عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ: «وَمَا هِيَ؟» قَالَ: البِتْعُ وَالْمِزْرُ، فَقُلْتُ لِأَبِي بُرْدَةَ: مَا البِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ العَسَلِ، وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»

عناصر الشرح

غريب الحديث

البِتْعُ: نَبِيذُ العَسَلِ؛ أي: العسلُ المخلوط بالماء. قال ابن الأثير رضي الله عنه: "البِتْع بسكون التاء: نَبيذ الْعَسَلِ، وهو خَمْرُ أهل اليمن، وقد تُحرَّك التاءُ كَقِمْع وَقِمَع" [1].

الْمِزْرُ: نَبِيذُ الشَّعِير؛ أي: الماء الذي نُقِع فيه الشَّعير. قال ابن الأثير رضي الله عنه: "الْمِزْرُ بالكسر: نبيذٌ يُتَّخَذُ من الذُّرَة. وقيل: من الشَّعِير أو الحِنْطة" [2].

النَّبِيذِ: وهو ما يُعمَل من الأشربة من التَّمر، والزَّبيب، والعسل، والحِنطة، والشَّعير، وغيرِ ذلك. يُقال: نَبَذْتُ التَّمر والعِنَب، إذا تركتُ عليه الماء ليَصير نبيذًا، فصُرِف من مفعول إلى فَعيل. وانتبذتُه: اتَّخَذتُه نبيذًا. وسواءٌ كان مسكِرًا أو غيرَ مسكِر، فإنّه يُقال له: نبيذ. ويُقال للخمر المعتصَر من العِنَب: نبيذ، كما يُقال للنّبيذ: خَمر [3].


المراجع

    1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 94).

    2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 324).

    3. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 7).



    الشرح المفصَّل للحديث

     إن الإسلام دينٌ سامٍ، يَحرِص على مصالح العباد، وحياتهم، دينٌ يحفظ على أتباعه عقولَهم، وأبدانهم، ودينهم، وقد امتنَّ الله تعالى على عباده بما خَلَقه في الأرض؛

    فقال تعالى:

    ﴿هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا﴾

    [البقرة: 29]،

    وجعله طيِّبًا مباحًا لهم، وحذَّر من كلِّ ما فيه مفاسدُ ومَضارُّ لهم، فأباح لهم الطيِّباتِ، وهى أغلبُ ما خَلَق الله في الأرض لنا، وحرَّم عليهم الخبائث؛

    قال تعالى:

    ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ﴾

    [الأعراف: 157]

    ومن تلك الخبائثِ المحرَّمة ما يُفسِد العقولَ من الأشربة، فصان بتحريمها العقولَ عما يُزيلها ويُفسدها، فحرَّم الله تعالى الخمرَ، بيعَها وشُربها؛

    قال تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

    [المائدة: 90]

    وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:

    سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ»، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ، وَلَا يَبِعْ»، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا

    [1].

    وقد لعن النبيُّ ﷺ في الخَمْرِ عشَرةً؛

    فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:

    «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِيَ لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ»

    [2].

    أما حديثُ الباب، فهو أصلٌ في تحريم جميع المسكِرات المغطِّية للعقل: (عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ: «وَمَا هِيَ؟» قَالَ: البِتْعُ وَالمِزْرُ، فَقُلْتُ (أي: سعيد بن أبي بردة) لِأَبِي بُرْدَةَ: مَا البِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ العَسَلِ، وَالمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ): فـ"من الأشربة التي كانت تُستعمل في اليمن عندما بعث رسول الله ﷺ أبا موسى الأشعريَّ إليه: البِتْعُ، وهو نَبِيذ العسل، والْمِزْرُ: وهو نبيذ الشعير، وقد سأل أبو موسى رضي الله عنه رسول الله ﷺ عن هذين الشرابين، فأجابه بجواب جامع يشملهما ويشمل غيرهما، فقال: «كلُّ مسكر حرام»، فأناط النَّبيُّ ﷺ التحريم بالإسكار، فدلَّ على أنَّ ما أَسكَر من الأشربة حرام، وما لم يُسكِر فإنَّه حلال؛ ولهذا لما سُئل ابن عباس عن الباذَق - وهو نوع من الشراب - قال: سَبَقَ مُحَمَّدٌ رضي الله عنه البَاذَقَ: «فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» قَالَ: الشَّرَابُ الحَلاَلُ الطَّيِّبُ، قَالَ: «لَيْسَ بَعْدَ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ» [3]، وقد ذكر ابن سِيدَه في "المحكَم" أنَّ الباذَق من أسماء الخمر" [4]، وذلك يعني: أن الشريعة في عموماتها وكليَّاتها يدخل فيها ما كان معروفًا، وما ليس بمعروف.

    فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فأجابه النبيُّ ﷺ بجواب جامع يشمل كلَّ الأشربة، لا هذين الشرابين فقط، فقال: «كلُّ مسكر حرام»، فأناط النَّبيُّ ﷺ التحريم بالإسكار، فدلَّ على أنَّ ما أسكر من الأشربة حرام، وما لم يُسكِر فإنَّه حلال؛ فهذا الجواب من جوامع كلم النبيِّ ﷺ، يَدخُل فيه المسؤول عنه وغير المسؤول عنه، وأن القضية معلَّقة بالإسكار، فكلُّ ما أَسكَر فإنه حرام، سواءٌ كان من الشَّعير، أو من العسل، أو من العنب، أو من التَّمْر، أو من أيِّ شيء، وسواءٌ كان جامدًا أو سائلًا أو مسحوقًا أو غير مسحوق، كلُّ ذلك حرام؛ لأن الأمر علِّق بالإسكار.

    و"الخمرُ ما خامَر العقلَ وغطَّاه، فكلُّ ما كان كذلك داخلٌ تحت قوله ﷺ: «كلُّ مسكر حرام»، وكلُّ شيء أسكر كثيرُه فقليلُه حرام، وإنما حرِّم القليل الذي لا يُسكِر؛ لأنه ذريعةٌ إلى الْمُسكِر، وهذا من باب سدِّ الذرائع، ومنع الأشياء التي توصل إلى الغايات، فالقليل وإن كان لا يُسكِر فإنه حرام، وسواءٌ كان ذلك من العنب أو غيرها، وقد جاء عن بعض علماء الكوفة أنَّ القليل الذي لا يسكِر إذا لم يكن من العنب، فشربُه سائغ، وهذا غير صحيح؛ لأنَّه ثبت عن رسول الله ﷺ من حديث جابر وغيره - رضي الله عنهم - أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام» [5]، وهذا لفظ عامٌّ يَشمَل كلَّ مسكِر، سواءٌ كان من العِنَب أو غيرها" [6].

    والحديث دليل على أنّ علَّة التّحريم الإسكارُ، فاقتضى ذلك أنّ كلَّ شراب وُجِد فيه الإسكارُ حَرُم تناوُل قليله وكثيره.

    هذا وكان أوَّلُ ما حرِّمت الخمر عند حضور وقت الصّلاة لَمّا صلّى بعض المهاجرين، وقرأ في صلاته، فخَلَط في قراءته، فنَزَل قوله تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

    [النساء: 43]

    وكان منادي رسول اللّه ﷺ ينادي: (لا يَقرَب الصّلاةَ سَكْرانُ)، ثمّ إنّ اللّه حرَّمها على الإطلاق بقوله تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾

    [المائدة: 90، 91] [7].

    وذكر سبحانه في قوله:

    ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ﴾

    [المائدة: 91]

    علَّة تحريم الخمر والْمَيسِر، وهو أنّ الشّيطان يوقِع بينهم العداوة والبغضاء، فإنّ من سَكَر اختلَّ عقله، فربّما تسلَّط على أذى النّاس في أنفسهم وأموالهم، وربّما بلغ إلى القتل [8].

    وقد أخبر سبحانه أنّ الشّيطان يَصُدُّ بالخمر والميسر عن ذكر اللّه وعن الصّلاة؛ فإنّ السّكران يزول عقله أو يختلُّ، فلا يستطيع أن يَذكُر اللّه، ولا أن يصلّيَ [9].

    قال طائفة من السّلف: إنّ شارب الخمر تمرُّ عليه ساعة لا يعرف فيها ربَّه، واللّه سبحانه إنّما خَلَق الخلق ليعرفوه، ويَذكُروه، ويعبدوه، ويُطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربِّه وذكره ومناجاته، كان محرَّمًا، وهو السُّكْر، وهذا بخلاف النَّوم، فإنّ اللّه تعالى جبل العباد عليه، واضْطرَّهم إليه، ولا قِوَامَ لأبدانهم إلّا به؛ إذ هو راحة لهم من السّعي والنَّصَب [10].

    فلا جَرَم أن الخمر أمُّ الخبائث، فمن شربها قَتَل النّفس وزنا، وربّما كفر بالله تعالى والعياذ بالله.


    المراجع

    1. رواه مسلم (1587).

    2. رواه الترمذيُّ (1295)، وابن ماجه (3381)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2357): حسن صحيح.

    3. رواه البخاريُّ (5598).

    4. "فتح القوي المتين" للعباد (ص: 146، 147).

    5. أخرجه أحمد (5648)، وأبو داود (3681)، والترمذيُّ (1865)، وابن ماجه (3393)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (5530).

    6. "فتح القوي المتين" للعباد (ص 147).

    7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 456، 457).

    8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).

    9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).

    10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).



    النقول

    قال ابن رجب رحمه الله: "فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكِرات، المغطِّية للعقل، وقد ذكر اللّه في كتابه العلَّة المقتَضِية لتحريم المسكِرات، وكان أوّل ما حُرِّمت الخمر عند حضور وقت الصّلاة لَمّا صلّى بعض المهاجرين، وقرأ في صلاته، فخَلَط في قراءته، فنزل

    قوله تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

    [النساء: 43]،

    وكان منادي رسول اللّه ﷺ ينادي: (لا يَقْرَبُ الصّلاةَ سكرانُ)، ثمّ إنّ اللّه حرّمها على الإطلاق

    بقوله تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾

    [المائدة: 90، 91]

    فذَكَر سبحانه عِلَّةَ تحريم الخمر والميسر، وهو القمار، وهو أنّ الشّيطان يوقِع بينهم العداوة والبغضاء، فإنّ من سكر اختلَّ عقلُه، فربّما تسلَّط على أذى النّاس في أنفسهم وأموالهم، وربّما بلغ إلى القتل، وهي أمُّ الخبائث، فمن شربها قَتَل النّفس وزنا، وربّما كفر. وقد رُوي هذا المعنى عن عثمانَ وغيره، ورُوي مرفوعًا أيضًا، ومن قامَر فربّما قُهِر، وأُخِذ ماله قهرًا، فلم يبقَ له شيء، فيشتدُّ حِقده على من أخذ ماله. وكلُّ ما أدَّى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حرامًا، وأخبر سبحانه أنّ الشّيطان يَصُدُّ بالخمر والميسر عن ذكر اللّه وعن الصّلاة، فإنّ السّكران يزول عقله أو يختلُّ، فلا يستطيع أن يذكر اللّه، ولا أن يصلِّيَ، ولهذا قال طائفة من السّلف: إنّ شارب الخمر تمرُّ عليه ساعة لا يعرف فيها ربَّه، واللّه سبحانه إنّما خَلَق الخلق ليعرفوه، ويذكروه، ويعبدوه، ويطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربّه وذكره ومناجاته، كان محرَّمًا، وهو السُّكر، وهذا بخلاف النَّوم، فإنّ اللّه تعالى جبل العباد عليه، واضطرَّهم إليه، ولا قِوَام لأبدانهم إلّا به؛ إذ هو راحة لهم من السّعي والنَّصَب" [1].

    قال ابن حجر رحمه الله: " فأجاب بقوله: «كلّ مسكر حرام» وهذه الرّواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب: «كلّ شراب أسكر» وأنّه لم يُرِد تخصيص التّحريم بحالة الإسكار؛ بل المراد أنّه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار، حَرُم تناوله، ولو لم يَسكَر المتناوِل بالقَدْر الّذي تناوَله منه، ويؤخذ من لفظ السّؤال أنّه وَقَع عن حكم جنس البِتْع، لا عن القدر المسكِر منه؛ لأنّه لو أراد السّائل ذلك لقال: أخبرني عمَّا يَحِلُّ منه وما يَحرُم. وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا: هل هذا نافع أو ضارٌّ مثلًا؟ وإذا سألوا عن القَدر قالوا: كم يؤخذ منه؟ وفي الحديث أنّ المفتيَ يُجيب السّائل بزيادة عمَّا سأل عنه إذا كان ذلك ممّا يحتاج إليه السّائل، وفيه تحريم كلِّ مسكِر، سواء كان متَّخذًا من عصير العنب أو من غيره. قال المازريُّ: أجمعوا على أنّ عصير العنب قبل أن يشتدَّ حلال، وعلى أنّه إذا اشتدَّ وغلى وقَذَف بالزَّبَد، حَرُم قليله وكثيره، ثمّ لو حصل له تخلُّل بنفسه، حلَّ بالإجماع أيضًا، فوقع النَّظَر في تبدُّل هذه الأحكام عند هذه المتَّخَذات، فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودلَّ على أنّ علّة التّحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أنّ كلَّ شراب وُجِد فيه الإسكار حَرُم تناول قليله وكثيره. انتهى. وما ذكره استنباطًا ثبت التّصريح به في بعض طرق الخبر؛ فعند أبي داود والنّسائيِّ، وصحَّحه ابن حبَّان من حديث جابر قال: قال رسول اللّه ﷺ: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»" [2].

    قال ابن رجب رحمه الله: "والمقصودُ أن النَّبِيَّ ﷺ قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَكُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَرَامٌ»، وقد تَواتَرت الأحاديث بذلك عن النّبيِّ ﷺ، فخرَّجا في الصّحيحينِ

    عن ابن عمرَ، عن النّبيِّ ﷺ قال:

    «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» ولفظُ مسلمٍ: «وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»،

    وخَرَّج أيضًا من حديث عائشةَ أن النَّبِيَّ ﷺ سُئل عن الْبِتْعِ، فقال: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ»، وفي رواية لمسلمٍ: «كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، وقد صحَّح هذا الحديثَ أحمدُ ويحيى بنُ مَعينٍ وأصحابه واحتجَّا به، ونقل ابن عبد البرِّ إجماع أهل العلم بالحديث على صحَّته، وأنّه أثبت شيء يُروى عن النّبيِّ ﷺ في تحريم المسكِر. وأمّا ما نقله بعض فقهاء الحنفيّة عن ابن معين من طَعْنِه فيه، فلا يَثبُت ذلك عنه" [3].

    قال القسطلانيُّ رحمه الله: "(كلُّ شرابٍ أَسكَر فهو حرام)، ولو لم يَسكَرِ المتناوِلُ بالقدر الذي تناوله منه، وعند أبي داودَ والنسائيِّ وصحَّحه ابن حبَّانَ عن جابر قال ﷺ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». وفي ذلك جوازُ القياس باطّراد العلَّة، وعلى هذا فيَحرُم جميع الأنبذة المسكِرة، وبذلك قال الشافعية والمالكية والحنابلة والجمهور، وقال أبو المظفّر السمعانيُّ: وقياس النبيذ على الخمر بعلَّة الإسكار والإطراب من أجلى الأَقْيِسَة وأَوضحِها، والمفاسد التي في الخمر توجد في النبيذ، وقال الحنفية: نقيع التمر والزبيب وغيرهما من الأنبذة إذا غلى واشتدَّ حَرُم، ولا يُحَدُّ شاربه حتى يَسكَر، ولا يَكفُر مستحِلُّه، وأما الذي من ماء العنب فحرام، ويَكفُر مستحِلُّه؛ لثبوت حرمته بدليل قطعيٍّ، ويُحَدُّ شاربه، وقد ثبتت الأخبار عن النبيِّ ﷺ في تحريم المسكِر، وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصحُّ في حلِّ النَّبيذ الذي يُسكِر كثيرُه عن الصحابة ولا عن التابعين شيءٌ، إلا عن إبراهيم النَّخَعِيِّ، ويَدخُل في قوله: (كل مسكر حرام) حشيشة الفقراء وغيرها، وقد جزم النوويُّ وغيره بأنها مسكِرة" [4].

    قال العباد: "من الأشربة التي كانت تُستعمل في اليمن عندما بعث رسول الله ﷺ أبا موسى الأشعريَّ إليه: البِتْعُ، وهو نَبِيذ العسل، والْمِزْرُ: وهو نبيذ الشعير، وقد سأل أبو موسى رضي الله عنه رسول الله ﷺ عن هذين الشرابين، فأجابه بجواب جامع يشملهما ويشمل غيرهما، فقال: «كلُّ مسكر حرام»، فأناط النَّبيُّ ﷺ التحريم بالإسكار، فدلَّ على أنَّ ما أسكر من الأشربة حرام، وما لم يُسكِر فإنَّه حلال، وفي صحيح البخاريِّ عن أبي الجُوَيْرية قال: سألتُ ابن عباس عَنِ البَاذَقِ فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ ﷺ البَاذَقَ: «فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» قَالَ: الشَّرَابُ الحَلاَلُ الطَّيِّبُ، قَالَ: «لَيْسَ بَعْدَ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ» [5]، وقد ذكر ابن سِيدَه في "المحكَم" أنَّ الباذق من أسماء الخمر.

    وقد كان رسول الله ﷺ في أول الأمر حرَّم الانتباذ في أوعية معيَّنة، كما جاء ذلك في حديث وفد عبد القيس [6]، ثم إنَّه ﷺ جاء عنه ما يَنسَخ ذلك في حديث بُريدةَ بنِ الحُصيب - رضي الله عنه - حيث قال: قال رسول الله ﷺ: «نهيتُكم عن زيارة القبور فزُوروها، ونهيتُكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتُكم عن النبيذ إلَّا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلِّها، ولا تشربوا مسكِرًا» [7]. وكلُّ ما أسكر فهو حرام، سواءٌ كان شرابًا أو طعامًا، وسواء كان سائلًا أو جامدًا أو دقيقًا أو ورقًا أو غيرَ ذلك، فإنَّ كلَّ ذلك داخلٌ تحت قوله ﷺ: «كلُّ مسكر حرام»" [8].

    قال ابن رجب رحمه الله: "وخرَّج مسلم من حديث أبي الزُّبير عن جابر عن النّبيِّ ﷺ قال: «كلُّ مسكر حرام»، وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصّحابة والتّابعين ومن بعدَهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك والشّافعيِّ واللّيث والأوزاعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ ومحمّدِ بنِ الحسن وغيرهم، وهو ممَّا اجتمع على القول به أهل المدينة كلُّهم. وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة، وقالوا: إنّ الخمر إنّما هي خمر العِنَب خاصّةً، وما عداها فإنّما يَحرُم منه القَدر الّذي يُسكِر، ولا يَحرُم ما دونه، وما زال علماء الأمصار يُنكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورًا لهم، وفيهم خلق من أئمّة العلم والدِّين" [9].

    قال العباد: "الخمرُ ما خامر العقل وغطَّاه، فكلُّ ما كان كذلك داخلٌ تحت قوله : «كلُّ مسكر حرام»، وكلُّ شيء أسكر كثيرُه فقليلُه حرام؛ وذلك سدًّا للذريعة الموصلة إلى المسكِر، وسواء كان ذلك من العنب أو غيرها، وقد جاء عن بعض علماء الكوفة أنَّ القليل الذي لا يسكِر إذا لم يكن من العنب، فشربُه سائغ، وهذا غير صحيح؛ لأنَّه ثبت عن رسول الله ﷺ من حديث جابر وغيره رضي الله عنهم أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام» [10] ، وهذا لفظ عامٌّ يَشمَل كلَّ مسكِر، سواء كان من العنب أو غيرها" [11].



    المراجع

    1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 456، 457).

    2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 42، 43).

    3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 459).

    4. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (8/ 316).

    5. رواه البخاريُّ (5598).

    6. رواه البخاريُّ (53)، ومسلم (23).

    7. رواه مسلم (977).

    8. "فتح القوي المتين" للعباد (ص: 146، 147).

    9. جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 460).

    10. أخرجه أحمد (5648)، وأبو داود (3681)، والترمذيُّ (1865)، وابن ماجه (3393)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (5530).

    11. "فتح القوي المتين" للعباد (ص 147).




    مشاريع الأحاديث الكلية