غريب الحديث
بِحَسْبِ: حَسْب بمعنى: كفى، قال سِيبَوَيْهِ: وأما حَسْبُ، فمعناها الاكتفاء، ومررتُ بِرَجُل حسْبُك من رجل؛ أَي: كافيك [1].
أُكُلَات: بضمتين، والأُكْلَة بالضمِّ: اللُّقمة [2].
يُقِمْنَ: مِن أقام الشيءَ، إذا حَفِظَه عن السُّقوط [3].
صُلْبَهُ: الصُّلْبُ: الظَّهر، وهو عَظْمُ الفَقَارِ المتصِّل في وَسَطِ الظَّهْرِ [4].
فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ؛ أي: إن كان لا بدَّ من التجاوز عمَّا ذكر [5].
1. "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سِيدَه (3/ 206).
2. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3251).
3. "شرح مصابيح السنة" للكرمانيِّ (5/ 402).
4. "العين" للخليل بن أحمد الفراهيديِّ (7/ 127).
5. "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 44).
المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه، أنه سَمِع رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ»؛ أي: لا يملأ الإنسانُ وعاءً شرًّا من بَطْنِه. «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ»؛ أي: يكفي المرءَ أُكُلاتٌ صغيرة يَسُدُّ بها جُوعَه، ويَحفَظ بها جَسَده أن يَضعُف أو يَسقُط، ويُقِيمُه ويقوِّيه. «فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»؛ أي: فإن كان لابدَّ متجاوِزًا ما يكفي حاجته من الطعام، فليَقْسِمْه إلى ثلاثة أثلاث: ثُلث لأَكله، وثُلث لشَرابه، وثُلث لنَفَسِه.
الشرح المفصَّل للحديث
خَلَق الله الإنسان وأَرشَده إلى ما فيه نفعُه وصَلاحُه، واستقامةُ حياته، فهو أدرى به من نفسه التي بين جَنْبَيه؛
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ﴾
وأَمَره بالاقتصاد والاعتدال في أموره وحياته؛
﴿وَكُلُوا وَٱشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوٓا ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ﴾
وعن عبد الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ - رضي الله عنهما – قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ»
وإذا كان الطبُّ الدنيويُّ يعالج الأمراض بعد وقوعها، فإن الطبَّ النبويَّ، والوحيَ الإلهيَّ، يعلِّمنا كيف نَقِي أنفسنا، ونحافظ عليها من الوقوع في مثل هذه الأمراض، وذلك من خلال الاعتدال في الطعام والشراب.
وفي هذا الحديث يُرشد النبيُّ ﷺ إلى أصل من أصول الطبِّ، يَحفَظ على الإنسان حياته وصحَّته، ألا وهو التقليل من الأكل، وعدم المبالغة في الطعام الذي يُوصِله إلى الشِّبَع المفرِط، فيُقعِده عن العبادات والطاعات، وتَأْدِيَة ما أوجبه الله عليه في دينه، ويُصيبه بالكسل والتُّخَمَة، والأمراض المهلِكة عاجلاً أو آجلاً، قال لقمان الحكيم لابنه: "يا بُنيَّ، إذا امتلأت الْمَعِدة، نامت الفكرة، وخَرَست الحكمة، وقَعَدت الأعضاء عن العبادة" [2].
لذا؛ حذَّرنا النبيُّ ﷺ من خطورة امتلاء الْمَعِدة بالطعام، فقال: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ»؛ أي: لا يملأ الإنسانُ وعاءً شرًّا وأخبَثَ من بطنه، فـ"جعل البطن أوَّلاً وِعاءً كالأوعية التي تُتَّخَذ ظروفًا لحوائج البيت؛ تَوْهينًا لشأنه، ثم جَعَله شرَّ الأوعية؛ لأنها استُعمِلت فيما هي له، والبَطن خُلِق لأن يتقوَّم به الصُّلْبُ بالطعام، وامتلاؤه يُفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شرًّا منها" [3]، فالبطنُ إذا امتلأ أفضى إلى فساد دِين الْمَرء ودُنياه، وأوقعه في المعاصي والشهوات، فشهوةُ البطن من أعظم المهلِكات، وهي التي أخرجت آدمَ - عليه السلام - وحوَّاء من الجَّنة؛ إذ نُهيا عن الأكل من الشجرة، فوسوس إليهما الشيطان، وغلبت عليهما شهوتهما حتى أكلا منها؛
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍۢ لَّا يَبْلَىٰ ﴿١٢٠﴾ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ﴾
ثم بيَّن النبيُّ ﷺ للمسلم كيف يملأ بطنه؟ وأنه يكفيه من ذلك ما يقوِّي به ظَهره، فقال ﷺ: «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ»؛ أي: يكفي المرء أُكُلات صغيرة يَسُدُّ بها رَمَقه وجُوعه، ويَحفَظ بها نفسه وجَسَده أن يَضعُف أو يَسقُط، ويتقوَّى بها على العبادات والطاعات المختلفة، وهذا دَيْدَنُ النبيِّ ﷺ، هو وأصحابه ﷺ، فقد مات ﷺ ولم يَشبَع من طعام الشَّعير؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:
أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ - أي مَشْويَّة - فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ»
فقِلَّة الأكل من محاسن الرجال، وكَثْرتُه مَذَمَّة للإنسان، "وقد كانت العرب تمتدح بقلَّة الأكل، وذلك معروفٌ في أشعارها؛ فكيف بأهل الإيمان؟! وأما من عَظُمت الدنيا في عينه من كافر وسَفِيه، فإنما همَّتُه في شِبَع بطنه، ولذَّة فَرْجِه" [5]. لذا؛ قال تعالى في حقِّ الكفار:
﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ ٱلْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾
فإن جاوز ما يُقيم به صُلبه، فلابدَّ له من تحقيق التوازن بين الطعام والشراب والنَّفَس؛ قال ﷺ: «فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»؛ أي: فإن كان لابدَّ مستزيدًا من الطعام، ومتجاوِزًا ما يكفي حاجته، فليَقْسِمْه إلى ثلاثة أثلاث: ثُلث لأَكله، وثُلث لشَرابه، وثُلث لنَفَسِه، وفي هذه القسمة بيانٌ لحِكمة النبيِّ ﷺ في توجيهه للمسلمين، وإرشاده إلى وسيلة من وسائل الحفاظ على النَّفْس، وخُلُوِّها من الأمراض، "وهذا من أنفع ما للبَدَن والقلب؛ فإن البطن إذا امتلأ من الطعام، ضاق عن الشراب، فإذا وَرَد عليه الشراب، ضاق عن النَّفَس، وعَرَض له الكَرب والتَّعَب بحِمْله، بمنزلة حامل الحِمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكَسَل الجوارح عن الطاعات، وتحرُّكها في الشهوات التي يستلزمها الشِّبَع، فامتلاء البطن من الطعام مُضِرٌّ للقلب والبَدَن، هذا إذا كان دائمًا أو أكثريًّا، وأما إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شَرِب أبو هريرة رضي الله عنه بحضرة النبيِّ ﷺ من اللبن حتى قال: «والذي بَعَثك بالحقِّ لا أجد له مَسلكًا» [6]، وأَكَل الصحابة بحضرته مِرارًا حتى شَبِعوا" [7].
1. رواه النسائيُّ (2559)، وابن ماجه (3605)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".
2. "إحياء علوم الدين" للغزاليِّ (3/ 82).
3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3292).
4. رواه البخاريُّ (5414).
5. "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 347).
6. رواه البخاريُّ (6452).
7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 17).
النقول
قال الحارثيُّ رحمه الله: "حدَّثني بعض العلماء قال: ذكرتُ لبعض الفلاسفة من أطبَّاء أهل الكتاب قولَ النبيِّ : ثُلث طعام، وثُلث شَراب، وثُلث نفس، فتعجَّب منه واستحسَنَه وقال: ما سمعتُ كلامًا في قلَّة الأكل أحكمَ من هذا، وإنه لكلام حكيم، ثم قال: جَهِدَتِ الأطبَّاء من الفلاسفة أن يقولوا مثل هذا في التقلُّل من الأكل، فلم يهتدوا إليه، فأكثرُ ما قالوا: لا تَقعُد على طعامك حتى تشتهيَه وتَرفَع يدك عنه وأنت تشتهيه، ومنهم من قال: لا يأكل إلَّا بعد الجوع، ويَرفَع قبل الشِّبَع، ومنهم من قال: لا يأكل إلَّا بعد الجوع المفرِط، ولا يَشبَع شديدًا، وإنما كان مُراده هذا الذي ذكره نبيُّكم" [1].
قال ابن رجب رحمه الله: "هذا الحديث أصل جامع لأصول الطبِّ كلِّها، وقد رُوي أن ابن ماسوَيْهِ الطبيبَ لَمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة، قال: لو استَعمَل الناس هذه الكلمات، سَلِموا من الأمراض والأسقام، ولتعطَّلت المارستانات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا؛ لأن أصل كل داء التُّخَم" [2].
قال ابن حجر رحمه الله: "ومن أمثلة جوامع الكَلِم من الأحاديث النبوية: حديثُ عائشةَ: «كلُّ عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»، وحديث: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» متَّفَق عليهما، وحديث أبي هريرة: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وحديث المقدام: «ما ملأ بن آدم وعاء شرًّا من بطنه»، الحديث أخرجه الأربعة، وصحَّحه ابن حبَّانَ والحاكم، إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبُّع" [3].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "جعل البطن أوَّلاً وِعاءً كالأوعية التي تُتَّخَذ ظروفًا لحوائج البيت؛ تَوْهينًا لشأنه، ثم جَعَله شرَّ الأوعية؛ لأنها استُعمِلت فيما هي له، والبَطن خُلِق لأن يتقوَّم به الصُّلْبُ بالطعام، وامتلاؤه يُفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شرًّا منها" [4].
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وقد كانت العرب تمتدح بقلَّة الأكل، وذلك معروفٌ في أشعارها؛ فكيف بأهل الإيمان؟! وأما من عَظُمت الدنيا في عينه من كافر وسفيه، فإنما همَّتُه في شِبَع بطنه، ولذَّة فَرْجِه" [5].
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا من أنفع ما للبَدَن والقلب؛ فإن البطن إذا امتلأ من الطعام، ضاق عن الشراب، فإذا وَرَد عليه الشراب، ضاق عن النَّفَس، وعَرَض له الكَرب والتَّعَب بحِمْله، بمنزلة حامل الحِمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكَسَل الجوارح عن الطاعات، وتحرُّكها في الشهوات التي يستلزمها الشِّبَع، فامتلاء البطن من الطعام مُضِرٌّ للقلب والبَدَن، هذا إذا كان دائمًا أو أكثريًّا، وأما إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شَرِب أبو هريرة رضي الله عنه بحضرة النبيِّ ﷺ من اللبن حتى قال: «والذي بَعَثك بالحقِّ لا أجد له مَسلكًا» [6]، وأَكَل الصحابة بحضرته مِرارًا حتى شَبِعوا" [7].
1. "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" لمحمد بن عليٍّ الحارثيِّ (2/ 285).
2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 468).
3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (13/ 248).
4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3292).
5. "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 347).
6. رواه البخاريُّ (6452).
7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 17).