غريب الحديث
«دعا إلى هدًى»؛ أي: دعا إلى السيرة والهيئة والطريقة[1].
«ضلالة»: من الضلال، وهو الباطلُ والانحرافُ عن الطريق المستقيم[2].
المراجع
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 253).
- انظر: "المعجم الوسيط" (1/ 543).
المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هُريرةَ رضي الله عنه، عن رسول اللهِ ﷺ أنه قَالَ: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كان لهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجورِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِنْ أجُورِهم شيئًا»؛ أي: مَن حثَّ الناس على عملٍ صالحٍ، ودلَّهم عليه بقوله أو فِعله، كان لهذا الداعي من الأجر مثلُ أجور مَن تبِعه على دعوته، دون أن يَنقُص هذا الأجرُ الذي حصل عليه الداعي من أجر العامل شيئًا. «ومَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كان عليه مِنَ الإثمِ مثلُ آثامِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ آثامِهم شَيئًا»؛ أي: ومَن أرشدَ غيرَه إلى فِعل إثمٍ؛ بأن ابتدعه، أو سُبق إليه، أو أحْياه بعد اندثار، أو أمَر به، أو أعان عليه، كان عليه من الإثم مثلُ ما وقَع على مَن اتَّبَعه وقلَّده في ضلاله، ولا يَنقُص هذا الإثمُ من إثم المتَّبِع شيئًا.
الشرح المفصَّل للحديث
الدعوة إلى الله تعالى فاتحةٌ لكلِّ خير، ومُغْلِقةٌ لكلِّ شرٍّ، والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر من أخصِّ سمات المسلم، وطريقٌ لفلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة.
وفي هذا الحديث يحثُّ النبيُّ ﷺ المسلمَ على بذل ما استطاع من جُهْد في الأخذ بيَدِ الناس إلى الحقِّ والخير، وأن يكون مِفتاحًا لذلك، وقدوةً يَقتدي الناسُ به، ويَعِدُ النبيُّ ﷺ على ذلك بأعظم الجزاء، ويُحذِّر في المقابل من أن يكون المسلم مِفتاحًا للباطل والشرِّ في المجتمع، ويبيِّن سوءَ عاقبة مَن فعل هذا.
يقول ﷺ: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كان لهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجورِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِنْ أجُورِهم شيئًا»، الدعوة: هي الحثُّ على الشيء[1]، وكلمة «هدى» تشمل كلَّ عمل من أعمال البرِّ والخير والصلاح[2]، والمعنى: مَن حثَّ على عمل صالحٍ، ودلَّ الناس عليه بقوله أو فعله، كان لهذا الداعي من الأجر مثلُ أجور مَن تبِعه على دعوته، دون أن يَنقُص هذا الأجرُ الذي حصل عليه الداعي من أجر العامل شيئًا. وقد ذكَر ﷺ كلمة «هُدًى» نكرةً لتَشمل جميع ما يُهتدى به؛ فـ"الهدى في الحديث: هو ما يُهتدى به من الأعمال الصالحة، وهو بحسَب التنكير مطلَقٌ شائعٌ في جنسِ ما يُقال له: هُدًى، يُطلَق على القليل والكثير، والعظيم والحقير، فأعظمُه هدًى مَن دعا إلى الله وعمِل صالحًا، وقال: إنني من المسلمين، وأدناه هُدًى: مَن دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، ومِن ثَمَّ عظُم شأن الفقيه الداعي المنذِر؛ لأن نفْعَه يعُمُّ الأشخاص والأعصار إلى يوم الدِّين" [3].
وكما أن الداعيَ إلى الصالحات يأخُذ مثلَ أجر مَن استجاب لدعوته، فكذلك الدعوةُ إلى السيِّئات والمنكَرات؛ فإن الداعيَ إلى مُنكَر عليه وِزرُه ووِزرُ مَن عمِل بدعوته؛ قال ﷺ: «ومَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كان عليه مِنَ الإثمِ مثلُ آثامِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِن آثامِهم شَيئًا»؛ أي: مَن أرشدَ غيرَه إلى فِعل إثمٍ؛ بأن ابتدعه، أو سُبق إليه، أو أحْياه بعد اندثار، أو أمَر به، أو أعان عليه[4]، كان عليه من الإثم والذنْبِ والعقوبة مثلُ ما وقَع على مَن اتَّبَعه وقلَّده في ضلاله، ولا يَنقُص هذا الإثمُ الواقعُ عليه من إثم المتَّبِع شيئًا، فلكلٍّ منهما وِزرٌ كاملٌ.
"وأما الضلالة، فإن مَن يدعو إليها بكلمة خبيثة، أو عَقْد إشكال، أو نابِضة شكٍّ، أو طليعة حَيرة، فإنه عليه إثمُها، وإثمُ كلِّ مَن يضِلُّ بها إلى يوم القيامة"[5].
وفي هذا المعنى
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 12 وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾
ثم إن الدعوة إلى الهُدى أو إلى الوِزر والإثم تكون بالأقوال أو الأفعال.
"واعلمْ أن الدعوة إلى الهُدى، والدعوة إلى الوِزر تكون بالقول؛ كما لو قال: افعَلْ كذا، افعَلْ كذا، وتكون بالفعل، خصوصًا مِن الذي يُقتدى به من الناس، فإنه إذا كان يُقتدى به ثم فعَل شيئًا، فكأنه دعا الناس إلى فِعله؛ ولهذا يحتجُّون بفِعله ويقولون: فعَل فلانٌ كذا، وهو جائزٌ، أو ترَك كذا، وهو جائزٌ"[6].
المراجع
- انظر: "المعجم الوسيط" (1/ 286).
- انظر: "كنوز رياض الصالحين" (3/ 555).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبي (2/ 625- 626).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (1/ 242).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" ليحيى بن هُبيرة (8/ 177).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 361).
النقول
قال النوويُّ رحمه الله: "من دعا إلى هدى، ومن دعا إلى ضلالة: هذان الحديثان صريحان في الحثِّ على استحباب سنِّ الأمور الحسنة، وتحريم سنِّ الأمور السَّيِّئة، وأنّ من سنَّ سُنَّةً حسنةً كان له مثلُ أجر كلِّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سُنَّةً سيّئةً كان عليه مثلُ وِزر كلِّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأنّ من دعا إلى هدًى كان له مثلُ أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواءٌ كان ذلك الهدى والضّلالة هو الّذي ابتدأه، أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليمَ علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك. قوله ﷺ: «فعمل بها بعده» معناه: إن سنَّها، سواءٌ كان العمل في حياته، أو بعد موته، والله أعلم"[1].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «من دعا إلى هدى»: أفعال العباد وإن كانت غيرَ موجِبةٍ، ولا مقتضية للثواب والعقاب بذواتها، إلا أنه تعالى أجرى عادته بربط الثواب والعقاب بها ارتباط المسبِّبات بالأسباب، وفِعْلُ العبدِ ما له تأثيرٌ في صدوره بوجه، فكما يترتَّب الثواب والعقاب على ما يباشره ويُزاوِله، يترتَّب كلٌّ منهما على ما هو سببٌ عن فعله؛ كالإرشاد إليه، والحثِّ عليه، ولَمَّا كانت الجهة التي بها استوجب المسبِّب للأجر والجزاء، غيرَ الجهة التي استوجب بها المباشِر، لم يَنقُص أجرُه من أجره شيئًا. أقول: «هدى»، وهو إما الدلالة الموصِّلة إلى البُغْيَة، أو مطلَق الإرشاد، وهو في الحديث ما يُهتدى به من الأعمال الصالحة، وهو بحسَب التنكير مطلَقٌ شائعٌ في جنسِ ما يُقال له: هُدًى، يُطلَق على القليل والكثير، والعظيم والحقير، فأعظمُه هدًى مَن دعا إلى الله، وعمِل صالحًا، وقال: إنني من المسلمين، وأدناه هُدًى: مَن دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، ومِن ثَمَّ عظُم شأن الفقيه الداعي المنذِر، حتى فضِّل واحد منهم على ألف عابد؛ لأن نفْعَه يعُمُّ الأشخاص والأعصار إلى يوم الدِّين"[2].
قال ابن حجر رحمه الله: "ووجه التّحذير أنّ الّذي يُحدِث البِدعة قد يتهاوَن بها؛ لخفَّة أمرها في أوَّل الأمر، ولا يَشعُر بما يترتَّب عليها من المفسدة، وهو أن يَلحَقه إثم مَن عَمِل بها من بعده، ولو لم يكن هو عَمِل بها؛ بل لكونه كان الأصلَ في إحداثها"[3].
قال المناويُّ رحمه الله: "«من دعا إلى هدى»؛ أي: إلى ما يُهتدى به من العمل الصالح، ونكَّره ليَشِيع فيَتناول الحقيرَ؛ كإماطة الأذى عن الطريق، «كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه»، فهَبْه ابتَدَعه أو سُبق إليه؛ لأن اتِّباعهم له تَوَلَّد عن فِعله الذي هو من سُنن المرسَلين. «لا يَنقُص ذلك» الإشارة إلى مصدر كان «من أجورهم شيئًا» دَفَعَ ما يتوهَّم أن أجر الداعي إنما يكون بالتنقيص من أجر التابع، وضمَّه إلى أجر الداعي، فكما يترتَّب الثواب والعقاب على ما يباشره ويُزاوِله، يترتَّب كلٌّ منهما على ما هو سببُ فعله؛ كالإرشاد إليه، والحثِّ عليه... «ومن دعا إلى ضلالة» ابتدعها أو سُبِق بها، «فإن عليه من الإثم مثلَ آثام من تَبِعه» لتولُّده عن فعله الذي هو من خصال الشيطان، والعبد يستحقُّ العقوبة على السبب، وما تولَّد منه؛ كما يُعاقب السكران على جنايته حالَ سُكره، وإذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكرانُ معذورًا؛ فالله يعاقب على الأسباب المحرَّمة وما تولَّد منها كما يُثيب على الأسباب المأمور بها وما تولَّد منها؛ ولهذا كان على قابيل القاتل لأخيه كِفْلٌ من ذنب كلِّ قاتل... «ولا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا» ضمير الجمع في أجورهم وآثامهم يعود لمن باعتبار المعنى، فإن قيل: إذا دعا واحدٌ جَمْعًا إلى ضلالة فاتَّبَعوه، لَزِم كَوْنُ السيِّئة واحدةً، وهي الدعوة، مع أن هنا آثامًا كثيرة. قلنا: تلك الدعوة في المعنى متعدِّدة؛ لأن دعوى الجمع دَفْعةً دعوةٌ لكلِّ مَن أجابها، فإن قيل: كيف التوبةُ مما تولَّد وليس من فعله، والمرءُ إنما يتوب ممَّا فَعَله اختيارًا؟ قلنا: يَحصُل بالنَّدَم، ودَفْعِه عن الغير ما أَمكَن"[4].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«من دعا إلى هدى»: يعني بيَّنه للناس ودعاهم إليه؛ مثل أن يبيِّن للناس أن ركعتَيِ الضُّحى سنَّة، وأنه ينبغي للإنسان أن يصلِّيَ ركعتين في الضحى، ثم تبعه الناس وصاروا يُصلُّون الضحى، فإن له مثلَ أجورهم من غير أن يَنقُص من أجورهم شيئًا؛ لأن فضل الله واسع. أو قال للناس مثلاً: اجعلوا آخرَ صلاتكم بالليل وترًا، ولا تناموا إلا على وتر، إلا من طَمِع أن يقوم من آخر الليل، فليجعل وتره في آخر الليل، فتبعه ناس على ذلك، فإن له مثلَ أجرهم؛ يعني: كلَّما أَوْتَر واحدٌ هداه الله على يده، فله مثلُ أجره، وكذلك بقية الأعمال الصالحة. «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا»؛ أي: إذا دعا إلى وزر، وإلى ما فيه الإثم، مثل أن يدعوَ الناس إلى لهوٍ أو باطل أو غِناء أو رِبًا أو غيرِ ذلك من الْمَحَارم، فإن كلَّ إنسان تأثَّر بدعوته، فإنه يُكتب له مثلُ أوزارهم؛ لأنه دعا إلى الوزر، والعياذ بالله.
واعلمْ أن الدعوة إلى الهُدى والدعوة إلى الوِزر تكون بالقول؛ كما لو قال: افعَلْ كذا، افعَلْ كذا، وتكون بالفعل، خصوصًا مِن الذي يُقتدى به من الناس، فإنه إذا كان يُقتدى به ثم فعَل شيئًا، فكأنه دعا الناس إلى فِعله؛ ولهذا يحتجُّون بفِعله ويقولون: فعَل فلانٌ كذا، وهو جائزٌ، أو ترَك كذا، وهو جائزٌ. فالمهمُّ أن من دعا إلى هدى كان له مثل أجر من تبعه، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه مثل وزر من تبعه. وفي هذا دليلٌ على أن المتسبِّب كالمباشِر، فهذا الذي دعا إلى الهدى تسبَّب، فكان له مثل أجر مَن فعله، والذي دعا إلى السوء أو إلى الوزر تسبَّب، فكان عليه مثل وزر من اتَّبَعه. وقد أخذ العلماء الفقهاء - رحمهم الله - من ذلك قاعدة بأن السبب كالمباشَرة؛ لكن إذا اجتمع سببٌ ومباشَرة، أحالوا الضمان على المباشَرة؛ لأنه أمسُّ بالإتلاف، والله أعلم"[5].
قال ابن هُبيرة رحمه الله: "وأما الضلالة، فإن مَن يدعو إليها بكلمة خبيثة، أو عَقْد إشكال، أو نابِضة شكٍّ، أو طليعة حَيرة، فإنه عليه إثمُها، وإثمُ كلِّ مَن يضِلُّ بها إلى يوم القيامة"[6].
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 226، 227).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 625).
- "فتح الباري" لابن حجر (13/ 302).
- "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 125).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 360، 361).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" ليحيى بن هُبيرة (8/ 177).