عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال:سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»

عناصر الشرح

غريب الحديث

الطَّهُورُ: بفتح الطاء هو اسمٌ للماء الذي يُتطَهَّر به[1]؛ كالوَضُوء لِما يُتوضَّأ به، أو الطَّهور: هو الطاهر الْمُطَهِّر. والطُّهُورُ: بضمِّ الطاء بمعنى التطهُّر؛ أي: التنظُّف والتنزُّه[2]

الحِلُّ: أي: الحَلالُ.

مَيْتَتُه: يُريد حيوانَ البَحر إذا مات فيه.

المراجع

  1.  "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 147).
  2.  انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 739).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ (أن رجلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْبَحْرِ؟)؛ أي: إنَّنا نَركَبُ السُّفَنَ في البَحرِ، ونحمِلُ معنا القليلَ مِن الماءِ الذي يَكفي للشُّربِ فقط، فإنِ استخدَمْنا ماءَ الشُّربِ للوُضوءِ، نَفِدَ ولم نَجِدْ ما نَشرَبُه؛ فهل يَجوزُ لنا أنْ نَتوضَّأَ مِن ماءِ البحرِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»؛ أي: أجاب رسولُ الله ﷺ أن ماء البحر طاهر مُطهِّر، يَصِحُّ التوضُّؤ به والاغتسال، وزاد إفادةً أن مَيتة البحر حلال، فلا تحتاج حيواناته - التي لا تعيش إلا فيه - إلى ذَبْحٍ وتَذكِية.

الشرح المفصَّل للحديث

إن الطهارةَ من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحَّةُ كثيرٍ من العبادات، وهي سبب لمحبَّة اللهِ - عزَّ وجلَّ -

قال تعالى:

﴿  إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ  ﴾

[البقرة: 222]،

وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[1]؛ "فالجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسْبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة.

والله سبحانه بحِكمته جعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته[2]"

وإنّ هذا الحديثَ لعظيمٌ، وهو أصلٌ من أصول الطّهارة، ومشتمِل على أحكامٍ كثيرة، وقواعدَ مهمَّةٍ. قال الشّافعيُّ: "هذا الحديث نصف علم الطَّهارة"[3]

وفي الحديث يروي أبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -:

(أن رجلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْبَحْرِ؟)؛

أي: إنَّ الرجل سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ: إنا نَركَبُ السُّفَنَ في البَحرِ، ونحمِلُ معنا القليلَ مِن الماءِ الذي يَكفي للشُّربِ فقط، فإنِ استخدَمْنا ماءَ الشُّربِ للوُضوءِ، نَفِدَ ولم نَجِدْ ما نَشْرَبُه؛ فهل يَجوزُ لنا أنْ نَتوضَّأَ من ماءِ البحرِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»؛ أي: فأجاب رسولُ اللهِ ﷺ: «هو»؛ أي: البَحرُ، «الطَّهورُ ماؤُه»؛ أي: ماؤُه طاهِرٌ مُطهِّرٌ، يَصِحُّ التوضُّؤ والاغتسال به، ثم زاد إفادةً في الجواب بقوله: «الحِلُّ مَيتتُه»: «الحِلُّ» هو مصدر حَلَّ الشَّيءُ ضِدُّ حَرُم[4]؛ أي: حلالٌ أكْلُ ما يَخرُجُ منه؛ مِن أسماكٍ وحِيتانٍ وغيرِها، فكلُّ ما خرَج مِن البحرِ حلالٌ، وكذا كلُّ ما طَفا مِن مَيتاتِ الماءِ، فكلُّه مباحٌ؛ فقد

قال تعالى:

(أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ) 

[المائدة: ٩٦]

فظاهرُ القُرآنِ والحَديثِ إباحةُ مَيتاتِ البحرِ كلِّها، والمرادُ منها كلُّ ما يَعيش في البحرِ؛ فكلُّ ذلك حلالٌ بأنواعِه، ولا حاجةَ إلى ذَبحِه، سواءٌ يُؤكَلُ مِثلُه في البَرِّ كالبقَرِ والغنَمِ، أوْ لا يُؤكَلُ كالكَلبِ، والكلُّ سَمَكٌ وإنِ اختَلَفتِ الصُّورُ.

و"الطَّهور اسم للماء الذي يُتطهَّر به، ولا يجوز إلا أن يكون طاهرًا في نفسه، مطهِّرًا لغيره؛ لأن عُدولهم عن صيغة (فاعل) إلى (فَعول) أو (فعيل)؛ لزيادة معنى؛ لأن اختلاف الأبنية لاختلاف المعاني، فكما لا يجوز التسوية بين صابر وصَبور، وشاكر وشَكور، كذلك في طاهر وطَهور، والشَّيء إذا كان طاهرًا في نفسه، لا يجوز أن يكون من جنسه ما هو أطهرُ منه، حتى يَصِفه بطَهور لزيادة، وإذا نقلنا الطاهر إلى طَهور، لم يكن إلا لزيادة معنى، وذلك المعنى ليس إلَّا التطهير"[5]

"قوله: «هو الطَّهور» وهو عند الشَّافعيَّة: المطهِّر، وبه قال أحمدُ، وحكى بعضُ أصحاب أبي حنيفةَ عن مالكٍ، وبعضُ أصحاب أبي حنيفةَ أنَّ الطَّهور هو الطَّاهر، واحتجَّ الأوَّلون بأنَّ هذه اللَّفظة جاءت في لسان الشَّرع للمطهِّر؛

كقوله تعالى:

 (  مَآءٗ طَهُورٗا  )

[الفرقان: 48]،

وأيضًا السَّائل إنّما سأل النّبيَّ ﷺ عن التَّطهُّر بماء البحر، لا عن طَهَارته، ويدلُّ على ذلك أيضًا قولُه ﷺ في بئر بُضاعةَ: «إنَّ الماءَ طَهُورٌ»؛ لأنّهم إنّما سألوه عن الوضوءِ به"[6]

و"في الحديث فوائدُ؛ منها: أن التوضُّؤ بماء البحر يَجُوز مع تغيُّر طَعْمِه ولَونه، ومنها أن الطَّهور هو المطهِّر؛ لأنه ﷺ سُئل عن تطهير ماء البحر، لا عن طهارته، ولولا أنهم عَرَفوه من الطَّهور، لكان لا يزول إشكالهم بقوله: «هو الطَّهور ماؤه». وقيل: الطَّهورُ ما يتكرَّر منه التَّطْهِير؛ كالصَّبور والشَّكور، وهو قول مالك، جوَّز الوضوء بالماء المستعمَل. ومنها أن حُكم جميع حيوان البحر إذا ماتت سواءٌ في الحِلِّ؛

لقوله تعالى:

  (أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ)  

 [المائدة: ٩٦]"[7]

"فأفاد ﷺ أنّ ماء البحر طاهر مطهِّر، لا يَخرُج عن الطُّهُوريَّة بحال، إلَّا إذا تغيَّر أحد أوصافه، ولم يُجِبْ ﷺ بقوله: نعم، مع إفادتها الغرض؛ بل أجاب بهذا اللَّفظ ليُقرِنَ الحُكم بعِلَّته، وهي الطُّهوريَّة المتناهية في بابها، وكأنَّ السَّائل لَمَّا رأى ماء البحر خالَفَ المياه بمُلوحة طَعمه، ونَتن ريحه، توهَّم أنَّه غيرُ مراد من

قوله تعالى:

 ( فَٱغۡسِلُواْ )

[المائدة: 6]

 أي: بالماء المعلوم، إرادته من

قوله: 

( فَٱغۡسِلُواْ  )ﱠ

[المائدة: 6]

 أو أنَّه لَمَّا عرف من

قوله تعالى:

 ( وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا )

[الفرقان: 48]

ظنَّ اختصاصه، فسأل عنه، فأفاده ﷺ الحُكم، وزاده حُكمًا لم يسأل عنه، وهو حِلُّ الْمَيتة[8]"

"فإن قيل: لِمَ لَمْ يُجِبْهُمْ بنعم حين قالوا: (أفنتوضَّأ به؟)؟ قلنا: لأنّه يَصِير مقيَّدًا بحال الضَّرورة، وليس كذلك، وأيضًا فإنّه يُفهَم من الاقتصار على الجواب بنعم أنّه إنّما يُتوضَّأ به فقط، ولا يُتطهَّر به لبقيَّة الأحداث والأنجاس"[9]

و"في الحديث جواز الطّهارة بماء البحر، وبه قال جميع العلماء إلّا ابنَ عبد البرِّ، وابنَ عمر، وسعيدَ بنَ المسيِّب[10]"

"وكان من ظاهر الجواب عن سؤاله أن يُقال: نعم، فأَطنَب وزاد في الجواب، وأَخرَج الجُملتين مُخرَج الحَصر، حيث عرَّف خَبَرَيْهما؛ يعني: ماء البحر لسَعته وغَزَارته حُكْمُه حُكم سائر المياه في طُهُوريَّته، وحِلِّ مَيْتَتِه، لا يتجاوز إلى النجاسة والحُرمة، فأَعلَمَ هذا الجواب بأن الزيادة على ما يَقتَضي الحالُ ذِكْرَه من شأن الهادي المرشِد، والحكيم العارف بالأدواء والدواء"[11]

"قوله: «الحلُّ مَيْتَته» فيه دليلٌ على حِلِّ جميع حيوانات البحر، حتّى كلبِه وخِنزيرِه وثُعبانه، وهو المصحَّح عند الشّافعيَّة، وفيه خلاف. ومن فوائد الحديث: مشروعيّةُ الزّيادة في الجواب على سؤال السّائل لقصر الفائدة، وعدم لزوم الاقتصار، وقد عقد البخاريُّ لذلك بابًا فقال: باب من أجاب السّائل بأكثرَ ممَّا سأله. فكأنّه سأله عن حالة الاختيار، فأجابه عنها، وزاد حالة الاضطرار، وليست أجنبيّةً عن السّؤال؛ لأنّ حالة السَّفر تقتضي ذلك[12]"

"وفي حديث الباب دليلٌ على أنّ المفتيَ إذا سُئل عن شيء، وعَلِم أنّ للسّائل حاجةً إلى ذِكر ما يتَّصِل بمسألته، استُحِبَّ تعليمه إيَّاه، ولم يكن ذلك تكلُّفًا لِما لا يَعنيه؛ لأنّه ذَكَر الطَّعَام وهم سألوه عن الماء؛ لِعلمه أنّهم قد يَعُوزهم الزّاد في البحر"[13]

فإنه ﷺ "لَمَّا عَرَف اشتباه الأمر على السَّائل في ماء البحر، أَشفَق أن يَشتبِه عليه حُكم مَيْتَته، وقد يُبتلى بها راكب البحر، فعقَّب الجوابَ عن سؤاله ببيان حُكم الْمَيتة... وذلك من محاسن الفتوى؛ أن يُجاء في الجواب بأكثرَ ممَّا سُئل عنه؛ تَتْمِيمًا للفائدة، وإفادةً لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكَّد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحُكم كما هنا؛ لأنَّ من توقَّف في طُهوريَّة ماء البحر، فهو عن العِلم بحِلِّ مَيْتَته مع تقدُّم تحريم الْمَيتة أشدُّ توقُّفًا، ثمَّ المراد ما مات فيه من دوابِّه ممّا لا يَعيش إلّا فيه، لا ما مات فيه مُطلَقًا؛ فإنَّه وإن صَدَق عليه لُغةً أنَّه مَيْتةُ بحرٍ، فمعلومٌ أنّه لا يُراد إلَّا ما ذَكَرْناه، وظاهرُه حِلُّ كلِّ ما مات فيه، ولو كان كالكلب والخِنْزير[14]"

المراجع

  1.  رواه مسلم (223).
  2.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
  3.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 31).
  4.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 19).
  5.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
  6.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
  7.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
  8. "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 20).
  9.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
  10.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
  11.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
  12.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 30، 31).
  13. "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 30، 31).
  14.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 20، 21).

النقول

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الطَّهور اسم للماء الذي يُتطهَّر به، ولا يجوز إلا أن يكون طاهرًا في نفسه، مطهِّرًا لغيره؛ لأن عُدولهم عن صيغة (فاعل) إلى (فَعول) أو (فعيل)؛ لزيادة معنى؛ لأن اختلاف الأبنية لاختلاف المعاني، فكما لا يجوز التسوية بين صابر وصَبور، وشاكر وشَكور، كذلك في طاهر وطَهور، والشَّيء إذا كان طاهرًا في نفسه، لا يجوز أن يكون من جنسه ما هو أطهرُ منه، حتى يَصِفه بطَهور لزيادة، وإذا نقلنا الطاهر إلى طَهور، لم يكن إلا لزيادة معنى، وذلك المعنى ليس إلَّا التطهير. فإن قيل: بناء الطَّهور من (طَهُر يَطهُر طهارةً)، وهو لازم، فكيف يجوز تَعْدِيَتُه بتطهير غيره؟ قلنا: النظر في هذه اللفظة أدَّى إلى أن فيه معنى التطهير؛ لأنه لا يجوز إطلاقه على الماء الذي ليس بمطهِّر؛ لأن العرب لا تسمِّي الشيء الذي لا يقع به التطهير طَهورًا، فمن هذا الوجه يَجِبُ أن يُعلَم، لا من التَّعَدِّي واللُّزوم[1]"

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «هو الطَّهور» وهو عند الشَّافعيَّة: المطهِّر، وبه قال أحمدُ، وحكى بعضُ أصحاب أبي حنيفةَ عن مالكٍ، وبعضُ أصحاب أبي حنيفةَ أنَّ الطَّهور هو الطَّاهر، واحتجَّ الأوَّلون بأنَّ هذه اللَّفظة جاءت في لسان الشَّرع للمطهِّر؛

كقوله تعالى:

  (  مَآءٗ طَهُورٗا  ) 

[الفرقان: 48]،

وأيضًا السَّائل إنّما سأل النّبيَّ ﷺ عن التَّطهُّر بماء البحر، لا عن طَهَارته، ويدلُّ على ذلك أيضًا قولُه ﷺ في بئر بُضاعةَ: «إنَّ الماءَ طَهُورٌ»؛ لأنّهم إنّما سألوه عن الوضوءِ به. قال في "الإمام شرح الإلمام": فإن قيل: لِمَ لَمْ يُجِبْهُمْ بنعم حين قالوا: (أفنتوضَّأ به؟)؟ قلنا: لأنّه يَصِير مقيَّدًا بحال الضَّرورة، وليس كذلك، وأيضًا فإنّه يُفهَم من الاقتصار على الجواب بنعم أنّه إنّما يُتوضَّأ به فقط، ولا يُتطهَّر به لبقيَّة الأحداث والأنجاس...

قال في "البدر المنير": في الحديث جواز الطّهارة بماء البحر، وبه قال جميع العلماء إلّا ابنَ عبد البرِّ، وابنَ عمر، وسعيدَ بنَ المسيِّب". وتعريف الطَّهور باللّام الجنسيَّة المفيدة للحصر لا ينفي طُهوريَّة غيره من المياه؛ لوقوع ذلك جوابًا لسؤال من شَكَّ في طُهوريَّة ماء البحر من غير قصد للحصر، وعلى تسليم أنَّه لا تخصيصَ بالسَّبب، ولا يُقصَر الخطاب العامُّ عليه، فمفهوم الحصر المفيد لنفي الطُّهوريَّة عن غير مَائه عمومٌ مخصَّص بالمنطوقات الصّحيحة الصَّريحة القاضية باتِّصاف غيره بها"[2]

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قال رسول اللّه ﷺ في البحر؛ أي: في حُكمه، والبحرُ الماء الكثير، أو المالح فقط، كما في القاموس، وهذا اللَّفظ ليس من مَقُوله ﷺ؛ بل مقولُه: «هو الطَّهور» بفتح الطَّاء، هو الْمَصدَر، واسمُ ما يُتطهَّر به، أو الطَّاهر المطهِّر كما في القاموس. وفي الشّرع: يُطلَق على المطهِّر، وبالضَّمِّ مصدرٌ، وقال سيبويهِ: إنّه بالفتح لهما، ولم يَذكُرْه في القاموس بالضَّمِّ. «ماؤه»: هو فاعل المصدر، وضميرُ (ماؤه) يقتضي أنّه أُريد بالضَّمير في قوله: «هو الطَّهور». البحر؛ يعني: مكانه؛ إذ لو أُريد به الماء لَمَا احتِيج إلى قوله: «ماؤه»؛ إذ يَصير في معنى طَهُور ماؤه في الماء. و«الحلُّ» هو مصدر حَلَّ الشَّيءُ ضِدُّ حَرُم، ولفظ الدَّارَقُطْنيِّ: الحَلال مَيْتَتُه، هو فاعلٌ أيضًا"[3]

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وكان من ظاهر الجواب عن سؤاله أن يُقال: نعم، فأَطنَب وزاد في الجواب، وأَخرَج الجُملتين مُخرَج الحَصر، حيث عرَّف خَبَرَيْهما؛ يعني: ماء البحر لسَعته وغَزَارته حُكْمُه حُكم سائر المياه في طُهُوريَّته، وحِلِّ مَيْتَتِه، لا يتجاوز إلى النجاسة والحُرمة، فأعلم هذا الجواب بأن الزيادة على ما يَقتَضي الحالُ ذِكْرَه من شأن الهادي المرشِد، والحكيم العارف بالأدواء والدواء[4]"

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «الحلُّ مَيْتَته» فيه دليلٌ على حِلِّ جميع حيوانات البحر، حتّى كلبِه وخِنزيرِه وثُعبانه، وهو المصحَّح عند الشّافعيَّة، وفيه خلاف. ومن فوائد الحديث: مشروعيّةُ الزّيادة في الجواب على سؤال السّائل لقصر الفائدة، وعدم لزوم الاقتصار، وقد عقد البخاريُّ لذلك بابًا فقال: باب من أجاب السّائل بأكثرَ ممَّا سأله. فكأنّه سأله عن حالة الاختيار، فأجابه عنها، وزاد حالة الاضطرار، وليست أجنبيّةً عن السّؤال؛ لأنّ حالة السَّفر تقتضي ذلك. قال الخطّابيُّ: وفي حديث الباب دليلٌ على أنّ المفتيَ إذا سُئل عن شيء، وعَلِم أنّ للسّائل حاجةً إلى ذِكر ما يتَّصِل بمسألته، استُحِبَّ تعليمه إيَّاه، ولم يكن ذلك تكلُّفًا لِما لا يَعنيه؛ لأنّه ذَكَر الطَّعَام وهم سألوه عن الماء؛ لِعلمه أنّهم قد يَعُوزهم الزّاد في البحر. انتهى"[5]

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "فأفاد ﷺ أنّ ماء البحر طاهر مطهِّر، لا يَخرُج عن الطُّهُوريَّة بحال، إلَّا ما سيأتي من تخصيصه بما إذا تغيَّر أحد أوصافه، ولم يُجِبْ ﷺ بقوله: نعم، مع إفادتها الغرض؛ بل أجاب بهذا اللَّفظ ليُقرِنَ الحُكم بعِلَّته، وهي الطُّهوريَّة المتناهية في بابها، وكأنَّ السَّائل لَمَّا رأى ماء البحر، خالَفَ المياه بمُلوحة طَعمه، ونَتن ريحه، توهَّم أنَّه غيرُ مراد من

قوله تعالى:

 ﱠ( فَٱغۡسِلُواْ  )ﱠ

[المائدة: 6]؛

أي: بالماء المعلوم، إرادته من

قوله:

( فَٱغۡسِلُواْ)

[المائدة: 6]،

أو أنَّه لَمَّا عرف من

قوله تعالى:

  ( وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا )

[الفرقان: 48]،

ظنَّ اختصاصه، فسأل عنه، فأفاده ﷺ الحُكم، وزاده حُكمًا لم يسأل عنه، وهو حِلُّ الْمَيتة. قال الرَّافعيُّ: لَمَّا عرف اشتباه الأمر على السَّائل في ماء البحر، أَشفَق أن يَشتبِه عليه حُكم مَيْتَته، وقد يُبتلى بها راكب البحر، فعقَّب الجوابَ عن سؤاله ببيان حُكم الْمَيتة. قال ابنُ العربيِّ: وذلك من محاسن الفتوى؛ أن يُجاء في الجواب بأكثرَ ممَّا سُئل عنه؛ تَتْمِيمًا للفائدة، وإفادةً لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكَّد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحُكم كما هنا؛ لأنَّ من توقَّف في طُهوريَّة ماء البحر، فهو عن العِلم بحِلِّ مَيْتَته مع تقدُّم تحريم الْمَيتة أشدُّ توقُّفًا، ثمَّ المراد ما مات فيه من دوابِّه ممّا لا يَعيش إلّا فيه، لا ما مات فيه مُطلَقًا؛ فإنَّه وإن صَدَق عليه لُغةً أنَّه مَيْتةُ بحرٍ، فمعلومٌ أنّه لا يُراد إلَّا ما ذَكَرْناه، وظاهرُه حِلُّ كلِّ ما مات فيه، ولو كان كالكلب والخِنْزير[6]"

قال الطِّيبيُّ :رحمه الله "في الحديث فوائدُ؛ منها: أن التوضُّؤ بماء البحر يَجُوز مع تغيُّر طَعْمِه ولَونه، ومنها أن الطَّهور هو المطهِّر؛ لأنه ﷺ سُئل عن تطهير ماء البحر، لا عن طهارته، ولولا أنهم عَرَفوه من الطَّهور، لكان لا يزول إشكالهم بقوله: «هو الطَّهور ماؤه». وقيل: الطَّهورُ ما يتكرَّر منه التَّطْهِير؛ كالصَّبور والشَّكور، وهو قول مالك، جوَّز الوضوء بالماء المستعمَل. ومنها أن حُكم جميع حيوان البحر إذا ماتت سواءٌ في الحِلِّ؛

لقوله تعالى: 

 (أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ)   

 [المائدة: ٩٦]"[7]

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "وأمّا ما وقع في كلام كثير من الأصوليّين أنّ الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسّؤال، فليس المرادُ بالمطابقة عَدَمَ الزّيادة؛ بل المراد أنّ الجواب يكون مفيدًا للحُكم المسؤول عنه. وللحديث فوائدُ غير ما تَقدَّم، قال ابن الملقِّن: إنّه حديث عظيم، أصلٌ من أصول الطّهارة، مشتمِل على أحكامٍ كثيرة، وقواعدَ مهمَّةٍ. قال الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قال الشّافعيُّ: هذا الحديث نصف علم الطَّهارة. وفيه من الفوائد: أن المفتيَ ينبغي له أن يَزيد المستفتيَ الحُكم الذي يحتاج إليه؛ فإن هذا السائل سأل عن حُكم ماء البحر، والذي يسأل عن ماء البحر، يحتاج إلى معرفة حُكم الميتة، فزاده النبيُّ ﷺ بيان حُكم أكل الميتة في البحر، فقال: «هو الطَّهور ماؤه، الحِلُّ مَيْتته»[8]"

قال ابن القيم رحمه الله: "فالجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة، والله سبحانه بحِكمته جعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته"[9]

 

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
  2.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
  3.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 19).
  4.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
  5.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 30، 31).
  6.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 20، 21).
  7.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
  8.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 31).
  9.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).

مشاريع الأحاديث الكلية