الفوائد العلمية
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
1. في الحديث بيان كيف كان النبيُّ ﷺ يعلِّم أصحابه، ويتلطَّف معهم، ويَعرِف لهم قَدرَهم، وكيف يطرح عليهم المسألة ليفقِّهَهم في دينهم.
2. ذكر العلماء أن سبب اختلاف جواب أُبيٍّ على سؤال النبيِّ ﷺ في المرَّتين: هو أن سؤال الرسول ﷺ الصحابيَّ في باب العلم، إما أن يكون للحثِّ على الاستماع؛ لِما يريد أن يُلقيَ عليه، أو الكشفِ عن مقدار فَهمه، ومَبلَغ عِلمه، فلَمَّا راعى الأدب بقوله: (الله ورسوله أعلم)، ورآه لا يكتفي بذلك، وأعاد السؤال، عَلِم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب عنه، وقيل: إن سبب اختلاف إجابته في المرتين: أنه ما عَلِم أولًا، وأحال عِلمه إلى الله عزّ وجلَّ، وإلى رسوله ﷺ، فشرَحَ الله صدره بقذف النور، وأَعلَمه، فأجاب بما أجاب، ألا ترى كيف هنَّأه ﷺ بقوله: «لِيَهْنِكَ»؟[1]، وقيل أيضًا: إن السبب أنه فوَّض الجواب أولًا، وأجاب ثانيًا؛ لأنه جوَّز أن يكون حَدَثَ أَفضليَّة شيءٍ من الآيات غير التي كان يَعلَمها، فلمَّا كَرَّر عليه السؤال وأعاده، ظنَّ أن مُراده ﷺ طلب الإخبار عمَّا عنده، فأخبرَه بقوله:
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[2].
3. في قول أُبيٍّ: (اللهُ ورسولُه أعلم) دليلٌ على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم، وقد كانوا في زمنه ﷺ، إذا سألهم ولا يعلمون فيقولون: الله ورسوله أعلم، فيُعطيهم الجواب، وأما بعدَ ذلك، فليس لأيِّ إنسان إذا سُئل عن أيِّ شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الذي يُضاف إليه العلم على الإطلاق
هو الله سبحانه وتعالي القائل:
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
وأما الرسول ﷺ فإنه لا يَعلَم كلَّ غَيب، وقد أمر الله نبيَّه ﷺ أن يقول:
{ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}
فلا يعلم من الغَيب إلا ما أَطلَعه الله عليه[3].
4. آية الكرسيِّ أعظمُ آية؛ لأنها مشتملة على أمَّهات المسائل الإلهية؛ فإنها دالَّة على أنه تعالى واحدٌ في الإلهية، متَّصِف بالحياة، قائمٌ بنفسه، مقوِّم لغيره، منزَّه عن التحيُّز والحلول، مبرَّأ عن التغيُّر والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالكُ الْمُلك والملكوت، مبدِع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يَشفَع عنده إلا من أَذِن له، العالِمُ وحدَه بالأشياء كلِّها، جَلِيِّها وخَفِيِّها، كُلِّيِّها وجُزئيِّها، واسعُ الْمُلك والقدرة، ولا يؤودُه شاقٌّ، ولا يَشغَله شأن، مُتعالٍ عمَّا يُدركه وَهم، عظيمٌ لا يحيط به فَهم[4].
5. الحديث فيه مَنقَبةٌ عظيمة لأبيٍّ، ودليلٌ على كثرة عِلمِه، وفيه تبجيلٌ للعالم، وتَكرِمة بالتَّكْنِيَة، وجوازُ مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحةٌ، ولم يُخَفْ عليه الإعجاب ونحوه؛ لرسوخه في التقوى[5].
6. في الحديث حجَّة القول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، خلافًا لمن مَنعَه، وقال: تفضيلُ البعض على البعض يقتضي نقصَ المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقصٌ. وأُجِيب بأن «أعظم» بمعنى عظيم، و«أفضل» بمعنى فاضل، والمعنى راجعٌ إلى الثواب والأجر؛ أي: أعظمُ ثوابًا وأجرًا[6].
7. القولُ بأنّ كلام اللّه بعضُه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السَّلف، وهو الّذي عليه أئمَّةُ الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة[7].
8. قيل: إنّما كانت آية الكرسيِّ أعظمَ آية؛ لاحتوائها واشتمالها على بيان توحيد اللّه وتمجيده وتعظيمه، وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العُلى، وكلُّ ما كان من الأذكار في تلك المعاني أبلغ، كان في باب التّدبُّر والتّقرُّب به إلى اللّه أجلَّ وأعظم[8].
9. قيل: إنّما كانت آية الكرسيِّ أعظمَ آية؛ لأن هذه الآية مشتملة على عشر صفات من صفات الله عزّ وجلّ؛ يقول عزّ وجلّ:
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
ففي هذا إخلاص التوحيد لله عزّ وجلّ، ومعنى (لا إله إلا هو)؛ أي: لا معبود بحقّ إلا هو جلّ وعلا؛ فجميع المعبودات من دون الله معبودة بغير حقٍّ، حتى وإن سُمِّيت آلهةً؛ فإنما هي أسماء سمَّوها ما أنزل الله بها من سلطان[9].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
- "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للإتيوبيِّ (16/ 395).
- "شرح الأربعين النووية" للعباد (8/ 9).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
- "مجموع الفتاوى" (17/ 13).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1462).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 684، 685).
الفوائد العقدية
10. (الحيُّ)؛ فالله هو الحيُّ الكامل في حياته، لم يَسبِق حياتَه عَدَمٌ، ولا يَلحَقها فناءٌ؛ لأنه الأول الذي ليس قبلَه شيءٌ، والآخِر الذي ليس بعدَه شيءٌ، فهو تعالى الحيُّ الكامل في حياته، كذلك حياتُه لا يَلحَقها نقصٌ بوجه من الوجوه، وحياة غيره كلُّها نقصٌ فالسمع والبصر والصحة، كل ذلك ناقصٌ، أما الربُّ عزَّ وجلَّ فهو كامل الحياة[1].
11. (القيُّوم) له معنيان: القائم بنفسه، والقائمُ على غيره؛ فالقائم بنفسه، لا يحتاج لغيره
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}
والقائمُ على غيره، فهو قائم على كلِّ مَن سواه تعالى [2].
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 685).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 685، 686).
الفوائد التربوية
12. في جواب أُبيٍّ: (اللهُ ورسولُه أعلم) بيان لفقهه وفَهمه وأَدَبِه مع الله تعالى ومع رسوله ﷺ، حيث وَكَل إجابة السؤال الذي خَفِيَ عنه إجابتُه إلى الله تعالى وإلى رسوله ﷺ، وفي هذا الجواب تنبيهٌ للمسلمين أن لا يتحرَّجوا من عدم الإجابة عن الأسئلة التي لا يعرفون إجابتها، فقد فَعَلها قبلَهم أكابرُ الصحابة رضوان الله عليهم، وأكثرُهم فقهًا وعلمًا، وأن لا يتجاسروا على الإفتاء بغير علم.
13. قولُه ﷺ لأبيٍّ حين أخبره بأنها آية الكرسيِّ: «ليَهنِك العلمُ أبا المنذر»، وضَرْبُه صدرَه، فيه تنشيطُ المعلِّم لِمَن يعلِّمه إذا رآه أصاب، وسروره بما أَدرَكه من ذلك.
14. في الحديث طريقة من طرق التعليم النبوية، وهي التعليم بطريقة السؤال والجواب، وهي أبلغ في الفَهم والانتباه والتركيز، حيث يُلقي المعلِّم على أصحابه المسائلَ لاختبار معرفتهم، أو ليعلِّمهم ما لعلَّهم لم يَنتبِهوا للسؤال عنه؛ ليستقرَّ الجوابُ في صدورهم ويهتمُّوا به.
15. رفق المعلِّم بمن يعلِّمه ويؤدِّبه، وتبجيل فُضلاء أصحابه، وتكنيتهم.
16. دعاء المعلم لمن يعلِّمه بالتيسير في طلب العلم والانتفاع والنفع به.
17. جواز مدح الإِنسان في وجهه، إذا أمن عليه الإِعجاب، وكان فيه مصلحة؛ كإظهار علمه ونحو ذلك.
الفوائد اللغوية
18. «أتدري أيُّ آية» (أيّ) هنا اسم استفهام لازم الإضافة، وهي مبتدأ مرفوع بالضمة؛ لأن الاستفهام يعلِّق عمل (درى) وأخواتها من أفعال القلوب، فلا تعمل في لفظها؛ بل تعمل في محلِّها فقط، فلو عطفتَ على (أيٍّ) اسمًا تَنصِبه، ويجوز إلحاق تاء التأنيث بها في إضافتها إلى المؤنَّث (أيَّةُ آية).
19. «لِيَهْنِكَ»؛ أصلها: لِيَهْنِئْكَ العلمُ، وخفِّفت الهمزةُ الساكنة، فصارت ياءً (يَهْنِيكَ) فاعتلَّ الفعل، والإعراب: اللامُ لام الأمر، و(يَهْنِ) فعل مضارع مجزوم بحذف الياء المتحوِّلة تخفيفًا عن الهمزة، والكاف ضمير مبنيٌّ على الفتح في محلِّ نصب مفعول به، والعلم: فاعل مرفوع بالضمة. إذن؛ أصل (لِيَهْنِئْكَ): يُقال: هَنَأَنِي الطعامُ يَهْنَؤُني، وهَنِئتُ الطعامَ؛ أي: تهنَّأتُ به، وهو كلُّ أمرٍ يأتيك من غير تَعَب، والمعني: ليكن العلمُ هنيئًا لك، فـ(العلم) فاعل، فظاهرُه أمرٌ للعِلم بأن يكون هنيئًا له، ومعناه الدعاءُ له بتيسير العلم له، وحقيقتُه إخبارٌ على سبيل الكناية بأنه راسخ في العلم.
20. قوله: «معك» وقع موقع البيان لِمَا كان يَحفَظه من كتاب الله؛ لأن «مع» كلمة تدلُّ على المصاحَبة.