غريب الحديث:
«لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ»: ليَكُنْ العِلْمُ هَنِيئًا لك[1].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنه ناداه قائلاً: «يَا أَبَا الْمُنْذِر»، كنَّاه النبيُّ ﷺ تلطُّفًا معه.
قال ﷺ: «أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟»؛ أي: هل تعلم أيُّ آيةٍ مما تحفظ من كتاب الله هي أعظمُ؟
قَالَ أُبَيٌّ: (قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)؛ أي: يقول: لا أعلم، وهذا في حياة النبيِّ ﷺ أما بعدَ وفاته فيُقال: الله أعلم.
قَالَ ﷺ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ:
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
أجاب أُبيٌّ بأن أعظم آية هي آية الكرسيِّ.
قال أُبيٌّ: (فَضَرَبَ فِي صَدْرِي)؛ لسرور النبيِّ ﷺ من إجابته وعِلمه، وحِكمتِه في الردِّ على السؤال في المرَّتين. وَقَالَ ﷺ: «وَاللهِ، لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ»؛ أي: ليَكُنْ العِلْمُ هَنِيئًا لك.
الشرح المفصَّل للحديث:
في هذا الحديث يحكي أُبَيُّ بنُ كعبٍ موقفًا له مع النبيِّ ﷺ، يبيِّن فيه كيف كان النبيُّ ﷺ يعلِّم أصحابه، ويتلطَّف معهم، ويَعرِف لهم قَدرَهم، وكيف يطرح عليهم المسألة ليفقِّههم في دينهم.
قوله ﷺ: «يا أبا الْمُنذِر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله تعالى معك أعظمُ؟ قلت: الله ورسوله أعلم»: يتلطَّف النبيُّ ﷺ مع صاحبه فيُكنِّيه، ولا يناديه باسمه المجرَّد؛ تأليفًا لقلبه، ويسأله: هل تَعلَم أيُّ آية من القرآن الذي تَحفَظه أعظمُ أجرًا وأكثرُ ثوابًا؟ وإنما سأله في بداية الأمر ليستقرَّ الجواب في صدره ويهتمَّ به، فكان ردُّ أُبيٍّ أنْ رَدَّ العلمَ إلى الله عزَّ وجلَّ، ورسولِه ﷺ؛ تعظيمًا له، ورعايةً للأدب بين يديه ﷺ، ثم أعاد النبيُّ ﷺ السؤال عليه، فأجاب أُبيٌّ بما عنده من علم
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
يعني: آية الكرسيِّ.
وقد تكلَّم العلماء في سبب تَكرار السؤال من النبيِّ ﷺ على أُبيٍّ، وفي عدم الجواب من أُبيٍّ في المرَّة الأولى، وجوابه في الثانية، "وأما جوابه أولًا بقوله: (الله ورسوله أعلم)، وثانيًا: بما أتى به، فهو أن سؤال الرسول ﷺ الصحابيَّ في باب العلم، إما أن يكون للحثِّ على الاستماع؛ لِما يريد أن يُلقيَ عليه، أو الكشفِ عن مقدار فَهمه، ومَبلَغ عِلمه، فلَمَّا راعى الأدب بقوله: (الله ورسوله أعلم)، ورآه لا يكتفي بذلك، وأعاد السؤال، عَلِم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب عنه، ويمكِن أن يُقال: إنه ما عَلِم أولًا، وأحال عِلمه إلى الله عزّ وجلَّ، وإلى رسوله ﷺ، فشرَحَ الله صدره بقذف النور، وأَعلَمه، فأجاب بما أجاب، ألا ترى كيف هنَّأه ﷺ بقوله: «لِيَهْنِكَ»"[1].
وقيل: فوَّض الجواب أولًا، وأجاب ثانيًا؛ لأنه جوَّز أن يكون حَدَثَ أَفضليَّة شيءٍ من الآيات غير التي كان يَعلَمها، فلمَّا كَرَّر عليه السؤال وأعاده بقوله: «يا أبا الْمُنذِر، أتدري أيُّ آية من كتاب اللَّه تعالى معك أعظم؟»، ظنَّ أن مُراده ﷺ طلب الإخبار عمَّا عنده، فأخبرَه بقوله:
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[2].
"كان أُبيٌّ يَعلَم أي آية أعظم حين سأله رسول الله ﷺ عن ذلك؛ ولكن لم يُجبْه تعظيمًا له ﷺ، وتواضعًا عن نفسه؛ فإنه لو أجابه أوَّلَ ما سأله، لكان إظهارًا لعلمه، ويُحتمَل أنه سكت عن الجواب؛ لتوقُّع أن رسول الله ﷺ يُخبره بآيةٍ أخرى أنها أعظمُ، أو يُخبره بفائدة، فلمَّا كرَّر السؤال، علم أنه ﷺ يطالبه بالجواب، ويريد امتحان حِفظه ودرايته فيما أَخبَره قبلَ هذا، فأجابه بأن أعظمَ الآيات آيةُ الكرسيِّ؛ لأن فيها بيانَ أن لا إله إلا الله، وبيانَ كونِه حيًّا قيُّومًا، وأن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وأن مُلك السماوات والأرض له، وبيانَ قهرِه وعظمته، بحيث لا يَقدِر أحد على الشفاعة إلا بأمره، وبيانَ أنه يعلم جميع الأشياء، ماضيها ومستقبلها، وبيانَ أنه لا يَعلَم الغيب أحدٌ غيره إلا هو إلا بتعليمه، وبيان أن كرسيَّه عظيمٌ بحيث السماواتُ والأرض فيه كحَلْقة في مَفازة، وبيانَ أنه تعالى يحفظ السماوات والأرض بحيث لا يصل إليه ثِقَلٌ وتَعَب، وبيانَ أنه أعلى من كلِّ شيء، وأعظم من كلِّ شيء، وهذه الأشياء ليست موجودةً مجموعة في آية سوى هذه الآية"[3].
وفي قوله ﷺ لأُبيٍّ رضي الله عنه: «أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» حجَّة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر الكتب المنزَّلة، فذهب إلى جوازه إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وغيرُه من العلماء والمتكلِّمين مستدِلًّا بهذا الحديث، وذلك راجع إلى عِظَم أجر قارئ ذلك، وجزيل ثوابه على بعضه أكثرُ من سائره، ومنع ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعريُّ، والقاضي أبو بكر، وجماعة من الفقهاء، قالوا: لأن الأفضل يُشعِر بنقص المفضول، وكلامُ الله تعالى لا نقصَ فيه، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: "أفضل وأعظم" لبعض الآي والسور فمعناه: عظيم وفاضل[4].
قال أبُيٌّ: (فضرب في صدري)» ضربه ﷺ في صدره؛ إشارةً إلى انشراحه، وامتلائه علمًا وحكمةً، وهذا تلطُّف منه ﷺ؛ ليتمكَّن العلمُ في صدره، وتنشيطٌ له، وترغيبٌ في أن يزداد علمًا وبصيرة، وفَرَحٌ بما ظهر عليه من آثاره المباركة[5].
قوله ﷺ: «ليهنك العلمُ يا أبا المنذر»؛ أصلها: يَهْنِيك العلم، واللامُ هنا لام الأمر؛ أي: ليكن العلمُ هنيئًا مريئًا، وهذا دعاءٌ له بتيسير العلم له ورسوخه فيه، وظاهرُه أمرٌ للعلم بأن يكون هنيئًا له، ومعناه الدعاءُ، وحقيقتُه إخبارٌ على سبيل الكناية بأنه راسخٌ في العلم، ومُجيدٌ فيه[6].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
- "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للإتيوبيِّ (16/ 395).
- "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 74).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 178)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (2/ 435).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (2/ 436).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
النقول:
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "«أتدري أيُّ آية» اسمٌ معرَب يُستفهَم به، وهو لازمَ الإضافة، ولك أن تُلحِق به تاء التأنيث في إضافته إلى المؤنَّث، ولك أن تَترُكها. وقوله: «معك» وقع موقع البيان لِمَا كان يَحفَظه من كتاب الله؛ لأن «مع» كلمة تدلُّ على المصاحَبة. "وأما جوابه أولًا بقوله: (الله ورسوله أعلم)، وثانيًا: بما أتى به، فهو أن سؤال الرسول ﷺ الصحابيَّ في باب العلم، إما أن يكون للحثِّ على الاستماع؛ لِما يريد أن يُلقيَ عليه، أو الكشفِ عن مقدار فَهمه، ومَبلَغ عِلمه، فلَمَّا راعى الأدب بقوله: (الله ورسوله أعلم)، ورآه لا يكتفي بذلك، وأعاد السؤال، عَلِم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب عنه، أقول: يمكِن أن يُقال: إنه ما عَلِم أولًا، وأحال عِلمه إلى الله، وإلى رسوله، فشرَحَ الله صدره بقذف النور، وأَعلَمه، فأجاب بما أجاب، ألا ترى كيف هنَّأه ﷺ بقوله: «لِيَهْنِكَ»"[1].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقولُه - عليه السلام - لأبىٍّ: «أتدري أيُّ آية من كتاب الله أعظم»، وذِكْر آية الكرسيِّ، فيه حجَّةٌ للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ، وغيرُه من العلماء والمتكلِّمين، وذلك راجعٌ إلى عِظَم أجر قارئ ذلك، وجزيلُ ثوابه على بعضه أكثرُ من سائره، وهذا مما اختَلَف أهل العلم فيه، فأبى ذلك الأشعريُّ والباقلَّانيُّ وجماعةٌ من الفقهاء وأهل العلم؛ لأن مقتضى الأفضل نقصُ المفضول عنه، وكلامُ الله لا يتبعَّض، قالوا: وما وَرَد من ذلك بقوله: "أفضل وأعظم" لبعض الآي والسور فمعناه: عظيمٌ وفاضل. وقيل: كانت آية الكرسيِّ أعظمَ لأنها جَمَعت أصول الأسماء والصفات... وقولُه لأبيٍّ حين أخبره بذلك، وأنها آية الكرسيِّ: «ليَهنِك العلمُ أبا المنذر»، وضَرْبُه صدرَه، فيه تنشيطُ المعلِّم لِمَن يعلِّمه إذا رآه أصاب، وتَنْوِيهه به، وسروره بما أَدرَكه من ذلك، وفى الخبر إلقاءُ المعلِّم على أصحابه المسائلَ لاختبار معرفتهم، أو ليعلِّمهم ما لعلَّهم لم يَنتبِهوا للسؤال عنه، ويُحتمَل جوابُ أبيٍّ مما قد سمعه قبلُ منه، عليه السلام"[2].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقال: «ليَهنِكَ العلمُ أبا المنذر»؛ يعني: هنَّأه، حيث عَلِم أن أعظم آية في كتاب الله (آيةُ الكرسيِّ)؛ لأن هذه الآية مشتملةٌ على عشْرِ صفات من صفات الله عزَّ وجلَّ؛ يقول عزَّ وجلَّ:
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
ففي هذا إخلاص التوحيد لله عزَّ وجلَّ، ومعنى (لا إله إلا هو)؛ أي: لا معبود بحقٍّ إلا هو جلَّ وعلا؛ فجميع المعبودات من دون الله معبودةٌ بغير حقٍّ، حتى وإن سمِّيَت آلهةً؛ فإنما هي أسماءٌ سمَّوْها ما أنزل الله بها من سلطان. (الحيُّ القيُّوم)؛ يعني: الكاملَ في حياته وفي قيُّوميَّته؛ فهو الحيُّ الكامل في حياته، لم يَسبِق حياتَه عَدَمٌ، ولا يَلحَقها فناءٌ؛ لأنه الأول الذي ليس قبلَه شيءٌ، والآخِر الذي ليس بعدَه شيءٌ... فهو سبحانه وتعالى الحيُّ الكامل في حياته، كذلك حياتُه لا يَلحَقها نقصٌ بوجه من الوجوه، وحياة غيره كلُّها نقصٌ، انظر حياتك أنت، إن جئتَ بالسمع، فسمعُكَ ناقصٌ، لا تَسمَع كلَّ شيء. البصرُ كذلك، الصحة كذلك، وما أكثرَ الأمراضَ التي تُصيب الناس! وهكذا بقية أسباب الحياة ناقصة.
أما الربُّ عزَّ وجلَّ فهو كامل الحياة. القيُّوم معناها القائم بنفسه، القائمُ على غيره؛ يعني معنى القائم بنفسه: لا يحتاج لغيره
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}
فهو قائم بنفسه، لا يحتاج لأحد، قائم على غيره، كلُّ مَن سواه فإن القائم عليه هو الله عزَّ وجلَّ... إذًا (القيُّوم) له معنيان: القائم بنفسه، والقائمُ على غيره"[3].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "إنما كانت آية الكرسي أعظمَ آية؛ لأنها مشتملة على أمَّهات المسائل الإلهية، فإنها دالَّة على أنه تعالى واحدٌ في الإلهية، متَّصِف بالحياة، قائمٌ بنفسه، مقوِّم لغيره، منزَّه عن التحيُّز والحلول، مبرَّأ عن التغيُّر والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالكُ الْمُلك والملكوت، مبدِع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يَشفَع عنده إلا من أَذِن له، العالِمُ وحدَه بالأشياء كلِّها، جَلِيِّها وخَفِيِّها، كُلِّيِّها وجُزئيِّها، واسعُ الْمُلك والقدرة، ولا يؤودُه شاقٌّ، ولا يَشغَله شأن، مُتعالٍ عمَّا يُدركه وهم، عظيمٌ لا يحيط به فَهم"[4].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "الْأَوْلَى أن يُقال: فوَّض أوّلًا أدبًا، وأجاب ثانيًا طَلبًا؛ جمعًا بين الأدب والامتثال كما هو دأب أرباب الكمال، قال الطِّيبيُّ: سؤاله - عليه الصّلاة والسّلام - من الصّحابيّ قد يكون للحثِّ على الإسماع، وقد يكون للكشف عن مقدار علمه وفَهمه، فلمّا راعى الأدب أوّلًا، ورأى أنّه لا يكتفي به، علم أنّ المقصود استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب، وقيل: انكشف له العلم من اللّه تعالى، أو من مدد رسوله ببركة تفويضه وحسن أدبه في جواب مُساءلته، قيل: وإنّما كانت آية الكرسيِّ أعظمَ آية لاحتوائها واشتمالها على بيان توحيد اللّه وتمجيده وتعظيمه، وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكلُّ ما كان من الأذكار في تلك المعاني أبلغ، كان في باب التّدبُّر والتّقرّب به إلى اللّه أجلَّ وأعظم. (قال) - أي: أُبيٌّ -: (فضرب)؛ أي: النّبيّ ﷺ: (في صدري)؛ محبّةً، وفيه إشارة إلى امتلاء صدره علمًا وحكمةً. (وقال: ليهنك العلم) وفي نسخة: (ليهنئْكَ) بهمزة بعد النّون على الأصل، فحُذف تخفيفًا؛ أي: ليكن العلم هنيئًا لك[5].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «ليَهنِك العِلْمُ»: يُقال: هَنَأَنِي الطعامُ يَهْنَؤُني، وهَنِئتُ الطعامَ؛ أي: تهنَّأتُ به، وهو كلُّ أمرٍ يأتيك من غير تَعَب، والمعني: ليكن العلمُ هنيئًا لك. هذا دعاءٌ له بتيسير العلم له، ورسوخِه فيه، وإخبارٌ بأنه عالِم. وأقول: ظاهرُه أمرٌ للعِلم بأن يكون هنيئًا له، ومعناه الدعاءُ، وحقيقتُه إخبارٌ على سبيل الكناية بأنه راسخ في العلم، ومُجيد فيه؛ لأنه طبَّق المفصَّل، وأصاب المحز. وأما ضربُه في صدره، فتنبيهٌ على انشراحه، وامتلائه علمًا وحكمة"[6].
قال الحسين بن محمود المظهريُّ رحمه الله: "كان أُبيٌّ يَعلَم أي آية أعظم حين سأله رسول الله ﷺ عن ذلك؛ ولكن لم يُجبْه تعظيمًا له ﷺ، وتواضعًا عن نفسه؛ فإنه لو أجابه أوَّلَ ما سأله، لكان إظهارًا لعلمه، ويُحتمَل أنه سكت عن الجواب؛ لتوقُّع أن رسول الله ﷺ يُخبره بآيةٍ أخرى أنها أعظمُ، أو يُخبره بفائدة، فلمَّا كرَّر السؤال، علم أنه ﷺ يطالبه بالجواب، ويريد امتحان حِفظه ودرايته فيما أَخبَره قبلَ هذا، فأجابه بأن أعظمَ الآيات آيةُ الكرسيِّ؛ لأن فيها بيانَ أن لا إله إلا الله، وبيانَ كونِه حيًّا قيُّومًا، وأن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وأن مُلك السماوات والأرض له، وبيانَ قهرِه وعظمته، بحيث لا يَقدِر أحد على الشفاعة إلا بأمره، وبيانَ أنه يعلم جميع الأشياء، ماضيها ومستقبلها، وبيانَ أنه لا يَعلَم الغيب أحدٌ غيره إلا هو إلا بتعليمه، وبيان أن كرسيَّه عظيمٌ بحيث السماواتُ والأرض فيه كحَلْقة في مَفازة، وبيانَ أنه تعالى يحفظ السماوات والأرض بحيث لا يصل إليه ثِقَلٌ وتَعَب، وبيانَ أنه أعلى من كلِّ شيء، وأعظم من كلِّ شيء، وهذه الأشياء ليست موجودةً مجموعة في آية سوى هذه الآية"[7].
قال ابن تيمية رحمه الله: "أمّا الأوّل، فهو مسألة كبيرة، والنّاس متنازِعون فيها نزاعًا منتشرًا، فطوائف يقولون: بعض كلام اللّه أفضلُ من بعض كما نطقت به النّصوص النّبويّة؛ حيث أخبر عن الفاتحة أنّه لم يَنزِل في الكتب الثّلاثة مثلُها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنّها تعدل ثلث القرآن، وعدلها لثُلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف، وجعل آية الكرسيّ أعظم آية في القرآن؛ كما ثبت ذلك في الصّحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أنّ النّبيّ ﷺ قال لأبيّ بن كعب: «يا أبا المنذر، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت:
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليهنك العلم أبا المنذر»، وقال في المعوّذتين: لم ير مثلهنّ قطّ
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
فأخبر أنّه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من اللّه لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارةً، أو خير منها أخرى، فدلّ ذلك على أنّ الآياتِ تتماثل تارةً، وتتفاضل أخرى. وأيضًا فالتّوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام اللّه، مع علم المسلمين بأنّ القرآن أفضل الكتب الثّلاثة
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}
وقد سمّى اللّه القرآن كلّه مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدَّى الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشْرِ سور منه، أو بمثل سورة منه... والقول بأنّ كلام اللّه بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة"[8].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "فيه مَنقَبةٌ عظيمة لأبيٍّ، ودليلٌ على كثرة عِلمِه، وفيه تبجيلٌ للعالم، وتَكرِمة بالتَّكْنِيَة، وجوازُ مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحةٌ، ولم يخف عليه الإعجاب ونحوه؛ لرسوخه في التقوى. وقال القاضي عياض: فيه حجَّة القول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، خلافًا لمن مَنعَه، وقال: تفضيلُ البعض على البعض يقتضي نقصَ المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقصٌ. وأُجِيب بأن «أعظم» بمعنى عظيم، و«أفضل» بمعنى فاضل. وقال إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ وغيره: المعنى راجعٌ إلى الثواب والأجر؛ أي: أعظمُ ثوابًا وأجرًا، وهو المختار.
وأقول: لا ريبَ أن القرآن من كونِه كلامَ الله تعالى، سواءٌ في الفضل والشرف؛ لكن يتفاوت بحسَبِ المذكور، فإن فضل سورة الإخلاص مثلاً على السورة التي يُذكَر فيها «تبَّت»؛ مما لا يخفى على كلِّ أحد مع أن الأسلوب من باب: هم كالحَلْقة المفرَغة لا يُدرى أين طرفاها؟ وقد مرَّ بيانُه مرارًا"[9].
قال العباد: "قوله: (قلت: الله ورسوله أعلم)، فيه دليلٌ على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم. وأما في زمنه ﷺ، فإنه كان إذا سألهم وكانوا لا يعلمون فإنهم يقولون: الله ورسوله أعلم. فيُعطيهم الجواب، وأما بعدَ ذلك، فليس لأيِّ إنسان إذا سُئل عن أيِّ شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم، فقد يُسأل عن قيام الساعة فيقال له: متى تقوم الساعة؟ فلا يصلح أن يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الرسول ﷺ لا يعلم متى قيام الساعة، فالذي يضاف إليه العلم على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعلم كلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
وأما الرسول ﷺ فإنه لا يَعلَم كلَّ غَيب، وقد أمر الله نبيَّه ﷺ أن يقول:
{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}
فلا يعلم من الغَيب إلا ما أَطلَعه الله عليه"[10].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 177، 178).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 684 - 686).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1462).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
- "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 74).
- "مجموع الفتاوى" (17/ 10 - 13).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
- "شرح الأربعين النووية" للعباد (8/ 9).