19 - محبةُ الرَّسول ﷺ وما يتبع ذلك

عَن أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضى الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ ﷺ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ،وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». 

عناصر الشرح

غريب الحديث

سُدَّةُ الْمَسْجِد: هي الظِّلال والسقائف التي حَوْلَه[1].

اسْتَكَان: استفعل من السُّكُون، يُقَال: استكان واستكن وتمسكن إِذا خضع[2].

المراجع

  1. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 211).
  2. "تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم" للحَمِيديِّ (ص: 253).
المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أنسٌ: (بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟): يَحكِي أنس ﷺ أنه بينما كان يَخرُج من المسجد النبويِّ مع النبيِّ ﷺ، قابَلَهما رجل أمام المسجد، فسأل النبيَّ ﷺ: متى تقوم الساعة؟

فسأله النبيُّ : «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»؛ أي: فأجابه النَّبِيُّ ﷺ بسؤاله: ماذا أعددتَ من الأعمال الصالحة ليوم القيامة؟

(فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ)؛ أي: خَضَع وسَكَن احتقارًا لعمله، وذلك بعد تفكُّره في سؤال النبيِّ ﷺ له، (ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ؛ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)؛ أي: إني لم أُكثِر من نوافل الصلاة والصيام والصدقة - بعد أداء الفرائض - إلا أني أحبُّ الله تعالى، وأحبُّ رسوله ﷺ.

فقال له النبيُّ : «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»؛ أي: بشَّره النبيُّ ﷺ بأنه سيكون مع من يحبُّ يوم القيامة؛ أي: سيكون مع النبيِّ ﷺ في الجنة.

الشرح المفصَّل للحديث

     من أعظم النِّعَم التي ينالها العبد، ويَشْرُف بها: محبَّةُ الله تعالى، ومحبَّة رسوله ، فينال بذلك خيرَيِ الدنيا والآخرة، فمحبَّةُ الله ورسوله نِعمةٌ لا تُعادلها نعمةٌ، وشرفٌ لا يُدانيه شرفٌ، يَصِل بها العبد الصالح إلى أعالي الجنان، وصحبة النبيِّين والأخيار، وقد أوجبها الله على المؤمنين، وجعل مرتبتها فوق كلِّ محبوب في الدنيا

قال تعالى: 

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ 

[التوبة: 24]

 وبيَّن أن التوحيد الخالص لا يكون إلا بإفراد المحبَّة لله

قال تعالى:  

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

[البقرة: 165]

 ومن لوازم حبِّ الله محبَّةُ رسوله ؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»[1].

وفي هذا الحديث يروي أنسُ بنُ مالكٍ  رضى الله عنه يقول: (بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ): النبويِّ (فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ)؛ أي: فقابلهما رجل أمام المسجد، والسُّدَّة: هي الظلال والسقائف التي حول المسجد، وذلك الرجل من الأعراب، و"هو ذو الخُوَيْصِرة اليمانيُّ الذي بال في المسجد"[2].

فسأل الرجل النبيَّ : (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟)؛ أي: فسأله عن وقت قيام الساعة.

فأجابه بسؤال: (قَالَ النَّبِيُّ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)؛ أيْ: أيُّ شيءٍ هيَّأتَه للساعة؟ فأجابه النبيُّ بجواب لم يكن يتوقَّعه، فقال له: ما هي الأعمال الصالحة التي أَعددتَها، وتقرَّبتَ بها إلى الله - عزَّ وجلَّ - لتلقى جزاءها يوم القيامة؟ طالما أنك تسأل عن موعدها، فـ"سلك النبيُّ مع السائل أسلوب الحكيم، وهو تلقِّي السائل بغير ما يَطْلُب مما يُهِمُّه، أو هو أهمُّ"[3]، وفي سؤال النبيِّ له صَرْفٌ إلى ما يَجِب أن يُنتَبه له؛ فليس مطلوبًا منه أن يَعرِف موعد يوم القيامة؛ بل المطلوب منه أن يتجهَّز له بالطاعات والقُربات.

قال أنس: (فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ)؛ أي: خَضَع وسَكَن احتقارًا لعمله، وذلك بعد تفكُّره في سؤال النبيِّ له، (ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ؛ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يعني: يا رسول الله، لم أُكثِر من نوافل الصلاة والصيام والصدقة، وذلك بعد أداء الفرائض؛ إلا أني أحبُّ الله تعالى، وأحبُّ رسوله ، "يعني بذلك: النوافل من الصلاة، والصيام، والصدقة؛ لأن الفرائض لا بدَّ له ولغيره من فعلها، فيكون معناه: أنه لم يأتِ منها بالكثير الذي يُعتمَد عليه، ويُرجى دخولُ الجنَّة بسببه، هذا ظاهرُه، ويَحْتَمِل أن يكون أراد: أن الذي فَعَله من تلك الأمور، وإن كان كثيرًا، فإنه محتقَر بالنسبة إلى ما عنده من محبَّة الله تعالى، ورسوله ، فإنه ظهر له أن محبَّة الله تعالى ورسوله أفضلُ الأعمال، وأعظمُ القُرَب، فجعلها عُمْدتَه، واتَّخَذها عُدَّته"[4]، ومحبَّةُ الله تعالى ورسوله إنما تكون باتِّباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما، وتعظيمهما، وتوقيرهما، والوقوفِ عند حدودهما، ومحبَّتُهما كذلك يجب أن تكون مقدَّمةً على حبِّ الإنسان لأهله وماله وولدِه، وتلك علامةُ الإيمان؛ عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[5]، فـ"محبَّة النبيِّ من أصول الإيمان، وهي مقارِنةٌ لمحبَّة الله - عزَّ وجلَّ - وقد قَرَنها الله بها، وتوعَّد من قدَّم عليها شيئًا من الأمور المحبوبة طَبْعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ

 [التوبة: 24]

 فيجب تقديم محبَّة الرسول على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكن، وغير ذلك مما يُحبُّه الإنسان غاية المحبَّة، وإنما تتمُّ المحبَّة بالطاعة

كما قال تعالى:

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

[آل عمران: 31][6]

 فلا يقدِّم العبدُ شيئًا على أمرهما

قال تعالى:

 أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ 

[الحجرات: 1]

وقد يحبُّ الإنسان رسوله أكثرَ من أهله وماله وولده والناس أجمعين؛ إلا أنه يقدِّم حبَّ نفسه على حبِّ نبيِّه كما فعل عمرُ بنُ الخطَّاب رضى الله عنه، فيأتي جوابُ النبيِّ لعمر رضى الله عنه مصحِّحًا له فَهْمَه، كما في حديث عَبْد اللَّهِ بْن هِشَامٍ رضى الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : «لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : «الآنَ يَا عُمَرُ»[7]؛ أي: لا يَكتمِل إيمانُكَ يا عمرُ حتى أكون أحبَّ إليك من كلِّ شيء، حتى من نفسك التي بين جَنْبَيْكَ، فتفكَّر عمرُ رضى الله عنه مَليًّا، ثم عاد فأخبر النبيَّ بأنه أحبُّ إليه من كلِّ شيء، حتى من نفسِه، فقال له النبيُّ : الآن يا عمرُ؛ أي: كَمُل إيمانُكَ الآن، فـ"حبُّ الإنسان نفسَه طَبْعٌ، وحبُّ غيره اختيارٌ بتوسُّط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حبَّ الاختيار؛ إذ لا سبيلَ إلى قلب الطِّباع وتغييرها عمَّا جُبِلت عليه، قلت: فعلى هذا، فجَوَابُ عمرَ أوَّلاً كان بحَسبِ الطَّبع، ثم تأمَّل فعَرَف بالاستدلال أن النبيَّ أحبُّ إليه من نفسه؛ لكونه السببَ في نَجَاتها من المهلِكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار؛ ولذلك حَصَل الجواب بقوله: الآن يا عمرُ؛ أي: الآنَ عرَفْتَ فنطقتَ بما يَجِبُ"[8]، فعَوْدةُ عمرَ رضى الله عنه بعد ما فَهِم المراد من قول النبيِّ ، فـ"هو يَحتمِل احتمالين؛ أحدهما: أنه فَهِم أوَّلاً أن المراد به الحبُّ الطبيعيُّ، ثم عَلِم أن المراد الحبُّ الإيمانيُّ والعقليُّ، فأظهر بما أَضمَر، وثانيهما: أنه أَوصَله الله تعالى إلى مَقَامِ الأتمِّ ببركة توجيهه - عليه الصلاة والسلام - فطَبَع في قلبه حبَّه حتى صار كأنه حياتُه ولُبُّه؛ ولهذا قيل: فهذه المحبَّة منه ليست اعتقادَ الأعظمية فحسبُ؛ لأنها كانت حاصلةً لعمرَ قبل ذلك قطعًا؛ بل أمر يترتَّب على ذلك، به يفنى المتحلِّي به عن حظِّ نفسه، وتصير خاليةً عن غير محبوبِه"[9]، وهذا نَظيرُ قولِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ رضى الله عنه في حديث أبي هريرة رضى الله عنه: «وَاللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى الأرضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ»[10].

ردَّ عليه (قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»)؛ أي: فقال له النبيُّ : إن كنتَ صادقًا في حبِّك لله تعالى ولرسوله، فأنت مع من أحببتَ؛ أي: مُلحَق بهم، حتى تكون معهم، وفي زُمرتهم؛ فمحبَّة العبد للصالحين تُلحِقه بهم، وإن لم يَعمَل بعملهم. لذا؛ قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه: «فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ»[11]، وعَنْ عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رضى الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»[12]، وبذلك تَحصُل الْمَعيَّة وإن تفاوتت الدرجات في الجنة

قال تعالى:

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا 

[النساء: 69]

فـ"إن المعيَّة تَحصُل بمجرَّد الاجتماع في شيء ما، ولا تَلزَم في جميع الأشياء؛ فإذا اتَّفَق أن الجميع دخلوا الجنَّة، صَدَقت المعيَّة، وإن تفاوتت الدرجات"()، وقد فَرِح المسلمون بهذا الحديث فَرَحًا شديدًا؛ فهو بشارة عظيمة لهم؛ قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه: «فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ مَا فَرِحُوا بِهِ»[13].

ومن علامات محبَّة الله تعالى ما يلي:

  • محبَّة الله سبحانه وتعالى دون غيره، وتقديمها على كلِّ محبوب

    قال تعالى:

    قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

    [التوبة: 24].

  • طاعة الرسول ، وتقديم محبَّته على من سواه

    قال تعالى:

    لْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

    [آل عمران: 31].

  • التقرُّب إلى الله تعالى بالعبادات والطاعات من فرائضَ ونوافلَ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»[14].

  • محبَّة القرآن، وكثرة تلاوته، وتدبُّر معانيه؛ قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "من كان يحبُّ أن يَعلَم أنه يحبُّ الله - عزَّ وجلَّ - فليَعرِضْ نفسه على القرآن، فمن أحبَّ القرآن، فهو يحبُّ الله - عزَّ وجلَّ".

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (16)، ومسلم (43).
  2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 555).
  3. "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (22/ 35).
  4. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (6/ 646).
  5. رواه البخاريُّ (15)، ومسلم (44).
  6. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (1/ 49).
  7. رواه البخاريُّ (6632).
  8. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 528).
  9. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 73).
  10. رواه البخاريُّ (4372)، ومسلم (1764).
  11. رواه البخاريُّ (3688)، ومسلم (2639).
  12. رواه البخاريُّ (6169)، ومسلم (2640).
  13. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 555).
  14. رواه أحمد (12032)، قال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
النقول


قال الكرمانيُّ رحمه الله: "سلك النبيُّ مع السائل أسلوبَ الحكيم، وهو تلقِّي السائل بغير ما يَطْلُب مما يُهِمُّه، أو هو أهمُّ"[1].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "يعني بذلك: النوافل من الصلاة، والصيام، والصدقة؛ لأن الفرائض لا بدَّ له ولغيره من فعلها، فيكون معناه: أنه لم يأتِ منها بالكثير الذي يُعتمَد عليه، ويُرجى دخولُ الجنَّة بسببه، هذا ظاهرُه، ويَحْتَمِل أن يكون أراد: أن الذي فَعَله من تلك الأمور، وإن كان كثيرًا، فإنه محتقَر بالنسبة إلى ما عنده من محبَّة الله تعالى، ورسوله ، فإنه ظهر له أن محبَّة الله تعالى ورسوله أفضلُ الأعمال، وأعظمُ القُرَب، فجعلها عُمْدتَه، واتَّخَذها عُدَّته"[2].

قال ابن حجر رحمه الله: "إن المعيَّة تَحصُل بمجرَّد الاجتماع في شيء ما، ولا تَلزَم في جميع الأشياء؛ فإذا اتَّفَق أن الجميع دخلوا الجنَّة، صَدَقت المعيَّة، وإن تفاوتت الدرجات" [3].

قال ابن رجب رحمه الله: "محبَّة النبيِّ من أصول الإيمان، وهي مقارِنةٌ لمحبَّة الله - عزَّ وجلَّ - وقد قَرَنها الله بها، وتوعَّد من قدَّم عليها شيئًا من الأمور المحبوبة طَبْعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك

فقال تعالى:

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ 

[التوبة: 24]

 فيجب تقديم محبَّة الرسول على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكن، وغير ذلك مما يُحبُّه الإنسان غاية المحبَّة، وإنما تتمُّ المحبَّة بالطاعة

كما قال تعالى:

 قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

[آل عمران: 31][4].


قال ابن حجر رحمه الله: "قال الخطَّابيُّ: حبُّ الإنسان نفسَه طَبْعٌ، وحبُّ غيره اختيارٌ بتوسُّط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حبَّ الاختيار؛ إذ لا سبيلَ إلى قلب الطِّباع وتغييرها عمَّا جُبِلت عليه، قلت: فعلى هذا، فجَوَابُ عمرَ أوَّلاً كان بحَسْبِ الطَّبع، ثم تأمَّل فعَرَف بالاستدلال أن النبيَّ أحبُّ إليه من نفسه؛ لكونه السببَ في نَجَاتها من المهلِكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار؛ ولذلك حَصَل الجواب بقوله: الآن يا عمرُ؛ أي: الآنَ عرَفْتَ فنطقتَ بما يَجِبُ"[5].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "هو يَحتمِل احتمالين؛ أحدهما: أنه فَهِم أوَّلاً أن المراد به الحبُّ الطبيعيُّ، ثم عَلِم أن المراد الحبُّ الإيمانيُّ والعقليُّ، فأظهر بما أَضمَر، وثانيهما: أنه أَوصَله الله تعالى إلى مَقَامِ الأتمِّ ببركة توجيهه - عليه الصلاة والسلام - فطَبَع في قلبه حبَّه حتى صار كأنه حياتُه ولُبُّه؛ ولهذا قيل: فهذه المحبَّة منه ليست اعتقادَ الأعظمية فحسبُ؛ لأنها كانت حاصلةً لعمرَ قبل ذلك قطعًا؛ بل أمر يترتَّب على ذلك، به يفنى المتحلِّي به عن حظِّ نفسه، وتصير خاليةً عن غير محبوبِه"[6].

قال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّة الله، وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبِع الشرع المحمديَّ، والدين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبَت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[7]؛ ولهذا قال: 

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

أي: يَحصُل لكم فوقَ ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظمُ من الأول؛ قال الحسن البصريُّ وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبُّون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، ثم قال:وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: باتِّباعكم للرسول يَحصُل لكم هذا كلُّه ببركة سفارته"[8]. 

قال ابن حجر رحمه الله: " قال البيضاويُّ: المراد بالحبِّ هنا الحبُّ العقليُّ الّذي هو إيثار ما يقتضي العقل السّليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النّفس؛ كالمريض يعافُ الدّواء بطبعه فيَنفِر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله، فيهوى تناوله، فإذا تأمَّل المرء أنّ الشّارع لا يأمر ولا ينهى إلّا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرَّن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذُّ بذلك التذاذًا عقليًّا؛ إذ الالتذاذ العقليُّ إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبَّر الشّارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنّها أظهر اللّذائذ المحسوسة" [9].

قال ابن القيم رحمه الله: " ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحبَّ إلّا في اللّه، ولا يُبغض إلّا فيه، ولا يوالي إلّا فيه، ولا يعادي إلّا فيه، ولا يعطي إلّا له، ولا يمنع إلّا له، ولا يرجو إلّا إيّاه، ولا يستعين إلّا به، فيكون دينه كلُّه ظاهرًا وباطنًا للّه، ويكون اللّه ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ اللّه ورسوله، ولو كان أقربَ الخلق إليه؛ بل:

يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ = جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا

وحقيقةُ ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربِّه وحقوقه، والجامعُ لهذا كلِّه تحقيق شهادة أن لا إله إلّا اللّه علمًا ومعرفةً، وعملًا وحالًا وقصدًا"[10].

المراجع

  1. "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (22/ 35).
  2. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (6/ 646).
  3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 555).
  4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (1/ 49).
  5. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 528).
  6. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 73).
  7. رواه مسلم (1718).
  8. "تفسير ابن كثير" (2/ 32).
  9. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 60، 61).
  10. "مدارج السالكين" (1/ 185).


مشاريع الأحاديث الكلية