15 - الإسلامُ دينُ الأَنبياءِ

عن أبي هُرَيرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله«أنا أَوْلى الناس بعِيسى بنِ مَريمَ في الدنيا والآخرةِ، والأنبياءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ؛ أمهاتُهم شتَّى، ودِينُهم واحدٌ»، وفي رواية: «ليس بَيْني وبينَه نَبِيٌّ».

عناصر الشرح

غريب الحديث

«إخوة لِعَلَّاتٍ»: أي: من أبٍ واحد وأمهاتٍ مختلفة (إخوة لأب) [1].

شتَّى: مختلفين متفرِّقين.

المراجع

  1. قال الزمخشريُّ في "الفائق في غريب الحديث" (3/ 44): الأعيان: الإخوة لأب واحد وأم، وبنو العَلَّات: الإخوة لأب واحد وأمهات شتى. وقاله ابن الجوزي في "غريب الحديث" (2/ 140).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيرة رضى الله عنه عن رسولِ الله أنه قال: «أنا أَوْلى الناس بعِيسى بنِ مَريمَ في الدنيا والآخرةِ»؛ أي: أنا أَخَصُّ النّاس به، وأقربُهم إليه؛ لأنه بشَّر بي قبل بَعثتي، وسيَتَّبِع شريعتي في آخر الزمان، وينصر ديني، فكأننا واحد. «والأنبياءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ»: استئناف فيه دليل على الحكم السابق، وكأن سائلاً سأل عما هو المقتضي لكونه أَوْلى الناس به، فأجاب بذلك.

قوله : «أمهاتُهم شتَّى، ودِينُهم واحدٌ»؛ أي: إن أصل دينهم وإيمانهم واحد، وهو التَّوحيد، وأما فروع الشرائع، ففيها الاختلاف.

قوله : «ليس بَيْني وبينَه نَبِيٌّ»: هذا أورده كالشَّاهد لقوله: إنّه أقرب النّاس إليه.

الشرح المفصَّل للحديث

يُرشدنا هذا الحديثُ إلى بيان الوَحْدة والاتِّفاق بين جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فإنهم جميعًا إخوةٌ، وهم أَوْلى الناس بعضهم ببعض؛ فإنهم وإن اختلفت أنسابهم، فإن الدِّين يجمُعهم جميعًا.

فقوله ﷺ: «أنا أوْلى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة»؛ أي: أحقُّ الناس به، وأقربُهم وألصقهم به

كقوله تعالى:

  ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ ﴾

[الأحزاب: 6].

وإنما ذكَر عيسى - عليه السلام - دونَ غيره من الأنبياء؛ لكونه ليس بينه وبينه نبيٌّ؛ كما في رواية مسلم، فهو أقرب المرسَلين إليه، ودِينه متَّصلٌ بدِينه، كما أن عيسى كان مُبَشِّرًا به، ممهِّدًا لقواعد دِينه، داعيًا الخَلْقَ إلى تصديقه

قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾

   [الصف: 6] [1].

وكذلك فإنه يَصير من أُمته المقتدِين بشريعته عند نزوله في آخِر الزمان، فذلك سببُ أحقيَّته به في الآخرة، وفي الدنيا فلأنه بشَّر به، ونحو ذلك، كما سبق [2].

وقد ورد في القرآن الكريم:

﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

  [آل عمران: 68]

 ولا منافاةَ بينهما؛ فإنه ﷺ أَوْلى الناس بإبراهيم من جهة الاقتداء به، وهو أَوْلى الناس بعيسى لِما ذكَرْنا [3].

وقوله: «الأنبياء إخوةٌ لِعَلَّات؛ أمهاتهم شتَّى، ودِينهم واحدٌ» ليس مرادُ الحديث أنهم من أبٍ واحد، وأمَّهات مختلفة فِعلًا؛ إذ إن أمَّهاتِهم وآباءهم مختلفون، وما اختصاص عيسى بن مريم حينئذٍ من بينهم؟! وإنما أراد أن دينهم واحدٌ، وإن اختلفت شرائعُهم؛ فالدِّين الذي هو الأصلُ هو الإسلام وأصوله وأحكامه، التي قال الله - عزَّ وجلَّ - فيها:

﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153) ﴾  

[الأنعام: 151- 153]

 وفي قوله:

﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾

[الأعراف: 29]

وقوله:

﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾  

 [الأعراف: 33]

وقوله:

﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾

  [الإسراء: 23].

فهذه الأصولُ التي اتَّفَقت عليها شرائعُ الإسلام عند الأنبياء جميعًا؛ وإنما اختلفوا في الأحكام

كما قال تعالى:

﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾

[المائدة: 48] [4].

والإسلامُ هو الدين الذي أتت به جميع الأنبياء والرسل؛ قال نوح عليه السلام:

﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾

  [يونس: 72]

وقال تعالى في حقِّ إبراهيم - عليه السلام -:

﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[البقرة: 131]

وفي حقِّ يعقوبَ - عليه السلام -:

﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

[البقرة: 132]

﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾

[يونس: 84]

 وعلى لسان أصحاب عيسى - عليه السلام -:

﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾

[آل عمران: 52].

فالإسلام يتضمَّن الاستسلامَ لله وحدَه؛ فمَن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومَن لم يستسلم له، كان مستكبِرًا عن عبادته، والمشرك به والمستكبِر عن عبادته كافرٌ، والاستسلامُ له وحْدَه يتضمَّن عبادته وحدَه وطاعته وحدَه، فهذا دين الإسلام الذي لا يَقبل اللهُ غيرَه [5].

فلما كان الدين - وهو الإسلام - واحدًا، وهو الأصل والأساس، كان بمنزلة الأب الواحد، واختلاف الشرائع بينهم بمثابة اختلاف الأمَّهات التي هي مِن لقاح الأب الواحد [6].

وقوله: «ليس بيني وبينه نبيٌّ»: بيانٌ للأوْلوية التي ذكَرَها النبيُّ ﷺ؛ فهو مع كونه مبشِّرًا به، ويَنزِل آخرَ الزمان حاكمًا بشريعته، فكذلك ليس بينهما فارقٌ زمنيٌّ.

وفيه دليلٌ على أنه ليس بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - نبيٌّ أو رسولٌ، وما ذُكر من أن الحواريين كانوا أنبياءَ بعد ذلك، أو أن الرسل الثلاثة الذين أرسلهم عيسى كانوا أنبياءَ؛ فكلُّه ضعيفٌ مردودٌ بهذا الحديث الصحيح. ولو قلنا بصحة ذلك، لكان المراد أنه ليس بينهما نبيٌّ مستقلٌّ بشريعة، والأول أصحُّ، والله أعلم [7].

المراجع

  1. انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (3/ 453)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3620).
  2. انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (6/ 184)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (6/ 243).
  3. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 489).
  4. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (15/ 159).
  5. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (3/ 91).
  6. انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 202).
  7. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (19/ 568)، "فتح الباري" لابن حجر (6/ 489).


النقول

قال ابن حجر رحمه الله : "قولُه: «أنا أَوْلى النّاس بابن مريم» في رواية عبد الرحمن بنِ أبي عَمْرةَ عن أبي هُريرةَ: «بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة»؛ أي: أَخَصُّ النّاس به، وأقربُهم إليه؛ لأنه بشَّر بأنه يأتي من بعده. قال الكِرْمانيُّ: التَّوْفيق بين هذا الحديث وبين

قوله تعالى:

﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ﴾  

[آل عمران: 68]

 أن الحديث وارد في كونه ﷺ متبوعًا، والآية واردة في كونه تابعًا، كذا قال، ومَسَاقُ الحديث كمساق الآية؛ فلا دليلَ على هذه التَّفْرِقة، والحقُّ أنه لا منافاة ليحتاج إلى الجمع، فكما أنه أَوْلى النّاس بإبراهيم، كذلك هو أَوْلى النّاس بعيسى، ذاك من جهة قوّة الاقتداء به، وهذا من جهة قوَّة قُرب العهد به. قوله: «والأنبياء أولاد عَلَّات» في رواية عبد الرحمن المذكورة: «والأنبياء إخوةٌ لعَلَّات»، والعَلَّات - بفتح الْمُهمَلة -: الضّرائر، وأصله أنّ من تزوَّج امرأةً ثمّ تزوَّج أخرى، كأنَّه عَلَّ منها، والعَلَلُ الشُّرْبُ بعد الشُّرْبِ، وأولاد العَلَّات الإخوةُ من الأب، وأمَّهاتهم شتَّى، وقد بيَّنه في رواية عبد الرحمن فقال: «وأمهاتهم شتَّى، ودينهم واحد»، وهو من باب التفسير؛

كقوله تعالى:

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)

[المعارج: ١٩ – ٢١].

ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد، وهو التَّوحيد، وإن اختلفت فروع الشَّرائع، وقيل: المراد أنَّ أزمنتهم مختلفة. قوله: «ليس بيني وبينه نبيٌّ»: هذا أورده كالشَّاهد لقوله: إنّه أقرب النّاس إليه" [1].

قال ابن تيمية رحمه الله : "ولَمَّا كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدًا، وإن تنوَّعت شرائعه؛ قال النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء إخوة لعلات» «وأنا أَوْلى الناس بابن مريم؛ فإنه ليس بيني وبينه نبيٌّ»؛ فدينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يُعبَد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت، وتنوُّع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوُّع الشريعة الواحدة؛ فكما أن دين الإسلام الذي بَعَث الله به محمدًا ﷺ هو دين واحد، مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة؛ كما أمر النبيُّ المسلمين بذلك بعد الهجرة ببضعةَ عَشَرَ شهرًا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة، ويحرم استقبال الصخرة؛ فالدين واحد وإن تنوَّعت القِبلة في وقتين من أوقاته؛ ولهذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت، ثم نسخ ذلك، وشرع لنا الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجبًا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماعَ يوم الجمعة، وحرَّم الاجتماع يوم السبت، فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلمًا، ومن لم يدخل في شريعة محمد ﷺ بعد النسخ لم يكن مسلمًا.

 ولم يشرع الله لنبيٍّ من الأنبياء أن يعبد غير الله البتَّةَ؛

قال تعالى:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ 

[الشورى: ١٣]

فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرَّقوا فيه" [2].

قال النَّوويُّ رحمه الله  : "قال جمهور العلماء: معنى الحديث: أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة، فإنّهم متَّفِقون في أصول التّوحيد، وأما فروع الشرائع، فوقع فيها الاختلاف، وأما قوله ﷺ: «ودينهم واحد»: فالمراد به أصول التّوحيد، وأصل طاعة اللّه تعالى وإن اختلفت صفتها، وأصول التّوحيد والطّاعة جميعًا، وأمّا قوله ﷺ: «وأنا أولى النّاس بعيسى» فمعناه أخصُّ به؛ لِما ذكره" [3].

قال ابن القيِّم رحمه الله  : "وأما وجه التسمية، فقال جماعة منهم القاضي عياض وغيره: معناه أن الأنبياء مختلفون في أزمانهم، وبعضهم بعيد الوقت من بعض، فهم أولاد عَلَّات؛ إذ لم يجمعهم زمان واحد، كما لم يجمع أولاد العَلَّات بطن واحد، وعيسى لَمَّا كان قريبَ الزمان من النبيِّ ﷺ ولم يكن بينهما نبيٌّ، كانا كأنهما في زمان واحد، فقال: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم عليه السلام» قالوا: كيف يا رسول الله؟ فقال: «الأنبياء إخوة من عَلَّات» الحديث.

وفيه وجه آخَرُ أحسن من هذا، وهو أن النبيَّ ﷺ شبَّه دين الأنبياء الذين اتَّفَقوا عليه من التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه، بالأب الواحد؛ لاشتراك جميعهم فيه، وهو الدين الذي شرعه الله لأنبيائه كلِّهم؛

فقال تعالى:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ 

[الشورى: ١٣]

، وقال البخاريُّ في صحيحه: "باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد"، وذكر هذا الحديث، وهذا هو دين الإسلام الذي أخبر الله أنه دين أنبيائه ورسله، من أوَّلِهم نوحٍ إلى خاتمهم محمدٍ، فهو بمنزلة الأب الواحد، وأما شرائع الأعمال والمأمورات، فقد تختلف، فهي بمنزلة الأمَّهات الشتَّى التي كان لقاح تلك الأمهات من أب واحد، كما أن مادَّة تلك الشرائع المختلفة من دين واحد متَّفَقٍ عليه. فهذا أولى الْمَعْنَيين بالحديث، وليس في تباعد أزمنتهم ما يوجب أن يشبَّه زمانهم بأمهاتهم، ويُجعَلون مختلفي الأمهات لذلك، وكون الأمِّ بمنزلة الشريعة، والأب بمنزلة الدين، وأصالة هذا وتذكيره وفرعية الأم وتأنيثها، واتحاد الأب، وتعدُّد الأم، ما يدلُّ على أنه معنى الحديث، والله أعلم" [4].

قال القسطلانيُّ  رحمه الله : «أنا أَوْلى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة»؛ لكونه مبشِّرًا بي قبل بعثتي، وممهِّدًا لقواعد مِلَّتي في آخر الزمان، تابعًا لشريعتي، ناصرًا لديني، فكأننا واحد. «والأنبياء إخوة لعلاّت»: استئناف فيه دليل على الحكم السابق، وكأن سائلاً سأل عما هو المقتضي لكونه أولى الناس به، فأجاب بذلك.

«أمهاتهم شتّى ودينهم» في التوحيد «واحد». ومعنى الحديث: أن حاصل أمر النبوَّة والغاية القصوى من البعثة التي بُعثوا جميعًا لأجلها: دعوة الخلق إلى معرفة الحق، وإرشادهم إلى ما به ينتظم معاشهم ويَحسُن معادهم، فهم متَّفِقون في هذا الأصل، وإن اختلفوا في تفاريع الشرع التي هي كالموصلة المؤدِّية، والأوعية الحافظة له؛ فعبَّر عما هو الأصل المشترك بين الكلّ بالأب، ونسبهم إليه، وعبّر عما يختلفون فيه من الأحكام والشرائع المتفاوتة بالصورة المتقاربة في الغرض بالأمهات، وهو معنى قوله: «أمهاتهم شتّى ودينهم واحد»، أو أن المراد أن الأنبياء وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أيامهم فالأصل الذي هو السبب في إخراجهم وإبرازهم – كلٌّ في عصره - أمرٌ واحد، وهو الدين الحق، فعلى هذا؛ فالمراد بالأمهات الأزمنة التي اشتملت عليهم" [5].

قال ابن تيمية رحمه الله  : "فأمر الرسل بإقامة الدين، وأن لا يتفرَّقوا فيه؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء إخوة لعلات» «وأنا أولى الناس بابن مريم؛ فإنه ليس بيني وبينه نبيٌّ»، وهذا الدين هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأوَّلين ولا من الآخرين؛ فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام؛

قال تعالى عن نوح:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)

[يونس: ٧١ – ٧٢]

وقال عن إبراهيم:

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

[البقرة: ١٣٠ – ١٣٢]

وقال عن موسى:

 وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ

[يونس: ٨٤]

وقال في خبر المسيح:

 وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ

 [المائدة: ١١١]

وقال فيمن تقدَّم من الأنبياء:

 يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا

[المائدة: ٤٤]

وقال عن بلقيس  أنها قالت:

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

[النمل: ٤٤] [6].

قال الديوبنديُّ رحمه الله  : "قوله: «والأَنْبِيَاءُ أَوْلادُ عَلاَّتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَهُ نَبِيٌّ»، يعني: هم متَّحِدُون في العقائد، وإن اخْتَلَفُوا في الفروع؛ كالأولاد التي تكون من أب واحد، وأمهاتهم شتَّى. ثم اعلم أن المشهورَ أن لا نبيَّ بينه وبين المسيح - عليه السلام - كما هو في البخاريِّ، ولكن عند الحاكم في "مستدركه" أنه كان بعد عيسى - عليه السلام - نبيٌّ اسمه "خالد بن سِنَان"؛ بل ظاهرُه أنه كان قُبَيْل بعثة نبيِّنا ﷺ، ويُمْكِنُ أن يكونَ إطلاقُ الأَبِ فيه توسُّعًا، ومرَّ عليه الذهبيُّ، ولم يُنْكِرْ عليه، وليس إسنادُه بالقويِّ" [7].

قال ابن تيمية رحمه الله  : "وأَمَّا من اتَّبَعَ دِينًا مُبَدِّلًا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أو دِينًا منسوخًا، فهذا قد خرج عن دين الإسلام؛ كاليهود الذين بدَّلوا التوراة كذَّبوا المسيح - عليه السلامُ - ثم كذَّبوا مُحَمَّدًا ﷺ، والنصارى الذين بدَّلوا الإنجيل وكذَّبوا مُحَمَّدًا ﷺ، فهؤلاء ليسوا على دين الإسلام الذي كان عليه الأنبياء؛ بل هم مخالفون لهم فيما كذَّبوا به من الْحَقّ،ِ وابتدعوه من الباطل" [8]..

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 489).
  2. "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص 455، 456).
  3. "شرح النوويّ على مسلم" (15/ 120).
  4. "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 201، 202).
  5. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (5/ 416).
  6. "العقيدة التدمرية" لابن تيمية (ص 167-169).
  7. "فيض الباري على صحيح البخاري" للديوبنديِّ (4/ 402).
  8. مجموع الفتاوى (27/ 370، 371).


مشاريع الأحاديث الكلية