9 - من توحيِد الربوبيِّة لله تعالى

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ. قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا بْنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ، فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا.

فوائد الحديث

الفوائد العلمية
  1. في الحديث جوازُ السّؤال عن مبدأ الأشياء، والبحث عن ذلك، وجواز جواب العالم بما يَستحضِره من ذلك، وعليه الكفُّ إن خَشِيَ على السّائل ما يَدخُل على معتقَده.

  2. في الحديث أنّ جنس الزّمان ونوعَه حادثٌ، وأنّ اللّه أوجد هذه المخلوقاتِ بعد أن لم تكن[1].

  3. في الحديث الحثُّ والتّرغيب في مجالس العلم.

  4. في الحديث فضلُ العلم وسماعه.

  5. في الحديث تقديم طلب العلم على طلب المال.

  6. المراد بالبشارة في الحديث أنّ مَن أسلم نجا من الخلود في النّار، ثمّ بعد ذلك يترتَّب جزاؤه على وَفْقِ عملِه، إلا أن يعفوَ اللّه؛ فقد بشَّرهم رسول اللّه ﷺ بما يقتضي دخول الجنَّة، حيث عرَّفهم أصول العقائد الّتي هي المبدأ والْمَعاد وما بينهما[2].

  7. في الحديث كراهة تعليق الآمال بعاجل الدّنيا الفانية، وتقديم ذلك على التّفقُّه في الدّين الّذي يحصِّل ثواب الآخرة الباقية.

  8. للعلماء قولان في أيِّهما خُلِق أوَّلًا: العرش أو القلم؟ والأكثر على سَبْق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تَبِعه الثّانيَ[3].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 290).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
الفوائد العقدية

9.  قوله: «كان اللّه ولم يكن شيء غيره» فيه دلالة على أنّه كان الله سبحانه وتعالى في الأزل متفرِّدًا وحدَه، ولم يكن شيء غيره، لا الماء، ولا العرش، ولا غيرهما؛ لأنّ كلَّ ذلك غير الله تعالى.

10. قوله: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»؛ أي: عرش الرّحمن الذي استوى عليه - جلَّ جلاله - وهو أعلى المخلوقات وأكبرها وأعظمها، وصفه الله تعالى في كتابه بأنّه عظيم، وبأنّه كريم، وبأنه مجيد.

11. 

قال اللّه تعالى: 

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ

[غافر: ٧]


وقال سبحانه: 

وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ

 [الحاقة: ١٧]

 فأخبر أنّ للعرش حَمَلةً اليومَ، ويومَ القيامة، وأنّ حَمَلته ومن حوله يسبِّحون ويستغفرون للمؤمنين

وقال تعالى: 

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ

[الزمر: ٧٥]

 فذكر هنا أنّ الملائكة تَحُفُّ من حول العرش، وذكر في موضِعٍ آخَرَ أنّ له حَمَلةً، وجَمَع في موضع ثالث بين حَمَلته ومَن حولَه فقال:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُﱠ

[غافر: ٧][1].


12. أخبر الله تعالى في كتابه أنّ عرشه كان على الماء قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ

قال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِﱠ

[هود: ٧]

 وثبت في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «إنّ اللَّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، وهذا التّقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السّموات والأرض بخمسين ألفَ سنةٍ[2].

13. تمدَّح الله سبحانه وتعالى بأنّه ذو العرش

كقوله سبحانه:

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ

[غافر: ١٥].

14. إن أهل السنَّة والجماعة من أصحاب الرسول ﷺ والتابعين لهم بإحسان مجمِعون على أن الله في السماء، وأنه فوق العرش، وأن الأيديَ تُرفَع إليه سبحانه كما دلَّت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة، كما أجمعوا أنه سبحانه غنيٌّ عن العرش وعن غيره، وأن جميع المخلوقات كلها فقيرة إليه، كما أجمعوا أنه سبحانه في جهة العُلْوِ فوق العرش، وفوق جميع المخلوقات، وليس في داخل السموات - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - بل هو سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات، وقد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشابه خلقه في ذلك، ولا في شيء من صفاته، كما قال الإمام مالك رحمه الله لَمَّا سُئل عن الاستواء، قال: (الاستواء معلوم، والكَيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء[3].

15.  في الحديث أنّ الله تعالى قد كتب في اللَّوح المحفوظ جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة.

16. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»[4]. والمراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير؛ فإن ذلك أزليٌّ لا أوَّلَ له.

17. قولُه: «وكان عرشه على الماء»؛ معناه: أنّه خَلَق الماءَ سابقًا، ثمَّ خلق العرش على الماء، وقد وقع في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ الحِمْيَريِّ بلفظ: «كان عرشه على الماء، ثمّ خَلَق القَلَم فقال: اكتُبْ ما هو كائن، ثمّ خلق السّماواتِ والأرضَ وما فيهنّ»، فصرَّح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش[5].

18. أشار بقوله: «وكان عرشه على الماء» إلى أنّ الماء والعرش كانا مبدأَ هذا العالم؛ لكونهما خُلِقا قبل خلق السّماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلّا الماء، ومحصِّل الحديث أنّ مُطلَق قوله: «وكان عرشه على الماء» مقيَّد بقوله: «ولم يكن شيء غيره»، والمراد بـ(كان) في الأوَّل الأَزَليَّة، وفي الثّاني: الحدوث بعد العَدَم.

19.  ما رواه أحمدُ والتّرمذيُّ وصحَّحه من حديث عبادةَ بنِ الصّامت مرفوعًا: «أوّل ما خلق اللّه القلم، ثمّ قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة»، يُجمَع بينه وبين حديث الباب بأنّ أوَّليَّة القَلَم بالنّسبة إلى ما عدا الماءَ والعرش، أو بالنّسبة إلى ما منه صَدَر من الكتابة؛ أي: أنّه قيل له: اكتب أوّل ما خُلق[6].

المراجع

  1. "مجموع الفتاوى" (6/ 550، 551).
  2. "مجموع الفتاوى" (6/ 550، 551).
  3. "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز" (2/105).
  4. رواه مسلم (2653).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
الفوائد الحديثية

20. "قوله: «كان اللّه ولم يكن شيء غيره»، وفي رواية: «ولم يكن شيء قبله»، وفي رواية غير البخاريِّ: «ولم يكن شيء معه»، والقصّة متَّحِدة، فاقتضى ذلك أنَّ الرّواية وقعت بالمعنى، ولعلَّ راويَها أَخَذَها من قوله ﷺ في دعائه في صلاة اللّيل من حديث ابن عبّاس: «أنت الأوَّل فليس قبلك شيء»؛ لكنَّ رواية الباب أصرحُ في العَدَم[1].

21. حديث: «أوّل ما خلق اللّه العقل» ليس له طريقٌ ثَبْت[2].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
الفوائد اللغوية

22. "قولُه: «ولم يكن شيء قبله» حال، وفي المذهب الكوفيِّ: خبر، والمعنى يساعده؛ إذ التّقدير: كان اللّه منفرِدًا، وقد جوَّز الأخفش دخول الواو في خبر كان وأخواتها؛ نحوُ (كان زيد وأبوه قائم) على جعل الجملة خبرًا مع الواو؛ تشبيهًا للخبر بالحال، ومال التّوربشتيُّ إلى أنّهما جملتان مستقلَّتان[1].

23. "لفظة (كان) في الموضعين بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأوّل الأزليَّة والقِدَم، وبالثّاني الحدوث بعد العَدَم، فالحاصل أنّ عطف قوله: (وكان عرشه على الماء)، على قوله: (كان اللّه) من باب الإخبار عن حصول الجُملتين في الوجود، وتفويض التّرتيب إلى الذِّهن[2].

24. قوله: «وكان عرشه على الماء» معطوف على قوله: «كان اللّه»، ولا يلزم منه المعيَّة؛ إذ اللّازم من الواو العاطفة الاجتماع في أصل الثُّبوت، وإن كان هناك تقديم وتأخير، ومن ثمَّ جاء قوله: «ولم يكن شيء غيره» لنفي توهُّم المعيَّة[3].

25. (كان) عبارة عمَّا مضى من الزّمان؛ لكنّها في كثير من وصف اللّه تعالى تُنبئ عن معنى الأزليَّة

كقوله تعالى:

 وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 

 وما استُعمِل منه في وصف شيء متعلِّقًا بوصف له هو موجود فيه فللتَّنبيه على أنّ ذلك الوصف لازم له، أو قليل الانفكاك عنه

كقوله تعالى:

وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا

[الإسراء: ٢٧]

 وقوله: 

وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا 

ﱠ [الإسراء: ٦٧]

 وإذا استُعمِل في الزَّمن الماضي، جاز أن يكون الْمُستعمَل على حاله، وجاز أن يكون قد تغيَّر؛ نحوُ: كان فلان كذا ثمَّ صار كذا[4].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 410).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 410).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 410).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 410).

.

مشاريع الأحاديث الكلية