عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي اللَّه عنهمَا - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي اللَّه عنهمَا - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»
يروي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي اللَّه عنهمَا - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»: يخبر النبيُّ ﷺ أن المسلم الحقَّ الكاملَ الإسلامِ، هو الذي يَكُفُّ أَذَى لسانه ويَدِه عن المسلمين، فلا يَصِلُ منه إليهم إلَّا الخيرُ والمعروف، وأن المهاجر الحقَّ الممدوحَ هو الذي هَجَر ما نهى الله عنه من المعاصي والآثام.
الشرح المفصَّل للحديثإن "الدين كلَّه خُلُقٌ، فمن زاد عليك في الخُلق، زاد عليك في الدين" [1]، لذا؛ كانت كثيرٌ من أحاديث النبيِّ ﷺ تدور حول توجيه المسلم الحقِّ، الذي يحرص على الالتزام بالإسلام الكامل، إلى التّحلّي بالآداب والأخلاق الإسلاميَّة، التي تُوثِّق الأُلْفة والمودَّة بين المسلمين.
ففي هذا الحديث
يقول النَّبِيُّ ﷺ:
«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»
أي: إن المسلم الحقَّ الكاملَ الجامعَ لخصال الإسلام هو من لم يؤذِ مسلمًا بقول ولا فعل.
وقول النَّبِيِّ ﷺ "يقتضي حَصْرَ المسلم فيمن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمرادُ بذلك المسلمُ الكامِلُ الإسلامِ، فمن لم يَسلَم المسلمون من لسانه ويده، فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجبِ، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبةٌ، فإن أذى المسلم حرامٌ باللسان وباليد، فأذى اليدِ: الفعل، وأذى اللسانِ: القول" [2].
والإسلام يُطلَق على معانٍ كثيرة؛ فيُطلَق الإسلامُ على الأصول الخمسة التي بيَّنها النبيُّ ﷺ لجبريلَ حين سَأَله عن الإسلام، فقال: «أن تَشهَدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسولُ الله، وتُقِيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضانَ، وتَحُجَّ البيت»، ويُطلَق الإسلامُ على السلامة؛ يعني: أن يَسلَم الناسُ من شرِّ الإنسان، فيُقال: أَسلَم بمعنى: دَخَل في السِّلْم؛ أي: الْمُسالمة للناس، بحيث لا يؤذي الناسَ، ومنه هذا الحديث: «المسلِمُ مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده». سَلِم المسلمون من لسانه، فلا يَسُبُّهم، ولا يَلْعَنُهم، ولا يَغتابُهم، ولا يَنُمُّ بينهم، ولا يسعى بينهم بأيِّ نوع من أنواع الشرِّ والفساد، فهو قد كَفَّ لسانه، وكفُّ اللسان من أشدِّ ما يكون على الإنسان، وهو من الأمور التي تَصعُب على الْمَرْء، وربَّما يَستسهِلُ إطلاقَ لسانِه؛
ولهذا قال النبيُّ ﷺ لمعاذِ بنِ جبلٍ:
«أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا رسول اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نفسه، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِه؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»
[3].
فاللِّسان من أشدِّ الجوارح خطرًا على الإنسان؛ ولهذا إذا أصبح الإنسان، فإن الجوارح: اليديْنِ والرِّجلين والعَينين، كلُّ الجوارح تكفِّر اللسان، وكذلك أيضًا الفَرْج؛ لأن الفرج فيه شهوةُ النكاح، واللسان فيه شهوة الكلام، وقلَّ من سَلِم من هاتين الشهوتينِ. فالمسلمُ من سلم المسلمون من لسانه؛ أي: كفَّ عنهم، لا يَذكُرُهم إلا بخير، فهو رجلٌ مسالِم، إذا سَمِع السوء حَفِظ لسانه، وليس كما يفعل بعض الناس إذا سمع السُّوء في أخيه المسلم، طار به فَرحًا، وطار به في البلاد نَشْرًا؛ فإن هذا كما في الحديث ليس بمسلم.
والمسلم من سَلِم المسلمون من يده، فلا يعتدي عليهم بالضَّرب، أو الجَرح، أو أخذ المال، أو ما أَشبَه ذلك، قد كفَّ يده لا يأخذ إلا ما يستحقُّه شرعًا، ولا يعتدي على أحد، فإذا اجتمع للإنسان سلامة الناس من يده ومن لسانه، فهذا هو الْمُسلم [4].
"وليس المرادُ نفيَ أصلِ الإسلام عمَّن لم يكن بهذه الصِّفة؛ بل هذا كما يُقال: العِلْمُ ما نَفَع، أو العَالِمُ زَيْدٌ؛ أي: الكامل، أو المحبوب، وكما يُقال: النَّاسُ العَرَبُ، والمالُ الإبل؛ فكلُّه على التَّفضيل لا للحَصْرِ، ويدلُّ على ما ذكرناه من معنى الحديث قولُه: أيُّ المسلمين خير؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، ثمَّ إنَّ كمال الإسلام والمسلم متعلِّق بخصال أُخَرَ كثيرةٍ، وإنّما خصَّ ما ذَكَرَ لِمَا ذَكَرناه من الحاجة الخاصَّة" [5].
و"الإسلام في الشرع على ضربين؛ أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يُحقَن الدَّمُ، حَصَل معه الاعتقاد أو لم يَحصُل، وإيَّاه قَصَد بقوله تعالى:
﴿۞ قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوٓا أَسْلَمْنَا﴾
[الحجرات: 14]،
والثاني: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقادٌ بالقلب، ووفاءٌ بالفعل، واستسلامٌ لله في جميع ما قضى وقدَّر،
كما ذَكَر عن إبراهيم - عليه السلام -:
﴿إِذْ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾
[البقرة: ١٣١]" [6].
وقد عُلِم من هذا الحديث أن من لم يَسلَم الناس من لسانه أو يده، فليس بمسلمٍ حقًّا، فمن كان ليس لهم همٌّ إلا القيل والقالَ في عباد الله، وأكلَ لحومهم وأعراضهم، فهذا ليس بمسلم حقًّا، وكذلك من كان ليس لهم همٌّ إلا الاعتداءَ على الناس بالضَّرب، وأخذ المال، وغير ذلك مما يتعلَّق باليد، فإنه ليس بمسلم حقًّا.
وقد خصَّ النبيُّ ﷺ اللّسان واليد؛ لكثرة أخطائهما وأضرارهما؛ فإنَّ معظم الشُّرور تَصدُر عنهما؛ فاللّسانُ يَكذِب، ويغتاب، ويسبُّ، ويشهد بالزُّور، واليدُ تضرب، وتقتل، وتَسرِق، وهلم جرًّا.
وقدَّم اللّسان على اليد؛ لأنّ الإيذاء به أكثرُ وأسهل، وأشدُّ نكايةً، ويعمُّ الأحياء والأموات جميعًا.
قول النَّبِيِّ ﷺ: «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»؛ فالمهاجرُ الممدوحُ هو الذي جمع إلى هِجران وَطَنه وعشيرته هِجْرانَ ما حرَّم الله تعالى عليه؛ فمجرَّد هجرة بلد الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليست بهجرة تامَّة كاملة؛ فالمهاجر بحقٍّ هو الّذي لم يقف عند الهجرة الظّاهرة، فترك دار الحرب إلى دار الأمن؛ بل هو من هجر كلَّ ما نهى الله عنه.
وهذا توضيح وتوسيع لمعنى الهجرة الممدوحة في الشرع، يُعلِم المهاجرين أنه واجبٌ عليهم أن يلتزموا هَجْرَ ما نهى الله عنه، ولا يتَّكِلوا على الهجرة فقط، ويُعلِم من حَزِن على فوات الهجرة ولم يدركها أن المهاجر على الحقيقة من هَجَر ما نهى الله عنه.
"فأصل الهجرة: هِجْرانُ الشرِّ، ومباعدتُه؛ لطَلَب الخَير، ومحبَّته، والرغبة فيه. والهجرةُ عند الإطلاق في السنَّة إنما تَنصرِف إلى هِجران بلد الشِّرك إلى دار الإسلام؛ رغبةً في تعلُّم الإسلام، والعمل به، وإذا كان كذلك، فأصل الهجرة: أن يَهجُر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيَدخُل في ذلك هِجرانُ بلد الشِّرك رغبةً في دار الإسلام، وإلا فمجرَّدُ هجرة بلد الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامَّةٍ كاملة؛ بل الهجرة التامَّة الكاملة: هِجرانُ ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه" [7].
ففي الحديث "أن المسلم الممدوح والمهاجِرَ مَن هذه صِفَتُه، لا أن الإسلام ينتفي عمَّن لم يكن بهذه الصفة، فهو كقولهم: الناس العَرَبُ، والمالُ الإبل، يريدون أن الأفضل منهما ذلك، وكذلك أفضلُ المسلمين مَن جَمَع إلى أداء حقوق الله تعالى أداءَ حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم، وأفضل المهاجرين من جَمَع إلى هجرانِ وطنه هجرانَ ما حرَّم الله عليه" [8].
1. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 307).
2. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 37، 38).
3. رواه أحمد (22665)، وابن ماجهْ (3973)، والترمذيُّ (2616)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
4. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 512، 513).
5. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 10).
6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 442).
7. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 39).
8. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 441).
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلَّب: يُريد المسلمَ المستكمِلَ لأُمور الإسلام خلاف قول المرجئة. والمرادُ بهذا الحديث الحضُّ على ترك أذى المسلمين باللسان واليد، والأذى كلِّه؛ ولهذا قال الحسن البصريُّ: الأبرارُ هم الذين لا يُؤذون الذَّرَّ والنَّمل. وقوله: «والمهاجر مَن هَجَر ما نهى الله عنه». قال أبو الزناد: لَمَّا انقطعت الهِجرة وفَضْلُها، حَزِن على فواتها من لم يدركها من أصحاب الرسول ﷺ، فأَعلمَهم أن المهاجر على الحقيقة من هَجَر ما نهى الله عنه، وقال غيره: أَعلَم المهاجرين أنه واجبٌ عليهم أن يلتزموا هَجْرَ ما نهى الله عنه، ولا يتَّكِلوا على الهجرة فقط" [1].
قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده»؛ معناه: من لم يُؤذِ مسلمًا بقول ولا فعل، وخصَّ اليدَ بالذِّكر لأنَّ معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها لِما ذَكَرناه، واللّه تعالى أعلم. وقوله ﷺ: «مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده»، قالوا: معناه: المسلمُ الكامِلُ، وليس المرادُ نفيَ أصلِ الإسلام عن من لم يكن بهذه الصِّفة؛ بل هذا كما يُقال: العِلْمُ ما نَفَع، أو العَالِمُ زَيْدٌ؛ أي: الكامل، أو المحبوب، وكما يُقال: النَّاسُ العَرَبُ، والمالُ الإبل؛ فكلُّه على التَّفضيل لا للحَصْرِ، ويدلُّ على ما ذكرناه من معنى الحديث قولُه: أيُّ المسلمين خير؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، ثمَّ إنَّ كمال الإسلام والمسلم متعلِّق بخصال أُخَرَ كثيرةٍ، وإنّما خصَّ ما ذَكَرَ لِمَا ذَكَرناه من الحاجة الخاصَّة، واللّه أعلم" [2].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «المسلم من سلم المسلمون»، فإن قلتَ: إذا سَلِم المسلمون منه، يَلزَم أن يكون مسلمًا، وإن لم يأتِ بسائر الأركان؟ قلتُ: هذا واردٌ على سبيل المبالغة؛ تعظيمًا لترك الإيذاء؛ كأن ترك الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، وهو محصور فيه على الادِّعاء كرماد... أراد أن المسلم الممدوح والمهاجِرَ مَن هذه صِفَتُه، لا أن الإسلام ينتفي عمَّن لم يكن بهذه الصفة، فهو كقولهم: الناس العَرَبُ، والمالُ الإبل، يريدون أن الأفضل منهما ذلك، وكذلك أفضلُ المسلمين مَن جَمَع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم، وأفضل المهاجرين من جَمَع إلى هجرانِ وطنه هجرانَ ما حرَّم الله عليه. وأقول: تحقيقُه أن التعريف في المسلم والمهاجر للجِنس، قال ابن جنِّي: مِن عادتهم أن يُوقِعوا على الشيء الذي يخصُّونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سمَّوُا الكعبة بالبيت؟ وكتاب سيبويه بالكتاب؟
كلُّ اسم نوع فإنه يُستعمَل على وجهين؛ أحدهما: دلالة على المسمَّى، وفصلًا بينه وبين غيره. والثاني: لوجود المعنى المختصِّ به، وذلك هو الذي يُمدَح به؛ وذلك أن كلَّ ما أَوْجَده الله في هذا العالم جعله صالحًا لفعل خاصٍّ، ولا يَصلُح لذلك العملِ سِواه؛ كالفَرَسِ للعَدْوِ الشديد، والبَعِيرِ تَقطَع الفَلاة البعيدة؛ والإنسانِ ليَعلَم ويَعمَل بحسَبه، وكلُّ شيء لم يوجد كاملًا لِما خُلِق له لم يستحِقَّ اسمَه مُطلَقًا؛ بل قد ينتفي عنه؛ كقولهم: فلانٌ ليس بإنسان؛ أي: لا يوجد فيه المعنى الذي خُلِق لأجله من العِلم والعَمَل؛ فعلى هذا إذا وجدتَ مسلمًا يؤذي المسلمين بلسانه ويده، فقلتَ له: لستَ بمسلِمٍ، عَنَيْتَ أنك لستَ بكامل فيما تحلَّيْتَ به من حِلْيَة الإسلام، وهذا معنى قول محيي السنَّة: إن الإسلام يُنفَى عمَّن ليس بصفته" [3].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأما رواية (المسلم)، فيقتضي حَصْرَ المسلم فيمن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمرادُ بذلك المسلمُ الكامِلُ الإسلامِ، فمن لم يَسلَم المسلمون من لسانه ويده، فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجبِ، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبةٌ، فإن أذى المسلم حرامٌ باللسان وباليد، فأذى اليدِ: الفعل، وأذى اللسانِ: القول. والظاهر: أن النبيَّ ﷺ إنما وصف بهذا في هذا الحديث لأن السائل كان مسلِمًا قد أتى بأركان الإسلام الواجبة لله عزَّ وجلَّ، وإنما يَجهَل دخول هذا القدر الواجب من حقوق العباد في الإسلام، فبيَّن له النبيُّ ﷺ ما جَهِله" [4].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "والْمُسْلِمُ يُطلَق على معانٍ كثيرة؛ منها: المستسلمُ، الْمُستسلِمُ لغَيره يُقال له: مسلم، ومنه على أحد التفسيرين
قوله تعالى:
﴿۞ قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوٓا أَسْلَمْنَا﴾
[الحجرات: 14]،
أي: قولوا: اسْتَسْلَمْنا، ولم نقاتلكم، والقول الثاني في الآية: إن المراد بالإسلام الإسلامُ لله - عزَّ وجلَّ - وهو الصحيح.
والمعني الثاني يُطلَق الإسلامُ على الأصول الخمسة التي بيَّنها النبيُّ ﷺ لجبريلَ حين سَأَله عن الإسلام، فقال: «أن تَشهَدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسولُ الله، وتُقِيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضانَ، وتَحُجَّ البيت». ويُطلَق الإسلامُ على السلامة؛ يعني: أن يَسلَم الناسُ من شرِّ الإنسان، فيُقال: أَسلَم بمعنى: دَخَل في السِّلْم؛ أي: الْمُسالمة للناس، بحيث لا يؤذي الناسَ، ومنه هذا الحديث: «المسلِمُ مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده». سَلِم المسلمون من لسانه، فلا يَسُبُّهم، ولا يَلْعَنُهم، ولا يَغتابُهم، ولا يَنُمُّ بينهم، ولا يسعى بينهم بأيِّ نوع من أنواع الشرِّ والفساد، فهو قد كَفَّ لسانه، وكفُّ اللسان من أشدِّ ما يكون على الإنسان، وهو من الأمور التي تَصعُب على الْمَرْء، وربَّما يَستسهِلُ إطلاقَ لسانِه؛
ولهذا قال النبيُّ ﷺ لمعاذِ بنِ جبلٍ:
«أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا رسول اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نفسه، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِه؟ِ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ في النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»
[5].
فاللِّسان من أشدِّ الجوارح خطرًا على الإنسان؛ ولهذا إذا أصبح الإنسان، فإن الجوارح: اليديْنِ والرِّجلين والعَينين، كلُّ الجوارح تكفِّر اللسان، وكذلك أيضًا الفَرْج؛ لأن الفرج فيه شهوةُ النكاح، واللسان فيه شهوة الكلام، وقلَّ من سَلِم من هاتين الشهوتينِ. فالمسلمُ من سلم المسلمون من لسانه؛ أي: كفَّ عنهم، لا يَذكُرُهم إلا بخير، ولا يسبُّ، ولا يغتاب، ولا يَنُمُّ، ولا يحرِّش بين الناس، فهو رجلٌ مسالِم، إذا سَمِع السوء حَفِظ لسانه، وليس كما يفعل بعض الناس، إذا سمع السُّوء في أخيه المسلم، طار به فَرحًا، وطار به في البلاد نَشْرًا؛ فإن هذا ليس بمسلم. الثاني: من سَلِم المسلمون من يده، فلا يعتدي عليهم بالضَّرب، أو الجَرح، أو أخذ المال، أو ما أَشبَه ذلك، قد كفَّ يده لا يأخذ إلا ما يستحقُّه شرعًا، ولا يعتدي على أحد، فإذا اجتمع للإنسان سلامة الناس من يده ومن لسانه، فهذا هو الْمُسلم" [6].
قال ابن رجب رحمه الله: "وقوله: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، فأصل الهجرة: هِجْرانُ الشرِّ، ومباعدتُه لطَلَب الخَير، ومحبَّته، والرغبة فيه. والهجرةُ عند الإطلاق في كتاب السنَّة إنما تَنصرِف إلى هِجران بلد الشِّرك إلى دار الإسلام؛ رغبةً في تعلُّم الإسلام، والعمل به، وإذا كان كذلك، فأصل الهجرة: أن يَهجُر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيَدخُل في ذلك هِجرانُ بلد الشِّرك رغبةً في دار الإسلام، وإلا فمجرَّدُ هجرة بلد الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامَّةٍ كاملة؛ بل الهجرة التامَّة الكاملة: هِجرانُ ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه" [7].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الإسلام في الشرع على ضربين؛ أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يُحقَن الدَّمُ، حَصَل معه الاعتقاد أو لم يَحصُل، وإيَّاه قَصَد بقوله تعالى:
﴿۞ قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوٓا أَسْلَمْنَا﴾
[الحجرات: 14]،
والثاني: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقادٌ بالقلب، ووفاءٌ بالفعل، واستسلامٌ لله في جميع ما قضى وقدَّر،
كما ذَكَر عن إبراهيم - عليه السلام -:
﴿إِذْ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾
[البقرة: ١٣١] [8].
قال ابن رجب رحمه الله: "وإنّ الإسلام الكاملَ الممدوحَ يَدخُل فيه ترك المحرَّمات؛ كما قال ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وإذا حَسُن الإسلام، اقتضى تركَ ما لا يعني كلَّه من المحرَّمات والمشتبِهات والمكروهات، وفضولِ المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإنَّ هذا كلَّه لا يعني المسلم إذا كَمُل إسلامُه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد اللّه تعالى كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنَّ اللّه يراه، فمن عبد اللّه على استحضار قُربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قُرب اللّه منه واطِّلاعه عليه، فقد حَسُن إسلامه، ولَزِم من ذلك أن يَترُك كلَّ ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه" [9].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وعُلِم من هذا الحديث أن من لم يَسلَم الناس من لسانه أو يده، فليس بمسلمٍ، فمن كان ليس لهم همٌّ إلا القيل والقالَ في عباد الله، وأكلَ لحومهم وأعراضهم، فهذا ليس بمسلم، وكذلك من كان ليس لهم همٌّ إلا الاعتداءَ على الناس بالضَّرب، وأخذ المال، وغير ذلك مما يتعلَّق باليد، فإنه ليس بمسلم. هكذا أخبر النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - وليس إخبار النبيِّ ﷺ لمجرَّد أن نَعلَم به فقط؛ بل لنَعلَم به ونَعمَل به، وإلَّا فما الفائدةُ من كلام لا يُعمَل به، إذن؛ فاحرِص إن كنتَ تريد الإسلام حقًّا على أن يَسلَم الناس من لسانك ويدك؛ حتى تكون مسلمًا حقًّا" [10].
1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 62، 63).
2. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 10).
3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 441، 442).
4. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 37، 38).
5. رواه أحمد (22665)، وابن ماجهْ (3973)، والترمذيُّ (2616)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 511- 513).
7. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 39).
8. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 442).
9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 289).
10. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 513).