاةُ، فليؤذِّنْ لكم أحدُكم، ثم لِيَؤُمَّكم أكبَرُكم»؛ أي: وإذا دخل وقت الصلاة، فليؤذِّن أحدكم، وليؤمَّكم أكبركم سنًّا إذا استويتُم في القراءة، وإلا فالأقرأُ يُقدَّم على الأَسنِّ في الإمامة للصلاة.


    الشرح المفصَّل للحديث

    هذا الحديث من دلائل رحمة النبيِّ ﷺ وشَفَقته بأُمَّته، وفيه بيانُ اهتمام النبيِّ ﷺ بأمور الدين عامَّةً، وبالصلاة خاصَّةً؛ فإن النبيَّ ﷺ لَمَّا طال عنده مقام هؤلاء الشباب، ومكثوا قَدْر عشرين ليلةً بَّأيامها، أشفق عليهم؛ لِما يجدون في أنفسهم من الشَّوق، وعلى أهلهم فيما يشعُرون به من الوَحشة؛ فلهذا سألهم ﷺ عن أهلهم، وعمَّن تركوا منهم، فلمَّا أخبروه، نَدَبهم ﷺ إلى الرجوع إلى أهلهم؛ فإنه ﷺ كان رفيقًا رحيمًا، وقد قال اللهُ - عزَّ وجلَّ - فيه:

    ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾

    [آل عمران: 159]، 

    وقال:

     ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾  

    [التوبة: 128].

    وإنما أمرهم النبيُّ ﷺ بالرجوع إلى أهلهم؛ لأن ذلك كان بعد فتح مكَّةَ؛ إذ انقطعت الهجرة بفتح مكَّةَ؛ لقوله ﷺ في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال:

    قال رسول الله ﷺ:

    «لا هجرةَ بعد الفتح؛ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ، وإذا استُنْفِرتم فانفِروا»

    [1]،

    فصار الْمُقام بالمدينة اختياريًّا، فمَن شاء أقام، ومَن شاء عاد إلى قومه بعد أن يتعلَّم ما يحتاج إليه من العلم والدين، ويعلِّمه قومه [2].

    وقوله: «فعلِّموهم ومُروهم» دليلٌ على أن التعليم وحْدَه ليس كافيًا؛ بل يجب الأمر كذلك؛

    لقوله تعالى:

    ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا  ﴾

    [طه: 132]،

    وعن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال:

    «كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته؛ فالإمام راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته، والرجُل في أهله راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعيةٌ وهي مسؤولةٌ عن رعيتها، والخادمُ في مال سيده راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته»

    [3]،

    فالأمر لا يقتصر على الصلاة فحسبُ؛ بل لا بدَّ من الأمر والمتابَعة كذلك [4].

    وقوله ﷺ: «وصلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي» قاعدةٌ أصيلةٌ في الصلاة وأحكامها؛ فإنه يوجب اتِّباع النبيِّ ﷺ في جميع أموره في الصلاة؛ من كيفياتها وهيئته فيها، وما يُقال فيها، وما يُبطلها، وما يوجب السجود للسَّهْوِ فيها.

    وما كان من أفعال الرسول ﷺ بيانًا لِمُجمَل؛ كالصلاة والصيام والحجِّ، وما دعا إلى فعله؛ كقوله: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»، فلا خلافَ بين العلماء أنها على الوجوب [5].

    وإنما كانت أفعالُه ﷺ في الصلاة محمولةً على الوجوب؛ لأمرَين:

    أوَّلهما: قوله هنا: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلي».

    والثاني: أن ذِكْر الصلاة في القرآن مجمَلٌ باعتبار كيفيتها، فيجب تنزيلُ فِعل الرسول ﷺ على البيان، إلا أن يدُلَّ دليلٌ خاصٌّ في فعل خاصٍّ على أنه غيرُ واجب [6].

    ولا يقتصر الأمر في وجوب اتِّباعه في العزيمة فحسبُ؛ بل يجب اتِّباعه كذلك في الرُّخَص التي رخَّصها لعباده؛ كالصلاة جالسًا أو مُضْطَجعًا للمريض، وكالتخفيف في الصلاة؛ فإن التخفيف أمرٌ منضبطٌ بالشرع لا يجوز الخروج عنه بحال؛ "فإذا أمرهم أن يُصلوا بصلاته وأمرهم بالتخفيف، عُلِم بالضرورة أن الذي كان يفعله هو الذي أمَر به. يوضِّح ذلك أنه ما مِن فِعل في الغالب إلا وقد يُسمَّى خفيفًا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، ويُسمَّى طويلًا بالنسبة إلى ما هو أخفُّ منه، فلا حدَّ له في اللغة يُرجَع فيه إليه، وليس من الأفعال العُرفية التي يُرجع فيها إلى العُرف؛ كالحِرز، والقَبض، وإحياء الموات، والعبادات يُرجَع إلى الشارع في مقاديرها وصفاتها وهيئاتها، كما يُرجَع إليه في أصلها، فلو جاز الرجوعُ في ذلك إلى عُرْف الناس وعوائدهم في مسمَّى التخفيف والإيجاز، لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافًا مُتباينًا لا ينضبط، ولهذا؛ لَمَّا فَهِم بعضُ مَن نكَّس الله قلبه أن التخفيفَ المأمورَ به هو ما يمكن من التخفيف، اعتقد أن الصلاة كلما خفَّت وأُوجِزت كانت أفضلَ، فصار كثيرٌ منهم يمرُّ فيها مرَّ السهم، ولا يَزيد على «الله أكبر» في الركوع والسجود بسرعة، ويكاد سجوده يسبق ركوعه، وركوعه يكاد يسبق قراءته، وربما ظن الاقتصارَ على تسبيحة واحدة أفضل من ثلاث! [7].

    وقوله ﷺ: «صَلُّوا كما رأيتُموني أُصلي» هذا الخطاب وقَع لمالك بن الحُوَيرث ﷺ ومَن كان معه، يوجب عليهم أن يُصلُّوا كما رأَوْا رسول الله ﷺ، وهذا الوجوب على جميع الأمَّة بشرط أن يَثبُت عنه ﷺ استمراره على الفعل المعيَّن، فيكون واجبًا على أُمته، أما ما لم يثبُت استمراره عليه، فليس بواجب [8].

    وقوله ﷺ: «ليؤذِّن لكم أحدُكم، ثم ليؤمَّكم أكبركم» الأصلُ في الإمامة أن يُقدَّم الأفقهُ والأقرأُ على الأسنِّ؛ كما روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاريِّ، قال:

    قال رسول الله ﷺ:

    «يؤمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمُهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً، فأقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمُهم سِلْمًا، ولا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سُلطانه، ولا يقعُد في بيته على تَكرِمتِه إلا بإذنه»

    [9]،

    ولِما رواه عمرو بن سَلِمة قال: «كنا بماء ممرِّ الناس، وكان يمرُّ بنا الركبانُ فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجُل؟ فيقولون: يزعُم أن الله أرسله، أوحى إليه - أو: أوحى الله بكذا - فكنتُ أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يَقَرُّ في صدري، وكانت العرب تُلوَّم بإسلامهم الفتحَ، فيقولون: اتركوه وقومَه؛ فإنه إن ظهَر عليهم فهو نبيٌّ صادق، فلمَّا كانت وقعة أهل الفتح، بادَر كلُّ قوم بإسلامهم، وبدَر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدِم قال: جئتكم واللهِ من عند النبيِّ ﷺ حقًّا، فقال: «صَلُّوا صلاةَ كذا في حين كذا، وصَلُّوا صلاةَ كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاةُ فليؤذِّنْ أحدُكم، وليؤمَّكم أكثرُكم قرآنًا»، فنظروا فلم يكنْ أحدٌ أكثرَ قرآنًا مني؛ لِما كنتُ أتلقَّى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ستِّ أو سبع سنين» [10].

    وإنما أمر النبيُّ ﷺ هنا بأن يؤمَّهم أَسَنُّهم؛ لِما علم من أنهم قد استوَوْا جميعًا في الحفظ والفَهْم، فقد مكَثوا معًا تلك المدَّةَ مع النبيِّ ﷺ، فاستدلَّ النبيُّ ﷺ بتقارُب المدَّة والأعمار على استواء الفَهْم والحفظ؛ بدليل قول مالك في رواية مسلم: (وكانا مُتقارِبَين في القراءة) [11]، وإن كان قد يختلف بعضهم في الاستيعاب؛ لكنَّ النبيَّ ﷺ حكم بالمطَّرِد الأعمِّ؛ ليكون ذلك قاعدةً لهم، ولِمَن حالُه كحالهم [12].

    و"لا خلافَ بين العلماء أنهم إذا استوَوْا في القراءة والفقه والفضل، فالأسنُّ أَوْلى بالتقديم، وأن الإمامة تُستَحقُّ بالسنِّ إذا كان معه عِلم وفضل، وأما إن تعرَّى السنُّ من العلم والقراءة والفضل، فلا حظَّ للكبير في الإمامة" [13].

    المراجع

    1. رواه البخاريُّ (2783)، ومسلم (1353).

    2. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 236).

    3. رواه البخاريُّ (2409)، ومسلم (1829).

    4. انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 148).

    5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطّال (10/ 345).

    6. انظر: "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (2/ 167).

    7. "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص: 139)

    8. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 237).

    9. رواه مسلم (673).

    10. رواه البخاريُّ (4302). 

    11. رواه مسلم (674).

    12. "شرح صحيح البخاري" لابن بطّال (2/ 307).

    13. "شرح صحيح البخاري" لابن بطّال (2/ 307).




    النقول

    قال ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث فضلُ الهجرة والرِّحلة في طلب العلم، وفضلُ التّعليم، وما كان عليه ﷺ من الشَّفَقة والاهتمام بأحوال الصلاة وغيرها من أمور الدّين، وإجازة خبر الواحد، وقيام الحُجَّة به" [1].

    قال النوويُّ رحمه الله: "فيه الحثُّ على الأذان والجماعة، وتقديم الأكبر في الإمامة إذا استَوْوا في باقي الخصال، وهؤلاء كانوا مُسْتَوين في باقي الخصال؛ لأنهم هاجَروا جميعًا، وأسلموا جميعًا، وصَحِبوا رسول اللّه ﷺ ولازَموه عشرين ليلةً، فاستَووا في الأخذ عنه، ولم يبقَ ما يقدَّم به إلّا السّنُّ، واستدلَّ جماعة بهذا على تفضيل الإمامة على الأذان؛ لأنه ﷺ قال: «يؤذِّن أحدكم»، وخصَّ الإمامة بالأكبر، ومن قال بتفضيل الأذان، وهو الصّحيح المختار، قال: إنّما قال: «يؤذّن أحدكم»، وخصَّ الإمامة بالأكبر؛ لأن الأذان لا يحتاج إلى كبير علم؛ وإنّما أعظم مقصوده الإعلام بالوقت، والإسماع، بخلاف الإمام، واللّه أعلم" [2].

    قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «ونحن شَبَبة»: جمع (شابٍّ)، زاد في الأدب من طريق ابن عُليَّة عن أيُّوبَ: «شَبَبة متقاربون»، والمراد تقاربُهم في السّنِّ؛ لأن ذلك كان في حال قدومهم. قوله: «نحوًا من عشرين»، في رواية ابن عُليَّة المذكورة الجزم به، ولفظه: «فأقمنا عنده عشرين ليلةً»، والمراد بأيّامها، ووقع التّصريح بذلك في روايته في خبر الواحد من طريق عبد الوهّاب عن أيّوب. قوله: «رحيمًا فقال: لو رجعتم»، في رواية ابن عُليَّة وعبد الوهّاب: «رحيمًا رقيقًا فظنّ أنّا اشتقنا إلى أهلنا وسألَنا عمَّن تركْنا بعدنا، فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلِّموهم»، ويمكِن الجمع بينهما بأن يكون عَرَض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله: «لو رجعتم»، إذ لو بدأهم بالأمر بالرّجوع لأمكن أن يكون فيه تنفير، فيُحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم، فأمرهم حينئذ بقوله: «ارجعوا»، واقتصار الصّحابيِّ على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنّه الشّوق إلى أهليهم دون قصد التّعليم هو لِما قام عنده من القرينة الدّالَّة على ذلك، ويمكِن أن يكون عُرِف ذلك بتصريح القول منه ﷺ وإن كان سبب تعليمِهم قومهمَ أشرفَ في حقِّهم؛ لكنّه أخبر بالواقع ولم يتزيَّن بما ليس فيهم، ولَمّا كانت نيّتهم صادقةً، صادَف شوقُهم إلى أهلهم الحظَّ الكامل في الدّين، وهو أهليَّة التّعليم؛ كما قال الإمام أحمدُ في الحرص على طلب الحديث: حظٌّ وافَق حقًّا" [3].

    قال ابن القيِّم رحمه الله: «فإذا أمرهم أن يُصلوا بصلاته وأمرهم بالتخفيف، عُلِم بالضرورة أن الذي كان يفعله هو الذي أمَر به. يوضِّح ذلك أنه ما مِن فِعل في الغالب إلا وقد يُسمَّى خفيفًا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، ويُسمَّى طويلًا بالنسبة إلى ما هو أخفُّ منه، فلا حدَّ له في اللغة يُرجَع فيه إليه، وليس من الأفعال العُرفية التي يُرجع فيها إلى العُرف؛ كالحِرز، والقَبض، وإحياء الموات، والعبادات يُرجَع إلى الشارع في مقاديرها وصفاتها وهيئاتها، كما يُرجَع إليه في أصلها، فلو جاز الرجوعُ في ذلك إلى عُرْف الناس وعوائدهم في مسمَّى التخفيف والإيجاز، لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافًا مُتباينًا لا ينضبط، ولهذا؛ لَمَّا فَهِم بعضُ مَن نكَّس الله قلبه أن التخفيفَ المأمورَ به هو ما يمكن من التخفيف، اعتقد أن الصلاة كلما خفَّت وأُوجِزت كانت أفضلَ، فصار كثيرٌ منهم يمرُّ فيها مرَّ السهم ولا يَزيد على «الله أكبر» في الركوع والسجود بسرعة، ويكاد سجوده يسبق ركوعه، وركوعه يكاد يسبق قراءته، وربما ظن الاقتصارَ على تسبيحة واحدة أفضل من ثلاث!» [4].

    قال ابن بطَّال رحمه الله: «لا خلافَ بين العلماء أنهم إذا استوَوْا في القراءة والفقه والفضل، فالأسنُّ أَوْلى بالتقديم، وأن الإمامة تُستَحقُّ بالسنِّ إذا كان معه عِلم وفضل، وأما إن تعرَّى السنُّ من العلم والقراءة والفضل، فلا حظَّ للكبير في الإمامة» [5].

    قال ابن حجر رحمه الله: "حديث مالكِ بنِ الحُويرث ليس فيه التّصريح باستواء المخاطَبين في القراءة، وأجاب الزَّيْنُ بنُ المنير وغيره بما حاصله أنّ تساويَ هجرتهم وإقامتهم وغرضهم بها، مع ما في الشّباب – غالبًا - من الفَهم، ثمّ توجُّه الخطاب إليهم بأن يعلِّموا من وراءهم من غير تخصيص بعضهم دون بعض، دالٌّ على استوائهم في القراءة والتّفقُّه في الدّين" [6].

    قال النوويُّ رحمه الله: "وفي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: «يَؤُمُّ الْقَومَ أَقْرَؤُهم لِكِتَابِ اللَّه،ِ فَإِنْ كانوا في الْقِرَاءَةِ سَواءً فَأَعْلَمُهم بِالسُّنَّةِ»: فيه دليلٌ لمن يقول بتقديم الأقرأ على الأفقه، وهو مذهب أبي حنيفةَ وأحمدَ وبعض أصحابنا، وقال مالك والشّافعيُّ وأصحابهما: الأفقه مقدَّم على الأقرأ؛ لأن الّذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والّذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يَعرِض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصّواب فيه إلّا كامل الفقه. قالوا: ولهذا قدَّم النّبيُّ ﷺ أبا بكر - رضي اللّه عنه - في الصلاة على الباقين مع أنّه ﷺ نصَّ على أنّ غيره أقرأُ منه، وأجابوا عن الحديث بأنّ الأقرأ من الصّحابة كان هو الأفقهَ؛ لكنّ في قوله: «فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسّنَّة»: دليل على تقديم الأقرأ مطلقًا، ولنا وجه اختاره جماعة من أصحابنا أنّ الأَورَع مقدَّم على الأفقه والأقرأ؛ لأن مقصود الإمامة يحصل من الأورع أكثرَ من غيره" [7]. 

    قال ابن حجر رحمه الله: "قَولُهُ: «ولْيَؤُمَّكم أَكْبَرُكم» ظاهرُه تقديم الأكبر بكثير السّنِّ وقليله، وأمّا من جوَّز أن يكون مراده بالكِبَر ما هو أعمُّ من السّنِّ أو القَدْر؛ كالتّقدُّم في الفقه والقراءة والدّين، فبعيدٌ؛ لِما تقدَّم من فَهم راوي الخبر، حيث قال للتّابعيِّ: فأين القراءة؟ فإنّه دالٌّ على أنّه أراد كِبَر السّنِّ، وكذا دعوى من زعم أنّ قوله: «وليؤمّكم أكبركم» معارَض بقوله: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم»؛ لأن الأول يقتضي تقديم الأكبر على الأقرأ، والثّاني عكسه، ثمّ انفصل عنه بأنّ قصّة مالك بن الحويرث واقعةُ عَين قابلة للاحتمال، بخلاف الحديث الآخر، فإنّه تقرير قاعدة تفيد التّعميم. قال: فيُحتمل أن يكون الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقهَ. انتهى. والتّنصيصُ على تقاربهم في العلم يَرِد عليه، فالجمع الّذي قدّمناه أولى، واللّه أعلم" [8].

    قال الشوكاني رحمه الله: "الحديث يدلُّ على وجوب جميع ما ثبت عنه ﷺ في الصلاة من الأقوال والأفعال، ويؤكِّد الوجوبَ كونُها بيان لمجمَل قوله:

     ﴿أَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ

    [الأنعام: 72]،

    وهو أمر قرآنيٌّ يُفيد الوجوب، وبيان المجمَل الواجب واجب كما تقرَّر في الأصول، إلّا أنّه ثبت أنّه ﷺ اقتصر في تعليم المسيء صلاتَه على بعض ما كان يفعله ويُداوم عليه، فعَلِمنا بذلك أنّه لا وجوب لِما خرج عنه من الأقوال والأفعال؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما تقرّر في الأصول بالإجماع، ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشيء لم يُذكَر في حديث المسيء، فمنهم من قال: يكون قرينةً بصرف الصّيغة إلى النَّدب، ومنهم من قال: تبقى الصِّيغة على الظّاهر الّذي تدلُّ عليه، ويؤخَذ بالزّائد فالزّائد" [9].

    قال ابن الطيب رحمه الله: "ما كان من أفعال الرسول ﷺ بيانًا لِمُجمَل؛ كالصلاة والصيام والحجِّ، وما دعا إلى فعله؛ كقوله: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»، فلا خلافَ بين العلماء أنها على الوجوب" [10].

    قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «أحدكم» يدلُّ على أنّه لا يُعتبَر السّنُّ والفضل في الأذان كما يُعتبَر في إمامة الصلاة. وقد استدلَّ بهذا من قال بأفضليّة الإمامة على الأذان؛ لأن كون الأشرف أحقَّ بها مُشعِر بمزيد شرف لها. وفي لفظ للبخاريِّ: «فإذا أنتما خرجتما فأذِّنا» ولا تعارُض بينه وبين ما في حديث الباب؛ لأن المراد بقوله: «أذّنا»؛ أي: من أحبَّ منكما أن يؤذِّن فليؤذّن؛ وذلك لاستوائهما في الفضل. والحديث استدلَّ به من قال بوجوب الأذان؛ لما فيه من صيغة الأمر، وقد تقدَّم الخلاف في ذلك" [11].


    المراجع

    1. "فتح الباري" لابن حجر (2/172).

    2. "شرح النوويِّ على مسلم" (5/ 175).

    3. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 171).

    4. "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص: 139).

    5. "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (2/ 307).

    6. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 170).

    7. "شرح النوويِّ على مسلم" (5/ 172، 173).

    8. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 171، 172).

    9. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (2/ 203، 204).

    10. "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (10/ 345).

    11. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (2/39، 40).


    مشاريع الأحاديث الكلية