عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه ، عن النَّبِيِّ أنه قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ»؛ أَيْ: كلُّ البَشَر كَثِيرُو الْخَطَأِ. «وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»؛ أي: وخيرُهم من يُسارع في التوبة، فكما هو كثير الخطأ، فهو كثير التوبة.

الشرح المفصَّل للحديث

خلق الله تعالى الخَلْقَ لغايات عظيمة، وحِكَم جليلة، من أجلِّها عبادةُ الله عزَّ وجلَّ وتوحيده؛

قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

[الذاريات: 56]

وقال تعالى:

﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾

[الأنبياء: 25]

فالإنسان مأمور بمعرفة الله، وتوحيده، وعبادته، وأَودَع الله في كل إنسان خَلَقَه القُدرة على فعل الخير والشرِّ؛

قال تعالى:

﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن﴾

[البلد: 10]؛

أي: دَلَلْناه على طريق الخير وطريق الشرِّ، وتَركْنا له حرية الاختيار بينهما، و

قال تعالى

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾

[الشمس: 7-8]

أي: بيَّن لها الخير والشرَّ، وهداها لما قُدِّر لها، ثم أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب؛ حتى يستقيم الإنسان على عبادته، فيَحُوز خيرَيِ الدنيا والآخرة، فمن اتَّبَع الرُّسُل، واستقام على نهجهم، أفلح ونجا؛

قال تعالى:

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾

[طه: 123]

إلا أن الإنسان وهو سائر في طريقه إلى الله، معرَّض للوقوع في الذنوب والمعاصي والأخطاء؛ إذ النقصُ من جملة صفاته؛

قال تعالى:

﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾

[النساء: 28]

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الله قد فتح لعباده باب التوبة من الذنوب والمعاصي، فما كان الله ليَخْلُق عباده بهذه الصفات إلا لحكمة بليغة هو يَعلَمها، وهي: أن يَعبُد المسلم ربَّه بالتوبة والإنابة والرجوع إليه؛ ففي حديث أنسٍ رضي الله عنه يقرِّر النبيُّ سنَّة من سنن الله في خلقه، وهي أن كلَّ بني آدمَ يَقَع في الذنوب والمعاصي، فإذا ما وقعوا فيها، فباب التوبة مفتوح، فليبادروا بها.

يقول «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ»؛ أي: كثيرو الخطأ، وخطَّاء من صِيَغ المبالغة، والمراد بالخطأ: المعصيةُ عَمْدًا ومطلَقًا، ويَدخُل فيها الصغائر والكبائر، والأنبياءُ معصومون من الوقوع في الكبائر، وقد يَقَع من بعضهم بعضُ الصغائر على الراجح من أقوال أهل العلم؛ إلا أنهم سُرعانَ ما يتوبون إلى الله ويستغفرونه، ودليل ذلك

قوله تعالى:

﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ 121 ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ﴾

[طه: 121-122]

و"القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمِديُّ أن هذا قولُ أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قولُ أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء؛ بل هو لم يَنقُل عن السَّلف والأئمَّة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول"[1]

وإذا كان الإنسان بطبعه كثيرَ المعاصي، فإن ذلك ليس مبرِّرًا له على الإطلاق في الاسترسال في الذنوب والمعاصي، فهو مأمورٌ بتصحيح ذنبه؛ ولذلك جاءت الجملة الثانية من الحديث تُرشده إلى طريق الخلاص والتوبة من المعاصي، فقال «وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»؛ أي: والخيرية والأفضلية إنما تكون للرّجَّاعين والتائبين والمستغفرين، إلى الله بالتوبة من المعصية إلى الطاعة، فكلَّما أذنب أحدهم، أَحدَث توبةً إلى الله تعالى، وبادَرَ إلى طلب المغفرة من الله تعالى، فهذه صفة من صفات المتَّقِين؛

قال تعالى: 

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

 [آل عمران: 135]،

"فأثنى على المستغفِرين، وفي ضِمْنِ ثنائه بالاستغفار لوَّح بالأمر به، كما قيل: إن كلَّ شيء أَثنى اللهُ على فاعله، فهو آمِرٌ به، وكلَّ شيء ذَمَّ فاعلَه، فهو ناهٍ عنه"[2]

  وعلى المسلم إذا ما أَذنَب أن يُسارع إلى التوبة، ولا يَيْئَس من رحمة الله - عزَّ وجلَّ - فاليأس من رحمة الله صفة من صفات الكافرين وأهل الضلال؛

قال تعالى:

﴿ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾

[يوسف: 87]

قال تعالى:

﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾

[الحجر: 56]

 فـ"اليأس من رحمة الله فيه تكذيب القرآن؛

 إذ يقول وقولُه الحقُّ:

﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾

[الأعراف: 156]"[3]

ومهما كانت الذنوبُ، فإن الله يغفرها جميعًا، ويتوب على أصحابها إذا تابوا؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ:

«أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»

[4]،

وفي الحديث دلالة على أن العبد الصالح كلَّما قارَف ذنبًا، عاد مسرِعًا تائبًا من ذنبه، منيبًا إلى ربِّه، لا أنه مُصِرٌّ على الذنوب، وذلك معنى

قوله تعالى:

﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾

[النساء: 17]

 فإذا تاب المذنبون، وأنابوا إلى ربهم، قَبِل توبتهم، وفتح لهم أبواب رحمته؛

قال تعالى:

﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾

[الشورى: 25]

       وبالإصرار على الذنوب وإن كانت صغيرةً، فإنها تتحوَّل إلى كبائرَ، "اعلم أن الصغيرة تَكبُر بأسباب، منها: الإصرارُ، والمواظبة؛ ولذلك قيل: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار، فكبيرةٌ واحدة تَنصرِم ولا يَتبَعها مثلُها، لو تصوّر ذلك، كان العفوُ عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها، ومثال ذلك: قَطَرات من الماء تقع على الحَجَر على تَوَالٍ فتؤثِّر فيه، وذلك القدرُ من الماء لو صُبَّ عليه دَفْعةً واحدة لم يؤثِّر"[5].

لذا؛ حذَّرنا النبيُّ من المداوَمَة على فعل الصغائر؛ لأن فيها هلاكًا للعبد؛

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

«إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»

[6]

وحذَّر الْمُصِرِّين على الصغائر بالوَيْلِ والعذاب الشديد؛

فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاص رضي الله عنهما،

عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»

[7]

 وباب التوبة مفتوح لا يُغلِقه الله في وجه عباده ما لم تَبلُغ الرُّوح الحُلْقوم؛

فعَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»

[8]

 فالله عزَّ وجلَّ يَقبَل توبة عبده ما لم يَحضُره الموت، أو تَطلُع الشمس من مغربها؛

قال تعالى:

﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾

[النساء: 18].

ويَفرَح الله بتوبة عبده، أكثرَ من فرح رجل وجد طعامه وشرابه في الصحراء بعدما فَقَدهما، وأَشرَف على الهلاك؛

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ:

«للَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»

[9]

والتوبةُ سببٌ كافٍ لنَيل محبَّة الله تعالى؛ قال عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

[البقرة: 222]،

وفي الحديث أن النبيَّ كان يستغفر في اليوم أكثرَ من سبعين مرَّةً؛

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:

«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً».

[10]

   وللتوبة شروطٌ حتى تُقبَل، هي: إخلاص النية لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على ارتكابها، والعَزْمُ على عدم العودة إلى المعصية، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، إذا كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوق العباد، وأن تكون في الوقت المخصَّص لقَبولها؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل لحظة الموت.

فضائل التوبة: 

أولاً: التوبة سببٌ لنَيل محبَّة الله تعالى؛

قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

[البقرة: 222].

ثانيًا: التوبة سبب لنور القلب ومحوِ أثر الذنب؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ؛ ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]»

[11]

ثالثًا: التوبة سبب لتكفير السيِّئات، وغفران الذنوب؛

قال تعالى:

﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

[الفرقان: 70].

رابعًا: التوبة سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار؛

قال تعالى:

﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾

[مريم: 60].

خامسًا: التوبة سبب لنزول الغَيث، وزيادة القوَّة؛

قال تعالى

﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾

[هود: 52].

سادسًا: التوبة سبب للتوفيق والفلاح؛

قال تعالي

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[النور:33]

المراجع

  1. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/ 319).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 320).
  3. "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيِّ (5/ 160).
  4. رواه البخاريُّ (7507)، ومسلم (2758).
  5. إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/ 32).
  6. رواه أحمدُ (22808)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
  7. رواه أحمدُ (6541)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد" (ص: 151).
  8. رواه أحمد (6160)، والترمذيُّ (3537)، وابن ماجه (4253) وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3143).
  9.  رواه البخاريُّ (6308)، ومسلم (2744).
  10.  رواه البخاريُّ (6307).
  11. رواه الترمذيُّ (3334)، وابن ماجه (4244)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.


النقول

قال الطِّيبيُّ رحمه الله : "«خطَّاء» يقال: رجل خطَّاء، إذا كان ملازمًا للخطايا، غيرَ تارك لها، وهو من أَبْنِيَة المبالغة. أقول: إن أُرِيد بلفظ الكلِّ الكلُّ من حيث هو كلٌّ، كان تغليبًا؛ لأن فيهم الأنبياءَ، وليسوا مبالِغين في الخطأ، وإن أريد به الاستغراقُ، وأن كلَّ واحد خطَّاء، فلا يستقيم إلا على التوزيع، كما تقول: هو ظلَّام لعَبِيده؛ أي: يَظلِم كل أَحَدٍ واحد، فهو ظالم بالنسبة إلى كلِّ أحد، وظلَّام بالنسبة إلى المجموع، وإذا قلتَ: هو ظلَّام لعبده، كان مبالِغًا في الظُّلم.

فيه تعميم جميع بني آدم، حتى الأنبياء؛ لكنهم خُصُّوا منه لكونهم معصومين، واختلفوا في أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر، أم عن الكبائر؟ فمن قال: هم غير معصومين عن الصغائر، استدلُّوا بعصيان آدَمَ، وكذب إبراهيم عليهما السلام، ومن قال: هم معصومون عن الصغائر أيضًا، حَمَلوا زَلَّاتِ الأنبياء على النسيان والخطأ، وهذا هو الأَوْلى؛ لِمَا فيه من تعظيم الأنبياء، وقد أُمِرنا بتعظيمهم. أقول: إخراجُه الأنبياءَ من هذا الحديث بالنظر إلى بناء المبالَغة، وإثبات الخطأ لهم بالنظر إلى التوزيع"[1].

قال الملا علي القاري  رحمه الله: "«كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ»؛ أي: كثيرُ الخطأ، أَفرَد نظرًا إلى لفظ الكلِّ، وفي رواية: (خطَّاؤون)؛ نظرًا إلى معنى الكلِّ. قيل: أراد الكلَّ من حيث هو كلٌّ، أو كلُّ واحد، وأمّا الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - فإمّا مخصوصون عن ذلك، وإمّا أنّهم أصحاب صغائرَ، والأوّل أَوْلى؛ فإنّ ما صدر عنهم من باب ترك الأَولى، أو من قَبيل "حسنات الأبرار سيّئات المقرَّبين"، أو يقال: الزّلّات المنقولة عن بعضهم محمولة على الخطأ والنّسيان من غير أن يكون لهم قصد إلى العصيان. «وخير الخطّائين التّوّابون»؛ أي: الرّجَّاعون إلى اللّه بالتّوبة من المعصية إلى الطّاعة، أو بالإنابة من الغفلة إلى الذِّكر، أو بالأَوْبة من الغَيْبة إلى الحضور"[2].

 قال المناويُّ  رحمه الله: "«كل بني آدم خطَّاء» بشدِّ الطاء والتنوين. يقال: رجل خطَّاء إذا كان ملازمًا للخطأ، وهو من أبنية المبالغة. «وخير الخطَّائين التوَّابون» يعني أن العبد لا بدَّ أن يجريَ عليه ما سَبَق به القَدَرُ؛ فكأنه قال: لا بدَّ لك من فعل الذنوب والخطايا؛ لأن ذلك مكتوبٌ عليك، فأحدِثْ توبةً؛ فإنه لا يؤتى العبد من فعل المعصية وإن عَظُمت؛ وإنما يُؤتى من ترك التوبة وتأخيرها؛ فإن الله غفور يحبُّ التوَّابين"[3]

قال الصنعانيُّ  رحمه الله: "«كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاؤونَ»؛ أي: كثيرو الخطأ؛ إذ هو صيغة مبالغة، «وخير الخطّائين التّوّابون»، أخرجه التّرمذيُّ وابن ماجه وسنده قويٌّ، والحديث دالٌّ على أنّه لا يخلو من الخطيئة إنسان؛ لِما جُبل عليه هذا النّوع من الضّعف وعدم الانقياد لمولاه في فعل ما إليه دعاه، وترك ما عنه نهاه؛ ولكنّه تعالى بلُطفه فتح باب التّوبة لعباده، وأخبر أنّه خير الخطّائين التّوّابون المكثِرون للتّوبة على قدر كثرة الخطأ. وفي الأحاديث أدلَّة على أنّ العبد إذا عصى اللّه وتاب، تاب اللّه عليه، ولا يزال كذلك، ولن يَهلِك على اللّه إلّا هالك"[4]

قال ابن القيم  رحمه الله: "من أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده"[5].

قال ابن عثيمين  رحمه الله: "«يَا عِبَادي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ»؛ أي: تجانبون الصواب؛ لأن الأعمال إما خطأٌ وإما صواب، فالخطأ مجانَبةُ الصواب، وذلك إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرَّم. وقوله: بِالَّليْلِ الباء هنا بمعنى: (في)... «وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»؛ أي: أسترُها وأتجاوز عنها مهما كَثُرت، ومهما عَظُمت؛ ولكن تحتاج إلى الاستغفار. «فَاستَغفِرُونِي أَغْفِر لَكُم»؛ أي: اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة؛ كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما تكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غُفرت خطاياه ولو كانت مثلَ زبَد البحر"[6]

قال ابن دقيق العيد  رحمه الله: "وقوله: «إنكم تخطئون بالليل والنهار» في هذا الكلام من التوبيخِ ما يَسْتحي منه كلُّ مؤمن؛ وذلك أن اللهَ خلَقَ الليل ليُطاع فيه، ويُعبَد بالإخلاص، حيث تسلَمُ الأعمال فيه غالبًا من الرِّياء والنفاق، أفلا يَستحي المؤمن ألَّا يُنفِق الليل والنهار في الطاعة؟! فإنه جُعِل مشهودًا من الناس، فيَنْبغي من كلِّ فطِن أن يُطيع الله فيه أيضًا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالَفة. وكيف يَحسُن بالمؤمن أن يخطئ سرًّا أو جهرًا؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: «وأنا أغفر الذنوب جميعًا»، فذَكَر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف، وأكَّدها بقوله: «جميعًا» وإنما قال ذلك قبل أمره؛ إيمانًا بالاستغفار؛ لئلا يَقنَط أحد من رحمة الله لعظم ذنب ارتكبه"[7]

قال ابن تيميَّة  رحمه الله: "القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمِديُّ أن هذا قولُ أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قولُ أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء؛ بل هو لم يَنقُل عن السَّلف والأئمَّة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول"[8].

قال الغزاليُّ  رحمه الله: "اعلم أن الصغيرة تَكبُر بأسباب، منها: الإصرارُ، والمواظبة؛ ولذلك قيل: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار، فكبيرةٌ واحدة تَنصرِم ولا يَتبَعها مثلُها، لو تصوّر ذلك، كان العفوُ عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها، ومثال ذلك: قَطَرات من الماء تقع على الحَجَر على تَوَالٍ فتؤثِّر فيه، وذلك القدرُ من الماء لو صُبَّ عليه دَفْعةً واحدة لم يؤثِّر"[9]

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1847، 1848).
  2. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1622).
  3. فيض القدير" للمناويِّ (5/ 16).
  4. سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 653).
  5. الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).
  6. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 240، 241).
  7.  "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 89، 90).
  8. مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/ 319).
  9. إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/ 32).


غريب الحديث

خَطَّاء: الخطأ: الذَّنْبُ والإثم، وخطَّاء صيغة مبالغة، وأخطأ يُخطئ: إذا سَلَك سبيل الخطأ عَمْدًا أو سَهْوًا [1]

التَّوَّابُونَ: تاب: عاد إلى الله ورجع وأناب، وتاب الله عليه؛ أي: عاد عليه بالمغفرة، وتوَّاب صيغة مبالغة [2]

المراجع

  1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 44).
  2. "تهذيب اللغة" للأزهريِّ (14/ 236).


مشاريع الأحاديث الكلية