عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)﴾[العلق: ١ – ٣]»، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ. فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا:إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ،وَتَحْمِلُ الكَلَّ،وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ،وَتَقْرِي الضَّيْفَ،وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ" متفق عليه.

عناصر الشرح

غريب الحديث[1]

(الرؤيا الصالحة): الرؤيا الصادقة، وهي التي يجري في اليقظة ما يوافِقُها.

(فَلَق الصُّبح): ضياؤه ونوره، ويُقال هذا في الشيء الواضح البيِّن.

(الخلاء): الانفراد والخَلْوة.

(بغار حراء): الغار هو النَّقْبُ في الجبل، وحِرَاءٌ: اسمٌ لجبل معروف في مكة.

(يَنزِع): يَرجِع.

(ما أنا بقارئ): لا أعرف القراءة ولا أُحسِنُها.

(فغطَّني): ضمَّني وعَصَرني حتى حَبَس نَفَسي، وفي رواية (غتَّني) بالمعنى نفسه.

(الجهد): بضمِّ الجيم وفتحها، الغاية والمشقَّة.

(أرسلني): أَطلَقني.

(عَلَق): جَمْعُ عَلَقة، وهي الْمَنيُّ بعد أن يتحوَّل إلى دمٍ غليظ متجمِّد.

(يَرجُف فؤاده): يَخفِق قلبُه، ويتحرَّك بشدَّة.

(زمِّلوني): لُفُّوني وغطَّوني.

(الرَّوع): الفَزَع.

(ما يُخزِيك): لا يُذِلُّكَ ولا يُضَيِّعُك.

(لتَصِل الرحم): تُكرِم القَرَابة وتواسيهم.

(تحمل الكَلَّ): تقوم بشأن من لا يستقِلُّ بأمره.

(تَكسِب المعدوم): تتبرَّع بالمال لمن عَدِمه، وتُعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك.

(تَقْرِي الضَّيف): تهيِّئ للضيف القِرى، وهو ما يُقدَّم للضيف من طعام وشراب.

(نوائب الحق): النوائب: جمعُ نائبة، وهي ما يَنزِل بالإنسان من الحوادث الْمُهمَّات، وأُضِيفت إلى الحقِّ لأنها تكون في الحقِّ والباطل.

(تَنصَّر): تَرَك عبادة الأوثان، واعتنق النصرانية.

(الناموس): هو صاحب السِّرِّ، والمرادُ جبريلُ - عليه السلام - سُمِّيَ بذلك لاختصاصه بالوحيِ.

(فيها): في حين ظهور نُبوَّتك.

(جَذَع): شابٌّ، والجَذَع في الأصل: الصغيرُ من البهائم، ثم استُعير للشابِّ من الإنسان.

(يومك): يوم إخراجك، أو يوم ظهور نبوَّتك، وانتشار دينك.

(مؤزَّرًا): قويًّا، من الأَزْر، وهو القوَّة.

(يَنشَب): يَلبَث.

(فتر الوحيُ): تأخَّر عن النزول مدَّةً من الزمن.

المراجع

  1. انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (12/ 3715)، "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 197)، "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 479).


المعنى الإجماليُّ للحديث

تروي أُمُّ المُؤْمِنِينَ عائشةُ رضي الله عنها كيف بدأ الوحيِ للنبيِّ ﷺ، قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ)؛ أي: جاءت رؤياه مثلَ ضياء الصُّبح واضحةً بيِّنة، (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاءُ)؛ أي: الخَلْوة، (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ) وحراء جَبَلٌ معروفٌ بمكَّةَ، (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِه)؛ أي: يتعبَّد لياليَ في خَلْوَته بالغار قبل أن يرجع إلى أهله، (وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا)؛ أي: يتزوَّد بحاجته من ماء وطعام، فإذا انتهى، رجع لخديجة فتزوَّد لخَلْوة مثلِها.

حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»؛ أي: لا أعرف القراءة.

قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي»؛ أي: ضمَّني وعَصَرني حتى حَبَس نَفَسي، «حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي»؛ أي: حتى بلغ مني غاية المشقَّة، ثم أَطلَقني، «فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)

[العلق: ١ – ٣]

 فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ)؛ أي: رجع يَخفِقُ قلبُه ويتحرَّك بشِدَّة.

فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»؛ أي: لُفُّوني وغطَّوني. (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ)؛ أي: حتى ذهب عنه الفَزَع، (فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا)؛ أي: لا يُذِلُّكَ ولا يُضَيِّعُك؛ فلك من مكارم الأخلاق أفضلُها: (إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ): تصل أرحامك وقرابتك، وتُكرمهم وتواسيهم، (وَتَحْمِلُ الكَلَّ): وتحمل وتقوم بشأن من لا يستقِلُّ بأمره، (وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ): وتتبرَّع بالمال لمن عَدِمه، وتُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك، (وَتَقْرِي الضَّيْفَ): وتُكرِم الضيف، فتُهيِّئ له القِرى، وهو ما يقدَّم للضَّيف من طعام وشراب، (وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ): وتُعين على الحوادث التي تنزل بالإنسان في الحقِّ.

(فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى) والناموس: هو صاحب السرِّ، والمراد جبريلُ - عليه السلام - سُمِّيَ بذلك لاختصاصه بالوحيِ.

(يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا)؛ أي: شابًّا قويًّا، (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)؛ أي: ليتني أكون حيًّا حين يُخرِجُك قَوْمُك.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا)؛ أي: أنصرك بكلِّ قوَّة.

(ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ)؛ أي: ثم لم يَلبَث ورقةُ أن مات.

(وَفَتَرَ الوَحْيُ)؛ أي: تأخَّر عن النُّزول مدَّةً من الزمن.

الشرح المفصَّل للحديث

لقد أَرسَل الله تعالى رسولَه ﷺ إلى الناس كافَّةً، على حين فَتْرةٍ من الرُّسل، فهَدى به إلى أقوم الطُّرق، وأَوضَح السُّبل، وافترض على العباد محبَّتَه وطاعتَه، وتوقيرَه، والقيام بحقوقه، وسَدَّ إلى الجنَّة جميع الطرق، فلم يُفتَح لأحد إلَّا من طريقه، فلا مَطْمَعَ في الفَوز بجزيل الثواب، والنَّجاةِ من وَبِيل العقاب، إلَّا لَمن كان خَلْفَه من السالكين، ولا يؤمن عبدٌ حتى يكون أحبَّ إليه من نفسِه وولدِه ووالدِه والناس أجمعين، وصلَّى اللهُ وملائكته وأنبياؤه ورُسلُه وجميع عباده المؤمنين عليه، وهو خاتم النبيِّين، وأمَّتُه خيرُ أمَّة أُخرِجت للناس.

 وكانت مرحلة ما قبل الوحي دليلًا على نبوَّته ﷺ، بأخلاقه الكريمة، التي استدلَّت بها خديجة - رضي الله عنها – على أن ما حدث في غار حراء هو خير، وقد جعل الله تعالى أخلاق النبيِّ ﷺ من دلائل نبوَّته

فقال تعالى للنبيِّ ﷺ:

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ

[القلم : 4]

فوَصَفه الله تعالى وخصَّه بما أعطاه من عظيم الأخلاق ما يدلُّ على عظمته ﷺ، وعظمةِ رسالة الإسلام، ومن ثَمَّ صارت أخلاقه ﷺ دليلًا نقليًّا في القرآن، ودليلًا عقليًّا على نبوَّته ﷺ؛ فأنَّى يكون صاحب هذه الأخلاق العظيمة دَعيًّا يفتري على الله الكذب؛ وهو النَّمُوذج الذي وضعه الله للبشر ليتأسَّوْا به، وأخبرهم أنه على خُلق عظيم؟!

وإن أوَّل من آمن برسالة النبيِّ ﷺ كأم المؤمنين خديجة وأبي بكر الصديق، آمنوا به ﷺ بدليل مكارم أخلاقه فقط؛ فلم يكن قد نزل القرآن، ولم يروا معجزاتٍ للنبيِّ ﷺ إنما كانت مكارم النبيِّ ﷺ وأخلاقه العظيمة وكماله البشريُّ هو دليلَهم الوحيد لصدق النبيِّ، واستحالة أن يفتريَ الكذب.

وفي هذا الحديث تروي أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عائشةُ - رضي الله عنها - كيف بدأ الوحيُ للنبيِّ ﷺ، قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ) والرؤيا الصالحةُ هي الرؤيا الصادقة. (فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ)، وفَلَقُ الصُّبْحِ: هو ضياؤه، وإنّما يُقال هذا في الشّيء الواضح البيِّن. وفي ابتدائه ﷺ بالرُّؤيا حكمةٌ من الله تعالى، وتدريج لنبيِّه ﷺ لما أراده الله تعالى به؛ لئلَّا يَفْجَأَه الْمَلَكُ، ويأتيَه صَريح النبوَّة بَغْتةً، فلا تَحتمِلها القوى البشرية، فبُدئ بأوَّل خصال النُّبوَّة وتباشير الكرامة من صدق الرُّؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضَّوء وسماع الصَّوت، وسلام الحَجَر والشَّجَر عليه بالنُّبوَّة، حتى استشعر عظيمَ ما يُراد به، واستعَدَّ لما يَنتظِره، فلم يأتِه الْمَلَك إلا لأمر عنده مقدِّماتُه وبشاراته.[1]

وكانت الرؤيا الصالحة هي تباشيرَ النبوَّة؛ "لأنه لم يقع فيها ضِغْثٌ، فيتساوى مع الناس في ذلك؛ بل خُصَّ بصدقها كلِّها، وكذلك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقرأ:

إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ

[الصافات: 102]

، فتمَّم الله عليه النبوَّة، بأن أرسل إليه الْمَلَك في اليقظة، وكَشَف له عن الحقيقة، فكانت الأولى في النَّوم، وصحَّة ما يوحى إليه فيه؛ توشيحًا للنبوَّة وابتدائها، حتى أكملها الله له في اليقظة؛ تفضُّلًا من الله تعالى، وموهبةً خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاتِه، والله ذو الفضل العظيم"[2].

(ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاءُ)؛ أي: الخَلْوة، وهي شأن الصَّالحين، وعبادِ اللَّه العارفين، فحُبِّبت العُزلة إليه ﷺ لأنَّ معها فراغَ القلب، وهي مُعينة على التَّفكُّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشَّع قلبُه. (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ): وحراء جَبَلٌ معروفٌ بمكَّةَ، والغارُ نَقْبٌ فيه. (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِه)؛ أي: يتعبَّد لياليَ في خَلْوَته بالغار قبل أن يرجع إلى أهله. "وخلوته ﷺ بغار حراء وتحنُّثه: فيه تنبيه على فضل الخَلْوة والعُزلة، وثمرة التفرُّغ لذكر الله؛ فإن ذلك يُريح السِّرَّ من الشُّغل بغير الله، ويُقِلُّ الهمَّ بأمور الدنيا، ويُخلي القلب عن التعلُّق والركون لأهلها، فيصفو، وتنفجر ينابيعه بالحكمة، وتُشرق جوانبه بالحقائق والمعرفة، ويَفيض عليه من نفحات فضل الله وأنوار رحمته ما قُدِّر له"[3].

(وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا)؛ أي: يتزوَّد بحاجته من ماء وطعام، فإذا انتهى، رجع لخديجة فتزوَّد لخَلْوة مثلِها، "وتَزوُّدُه ﷺ في تحنُّثه يردُّ قول الصوفية: إن من أَخلَص لله أنزل الله عليه طعامًا، والرسولُ ﷺ كان أَوْلى بهذه المنزلة؛ لأنه أفضلُ البشر، وكان يتزوَّد"[4].

(حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»؛ أي: لا أعرف القراءة. قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي»؛ أي: ضمَّني وعَصَرني حتى حَبَس نَفَسي. وفيه دليلٌ على أن الإنسان يُذكَّر ويُنبَّه إلى فعل الخير، وإن كان عليه فيه مشقَّة.

قال: «حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي»؛ أي: حتى بلغ مني غاية المشقَّة، ثم أَطلَقني، «فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ».

"قوله: (فغطَّني)، ثلاث مرات، فيه دليلٌ على أن المستحبَّ في مبالغة تكرير التنبيه، والحضِّ على التعليم، ثلاثُ مرَّات. وقد رُوي عنه ﷺ أنه كان إذا قال شيئًا، أعاده ثلاثًا؛ للإفهام، وقد استدلَّ بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمَر المؤدِّب أن لا يضرب صبيًّا أكثرَ من ثلاث ضربات"[5].

"وهذا الغطُّ من جبريل له - عليهما السلام - شَغْلٌ له عن الالتفات إلى شيء من أمر الدنيا، وإشعار بالتفرُّغ لما أتاه به؛ وإنما كان ذَلك ليبلُوَ صبره، ويُحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كُلِّفه من أعباء النُّبُوَّة؛ ولذلك كان يعتريه مثل حال الْمَحموم، ويَأخُذه الرُّحَضَاءُ – أي: العَرَق - وذلك يدلُّ على ضعف القوَّة البشرية والوَجَل؛ لتوقُّع تقصير فيما أُمِر به"[6].

قوله ﷺ: «ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)

"هذا دليل صريح في أنّ أوَّل ما نَزَل من القرآن (اقرأ)، وهذا هو الصّواب الّذي عليه الجماهير من السَّلف والخَلَف، واستدلَّ بهذا الحديث بعضُ من يقول: إنّ (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) ليست من القرآن في أوائل السّور؛ لكونها لم تُذكَر هنا، وجواب الْمُثبِتين لها أنّها لم تَنزِل أوّلًا؛ بل نزلت البسملة في وقت آخَرَ كما نزل باقي السُّورة في وقتٍ آخَرَ"[7].

(فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ)؛ أي: رجع يَخفِقُ قلبُه ويتحرَّك بشِدَّة. (فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»)؛ أي: لُفُّوني وغطَّوني بالثياب. (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ)؛ أي: حتى ذهب عنه الفَزَع. (فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»).

"وقوله: «لقد خشيتُ على نفسي»: ليس بمعنى الشكِّ فيما أتاه من الله؛ لكنه عساه خَشِيَ أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يَقدِر على حمل أعباء الوحي، فتَزهَق نفسُه، أو ينخلع قلبُه؛ لشِدَّة ما لَقِيَه أوَّلًا عند لقاء الْمَلَك"[8].

"ولا خلافَ بين أهل التحقيق أنه قبل نبوَّته ﷺ وسائر الأنبياء مُنشرِح الصَّدر بالتوحيد، والإيمان بالله، لا يليق به الكُفر ولا الشكُّ في شيء من ذلك، ولا الجهلُ به، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك، خلافًا لمن جوَّزه... تَظَاهَرت الأخبار الصحيحة عنه ﷺ وعن غيره من الأنبياء بصحَّة معرفتهم بالله، وهدايتهم من صِغَرهم، وتجنُّبهم عبادةَ غير الله، فقد عيَّرت قريش نبيَّنا والأممُ أنبياءهم، ورَمَتهم بكلِّ آفة، ورامت نقصَهم بكلِّ جهة، وبرَّأهم الله مما قالوا، ولو كان أحدُهم عَبَدَ معهم معبودَهم وأَشرَك بشِركهم قبل نبوَّته، لعَيَّروه بِتَلَوُّنه في معبوده، وقرَّعوه بفراق ما كان معهم عليه من ديانته، وكان ذلك أبلغَ في تأنيبهم لهم من أمرهم بمفارقة معبود آبائهم"[9].

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: (كَلَّا): للنفي والإبعاد. (وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا)؛ أي: لا يَفضَحُك ولا يُهينُك؛ بلُ يُثبِّتُكَ حتى لا يُنسَبَ إليك كَذِبٌ فيما قُلتَه، ولا يُسَلَّط عليك شيطانٌ، وهذا تأنيسٌ منها للنبيِّ ﷺ. ثم أخذت تعدِّد مكارم أخلاقه:

(إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ): تصل أرحامك وقرابتك، وتُكرمهم وتواسيهم. وصلة الرَّحِم: هي الإحسان إلى الأقارب على حَسَبِ حال الواصل والموصول، فتارةً تكون بالمال، وتارةً بالخِدمة، وتارةً بالزّيارة والسّلام، وغير ذلك.

(وَتَحْمِلُ الكَلَّ): وتحمل وتقوم بشأن من لا يستقِلُّ بأمره، ويَدخُل في حَمل الكَلِّ: الإنفاقُ على الضَّعيف واليتيم والعيال، وغير ذلك، وهو من الكَلَال، وهو الإعياء.

(وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ) وتتبرَّع بالمال لمن عَدِمه، وتُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك.

"أمّا معنى (تكسِب المعدوم)، فمن رواه بالضّمِّ، فمعناه: تُكسب غيرَك المالَ المعدومَ؛ أي: تُعطيه إيَّاه تبرُّعًا، فحَذَف أحد المفعولين، وقيل: معناه: تُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد، ومكارم الأخلاق، وأمّا رواية الفتح، فقيل معناها كمعنى الضّمِّ، وقيل: معناها: تَكسِب المالَ المعدومَ، وتُصيب منه ما يَعجِز غيرُك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادَحُ بكسب المال المعدوم، لا سيَّما قُريشٌ"[10].

(وَتَقْرِي الضَّيْفَ): وتُكرِم الضَّيف، فتُهيِّئ له القِرى، وهو ما يُقدَّم للضَّيف من طعام وشراب.

(وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ): وتُعِين على الحوادث التي تنزل بالإنسان في الحقِّ، فالنّوائب جمع (نائبة)، وهي الحادثة، وإنما قالت: (نوائب الحقِّ)؛ لأنّ النّائبة قد تكون في الخير والحقِّ، وقد تكون في الباطل والشّرِّ.

"معنى كلام خديجةَ - رضي اللّه عنها -: إنّك لا يُصيبك مكروه؛ لِما جعل اللّه فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشّمائل، وذَكَرت ضُروبًا من ذلك، وفي هذا دلالة على أنّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السَّلامة من مَصارع السُّوء، وفيه مدحُ الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ لِمصلحة نظر، أو فيه تأنيس مَن حَصَلت له مخافة من أمر، وتبشيره، وذكر أسباب السّلامة له، وفيه أعظمُ دليل وأبلغُ حُجَّة على كمال خديجةَ - رضي اللّه عنها - وجَزالة رأيِها، وقوَّة نفسها، وثبات قلبها، وعِظَم فِقهها"[11].

(فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: صار نصرانيًّا، والجاهليَّةُ ما قبل رسالته ﷺ، سُمُّوا بذلك لِما كانوا عليه من فاحش الجهالة، (وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ)؛ أي: أنّه تمكَّن من معرفة دين النّصارى، بحيث إنّه صار يتصرَّف في الإنجيل، فيَكتُب أيَّ موضع شاء منه بالعِبرانيّة إن شاء، وبالعربيّة إن شاء، (وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى) وناموس الرجل: صاحب سرِّه، وكلُّ شيء سَتَرت فيه شيئًا فهو ناموسٌ له هو صاحب السرِّ، والمراد جبريلُ - عليه السلام - سُمِّيَ بذلك لاختصاصه بالوحي.

قول ورقة: (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا)؛ أي: يا لَيتني في أيَّام النّبوَّة ومُدَّتها، (جَذَعًا)؛ أي: شابًّا قويًّا؛ حتّى أبالغ في نُصرتك. (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)؛ أي: ليتني أكون حيًّا حين يُخرِجُك قَوْمُك.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قَالَ: (نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ)؛ فهو طريق صراع مع الكفر والباطل، لن يكون ممهَّدًا؛ بل طريق الابتلاء والآلام وترك الديار، (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ)؛ أي: يومُ إخراجك، أو يوم ظهور نبوَّتك، وانتشار دينك، (أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا)؛ أي: أنصرْك بكلِّ قوَّة، وأُعِينُك.

(ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ)؛ أي: ثم لم يَلبَث ورقةُ أن مات، (وَفَتَرَ الوَحْيُ)؛ أي: تأخَّر عن النُّزول مدَّةً من الزمن.

المراجع

  1. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 197، 198).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 482).
  4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36).
  5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
  6. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 483).
  7. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199، 200).
  8. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 484، 485).
  9. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 479 - 481).
  10. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 201).
  11. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202).


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "وقوله (أنّ عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان أوَّل ما بُدئ به رسول اللّه ﷺ من الوحي الرّؤيا الصّادقة) هذا الحديث من مراسيل الصّحابة - رضي اللّه عنهم - فإنّ عائشة - رضي اللّه عنها - لم تدرك هذه القضيَّة، فتكون قد سمعتها من النّبيِّ ﷺ أو من الصّحابيِّ، وقد قدَّمنا في الفصول أنَّ مُرسَل الصّحابيِّ حُجَّة عند جميع العلماء؛ إلَّا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسْفَرايينيُّ، واللّه أعلم. وقولها - رضي اللّه عنها -: (الرّؤيا الصّادقة)، وفي رواية البخاريِّ - رحمه اللّه – (الرّؤيا الصّالحة)، وهما بمعنًى واحدٍ، وفى (من) هنا قولان؛ أحدهما: أنها لبيان الجنس، والثاني: للتبعيض، ذكرهما القاضي. وقولُها: (فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فَلَق الصُّبح). قال أهل اللّغة: فَلَقُ الصُّبْحِ، وفَرَقُ الصُّبح، بفتح الفاء واللّام والرّاء: هو ضياؤه، وإنّما يُقال هذا في الشّيء الواضح البيِّن. قال القاضي - رحمه اللّه - وغيره من العلماء: إنما ابتدئ ﷺ بالرّؤيا لئلَّا يَفْجَأه الْمَلَك ويأتيه صريح النبوَّة بَغْتةً فلا يَحتمِلها قوى البشرية، فبُدئ بأوَّل خصال النُّبوَّة وتباشير الكرامة من صدق الرُّؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضَّوء وسماع الصَّوت، وسلام الحَجَر والشَّجَر عليه بالنُّبوَّة"[1].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "(أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح)". قال المهلَّب: هي تباشير النبوَّة وكيفية بَدْئِها؛ لأنه لم يقع فيها ضِغْثٌ، فيتساوى مع الناس في ذلك؛ بل خُصَّ بصدقها كلِّها، وكذلك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقرأ:

 إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ

[الصافات: 102]

، فتمَّم الله عليه النبوَّة، بأن أرسل إليه الْمَلَك في اليقظة، وكَشَف له عن الحقيقة، فكانت الأولى في النَّوم، وصحَّة ما يوحى إليه فيه؛ توشيحًا للنبوَّة وابتدائها، حتى أكملها الله له في اليقظة؛ تفضُّلًا من الله تعالى، وموهبةً خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاتِه، والله ذو الفضل العظيم. قال غيره: وتَزوُّده ﷺ في تحنُّثه يردُّ قول الصوفية: إن من أَخلَص لله أنزل الله عليه طعامًا، والرسولُ ﷺ كان أَوْلى بهذه المنزلة؛ لأنه أفضلُ البشر، وكان يتزوَّد. وقال المهلَّب: قوله: (فغطَّني) فيه من الفقه أن الإنسان يذكَّر وينبَّه إلى فعل الخير، وإن كان عليه فيه مشقَّة. وقال أبو الزناد: قوله: (فغطَّني)، ثلاث مرات، فيه دليلٌ على أن المستحبَّ في مبالغة تكرير التنبيه، والحضِّ على التعليم، ثلاثُ مرَّات. وقد رُوي عنه ﷺ أنه كان إذا قال شيئًا، أعاده ثلاثًا؛ للإفهام، وقد استدلَّ بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمَر المؤدِّب أن لا يضرب صبيًّا أكثرَ من ثلاث ضربات"[2].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: (أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة)": في هذا حكمة من الله تعالى، وتدريج لنبيِّه ﷺ لما أراده الله - جلَّ اسمه – به؛ لئلَّا يَفْجَأَه الْمَلَك، ويأتيَه صريح النبوَّة بغتَةً، فلا تحتملها قُوى البشرية، فبدأ أمره بأوائل خصال النبوَّة وتباشير الكرامة، من صدق الرؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضَّوء، وسَماع الصوت، وسلام الحَجَر والشجر عليه بالنبوَّة، حتى استشعر عظيم ما يُراد به، واستعَدَّ لما ينتظره، فلم يأته الْمَلَك إلا لأمر عنده مقدِّماته وبشاراته.

وفيه أن الرؤيا الصادقة أحد خصال النبوَّة، وتباشير الكرامة، وجزء منها، وأوَّل منازل الوحي، وأَنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ، وحقٌّ صدقٌ، لا أضغاث فيها، ولا سبيل للشيطان إليها.

وقال أبو عبيد الله القزاز: قوله: "من الوحي": (من) هنا لإبانة الجنس، كأنه قال: من جنس الوحي، وليس من الوحي، فتكون (من) للتبعيض، ولذلك قال: في النَّوم. ورؤيا الأنبياء في الصحَّة كالوحي. قال القاضي: قد جاء في الحديث أنها جزء من أجزاء النبوَّة، وقد قدَّمنا أنها من جملة خصالها، والوحيُ أنواع وضروب، وينطلق على معانٍ، فلا يَبعُد أن تكون (من) للتبعيض على هذا، وأصلُه الإعلام، ورؤيا الْمَنام إعلامٌ وإنذار وبِشارة.

واختلف الناس: هل كان متعبَّدًا قبل نبوَّته بشريعة أم لا؟ فقال بعضهم: إنه غيرُ متعبَّد أصلًا، ثم اختلف هؤلاء: هل ينتفي ذلك عقلًا أم نقلًا؟ فقال بعض المبتدِعة: ينتفي عقلًا؛ لأن في ذلك تنفيرًا عنه، وغضًّا من قدره إذا تنبَّأ عند أهل تلك الشريعة التي كان من جُملتهم، ومن كان تابعًا، فيَبعُد منه أن يكون متبوعًا، وهذا خطأٌ، والعقل لا يُحيل هذا. وقال الآخرون من حذَّاق أهل السنَّة: إنما ينتفي ذلك من جهة أنه لو كان، لنُقِلَ، ولتَدَاولته الأَلْسُن، وذُكِر في سيرته؛ فإن هذا مما جرَت العادةُ بأنه لا ينكتم. وقال غير هاتين الطائفتين: بل هو مُتعبَّدٌ، ثم اختلفوا أيضًا: هل كان متعبَّدًا بشريعة إبراهيم أو غيره من الرسل؟ فقيل في ذلك أقوال، ويُحتمَل أن يكون المراد بقوله: 

أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا

[النحل: ١٢٣]

في توحيد الله وصفاته. قال القاضي: ولا خلافَ بين أهل التحقيق أنه قبل نبوَّته ﷺ وسائر الأنبياء مُنشرِح الصَّدر بالتوحيد، والإيمان بالله، لا يليق به الكُفر ولا الشكُّ في شيء من ذلك، ولا الجهلُ به، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك، خلافًا لمن جوَّزه. وحُجَّةُ المانعين منه الطريقان المتقدِّمان، والصحيحُ منهما النَّقل، فلو كان شيء من ذلك، لنُقِل؛ بل تَظَاهَرت الأخبار الصحيحة عنه ﷺ وعن غيره من الأنبياء بصحَّة معرفتهم بالله، وهدايتهم من صِغَرهم، وتجنُّبهم عبادةَ غير الله، فقد عيَّرت قريش نبيَّنا والأممُ أنبياءهم، ورَمَتهم بكلِّ آفة، ورامت نقصَهم بكلِّ جهة، وبرَّأهم الله مما قالوا، ولو كان أحدُهم عَبَدَ معهم معبودَهم وأَشرَك بشِركهم قبل نبوَّته، لعَيَّروه بِتَلَوُّنه في معبوده، وقرَّعوه بفراق ما كان معهم عليه من ديانته، وكان ذلك أبلغَ في تأنيبهم لهم من أمرهم بمفارقة معبود آبائهم"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولُها: (ثمَّ حُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حِرَاء يتحنَّث فيه - وهو التَّعبُّد - اللّياليَ أولاتِ العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوَّد، ثمّ يرجع إلى خديجةَ - رضى الله عنها - فيتزوَّد لمثلها، حتى فَجِئَه الحقُّ). أمّا الخَلاء، فمَمْدودٌ، وهو الخَلْوة، وهي شأن الصَّالحين، وعبادِ اللَّه العارفين. قال أبو سليمانَ الخطَّابيُّ - رحمه اللّه -: حُبِّبت العُزلة إليه ﷺ لأنَّ معها فراغ القلب، وهي مُعينة على التَّفكُّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشَّع قلبُه، واللّه أعلمُ. وأمّا الغارُ، فهو الكَهْف والنَّقْبُ في الجبل، وجَمْعُه: غِيرَانٌ، وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ، وتَصغيرُ الْغَارِ: غُوَيْرٌ، وأمَّا حِرَاءٌ، فبكسر الحاء الْمُهملة، وتخفيف الرَّاءِ، وَبِالْمَدِّ، وهو مصروفٌ ومذكَّر، هذا هو الصّحيح، وقال القاضي: فيه لغتان: التّذكيرُ والتّأنيث، والتّذكير أكثرُ، فمن ذكَّره صَرَفه، ومن أنَّثه لم يَصرِفه، أراد البُقعة أو الجهة الّتي فيها الجَبَلُ. قال القاضي: وقال بعضُهم فيه: حَرَى (بفتح الحاء والقصر)، وهذا ليس بشيء. قال أبو عمر الزّاهد، صاحب ثعلبٍ، وأبو سليمان الخطّابيُّ وغيرهما: أصحاب الحديث والعَوَامُّ يُخطئون في حِرَاءٍ في ثلاثةِ مواضعَ؛ يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الرّاء وهي مفتوحة، ويَقصُرون الألف وهي ممدودة، وحراءٌ جبل بينه وبين مكَّةَ نحوُ ثلاثةِ أميال عن يسار الذَّاهب من مكَّةَ إلى منًى، واللّه أعلم. وأمّا التَّحنُّث، فقد فسَّره بالتَّعبُّد، وهو تفسير صحيح. وأصل الحِنْث: الإثمُ، فمعنى يتحنَّث يتجنَّب الحِنث، فكأنّه بعبادته يَمنَع نفسه من الحِنث، ومِثْلُ يتحنَّث: يتحرَّج ويتأثَّم؛ أي: يتجنَّب الحَرَج والإثم، وأمّا قولُها: (الليالي أولات العدد)، فمتعلِّق بـ(يتحنَّث)، لا بـ(التّعبُّد)، ومعناه: يتحنَّث اللّياليَ، ولو جُعِل متعلِّقًا بالتّعبُّد، فَسَد المعنى؛ فإنّ التّحنُّث لا يُشترط فيه اللَّيالي؛ بل يُطلَق على القليل والكثير، وهذا التّفسير اعتَرَض بين كلام عائشةَ - رضي اللّه عنها - وأمّا كلامُها، فيتحنَّث فيه اللّياليَ أولاتِ العدد، واللّه أعلمُ. وقولُها: (فَجِئه الحقُّ)؛ أي: جاءه الوحيُ بغتةً؛ فإنّه ﷺ لم يكن متوقِّعًا للوحيِ، ويُقال: فَجِئه بكسر الجيم وبعدها همزةٌ مفتوحة، ويُقال: فَجَأه بفتح الجيم والهمزة، لغتان مشهورتان، حكاهما الجَوهريُّ وغيره"[4].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وخلوته ﷺ بغار حراء وتحنُّثه: فيه تنبيه على فضل الخَلْوة والعُزلة، وثمرة التفرُّغ لذكر الله؛ فإن ذلك يُريح السِّرَّ من الشُّغل بغير الله، ويُقِلُّ الهمَّ بأمور الدنيا، ويُخلي القلب عن التعلُّق والركون لأهلها، فيصفو، وتنفجر ينابيعه بالحكمة، وتُشرق جوانبه بالحقائق والمعرفة، ويَفيض عليه من نفحات فضل الله وأنوار رحمته ما قُدِّر له".

"وقوله: "حتى فَجِئه الحقَّ"؛ أي: أتاهُ بمرةٍ، يُقال: فجئ، بكسر الجيم، يَفجَأ، وفَجَأ، بفتحها أيضًا. وقولُه: "اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ"، قال الإمام: قيل: "ما" هاهنا نافية، وقيل: استفهامية؛ كأنه قال ﷺ: أيَّ شيء أقرأ؟ وقد ضعَّفوا الاستفهام بإدخال الباء، ولو كان استفهامًا، لقال: ما أنا قارئ، وإنما تدخل الباء على "ما" النافية، فتكون الباءُ تأكيدًا للنفي.

قال القاضي: يصحِّح من قال: إنها للاستفهام، روايةُ من روى: "ما أقرأ"، وقد يصحُّ أيضًا أن تكون هنا "ما" نافية. وهذا الغطُّ من جبريل له - عليهما السلام - إشغال له عن الالتفات إلى شيء من أمر الدنيا، وإشعار بالتفرُّغ لما أتاه به، وفِعْلُ ذلك ثلاثًا فيه تنبيهٌ على استحباب تَكرار التنبيه ثلاثًا. وقد استدلَّ به بعضُهم على جواز تأديب الْمُعَلِّم للمتعلِّمين ثلاثًا. وقال أبو سليمان: وإنما كان ذَلك ليبلُوَ صبره، ويُحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كُلِّفه من أعباء النُّبُوَّة؛ ولذلك كان يعتريه مثل حال الْمَحموم، ويَأخُذه الرُّحَضَاءُ – أي: البهرُ والعَرَق - قال: وذلك يدلُّ على ضعف القوَّة البشرية والوَجَل؛ لتوقُّع تقصير فيما أُمِر به، وخَوف أن يقول غيره: هذا معنى ما أطال به في هذا"[5].

قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «ما أنا بقارئ»؛ معناه: لا أُحسِن القراءة؛ فـ(ما) نافية، هذا هو الصَّوابُ، وحكى القاضي عياض - رحمه اللّه - فيها خلافًا بين العلماء؛ منهم من جعلها نافيةً، ومنهم من جعلها استفهاميَّةً، وضعَّفوه بإدخال الباء في الخبر. قال القاضي: ويصحِّح قول من قال: استفهاميَّة، رواية من روى: «ما أقرأ»، ويصحّ أن تكون (ما) في هذه الرّواية أيضًا نافيةً، واللّه أعلم. قوله ﷺ: «فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني»، أمّا (غطّني) فمعناه: عَصَرني وضمَّني. يُقال: غَطَّه وغَتَّه وضَغَطَه وعَصَرَه وخَنَقه وغَمَزه، كلُّه بمعنًى واحدٍ، وأمّا الجَهد، فيَجُوز فتح الجيم وضمُّها، لغتان، وهو الغاية والمشقَّة، ويجوز نصب الدَّال ورفعها، فعلى النَّصْبِ: بَلَغ جبريلُ منّي الجهدَ، وعلى الرّفع: بَلَغ الجهدُ منّي مَبْلَغَه وغايتَه، وممّن ذكر الوجهين في نصب الدّال ورفعِها صاحبُ التّحرير وغيرُه. وأمّا (أرسلني)، فمعناه: أطلقني. قال العلماء: والحكمةُ في الغَطِّ شَغْلُه من الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لِما يقوله له، وكرَّره ثلاثًا مبالغةً في التنبيه؛ ففيه أنّه ينبغي للمعلِّم أن يحتاط في تنبيه المتعلِّم، وأمرِه بإحضار قلبه، واللّه أعلم. قوله ﷺ «ثمّ أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق» هذا دليل صريح في أنّ أوَّل ما نَزَل من القرآن (اقرأ)، وهذا هو الصّواب الّذي عليه الجماهير من السَّلف والخَلَف، وقيل: أوَّله (يا أيها المدَّثِّر)، وليس بشيء، واستدلَّ بهذا الحديث بعضُ من يقول: إنّ (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) ليست من القرآن في أوائل السّور؛ لكونها لم تُذكَر هنا، وجواب الْمُثبِتين لها أنّها لم تَنزِل أوّلًا؛ بل نزلت البسملة في وقت آخَرَ كما نزل باقي السُّورة في وقتٍ آخَرَ"[6].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «لقد خشيتُ على نفسي»: ليس بمعنى الشكِّ فيما أتاه من الله؛ لكنه عساه خَشِيَ أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يَقدِر على حمل أعباء الوحي، فتَزهَق نفسُه، أو ينخلع قلبُه؛ لشِدَّة ما لَقِيَه أوَّلًا عند لقاء الْمَلَك، أو أن يكون قولُه هذا لأوَّل ما رأى التباشير في النوم واليقظة، وسَمِعَ الصوت قبل لقاء الْمَلَك، وتحقيقه رسالةَ ربِّه، فيكون ما خاف أوَّلًا أن يكون من الشيطان، فأما مُنذ جاءه الْمَلك برسالة ربِّه، فلا يجوز عليه الشكُّ فيه، ولا يخشى من تسلُّط الشيطان عليه. وعلى هذا الطريق يُحمَل كلُّ ما وَرَدَ من مثل هذا في حديث المبعث. وقول خديجة - رضى الله عنها -: "لا يخزيك الله أبدًا": كذا قال يونسُ وعُقيل، بالخاء المعجَمة والياء، وقال معمر: "يَحزُنك" بالحاء المهملة والنون. ومعنى: "يُخزِيك": يَفضَحُك ويُهينُك؛ بلُ يُثبِّتُكَ حتى لا يُنسَبَ إليك كَذِبٌ فيما قُلتَه، ولا يُسَلَّط عليك شيطانٌ بتخبُّطه الذي حَذِرتَه. ومعنى "يُحْزِنُكَ"؛ أي: يوقع ما تخافه من ذلك. وهذا تأنيسٌ منها للنبيِّ ﷺ"[7].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولها (تَرْجُفُ بَوادِرُه)، ومعنى تَرجُف: تَرعَد وتَضطَرب، وأصلُه شِدَّة الحركة. قال أبو عُبيد وسائر أهل اللّغة والغريب: وهي اللَّحمَة الّتي بين الْمَنكِب والعُنُق تَضطرِب عند فزع الإنسان. قوله ﷺ: «زمِّلوني زمِّلوني» هكذا هو في الرّوايات، مكرَّر مرَّتين، ومعنى (زمّلوني): غَطُّوني بالثّياب ولُفُّوني بها، وقولها: (فزمَّلوه حتّى ذهب عنه الرَّوْعُ) هو بفتح الرّاء، وهو الفَزَع. قوله ﷺ: «لقد خَشِيتُ على نفسي». قال القاضي عياض - رحمه اللّه -: ليس هو بمعنى الشّكِّ فيما أتاه من اللّه تعالى؛ لكنّه ربَّما خَشِي أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يَقدِر على حمل أعباء الوحي، فتَزهَق نفسُه، أو يكون هذا لأوَّل ما رأى التَّباشير في النَّوم واليقظة، وسَمِع الصَّوت قبل لقاء الْمَلَك، وتحقيقه رسالة ربِّه، فيكون خاف أن يكون من الشّيطان الرّجيم، فأمّا منذ جاءه الْمَلَك برسالة ربِّه سبحانه وتعالى، فلا يجوز عليه الشّكُّ فيه، ولا يخشى من تسلُّط الشّيطان عليه، وعلى هذا الطّريق يُحمَل جميع ما ورد من مثل هذا في حديث البعث. هذا كلام القاضي رحمه اللّه في شرح صحيح مسلم، وذكر أيضًا في كتابه الشّفاء هذين الاحتمالين في كلام مبسوط، وهذا الاحتمال الثّاني ضعيف؛ لأنّه خلاف تصريح الحديث؛ لأنّ هذا كان بعد غطِّ الْمَلَك وإتيانه بـ(اقرأ باسم ربّك الّذي خلق) واللّه أعلم"[8].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولها: (قالت له خديجةُ: كلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ). أمّا قولُها: (كلّا) فهي هنا كلمة نفيٍ وإبعاد، وهذا أحدُ معانيها، وقد تأتي (كلّا) بمعنى (حقًّا)، وبمعنى (ألا) الّتي للتّنبيه، يُستفتَح بها الكلام، وقد جاءت في القرآن العزيز على أقسام، وقد جمع الإمام أبو بكر بنُ الأنباريِّ أقسامها ومواضعها في باب من كتابه "الوقف والابتداء"، وأمّا قولها: (لا يُخْزِيك)، فهو بضمِّ الياء، وبالخاء المعجمة، كذا هو في رواية يونسَ وعقيلٍ، وقال مَعمَر في روايته: (يُحْزِنك) بالحاء المهملة والنُّون، ويجوز فتح الياء في أوَّله وضمِّها، وكلاهما صحيحٌ، والخِزْيُ: الفضيحةُ والهَوان، وأمّا صلة الرَّحِم، فهي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارةً تكون بالمال، وتارةً بالخِدمة، وتارةً بالزّيارة والسّلام، وغير ذلك، وأمّا الكَلُّ، فهو بفتح الكاف، وأصلُه الثِّقْل... ويَدخُل في حَمل الكَلِّ الإنفاقُ على الضَّعيف واليتيم والعيال، وغير ذلك، وهو من الكَلَال، وهو الإعياء. وأمّا قولها: (وتَكسِب المعدوم)، فهو بفتح التَّاء، هذا هو الصّحيح المشهور، ونقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، قال: ورواه بعضهم بضمِّها. قال أبو العبَّاس ثعلبٌ، وأبو سليمانَ الخطَّابيُّ، وجماعاتٌ من أهل اللُّغة: يُقال: كَسَبتُ الرَّجُلَ مالًا، وأَكسَبْتُه مالًا، لُغتان، أَفصَحُهما باتِّفاقهم: كَسَبْتُه بحذف الألف، وأمّا معنى (تكسب المعدوم) فمن رواه بالضّمِّ، فمعناه: تُكسب غيرَك المالَ المعدومَ؛ أي: تُعطيه إيَّاه تبرُّعًا، فحَذَف أحد المفعولين، وقيل: معناه: تُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد، ومكارم الأخلاق، وأمّا رواية الفتح، فقيل معناها كمعنى الضّمِّ، وقيل: معناها: تَكسِب المالَ المعدومَ، وتُصيب منه ما يَعجِز غيرُك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادَحُ بكسب المال المعدوم، لا سيَّما قُريشٌ، وكان النّبيُّ ﷺ محظوظًا في تجارته، وهذا القول حكاه القاضي عن ثابت صاحب "الدّلائل"، وهو ضعيف أو غَلَط، وأيُّ معنًى لهذا القول في هذا الموطن إلَّا أنّه يمكِن تصحيحُه بأن يضمَّ إليه زيادة، فيكون معناه: تَكسِب المالَ العظيم الّذي يَعجِز عنه غيرُك، ثمَّ تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم، كما ذَكَرت من حَمل الكَلِّ، وصلة الرَّحِم، وقِرَى الضَّيف، والإعانة على نوائب الحقِّ، فهذا هو الصَّواب في هذا الحرف، وأمّا صاحب التّحرير، فجعل المعدوم عبارةً عن الرّجل المحتاج الْمُعدَم العاجز عن الكسب، وسمَّاه معدومًا لكونه كالمعدوم الميِّت، حيث لم يتصرَّف في المعيشة كتصرُّف غيره. قال: وذكر الخطّابيُّ أنّ صوابه (المعدَم) بحذف الواو. قال: وليس كما قال الخطّابيُّ؛ بل ما رواه الرُّواة صواب. قال: وقيل: معنى تَكسِب المعدوم؛ أي: تسعى في طلب عاجز تُنعِشه، والكسب هو الاستفادة، وهذا الّذي قاله صاحب التّحرير، وإن كان له بعض الاتّجاه كما حرَّرتُ لفظه، فالصّحيح المختار ما قدَّمتُه، واللّه أعلم. وأمّا قولها: (وتَقرِي الضّيف) فهو بفتح التّاء، قال أهل اللّغة: يُقال: قَرَيْتُ الضَّيف أَقْرِيه قِرًى بكسر القاف مقصور، وقِراءً بفتح القاف والمدِّ، ويُقال للطّعام الّذي يضيِّفه به: قِرًى بكسر القاف مقصور، ويُقال لفاعله: قَارٍ؛ مثل قضى فهو قاضٍ. وأمّا قولها: (وتُعين على نوائب الحقِّ)، فالنّوائب جمع (نائبة)، وهي الحادثة، وإنما قالت: نوائب الحقِّ؛ لأنّ النّائبة قد تكون في الخير، وقد تكون في الشّرِّ.

قال العلماء - رضي اللّه عنهم -: معنى كلام خديجةَ - رضي اللّه عنها -: إنّك لا يُصيبك مكروه؛ لِما جعل اللّه فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشّمائل، وذكرت ضُروبًا من ذلك، وفي هذا دلالة على أنّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السَّلامة من مَصارع السُّوء، وفيه مدحُ الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ لِمصلحة نظر، أو فيه تأنيس مَن حَصَلت له مخافة من أمر، وتبشيره، وذكر أسباب السّلامة له، وفيه أعظمُ دليل وأبلغُ حُجَّة على كمال خديجةَ - رضي اللّه عنها - وجَزالة رأيِها، وقوَّة نفسها، وثبات قلبها، وعِظَم فِقهها، واللّه أعلم"[9].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وقوله: الناموس الذي نزل الله على موسى. قال ابن دُريد: ناموس الرجل: صاحب سرِّه، وكلُّ شيء سترت فيه شيئًا فهو ناموسٌ له. وقال أبو عُبيد: الناموس جبريلُ ﷺ. وقوله: (نصرًا مؤزرًا)؛ أي: قويًّا، مأخوذ من الأَزْر، وهو القوَّة. وقيل: أزري: ظهري، خُصَّ الظَّهر؛ لأن القوَّة فيه. وقولُه: (ثم لم يَنشَب ورقة أن توفِّي وفتر الوحيُ)؛ أي: لم يَنشَب في شيء من الأمور، وكأن هذه اللفظة عند العرب عبارةٌ عن السُّرعة والعجلة"[10].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولُها: (وكان امْرًَا تنصَّر في الجاهليّة)؛ معناه: صار نصرانيًّا، والجاهليّة ما قبل رسالته ﷺ، سُمُّوا بذلك لِما كانوا عليه من فاحش الجهالة، واللّه أعلم. قولُها: (وكان يكتب الكتاب العربيَّ، ويكتب من الإنجيل بالعربيّة ما شاء اللّه تعالى أن يَكتُب) هكذا هو في مسلم (الكتاب العربيّ ويكتب بالعربيّة)، ووقع في أوّل صحيح البخاريّ (يكتب الكتاب العِبرانيّ) فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة، وكلاهما صحيح، وحاصلُهما أنّه تمكَّن من معرفة دين النّصارى، بحيث إنّه صار يتصرَّف في الإنجيل، فيَكتُب أيَّ موضع شاء منه بالعِبرانيّة إن شاء، وبالعربيّة إن شاء، واللّه أعلم. قولُها: (فقالت له خديجة - رضي اللّه عنها -: أيْ عمِّ، اسمع من ابن أخيك) وفي الرّواية الأخرى: (قالت خديجة: أيِ بنَ عمِّ) هكذا هو في الأصول، في الأوَّل (عم)، وفى الثاني (ابن عمِّ) وكلاهما صحيح، أما الثاني، فلأنه ابن عمِّها حقيقةً، كما ذكره أوّلًا في الحديث؛ فإنّه ورقةُ بنُ نوفلِ بنِ أسدٍ، وهي خديجةُ بنتُ خُويلدِ بنِ أسدٍ، وأمّا الأوَّل فسمَّته عمًّا مجازًا للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم، يخاطب الصَّغيرُ الكبيرَ بـ(يا عمِّ) احترامًا له، ورفعًا لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها: (يا بن عمِّ)، واللّه أعلم. قوله: (هذا النّاموس الّذي أُنزل على موسى ﷺ) النَّاموس بالنُّون والسِّين المهمَلة، وهو جبريلُ ﷺ. قال أهل اللّغة وغريبِ الحديث: النّاموس في اللّغة: صاحب سرِّ الخَير، والجاسوس صاحب سرِّ الشَّرِّ، ويُقال: نَمَسْتُ السِّرَّ أَنْمِسُهُ نَمْسًا؛ أَيْ: كَتَمْتُهُ، وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ، وَنَامَسْتُهُ: سَارَرْتُهُ، واتَّفَقوا على أنّ جبريل - عليه السّلام - يُسمَّى النّاموس واتَّفقوا على أنّه المراد هنا. قال الهَرَويُّ: سُمِّيَ بذلك لأنّ اللّه تعالى خَصَّه بالغَيب والوحيِ. وأمّا قوله: (الّذي أُنزل على موسى ﷺ)، فكذا هو في الصّحيحين وغيرهما، وهو المشهور، ورُوِّيناه في غير الصّحيح: (نزل على عيسى ﷺ) وكلاهما صحيح. قوله: (يا لَيتني فيها جَذَعًا): الضّمير فيها يعود إلى أيَّام النّبوَّة ومُدَّتها، وقوله: (جَذَعًا) يعني شابًّا قويًّا حتّى أبالغ في نُصرتك، والأصل في الجَذَع للدّوابِّ، وهو هنا استعارةٌ، وأمّا قوله: (جَذَعًا) فهكذا هو الرّواية المشهورة في الصّحيحين وغيرهما بالنَّصب. قال القاضي: ووقَع في رواية ابن ماهانَ (جَذَعٌ) بالرّفع، وكذلك هو في رواية الأَصِيليِّ في البخاريِّ، وهذه الرّواية ظاهرة، وأمّا النّصبُ، فاختلف العلماء في وجهِه، فقال الخطّابيُّ والمازريُّ وغيرهما: نُصِب على أنّه خبرُ كان المحذوفة، تقديرُه: ليتني أكون فيها جَذَعًا، وهذا يجيء على مذهب النَّحْويّين الكوفيّين، وقال القاضي الظّاهر: عندي أنّه منصوب على الحال، وخبر ليت قولُه: (فيها)، وهذا الّذي اختاره القاضي هو الصّحيح الّذي اختاره أهل التّحقيق والمعرفة من شيوخنا، وغيرهم ممَّن يُعتمَد عليه، واللّه أعلم. قوله: ﷺ: «أوَمخرجيَّ هم؟» هو بفتح الواو، وتشديد الياء، هكذا الرواية، ويجوز تخفيف الياء على وجه، والصحيحُ المشهور تشديدُها، وهو جمعُ (مُخرِج) فالياء الأولى ياء الجمع، والثّانية ضمير المتكلِّم، وفُتحت للتّخفيف؛ لئلَّا يجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين. قوله: (وإن يدركني يومُكَ)؛ أي: وقتُ خروجك. قوله: (أَنصُرك نصرًا مؤزَّرًا)؛ أي: قويًّا بالغًا"[11]. 

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 197، 198).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 479 - 481).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 198، 199).
  5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 482، 483).
  6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199، 200).
  7. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 484، 485).
  8. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 200).
  9. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 200 - 202).
  10. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (12/ 3715).
  11. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202 - 204).


مشاريع الأحاديث الكلية