المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال لِأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟»؛ أي: ألا يَستطيعُ أحدُكم أن يقرأ ثُلثَ القرآن في ليلة واحدة؟
قال أبو سعيد الخدريُّ: (فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ)؛ أي: فصَعُب عليهم ذلك؛ لأنهم فَهِموا أن النبيَّ ﷺ يَدعُوهم إلى قراءة ثُلث القرآن في ليلة واحدة، (وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!)؛ أي: لا يُطيق ذلك أحد منا.
فَقَالَ ﷺ: «اللهُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ»؛ يقصد أن سورة الإخلاص تَعدِل ثُلث القرآن.
الشرح المفصَّل للحديث:
يبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث فضل سورة الإخلاص، فيسأل الصحابةَ - رضوان الله عليهم - معلِّمًا لهم: «أَيعجِزُ أحدُكم أن يقرأ كلَّ ليلة ثُلث القرآن»، وهو استفهام استخباريٌّ، معناه: ألَا يستطيعُ أحدُكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة واحدة؟ فصَعُب عليهم ذلك؛ لأنهم فَهِموا أن النبيَّ ﷺ يَدعُوهم إلى قراءة ثُلث القرآن في ليلة واحدة، وقالوا: مَن يُطيق تحمُّل ذلك يا رسول الله؟ فلا يقدر على هذا العمل إلا القليل من الناس، فأخبرهم ﷺ أن قراءة سورة الإخلاص تَعدِل ثُلث القرآن.
قوله ﷺ: «الله الواحد الصمد ثُلث القرآن»؛ أي: سورة الإخلاص، كما ورد في رواية أخرى: «يقرأ: قل هو الله أحد؛ فهي ثُلث القرآن»، ويُحتمَل أن يكون سمَّى السورة بهذا الاسم؛ لاشتمالها على الصِّفتين المذكورتينِ، أو يكون بعضُ رواته كان يقرؤها كذلك[1].
وقد اختلف العلماء في معنى قوله ﷺ عن سورة الإخلاص: «تعدل ثلث القرآن» على عدَّة أوجه[2]:
أحدها: حَمَله بعض العلماء على ظاهره؛ فقال: هي ثُلثٌ باعتبار معاني القرآن؛ لأن مقاصد القرآن الكريم تنحصر في ثلاثة: ما يتعلَّق بذاته تعالى من التوحيد والصفات، وما يتعلَّق بأفعال العباد من الأحكام، وما يتعلَّق بالقصص وأحوال الأُمم، والسورة قد استوفَتِ القِسم الأول على أبلغ وجه.
ثانيها: أن ثواب قراءتها يَحصُل للقارئ مثل ثواب من قَرَأ ثُلث القرآن.
ثالثها: أن من عَمِل بما تضمَّنته من الإقرار بالتوحيد، والإذعان للخالق، كمن قرأ ثُلث القرآن.
ومن العلماء من توقَّف عن الكلام في معناه؛ كابن عبد البرِّ والسيوطيِّ والشوكانيِّ والزرقانيِّ، قالوا: السكوت في هذه المسألة وما كان مثلها أفضل من الكلام فيها وأسلم[3].
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (9/ 60).
- ينظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (24/ 82)، "فتح الباري" لابن حجر (9/ 61) بتصرُّف.
- "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 512).
النقول:
قال ابن بطَّال رحمه الله: "اختلف العلماء في معنى قوله: «إنها تعدل ثلث القرآن»، فقال أبو الحسن بن القابسيِّ: لعلَّ الرجل الذى بات يردِّد:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
كانت منتهى حِفظه، فجاء يقلِّل عمله؛ فقال له النبيُّ ﷺ: «إنها لتعدل ثلث القرآن»؛ ترغيبًا له في عمل الخير وإن قلَّ، ولله تعالى أن يجازيَ عبدًا على يَسيرٍ بأفضلَ مما يجازي آخَرَ على كثير، وقال غيرُه: معنى قوله: «إنها تعدل ثلث القرآن» أن الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء؛ أحدُها: القصص والعِبَر والأمثال، والثاني: الأمر والنهي والثواب والعقاب، والثالث: التوحيد والإخلاص، وتضمَّنت هذه السورة صفة توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والوالد والولد، فجَعَل لقارئها من الثواب كثواب من قَرَأ ثُلث القرآن"[1].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «أَيعْجزُ؟» الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: «الْوَاحِد الصَّمد» كِنَايَة عَن
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
فيها ذِكْرُ الإلهية والوَحْدة والصمدية"[2].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«تعدل ثلث القرآن» يعني: أجرُها كأجر ثُلث القرآن؛ لكنها لا تُجزئ عن القرآن؛ ولهذا لو قرأها الإنسان مثلاً ثلاثَ مرات بدَلَ قراءةِ الفاتحة في الصلاة لا تُجزئ؛ لأن هناك فرقًا بين المعادلة في الأجر، والمعادلة في الإجزاء، قد يكون الشيء معادِلاً لغيره في الأجر؛ ولكنه لا يعادله في إجزائه؛ أرأيتم مثلاً إذا قال الإنسانُ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشْرَ مرَّات، كان كمن أعتقَ أربعةَ أنفس من ولد إسماعيلَ، يعني يعادل عِتْقَ أربعة رقاب؛ لكن لو كان عليه عتقُ رقبة وقال ذلك، ما نفعه ذلك؛ فهناك فرقٌ بين المعادلة في الثواب، والمعادلة في الإجزاء؛ فهي تعدل ثلث القرآن في الثواب؛ ولكنها لا تعدل في الإجزاء؛ ولهذا لو قرأها الإنسان ثلاث مرات في الصلاة، لم تُجزئه عن الفاتحة"[3].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«أيَعْجِزُ أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» وهو استفهام استخباريٌّ، معناه: ألَا يستطيع أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة واحدة؟ «فشقَّ ذلك عليهم»؛ أي: فصَعُب عليهم ذلك؛ لأنهم فَهِموا أن النبيَّ ﷺ يدعوهم إلى قراءة ثلث القرآن في ليلة واحدة، «فقالوا: أيُّنا يُطيق ذلك؟»؛ أي: لا يَقدِر على هذا العمل إلا القليل من الناس. «فقال: اللهُ الواحد الصَّمَد ثُلث القرآن»؛ أي: سورة (قل هو الله أحد) تساوي ثلث القرآن في مضمونه ومعناه؛ لأن القرآن ثلاثةُ أقسام: توحيدٌ، وأحكام، وأخبار، وسورة الإخلاص تضمَّنت التوحيد. وقد دلَّ هذا الحديث على فضل سورة الإخلاص، وامتيازها بأنها تحوي في معناها ومضمونها ثُلث القرآن؛ لاشتمالها على التوحيد الذي هو أحدُ مقاصد القرآن الثلاثة، وقال بعض أهل العلم: إنها تساوي ثُلث القرآن في أجرها وثوابها"[4].
قال ابن عبد البرِّ رحمه الله: "السكوتُ في هذه المسألة وما كان مثلَها أفضلُ من الكلام فيها وأَسلَم"[5].
قال السيوطيُّ رحمه الله: "ذهب جماعة إلى أن هذا ونحوه من المتشابه الذي لا يُدرى تأويلُه، وإلى ذلك نحا أحمدُ بنُ حنبلٍ وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وإيَّاه أختار. قال ابن عبد البرِّ: السكوتُ في هذه المسألة أفضلُ من الكلام وأسلم"[6].
قال الزرقانيُّ رحمه الله: "السكوتُ في هذه المسألة وشِبْهِها أفضلُ من الكلام فيها وأسلم"[7].
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قد عُلِّل كونُها تَعدِل ثُلث القرآن بعِلَل ضعيفة واهية، والأحسنُ أن يقال: ذلك لسرٍّ لم نطَّلِع عليه، وليس لنا الكشفُ عن وجهه"[8].
قال البخاريُّ رحمه الله: "قوله: «اللهُ الصَّمَدُ»، والعَرَبُ تُسمِّي أشرافها الصَّمَدَ، قال أبو وائِلٍ: هو السَّيِّد الذي انتهى سُؤدَدُه"[9].
قال ابن تيمية رحمه الله: "والاسم (الصَّمَد) فيه للسّلف أقوال متعدِّدة، قد يُظنُّ أنّها مختلفة، وليس كذلك؛ بل كلُّها صواب، والمشهور منها قولان؛ أحدهما: أنّ الصّمد هو الّذي لا جوف له، والثّاني: أنّه السّيّد الّذي يُصمَد إليه في الحوائج"[10].
قال ابن الجَوزيِّ رحمه الله: "وفي (الصمد) أربعة أقوال؛ أحدها: أنه السيِّد الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائج، رواه ابن عباس عن رسول الله ﷺ، وروى عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابن عباس قال: الصَّمَد: السّيّد الذي كَمُل في سُؤْدَدَه. وقال أبو عبيدة: هو السيد الذي ليس فوقه أحد. والعرب تسمِّي أشرافها: الصَّمد؛ قال الأسدي:
لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعي بِخَيْرَيْ بَني أَسَدْ = بعمرِو بنِ مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ
وقال الزجَّاج: هو الذي ينتهي إليه السُّؤدَدُ، فقد صَمَد له كلُّ شيء؛ أي: قَصَد قَصْدَه. وتأويل صمود كلِّ شيء له: أن في كل شيء أثرَ صُنْعه. وقال ابن الأنباريِّ: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد: السيد الذي ليس فوقه أحد تَصمُد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم.
والثاني: أنه الذي لا جوف له، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، وعكرمة، والضحَّاك، وقتادة، والسُّدِّيُّ... والثالث: أنه الدائم. والرابع: الباقي بعد فناء الخلق، حكاهما الخطابيُّ وقال: أصحُّ الوجوه الأول؛ لأن الاشتقاق يَشهَد له؛ فإن أصل الصمد: القصد؛ يقال: اصْمُد صَمْدَ فلان؛ أي: اقصِدْ قصده؛ فالصمد: السيد الذي يُصمَد إليه في الأمور، ويُقصَد في الحوائج"[11].
قال ابن تيمية رحمه الله: ""أمّا الأوّل، فهو مسألة كبيرة، والنّاس متنازعون فيها نزاعًا منتشرًا، فطوائف يقولون: بعض كلام اللّه أفضل من بعض كما نطقت به النّصوص النّبويّة؛ حيث أخبر عن الفاتحة أنّه لم يَنزِل في الكتب الثّلاثة مثلُها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنّها تَعدِل ثُلث القرآن، وعَدْلُها لثُلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف، وجعل آية الكرسيِّ أعظم آية في القرآن؛ كما ثبت ذلك في الصّحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم
أنّ النّبيَّ ﷺ قال لأُبيِّ بنِ كعب:
«يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر»
وقال في المعوِّذتين: لم ير مثلهنّ قطُّ
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
فأخبر أنّه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من اللّه لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارةً، أو خير منها أخرى، فدلَّ ذلك على أنّ الآياتِ تتماثل تارةً، وتتفاضل أخرى. وأيضًا فالتّوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام اللّه، مع علم المسلمين بأنّ القرآن أفضل الكتب الثّلاثة
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}
وقد سمّى اللّه القرآن كلّه مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدَّى الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشْرِ سور منه، أو بمثل سورة منه... والقول بأنّ كلام اللّه بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة "[12].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قال القاضي عياض: فيه حجَّة القول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، خلافًا لمن مَنعَه، وقال: تفضيلُ البعض على البعض يقتضي نقصَ المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقصٌ. وأُجِيب بأن «أعظم» بمعنى عظيم، و«أفضل» بمعنى فاضل. وقال إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ وغيره: المعنى راجعٌ إلى الثواب والأجر؛ أي: أعظمُ ثوابًا وأجرًا، وهو المختار.
وأقول: لا ريبَ أن القرآن من كونِه كلامَ الله تعالى، سواءٌ في الفضل والشرف؛ لكن يتفاوت بحسَبِ المذكور، فإن فضل سورة الإخلاص مثلاً على السورة التي يُذكَر فيها «تبَّت»؛ مما لا يخفى على كلِّ أحد مع أن الأسلوب من باب: هم كالحَلْقة المفرَغة لا يُدرى أين طرفاها؟ وقد مرَّ بيانُه مرارًا"[13].
قال ابن بطال رحمه الله: "قراءة القرآن أفضلُ أعمال البرِّ كلِّها؛ لأنه لَمَّا كان مَن تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضلَ الناس وخيرَهم، دلَّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضلُ من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا، ما دام كلُّ من علَّمه تاليًا"[14].
قال النوويُّ رحمه الله: "وأما قوله ﷺ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»، فمعناه ظاهرٌ؛ أي: تنتفع به إن تَلَوْتَه وَعَمِلْتَ به، وإلَّا فهو حُجَّةٌ عليك"[15].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 251).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (20/ 34).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 676).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (5/ 81).
- "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 512).
- "تنوير الحوالك شرح موطَّأ مالك" للسيوطيِّ (1/ 164).
- "شرح الزرقانيِّ على الموطأ" (2/ 28).
- "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" للشوكانيِّ (ص: 412).
- "صحيح البخاريِّ" (6/ 222).
- "مجموع الفتاوى" (17/ 214).
- "زاد المسير في علم التفسير" (4/ 506).
- "مجموع الفتاوى" (17/ 10 - 13).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 265).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 102).