الفوائد العلمية
في الحديث دليل على أخلاقه الكريمة ﷺ في مرحلة ما قبلَ الوحيِ، وهي دليلٌ على نبوَّته ﷺ، وقد استدلَّت بها خديجة - رضي الله عنها – على أن ما حدث في غار حراء هو خير.
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
، فجعل الله تعالى أخلاقه ﷺ من دلائل نبوَّته؛ فأنَّى يكون صاحب هذه الأخلاق العظيمة دَعيًّا يفتري على الله الكذب؟!
من آمن برسالة النبيِّ ﷺ قبل نزول القرآن، أو رؤية معجزات له؛ كأمِّ المؤمنين خديجةَ وأبي بكر الصدِّيق، كان دليلهم الوحيد لصدق النبيِّ، واستحالة أن يفتريَ الكذب، هو مكارمَه ﷺ، وأخلاقه العظيمة، وكماله البشريَّ.
قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقرأ:
إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
في الحديث تنبيه على فضل الخَلْوة والعُزلة، وثمرة التفرُّغ لذكر الله؛ فالخَلْوة هي شأن الصَّالحين، وعبادِ اللَّه العارفين، فحُبِّبت الخَلوة والعُزلة إليه ﷺ لأنَّ معها فراغَ القلب، وهي مُعينة على التَّفكُّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشَّع قلبُه، وذلك يُريح السِّرَّ من الشُّغل بغير الله، ويُقِلُّ الهمَّ بأمور الدنيا، ويُخلي القلب عن التعلُّق والركون لأهلها، فيصفو، وتنفجر ينابيعه بالحكمة، وتُشرق جوانبه بالحقائق والمعرفة، ويَفيض عليه من نفحات فضل الله وأنوار رحمته ما قُدِّر له[2].
تَزوُّدُه ﷺ في تحنُّثه ردٌّ على قول الصوفية: إن من أَخلَص لله أنزل الله عليه طعامًا، والرسولُ ﷺ كان أَوْلى بهذه المنزلة؛ لأنه أفضلُ البشر، وكان يتزوَّد[3].
في الحديث دليل على أن السيدة خديجة – رضي الله عنها – زوجه ﷺ كانت أولَ المؤمنين به من البشر على الإطلاق.
في الحديث دلالة على أنّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السَّلامة من مَصارع السُّوء.
في الحديث – من كلام خديجة - دليل على جواز مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ لِمصلحة، وفيه تأنيسُ مَن حَصَلت له مخافة من أمر، وتبشيرُه، وذِكْرُ أسباب السّلامة له[4].
في الحديث أعظمُ دليل وأبلغُ حُجَّة على كمال خديجةَ - رضي اللّه عنها - وجَزالة رأيِها، وقوَّة نفسها، وثبات قلبها، وعِظَم فِقهها[5].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 482).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202).
الفوائد الفقهية
11. قوله ﷺ «ثمّ أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق» هذا دليل صريح في أنّ أوَّل ما نَزَل من القرآن (اقرأ)، وهذا هو الصّواب الّذي عليه الجماهير من السَّلف والخَلَف، وقيل: أوَّله (يا أيها المدَّثِّر)، وليس بشيء[1].
12. قوله ﷺ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي»؛ أي: ضمَّني وعَصَرني حتى حَبَس نَفَسي. وفيه دليلٌ على أن الإنسان يُذكَّر ويُنبَّه إلى فعل الخير، وإن كان عليه فيه مشقَّة.
13. استدلَّ بهذا الحديث بعضُ من يقول: إنّ (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) ليست من القرآن في أوائل السّور؛ لكونها لم تُذكَر هنا، وجواب الْمُثبِتين لها أنّها لم تَنزِل أوّلًا؛ بل نزلت البسملة في وقت آخَرَ كما نزل باقي السُّورة في وقتٍ آخَرَ[2].
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199، 200).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199، 200).
الفوائد الحديثية
14. هذا الحديث من مراسيل الصّحابة - رضي اللّه عنهم - فإنّ عائشة رضي اللّه عنها لم تُدرك هذه القضيَّة، فتكون قد سمعتها من النّبيِّ ﷺ أو من الصّحابيِّ، ومُرسَل الصّحابيِّ حُجَّة عند جميع العلماء؛ إلَّا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسْفَرايينيُّ[1].
15. قولُها: (فقالت له خديجة - رضي اللّه عنها -: أيْ عمِّ، اسمع من ابن أخيك) وفي الرّواية الأخرى: (قالت خديجة: أيِ بنَ عمِّ) هكذا هو في الأصول، في الأوَّل (عم)، وفى الثاني (ابن عمِّ) وكلاهما صحيح، أما الثاني، فلأنه ابن عمِّها حقيقةً، كما ذكره أوّلًا في الحديث؛ فإنّه ورقةُ بنُ نوفلِ بنِ أسدٍ، وهي خديجةُ بنتُ خُويلدِ بنِ أسدٍ، وأمّا الأوَّل فسمَّته عمًّا مجازًا للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم، يخاطب الصَّغيرُ الكبيرَ بـ(يا عمِّ) احترامًا له، ورفعًا لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها: (يا بن عمِّ) [2].
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 197).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 203).
الفوائد التربوية
16. قوله: (فغطَّني)، ثلاث مرات، فيه دليلٌ على أن المستحبَّ في مبالغة تكرير التنبيه، والحضِّ على التعليم، ثلاث مرَّات. وقد رُوي عنه ﷺ أنه كان إذا قال شيئًا، أعاده ثلاثًا؛ للإفهام، وقد استدلَّ بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمَر المؤدِّب أن لا يضرب صبيًّا أكثرَ من ثلاث ضربات[1].
17. في الحديث إشارة إلى أن الغطَّ من جبريل له ﷺ شَغْلٌ له عن الالتفات إلى شيء من أمر الدنيا، وإشعار بالتفرُّغ لما أتاه به؛ وإنما كان ذَلك ليبلُوَ صبره، ويُحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كُلِّفه من أعباء النُّبُوَّة؛ ولذلك كان يعتريه مثل حال الْمَحموم، ويَأخُذه العَرَق، وذلك يدلُّ على ضعف القوَّة البشرية والوَجَل؛ لتوقُّع تقصير فيما أُمِر به[2].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 483).
الفوائد اللغوية
18. في قولها: (من الوحي) قولان؛ أحدهما: أنها لبيان الجنس؛ أي: من جنس الوحي، وليس من الوحي، والثاني: للتبعيض؛ أي: جزء من أجزاء الوحي، وقد جاء في الحديث أنها جزء من أجزاء النبوَّة.
19. الغارُ هو الكَهْفُ والنَّقْبُ في الجبل، وجَمْعُه: غِيرَانٌ، وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بمعنى الغار، وتصغير الغارِ: غُوَيْرٌ[1].
20. حِرَاءٌ: فيه لغتان: التّذكيرُ والتّأنيث، والتّذكير أكثرُ، فمن ذكَّره صَرَفه، ومن أنَّثه لم يَصرِفْه، أراد البُقعة أو الجهة الّتي فيها الجَبَلُ. وحراءٌ جبل بينه وبين مكَّةَ نحوُ ثلاثةِ أميال عن يسار الذَّاهب من مكَّةَ إلى منًى[2].
21. فُسِّر التَّحنُّث في الحديث بالتَّعبُّد، وهو تفسير صحيح. وأصل الحِنْث: الإثمُ، فمعنى يتحنَّث يتجنَّب الحِنث، فكأنّه بعبادته يَمنَع نفسه من الحِنث، ومِثْلُ يتحنَّث: يتحرَّج ويتأثَّم؛ أي: يتجنَّب الحَرَج والإثم[3].
22. قولُها: (الليالي أولات العدد)، متعلِّق بـ(يتحنَّث)، لا بـ(التّعبُّد)، ومعناه: يتحنَّث اللّياليَ، ولو جُعِل متعلِّقًا بالتّعبُّد، فَسَد المعنى؛ فإنّ التّحنُّث لا يُشترط فيه اللَّيالي؛ بل يُطلَق على القليل والكثير، وهذا التّفسير اعتَرَض بين كلام عائشةَ - رضي اللّه عنها - وأمّا كلامُها، فيتحنَّث فيه اللّياليَ أولاتِ العدد[4].
23. قولُها: (فَجِئه الحقُّ)؛ أي: جاءه الوحيُ بغتةً؛ فإنّه ﷺ لم يكن متوقِّعًا للوحيِ، ويُقال: فَجِئه بكسر الجيم وبعدها همزةٌ مفتوحة، ويُقال: فَجَأه بفتح الجيم والهمزة، لغتان مشهورتان، حكاهما الجَوهريُّ وغيره[5].
24. قوله ﷺ: «ما أنا بقارئ»؛ معناه: لا أُحسِن القراءة؛ فـ(ما) نافية، هذا هو الصَّوابُ، ومنهم من جعلها استفهاميَّةً، وضعَّفوه بإدخال الباء في الخبر، ولو كان استفهامًا، لقال: ما أنا قارئ، وإنما تدخل الباء على "ما" النافية، فتكون الباءُ تأكيدًا للنفي[6].
25. قوله ﷺ: «فغطّني» معناه: عَصَرني وضمَّني. يُقال: غَطَّه وغَتَّه وضَغَطَه وعَصَرَه وخَنَقه وغَمَزه، كلُّه بمعنًى واحدٍ[7].
26. «حتى بلغ مني الجهد» الجهد فيه لغتان: فتح الجيم وضمُّها، وهو الغاية والمشقَّة، ويجوز نصب الدَّال ورفعها، فعلى النَّصْبِ: بَلَغ جبريلُ منّي الجهدَ، وعلى الرّفع: بَلَغ الجهدُ منّي مَبْلَغَه وغايتَه[8].
27. قولُها: (كلّا) هي هنا كلمة نفيٍ وإبعاد، وهذا أحدُ معانيها، وقد تأتي (كلّا) بمعنى (حقًّا)، وبمعنى (ألا) الّتي للتّنبيه، يُستفتَح بها الكلام، وقد جاءت في القرآن العزيز على أقسام، وقد جمع الإمام أبو بكر بنُ الأنباريِّ أقسامها ومواضعها في باب من كتابه "الوقف والابتداء"[9].
28. قولها: (لا يُخْزِيك) بضمِّ الياء، وبالخاء المعجمة، وقال مَعمَر في روايته: (يُحْزِنك) بالحاء المهملة والنُّون، ويجوز فتح الياء في أوَّله وضمِّها (يَحْزُنك)، وكلاهما صحيحٌ، والخِزْيُ: الفضيحةُ والهَوان[10].
29. قولها: (وتَكسِب المعدوم)، فهو بفتح التَّاء، هذا هو الصّحيح المشهور، ورواه بعضهم بضمِّها (تُكسِب). يُقال: كَسَبتُ الرَّجُلَ مالًا، وأَكسَبْتُه مالًا، لُغتان، أَفصَحُهما باتِّفاقهم: كَسَبْتُه بحذف الألف، وأمّا معنى (تكسب المعدوم) فمن رواه بالضّمِّ، فمعناه: تُكسب غيرَك المالَ المعدومَ؛ أي: تُعطيه إيَّاه تبرُّعًا، فحَذَف أحد المفعولين، وقيل: معناه: تُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد، ومكارم الأخلاق، وأمّا رواية الفتح، فقيل معناها كمعنى الضّمِّ، وقيل: معناها: تَكسِب المالَ المعدومَ، وتُصيب منه ما يَعجِز غيرُك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادَحُ بكسب المال المعدوم، لا سيَّما قُريشٌ[11].
30. قولها: (وتَقرِي الضّيف) فهو بفتح التّاء، قال أهل اللّغة: يُقال: قَرَيْتُ الضَّيف أَقْرِيه قِرًى بكسر القاف مقصور، وقِراءً بفتح القاف والمدِّ، ويُقال للطّعام الّذي يضيِّفه به: قِرًى بكسر القاف مقصور، ويُقال لفاعله: قَارٍ؛ مثل قضى فهو قاضٍ[12].
31. النّوائب جمع (نائبة)، وهي الحادثة، وإنما قالت: (نوائب الحقِّ)؛ لأنّ النّائبة قد تكون في الخير والحقِّ، وقد تكون في الباطل والشّرِّ.
32. قوله: (هذا النّاموس الّذي أُنزل على موسى ﷺ) النَّاموس بالنُّون والسِّين المهمَلة، وهو جبريلُ ﷺ. قال أهل اللّغة وغريبِ الحديث: النّاموس في اللّغة: صاحب سرِّ الخَير، والجاسوس صاحب سرِّ الشَّرِّ، ويُقال: نَمَسْتُ السِّرَّ أَنْمِسُهُ نَمْسًا؛ أَيْ: كَتَمْتُهُ، وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ، وَنَامَسْتُهُ: سَارَرْتُهُ، واتَّفَقوا على أنّ جبريل - عليه السّلام - يُسمَّى النّاموس، واتَّفقوا على أنّه المراد هنا؛ سُمِّيَ بذلك لأنّ اللّه تعالى خَصَّه بالغَيب والوحيِ[13].
33. قوله: (نصرًا مؤزرًا)؛ أي: قويًّا، مأخوذ من الأَزْر، وهو القوَّة. وقيل: أزري: ظهري، خُصَّ الظَّهر؛ لأن القوَّة فيه.
34. قولُه: (ثم لم يَنشَب ورقة أن توفِّي وفتر الوحيُ)؛ أي: لم يَنشَب في شيء من الأمور، وكأن هذه اللفظة عند العرب عبارةٌ عن السُّرعة والعجَلة[14].
35. قوله: (يا لَيتني فيها جَذَعًا): الضّمير في "فيها" يعود إلى أيَّام النُّبوَّة ومُدَّتها، وقوله: (جَذَعًا) يعني شابًّا قويًّا حتّى أبالغ في نُصرتك، والأصل في الجَذَع للدّوابِّ، وهو هنا استعارةٌ[15].
36. قوله: (جَذَعًا) هكذا هو الرّواية المشهورة في الصّحيحين وغيرهما بالنَّصب، ووقَع في روايةٍ (جَذَعٌ) بالرّفع، خبر ليت مرفوع، وأمّا النّصبُ، فاختلف العلماء في وجهِه، أنه نُصِب على أنّه خبرُ كان المحذوفة، تقديرُه: ليتني أكون فيها جَذَعًا، أو أنّه منصوب على الحال، وخبر ليت قولُه: (فيها)، وهذا الّذي اختاره أهل التّحقيق والمعرفة ممَّن يُعتمَد عليه[16].
37.قوله: ﷺ: «أوَمخرجيَّ هم؟» هو بفتح الواو، وتشديد الياء، وهو جمعُ (مُخرِج)، أصلها: (مخرجون) أُضيفت للياء، حُذفت النون للإضافة، ثم قُلبت الواو ياءً، أُدغمت في الياء ضمير المتكلِّم، فشُدِّدت الياء وفُتحت للتّخفيف.
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 198).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 198).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 198).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 198).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 482).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 201).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 201).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 201).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 203).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (12/ 3715).
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 203، 204).
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 203، 204).