9 - من توحيِد الربوبيِّة لله تعالى

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ. قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا بْنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ، فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا.

عناصر الشرح

الشرح المفصَّل للحديث

إنّ الله سبحانه وتعالى هو الأوَّل الذي ليس قبله شيء، والآخِر الذي ليس بعدَه شيء، والظاهر الذي ليس فوقَه شيء، والباطِن الذي ليس دونه شيء، المتَّصِف بصفات الجلال والكمال، وقد أخبرنا النّبيُّ ﷺ عن بداية الخلق ونهايته؛ لأننا لا نستطيع علم ذلك إلا عن طريق الخبر الصحيح في الكتاب والسنَّة؛ حتّى نستشعر عظمة الله تعالى وقُدرته سبحانه.

وفي هذا الحديث يروي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ)؛ أي: أنه دخل على النّبيّ ﷺ ذاتَ مرَّة في المسجد النّبويِّ، وقبل دخوله عَقَل ناقته بالباب؛ أي: رَبَطها بحبل يُسمَّى العِقال، (فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ)؛ أي: في ذلك اليوم جاء إلى النّبيِّ ﷺ ناس من قبيلة بني تميم، فتلقَّاهم النّبيُّ ﷺ بالبِشْرِ والبشارة بما يشرح الصُّدور.

فَقَالَ : «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»؛ أي: اقبلوا منّي ما يقتضي أن تُبشَّروا إذا أخذتم به بالجنَّة؛ كالفقه في الدّين، والعمل به. 

"قوله: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» في رواية أبي عاصم: «أبشروا يا بني تميم»، والمراد بهذه البشارة أنّ من أسلم نجا من الخلود في النّار، ثمّ بعد ذلك يترتَّب جزاؤه على وَفْقِ عملِه، إلا أن يعفوَ اللّه، وقال الكرمانيُّ: بشَّرهم رسول اللّه ﷺ بما يقتضي دخول الجنَّة، حيث عرَّفهم أصول العقائد الّتي هي المبدأ والْمَعاد وما بينهما"[1].

(قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ)؛ أي: أعطنا من المال؛ فقد مالوا إلى طلب الدنيا، فكان جُلُّ اهتمامهم بالدّنيا، لم يفهموا من البُشرى إلَّا العطاء المادِّيَّ فقط، "وهو دالٌّ على إسلامهم، وإنّما راموا العاجل، وسببُ غَضَبه ﷺ استشعارُه بقلَّة عِلمهم؛ لكونهم علَّقوا آمالهم بعاجل الدّنيا الفانية، وقدَّموا ذلك على التّفقُّه في الدّين الّذي يحصِّل لهم ثواب الآخرة الباقية. قال الكرمانيُّ: دلَّ قولهم: (بشّرتنا) على أنّهم قَبِلوا في الجُملة؛ لكن طلبوا مع ذلك شيئًا من الدُّنيا، وإنّما نفى عنهم القَبول المطلوب، لا مُطلَق القبول، وغَضِب حيث لم يهتمُّوا بالسّؤال عن حقائق كلمة التّوحيد والمبدأ والْمَعاد، ولم يَعتنُوا بضبطها، ولم يسألوا عن موجباتها والموصِّلات إليها. قال الطِّيبيُّ: لَمَّا لم يكن جُلُّ اهتمامهم إلّا بشأن الدّنيا، قالوا: (بشّرتنا فأعطنا)، فمن ثمّ قال: «إذ لم يقبلها بنو تميم»"[2].

(ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ)؛ أي: ثمّ دخل عليه ناس من أهل اليمن، وهم الأشعريُّون، وهم قبيلة من اليمن، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، (قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) منك هذه البشرى. (قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ؟)؛ أي: فإنما جئناك نسألك عن هذا الوجود، وكأنهم سألوا عن أحوال هذا العالَم، فشَرَعَ النّبيُّ ﷺ يحدِّث عن بَدء الخلق، والعرش، وهو الظّاهر، ويُحتمَل أن يكونوا سألوا عن أوَّل جنس المخلوقات، فعلى الأوَّل يقتضي السّياق أنّه أخبر أنَّ أوَّل شيء خُلِق منه السّماواتُ والأرض، وعلى الثّاني يقتضي أنّ العرش والماء تقدَّم خَلْقُهما قبل ذلك.

 قَالَ : «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ»؛ أي: فأخبر أنّه كان الله سبحانه وتعالى في الأزل متفرِّدًا وحدَه، ولم يكن شيء غيره، لا الماء ولا العرش ولا غيرهما.

"قوله: «كان اللّه ولم يكن شيء غيره»، وفي رواية: «ولم يكن شيء قبله»، وفي رواية غير البخاريِّ: «ولم يكن شيء معه»، والقصّة متَّحِدة، فاقتضى ذلك أنَّ الرّواية وقعت بالمعنى، ولعلَّ راويَها أَخَذَها من قوله ﷺ في دعائه في صلاة اللّيل من حديث ابن عبّاس: «أنت الأوَّل فليس قبلك شيء»؛ لكنَّ رواية الباب أصرحُ في العَدَم، وفيه دلالة على أنّه لم يكن شيء غيره، لا الماء، ولا العرش، ولا غيرهما؛ لأنّ كلَّ ذلك غير الله تعالى"[3].

قوله : «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»؛ أي: عرش الرّحمن الذي استوى عليه - جلَّ جلاله - وهو أعلى المخلوقات وأكبرها وأعظمها، وصفه الله تعالى في كتابه بأنّه عظيم، وبأنّه كريم، وبأنه مجيد.

"وأمَّا العرش، فالأخبار تدلُّ على مباينته لغيره من المخلوقات، وأنّه ليس نِسبتُه إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض؛

قال اللّه تعالى:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ

[غافر: ٧]

، 

وقال سبحانه:

وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ

[الحاقة: ١٧]

 فأخبر أنّ للعرش حَمَلةً اليومَ، ويومَ القيامة، وأنّ حَمَلته ومن حوله يسبِّحون ويستغفرون للمؤمنين...

قال تعالى:

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ

[الزمر: ٧٥]

 فذكر هنا أنّ الملائكة تَحُفُّ من حول العرش، وذكر في موضِعٍ آخَرَ أنّ له حَمَلةً، وجَمَع في موضع ثالث بين حَمَلته ومَن حولَه فقال:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُﱠ

[غافر: ٧]

وأيضًا فقد أخبر أنّ عرشه كان على الماء قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ

كماقال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِﱠ

[هود: ٧]

 وقد ثبت في صحيح البخاريّ وغيره عن عمران بن حصين عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»، وفي رواية له: «كان اللّه ولم يكن شيء قبلَه، وكان عرشه على الماء، ثمّ خلق السّموات والأرض، وكتب في الذّكر كلَّ شيء»، وفي رواية لغيره صحيحة: «كان اللّه ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، ثمّ كتب في الذّكر كلّ شيء» وثبت في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «إنّ اللَّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، وهذا التّقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السّموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى متمدِّح بأنّه ذو العرش؛

كقوله سبحانه:

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ

[غافر: ١٥] [4].


وقال النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الفَيْضُ - أَوِ القَبْضُ - يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ»[5].

هذا، وإن الله تعالى مستوٍ على عرشه، وعرشُه فوق سماواته، وهو بائنٌ من خلقه جلَّ وعلا، فهو العليُّ الأعلى، فوق جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى، وهذا ما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنَّة، وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدَهم من أهل القرون المفضَّلة. و"إن أهل السنَّة والجماعة من أصحاب الرسول ﷺ والتابعين لهم بإحسان مجمِعون على أن الله في السماء، وأنه فوق العرش، وأن الأيديَ تُرفَع إليه سبحانه كما دلَّت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة، كما أجمعوا أنه سبحانه غنيٌّ عن العرش وعن غيره، وأن جميع المخلوقات كلها فقيرة إليه، كما أجمعوا أنه سبحانه في جهة العُلْوِ فوق العرش، وفوق جميع المخلوقات، وليس في داخل السموات - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - بل هو سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات، وقد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشابه خلقه في ذلك، ولا في شيء من صفاته، كما قال الإمام مالك رحمه الله لَمَّا سُئل عن الاستواء، قال: (الاستواء معلوم، والكَيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء"[6].

قوله : «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ»؛ أي: وأنّه كتب في اللَّوح المحفوظ جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»[7]. والمراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير؛ فإن ذلك أزليٌّ لا أوَّلَ له، «وعرشه على الماء»؛ أي: قبل خلق السموات والأرض.

ومما ورد في بَدْءِ الخلق: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»[8].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ، يَعْنِي عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا قَالَ: 

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينﱠ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ

[الأعراف: ١٧٢ – ١٧٣][9].


"يُخبِر تعالى أنّه استخرج ذرِّيَّة بني آدَمَ من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أنّ اللّه ربُّهم ومَلِيكهم، وأنّه لا إله إلّا هو، كما أنّه تعالى فَطَرهم على ذلك وجَبَلهم عليه"[10].

و"في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء؛ أحدهما: أن معنى أخذه ذريَّة بني آدم من ظهورهم: هو إيجاد قَرْن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين

 كما قال تعالى:

 كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ

[الأنعام: ١٣٣]

 وقال:  

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ

[الأنعام: ١٦٥]

 ونحو ذلك من الآيات، وعلى هذا القول فمعنى قوله:

وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ

 أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نُصِب لهم من الأدلَّة القاطعة بأنه ربُّهم المستحقُّ منهم لأن يعبدوه وحده، وعليه؛ فمعنى (قالوا بلى)؛ أي: قالوا ذلك بلسان حالهم لظهور الأدلَّة عليه. الوجه الآخر في معنى الآية: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦﱠ، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكِّرةً بذلك الميثاق الذي نَسِيَه الكلُّ، ولم يولَد أحدٌ منهم وهو ذاكرٌ له، وإخبار الرسل به يَحصُل به اليقين بوجوده، وهذا الوجه الأخير يدلُّ له الكتاب والسنَّة"[11].

قوله ﷺ: «وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»؛ أي: ثم خلق السموات والأرض.

"قولُه: «وكان عرشه على الماء»؛ معناه: أنّه خَلَق الماءَ سابقًا، ثمَّ خلق العرش على الماء، وقد وقع في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ الحِمْيَريِّ بلفظ: «كان عرشه على الماء، ثمّ خَلَق القَلَم فقال: اكتُبْ ما هو كائن، ثمّ خلق السّماواتِ والأرضَ وما فيهنّ»، فصرَّح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش. قوله: «وكان عرشُه على الماء، وكتب في الذّكر كلَّ شيء، وخلق السّماوات والأرض»، ولم يقع بلفظ (ثمّ) إلَّا في ذِكر خلق السّماوات والأرض، وقد روى مسلم من حديث عبد اللّه بنِ عمَرْوٍ مرفوعًا: «إنَّ اللّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّماواتِ والأرض بخمسين ألفَ سنةٍ، وكان عرشُه على الماء»[12]، وهذا الحديث يؤيِّد رواية من روى «ثمّ خلق السّماوات والأرض» باللّفظ الدّالِّ على التّرتيب"[13].

فـ"أشار بقوله: «وكان عرشه على الماء» إلى أنّ الماء والعرش كانا مبدأَ هذا العالم؛ لكونهما خُلِقا قبل خلق السّماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلّا الماء، ومحصِّل الحديث أنّ مُطلَق قوله: «وكان عرشه على الماء» مقيَّد بقوله: «ولم يكن شيء غيره»، والمراد بـ(كان) في الأوَّل الأَزَليَّة، وفي الثّاني: الحدوث بعد العَدَم، وقد روى أحمدُ والتِّرمذيُّ، وصحَّحه من حديث أبي رزين العقيليِّ مرفوعًا: «أنّ الماء خُلِق قبل العرش»، وروى السُّدِّيُّ في تفسيره بأسانيدَ متعدِّدةٍ: «أنّ اللّه لم يَخلُق شيئًا ممّا خلق قبل الماء»، وأمّا ما رواه أحمدُ والتّرمذيُّ وصحَّحه من حديث عبادةَ بنِ الصّامت مرفوعًا: «أوّل ما خلق اللّه القلم، ثمّ قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة»، فيُجمَع بينه وبين ما قبلَه بأنّ أوَّليَّة القَلَم بالنّسبة إلى ما عدا الماءَ والعرش أو بالنّسبة إلى ما منه صَدَر من الكتابة؛ أي: أنّه قيل له: اكتب أوّل ما خلق، وأمّا حديث: «أوّل ما خلق اللّه العقل»، فليس له طريقٌ ثَبْت، وعلى تقدير ثبوته، فهذا التّقدير الأخير هو تأويله، واللّه أعلم. وحكى أبو العلاء الهمدانيُّ أنّ للعلماء قولين في أيِّهما خُلِق أوَّلًا: العرش أو القلم؟ قال: والأكثر على سَبْق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تَبِعه الثّانيَ"[14].

قال عمران: (فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا بْنَ الحُصَيْنِ)؛ أي: شَرَدت، (فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ)؛ أي: فانطلقتُ وراءها فإذا هي يَحُول بيني وبين رؤيتها السراب، وهو ما يُرى نِصْفَ النهار في الفلاة كأنه ماءٌ، دون أن يكون هناك شيء. (فَوَاللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا)؛ أي: ولم أقم من مجلس رسول الله ﷺ إذ فاتني سماع ما تحدَّث به عن بَدْءِ الخلق والعرش.

"قوله: (فواللّه لوددتُ أنّي كنت تركتها) في التّوحيد: (أنّها ذهبت ولم أقم)؛ يعني: لأنّه قام قبل أن يُكمل النّبيُّ ﷺ حديثه في ظنِّه، فتأسَّف على ما فاته من ذلك. وفيه ما كان عليه من الحرص على تحصيل العلم"[15].

"وفي الحديث جوازُ السّؤال عن مبدأ الأشياء، والبحث عن ذلك، وجواز جواب العالم بما يَستحضِره من ذلك، وعليه الكفُّ إن خَشِيَ على السّائل ما يَدخُل على معتقَده. وفيه أنّ جنس الزّمان ونوعَه حادثٌ، وأنّ اللّه أوجد هذه المخلوقاتِ بعد أن لم تكن، لا عن عجز عن ذلك؛ بل مع القدرة"[16].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  4. "مجموع الفتاوى" (6/ 550، 551).
  5. رواه البخاريُّ (7419)، ومسلم (993).
  6. "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز" (2/105).
  7. رواه مسلم (2653).
  8. رواه البخاريُّ (3194)، ومسلم (2751).
  9. رواه أحمد (2455)، والنسائيُّ (11127)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (1701).
  10. "تفسير ابن كثير" (3/ 500).
  11. "أضواء البيان" للشنقيطيِّ (2/ 42-43).
  12. رواه مسلم (2653).
  13. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  14. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  15. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 290).
  16. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 290).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ)؛ أي: ربطتها بحبل في باب المسجد. (فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»)؛ أي: اقبلوا البشارة، وأراد بها ما يُجازى به المسلمون، وما تصير إليه عاقبتهم من الفوز بالجنة. (قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ)؛ أي: أعطنا من المال؛ فقد مالوا إلى طلب الدنيا. (ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ): قبلوا بشارة النبيِّ ﷺ بالجنة. (قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ؟)؛ أي: نسألك عن هذا الوجود، وكأنهم سألوا عن أحوال هذا العالَم.

قَالَ : «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ»؛ أخبر ﷺ أنّه كان الله سبحانه وتعالى في الأزل متفرِّدًا وحدَه، ولم يكن شيء غيره، لا الماء ولا العرش ولا غيرهما. «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»؛ أي: عرش الرّحمن الذي استوى عليه - جلَّ جلاله – وصفه الله تعالى في كتابه بأنه عظيم وكريم ومجيد. «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ»؛ أي: وأنّه تعالى كتب في اللَّوح المحفوظ جميع ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة. «وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»؛ أي: ثم خلق السموات والأرض.

(فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا بْنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ)؛ أي: فانطلقتُ وراءها، فإذا هي يَحُول بيني وبين رؤيتها السراب، وهو ما يُرى نِصْفَ النهار كأنه ماءٌ، دون أن يكون هناك شيء. (فَوَاللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا)؛ أي: ولم أقم من مجلس رسول الله ﷺ إذ فاتني سماع ما تحدَّث به عن بَدْءِ الخلق والعرش.

النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (جاء نفر من بني تميم)؛ يعني: وفدَهم، قوله: «أبشروا» بهمزة قطع، من البشارة، قوله: فقالوا بشَّرتنا. القائل ذلك منهم الأقرعُ بنُ حابسٍ، ذَكَره ابن الجوزيِّ. قوله: فتغيَّر وجهه؛ إمّا للأسف عليهم كيف آثروا الدّنيا؟! وإمّا لكونه لم يحضره ما يُعطيهم فيتألَّفهم به، أو لكلٍّ منهما. قوله: فجاءه أهل اليمن. هم الأشعريُّون، قوم أبي موسى، وقد أورد البخاريُّ حديث عِمرانَ هذا وفيه ما يُستأنَس به لذلك، ثمّ ظهر لي أنّ المراد بأهل اليمن هنا نافعُ بنُ زيدٍ الحِمْيَريُّ مع من وفد معه من أهل حِمْيَرَ، وقد ذكرت مستنَد ذلك في باب قدوم الأشعريِّين وأهل اليمن، وأنّ هذا هو السِّرُّ في عطف أهل اليمن على الأشعريِّين، مع أنّ الأشعريِّين من جُملة أهل اليمن لَمّا كان زمان قدوم الطّائفتين مختلفًا، ولكلٍّ منهما قصَّة غير قصَّة الآخرين، وقع العطف. قوله: «اقبلوا البُشرى»؛ أي: اقبلوا منّي ما يقتضي أن تُبشَّروا إذا أخذتم به بالجنَّة؛ كالفقه في الدّين، والعمل به. قوله: «إذ لم يقبلها» في الرّواية الأخرى: «أن لم يقبلها» وهو بفتح (أن)؛ أي: من أجل تركهم لها، ويُروى بكسر (إن). قوله: فأخذ النّبيُّ ﷺ يحدِّث بدء الخلق والعرش؛ أي: عن بَدء الخلق، وعن حال العرش، وكأنّه ضمَّن (يحدِّث) معنى (يذكر)، وكأنّهم سألوا عن أحوال هذا العالم، وهو الظّاهر، ويُحتمَل أن يكونوا سألوا عن أوَّل جنس المخلوقات، فعلى الأوَّل يقتضي السّياق أنّه أخبر أنَّ أوَّل شيء خُلِق منه السّماواتُ والأرض، وعلى الثّاني يقتضي أنّ العرش والماء تقدَّم خَلْقُهما قبل ذلك، ووَقَع في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ: نسألك عن أوّل هذا الأمر. قوله: قالوا: (جئنا نسألك) كذا للكشميهنيِّ، ولغيره: (جئناك لنسألك)، وزاد في التّوحيد: ونتفقَّه في الدِّين، وكذا هي في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ الّتي أشرتُ إليها آنِفًا. قوله: (عن هذا الأمر)؛ أي: الحاضر الموجود، والأمر يطلَق ويُراد به المأمور، ويُراد به الشَّأن والحُكم والحثُّ على الفعل غير ذلك"[1].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» في رواية أبي عاصم: «أبشروا يا بني تميم»، والمراد بهذه البشارة أنّ من أسلم نجا من الخلود في النّار، ثمّ بعد ذلك يترتَّب جزاؤه على وَفْقِ عملِه، إلا أن يعفوَ اللّه، وقال الكرمانيُّ: بشَّرهم رسول اللّه ﷺ بما يقتضي دخول الجنَّة، حيث عرَّفهم أصول العقائد الّتي هي المبدأ والْمَعاد وما بينهما، كذا قال، وإنّما وقع التَّعريف هنا لأهل اليمن، وذلك ظاهر من سياق الحديث، ونقل ابن التّين عن الدّاوديِّ قال في قول بني تميم: (جئناك لنتفقَّه في الدّين): دليلٌ على أنّ إجماع الصّحابة لا ينعقد بأهل المدينة وحدها، وتعقَّبه بأنّ الصّواب أنّه قول أهل اليمن، لا بني تميم، وهو كما قال ابن التّين؛ لكن وقع عند ابن حبَّانَ من طريق أبي عبيدة بنِ معنٍ عن الأعمش بهذا السَّند ما نصُّه: (دَخَل عليه نفر من بني تميم، فقالوا: يا رسول اللّه، جئناك لنتفقَّه في الدّين، ونسألك عن أوّل هذا الأمر)، ولم يذكر أهلَ اليمن، وهو خطأ من هذا الرّاوي؛ كأنّه اختصر الحديث فوقع في هذا الوهم. قوله: (قالوا: بشَّرتنا فأعطنا) زاد في رواية حفص مرَّتين، وزاد في رواية الثّوريِّ عن جامع في المغازي: (فقالوا: أما إذا بشَّرتنا فأعطنا)، وفيها: (فتغيَّر وجهه)، وفي رواية أبي عوانة عن الأعمش عند أبي نعيم في المستخرج: (فكأنّ النّبيَّ ﷺ كره ذلك)، وفي أخرى في المغازي من طريق سفيان أيضًا: (فرُؤِي ذلك في وجهه)، وفيها: (فقالوا: يا رسول اللّه، بشَّرتنا)، وهو دالٌّ على إسلامهم، وإنّما راموا العاجل، وسببُ غَضَبه ﷺ استشعارُه بقلَّة عِلمهم؛ لكونهم علَّقوا آمالهم بعاجل الدّنيا الفانية، وقدَّموا ذلك على التّفقُّه في الدّين الّذي يحصِّل لهم ثواب الآخرة الباقية. قال الكرمانيُّ: دلَّ قولهم: (بشّرتنا) على أنّهم قَبِلوا في الجملة؛ لكن طلبوا مع ذلك شيئًا من الدُّنيا، وإنّما نفى عنهم القَبول المطلوب، لا مُطلَق القبول، وغَضِب حيث لم يهتمُّوا بالسّؤال عن حقائق كلمة التّوحيد والمبدأ والْمَعاد، ولم يَعتنُوا بضبطها، ولم يسألوا عن موجباتها والموصِّلات إليها. قال الطِّيبيُّ: لَمَّا لم يكن جُلُّ اهتمامهم إلّا بشأن الدّنيا، قالوا: (بشّرتنا فأعطنا)، فمن ثمّ قال: «إذ لم يقبلها بنو تميم». قوله: (فدخل ناس من أهل اليمن)، في رواية حفص: (ثمّ دخل عليه)، وفي رواية أبي عاصم: (فجاءه ناس من أهل اليمن)، قوله: (قالوا: قبلنا)، زاد أبو عاصم وأبو نعيم: (يا رسول الله)، وكذا عند ابن حبّان من رواية شيبان بن عبد الرّحمن عن جامع. قوله: (جئناك لنتفقّه في الدّين، ولنسألك عن أوّل هذا الأمر) ما كان هذه الرّواية أتمّ الرّوايات الواقعة عند المصنِّف، وحذف ذلك كلّه في بعضها أو بعضه، ووقع في رواية أبي معاوية عن الأعمش عند الإسماعيليِّ: (قالوا: قد بشَّرتنا فأخبرنا عن أوّل هذا الأمر كيف كان)، ولم أعرف اسم قائل ذلك من أهل اليمن. قال الطِّيبيُّ: قولُه: «ولم يكن شيء قبله» حال، وفي المذهب الكوفيِّ: خبر، والمعنى يساعده؛ إذ التّقدير: كان اللّه منفرِدًا، وقد جوَّز الأخفش دخول الواو في خبر كان وأخواتها؛ نحوُ (كان زيد وأبوه قائم) على جعل الجملة خبرًا مع الواو؛ تشبيهًا للخبر بالحال، ومال التّوربشتيُّ إلى أنّهما جملتان مستقلَّتان. وقال الطِّيبيُّ: لفظة (كان) في الموضعين بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأوّل الأزليَّة والقِدَم، وبالثّاني الحدوث بعد العَدَم، ثمّ قال: فالحاصل أنّ عطف قوله: (وكان عرشه على الماء)، على قوله: (كان اللّه) من باب الإخبار عن حصول الجُملتين في الوجود، وتفويض التّرتيب إلى الذِّهن. قالوا: وفيه بمنزلة (ثمّ)، وقال الكرمانيُّ: قوله: «وكان عرشه على الماء» معطوف على قوله: «كان اللّه»، ولا يلزم منه المعيَّة؛ إذ اللّازم من الواو العاطفة الاجتماع في أصل الثُّبوت، وإن كان هناك تقديم وتأخير. قال غيره: ومن ثمَّ جاء قوله: «ولم يكن شيء غيره» لنفي توهُّم المعيَّة. قال الرّاغب: (كان) عبارة عمَّا مضى من الزّمان؛ لكنّها في كثير من وصف اللّه تعالى تُنبئ عن معنى الأزليَّة

كقوله تعالى:

 وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا .

 قال: وما استُعمِل منه في وصف شيء متعلِّقًا بوصف له هو موجود فيه فللتَّنبيه على أنّ ذلك الوصف لازم له، أو قليل الانفكاك عنه

كقوله تعالى:

وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًاﱠ

[الإسراء: ٢٧]

 وقوله:

وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﱠ

[الإسراء: ٦٧]

 وإذا استُعمِل في الزَّمن الماضي، جاز أن يكون الْمُستعمَل على حاله، وجاز أن يكون قد تغيَّر؛ نحوُ: كان فلان كذا ثمَّ صار كذا. واستُدلَّ به على أنّ العالم حادث؛ لأنّ قوله: «ولم يكن شيء غيره» ظاهر في ذلك؛ فإنّ كلَّ شيء سوى اللّه وُجِد بعد أن لم يكن موجودًا. قوله: (أدرك ناقتك فقد ذهبت)، في رواية أبي معاوية: (انحلَّت ناقتك من عقالها) وزاد في آخر الحديث: (فلا أدري ما كان بعد ذلك)؛ أي: ممّا قاله رسول اللّه ﷺ تكملةً لذلك الحديث. قوله: (لوددت أنّها قد ذهبت ولم أَقُم) الودُّ المذكور تسلَّط على مجموع ذَهابها وعدم قيامه، لا على أحدهما فقط؛ لأنّ ذهابها كان قد تحقَّق بانفلاتها، والمراد بالذَّهاب الفقد الكلِّيُّ"[2]. 

قال ابن تيمية رحمه الله: "وأمَّا العرش، فالأخبار تدلُّ على مباينته لغيره من المخلوقات، وأنّه ليس نِسبتُه إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض

قال اللّه تعالى:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﱠ

[غافر: ٧]


وقال سبحانه:

الْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ

[الحاقة: ١٧]

 فأخبر أنّ للعرش حَمَلةً اليومَ، ويومَ القيامة، وأنّ حَمَلته ومن حوله يسبِّحون ويستغفرون للمؤمنين. ومعلوم أنّ قيام فَلَك من الأفلاك بقُدرة اللّه تعالى؛ كقيام سائر الأفلاك، لا فرق في ذلك بين كُرَةٍ وكرة، وإن قدِّر أنَّ لبعضها ملائكةً في نفس الأمر تَحمِلها، فحُكْمُه حكم نظيره

قال تعالى:

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ

[الزمر: ٧٥]

 فذكر هنا أنّ الملائكة تَحُفُّ من حول العرش، وذكر في موضِعٍ آخَرَ أنّ له حَمَلةً، وجَمَع في موضع ثالث بين حَمَلته ومَن حولَه فقال:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُﱠ

[غافر: ٧]

 وأيضًا فقد أخبر أنّ عرشه كان على الماء قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ 

كما قال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِﱠ

[هود: ٧].


وقد ثبت في صحيح البخاريّ وغيره عن عمران بن حصين عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»، وفي رواية له: «كان اللّه ولم يكن شيء قبلَه، وكان عرشه على الماء، ثمّ خلق السّموات والأرض، وكتب في الذّكر كلَّ شيء»، وفي رواية لغيره صحيحة: «كان اللّه ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، ثمّ كتب في الذّكر كلّ شيء» وثبت في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «إنّ اللَّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، وهذا التّقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السّموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى متمدِّح بأنّه ذو العرش

كقوله سبحانه:

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ

[غافر: ١٥] [3].


قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «كان اللّه ولم يكن شيء غيره»، في الرّواية الآتية في التّوحيد: «ولم يكن شيء قبله»، وفي رواية غير البخاريِّ: «ولم يكن شيء معه»، والقصّة متَّحِدة، فاقتضى ذلك أنَّ الرّواية وقعت بالمعنى، ولعلَّ راويَها أَخَذَها من قوله ﷺ في دعائه في صلاة اللّيل من حديث ابن عبّاس: «أنت الأوَّل فليس قبلك شيء»؛ لكنَّ رواية الباب أصرحُ في العَدَم، وفيه دلالة على أنّه لم يكن شيء غيره، لا الماء، ولا العرش، ولا غيرهما؛ لأنّ كلَّ ذلك غير الله تعالى، ويكون قولُه: «وكان عرشه على الماء»؛ معناه: أنّه خَلَق الماءَ سابقًا، ثمَّ خلق العرش على الماء، وقد وقع في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ الحِمْيَريِّ بلفظ: «كان عرشه على الماء، ثمّ خَلَق القَلَم فقال: اكتُبْ ما هو كائن، ثمّ خلق السّماواتِ والأرضَ وما فيهنّ»، فصرَّح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش. قوله: «وكان عرشُه على الماء، وكتب في الذّكر كلَّ شيء، وخلق السّماوات والأرض»، ولم يقع بلفظ (ثمّ) إلَّا في ذِكر خلق السّماوات والأرض، وقد روى مسلم من حديث عبد اللّه بنِ عمَرْوٍ مرفوعًا: «أنّ اللّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّماواتِ والأرض بخمسين ألفَ سنةٍ، وكان عرشُه على الماء»[4]، وهذا الحديث يؤيِّد رواية من روى «ثمّ خلق السّماوات والأرض» باللّفظ الدّالِّ على التّرتيب"[5].

قال ابن كثير رحمه الله: "يُخبِر تعالى أنّه استخرج ذرِّيَّة بني آدَمَ من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أنّ اللّه ربُّهم ومَلِيكهم، وأنّه لا إله إلّا هو، كما أنّه تعالى فَطَرهم على ذلك وجَبَلهم عليه"[6].

قال ابن حجر رحمه الله: "وقع في بعض الكتب في هذا الحديث: «كان اللّه ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»، وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث، نبَّه على ذلك العلَّامة تقيُّ الدّين بنُ تيمية، وهو مسلَّم في قوله: «وهو الآن...» إلى آخره، وأمّا لفظ: «ولا شيء معه»، فرواية الباب بلفظ: «ولا شيء غيره» بمعناها، ووقع في ترجمة نافعِ بنِ زيدٍ الحِمْيَريِّ المذكور: «كان اللّه لا شيء غيره» بغير واو. قوله: «وكان عرشه على الماء»، قال الطِّيبيُّ: هو فصل مستقِلٌّ؛ لأنّ القديم من لم يَسبِقه شيء، ولم يعارضه في الأوَّليَّة؛ لكن أشار بقوله: «وكان عرشه على الماء» إلى أنّ الماء والعرش كانا مبدأَ هذا العالم؛ لكونهما خُلِقا قبل خلق السّماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلّا الماء، ومحصِّل الحديث أنّ مُطلَق قوله: «وكان عرشه على الماء» مقيَّد بقوله: «ولم يكن شيء غيره»، والمراد بـ(كان) في الأوَّل الأَزَليَّة، وفي الثّاني: الحدوث بعد العَدَم، وقد روى أحمدُ والتِّرمذيُّ، وصحَّحه من حديث أبي رزين العقيليِّ مرفوعًا: «أنّ الماء خُلِق قبل العرش»، وروى السُّدِّيُّ في تفسيره بأسانيدَ متعدِّدةٍ: «أنّ اللّه لم يَخلُق شيئًا ممّا خلق قبل الماء»، وأمّا ما رواه أحمدُ والتّرمذيُّ وصحَّحه من حديث عبادةَ بنِ الصّامت مرفوعًا: «أوّل ما خلق اللّه القلم، ثمّ قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة»، فيُجمَع بينه وبين ما قبلَه بأنّ أوَّليَّة القَلَم بالنّسبة إلى ما عدا الماءَ والعرش أو بالنّسبة إلى ما منه صَدَر من الكتابة؛ أي: أنّه قيل له: اكتب أوّل ما خلق، وأمّا حديث: «أوّل ما خلق اللّه العقل»، فليس له طريقٌ ثَبْت، وعلى تقدير ثبوته، فهذا التّقدير الأخير هو تأويله، واللّه أعلم. وحكى أبو العلاء الهمدانيُّ أنّ للعلماء قولين في أيِّهما خُلِق أوَّلًا: العرش أو القلم؟ قال: والأكثر على سَبْق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تَبِعه الثّانيَ"[7].

قال ابن باز رحمه الله: "إن أهل السنَّة والجماعة من أصحاب الرسول ﷺ والتابعين لهم بإحسان مجمِعون على أن الله في السماء، وأنه فوق العرش، وأن الأيديَ تُرفَع إليه سبحانه كما دلَّت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة، كما أجمعوا أنه سبحانه غنيٌّ عن العرش وعن غيره، وأن جميع المخلوقات كلها فقيرة إليه، كما أجمعوا أنه سبحانه في جهة العُلْوِ فوق العرش، وفوق جميع المخلوقات، وليس في داخل السموات - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - بل هو سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات، وقد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشابه خلقه في ذلك، ولا في شيء من صفاته، كما قال الإمام مالك رحمه الله لَمَّا سُئل عن الاستواء، قال: (الاستواء معلوم، والكَيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء"[8].

قال الشنقيطيُّ رحمه الله: "في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء؛ أحدهما: أن معنى أخذه ذريَّة بني آدم من ظهورهم: هو إيجاد قَرْن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين؛

كما قال تعالى:

كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ

[الأنعام: ١٣٣]

 وقال:

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ

[الأنعام: ١٦٥]

 ونحو ذلك من الآيات، وعلى هذا القول فمعنى قوله:

أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ

 أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نُصِب لهم من الأدلَّة القاطعة بأنه ربُّهم المستحقُّ منهم لأن يعبدوه وحده، وعليه؛ فمعنى (قالوا بلى)؛ أي: قالوا ذلك بلسان حالهم لظهور الأدلَّة عليه. الوجه الآخر في معنى الآية: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦﱠ، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكِّرةً بذلك الميثاق الذي نَسِيَه الكلُّ، ولم يولَد أحدٌ منهم وهو ذاكرٌ له، وإخبار الرسل به يَحصُل به اليقين بوجوده، وهذا الوجه الأخير يدلُّ له الكتاب والسنَّة"[9].

قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث جواز السّؤال عن مبدأ الأشياء، والبحث عن ذلك، وجواز جواب العالم بما يَستحضِره من ذلك، وعليه الكفُّ إن خَشِيَ على السّائل ما يَدخُل على معتقَده. وفيه أنّ جنس الزّمان ونوعَه حادثٌ، وأنّ اللّه أوجد هذه المخلوقاتِ بعد أن لم تكن، لا عن عجز عن ذلك؛ بل مع القدرة، واستنبط بعضهم من سؤال الأشعريِّين عن هذه القصّة أنّ الكلام في أصول الدّين، وحدوث العلم، مستمِرَّان في ذُرِّيَّتهم، حتّى ظهر ذلك منهم في أبي الحسن الأشعريِّ، أشار إلى ذلك ابن عساكر. قوله: (فنادى منادٍ) في الرّواية الأخرى: (فجاء رجل، فقال يا عمرانُ) ولم أقف على اسمه في شيء من الرّوايات. قوله: (ذهبت ناقتك يا بن الحصين)؛ أي: انفلتت، ووقع في الرّواية الأولى: (فجاء رجل، فقال: يا عمرانُ، راحلتَكَ)؛ أي: أدرك راحلتَكَ، فهو بالنَّصب، أو ذهبت راحلتُك، فهو بالرّفع، ويؤيِّده الرّواية الأخرى، ولم أقف على اسم هذا الرّجل. وقوله: (تفلَّتت)؛ أي: شَرَدت. قوله: (فإذا هي يَقطَع - بفتح أوّله - دونَها السَّرابُ – بالضّمِّ)؛ أي: يَحُول بيني وبين رؤيتها، والسَّراب بالمهمَلة معروف، وهو ما يُرى نهارًا في الفَلاة كأنّه ماءٌ. قوله: (فواللّه لوددتُ أنّي كنت تركتها) في التّوحيد: (أنّها ذهبت ولم أقم)؛ يعني: لأنّه قام قبل أن يُكمل النّبيُّ ﷺ حديثه في ظنِّه فتأسَّف على ما فاته من ذلك. وفيه ما كان عليه من الحرص على تحصيل العلم"[10].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 288، 289).
  2. "فتح الباري" لابن حجر(13/ 409، 410).
  3. "مجموع الفتاوى" (6/ 550، 551).
  4. رواه مسلم (2653).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  6. "تفسير ابن كثير" (3/ 500).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  8. "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز" (2/105).
  9. "أضواء البيان" للشنقيطيِّ (2/ 42-43).
  10. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 290).


مشاريع الأحاديث الكلية