المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو هُرَيرةَ رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَن صام رَمَضَانَ إيمانًا»؛ أي: صَامَه مؤمنًا بفرضِه عليه، مُصَدِّقًا بما أعدَّه الله للصائمين. «واحتسابًا»: مُغتنِمًا لساعاته، محتسبًا الأجرَ والثوابَ عند الله وحدَه؛ ابتغاءَ مرضاته. «غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذَنْبه»؛ أي: جزاؤه أن يَغفِر له الله ما تقدَّم من ذنبه. «ومَن قام ليلةَ القَدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه»؛ أي: قامها بالصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، والذكر، واجتهد فيها بما يستطيع من العبادات.
«مَن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنْبه»
أي: قام لياليَه بالصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، والذكر، واجتهد فيها بما يستطيع من العبادات.
الشرح المفصَّل للحديث
مِن عظيم لُطف الله بنا أن جَعَل لبعض الأزمنة والأماكن فضائلَ ومزايا ليست لغيرها؛ فجَعَل يومَ عرفةَ خيرَ أيَّام العام، ويومَ الجُمُعة أفضلَ أيام الأسبوع، وجعل الكعبةَ أفضلَ البقاع، وشهرَ رمضان أفضلَ الشهور، وليلةَ القَدْر أفضلَ الليالي جميعًا. وقد جعل الله في تلك الأوقات والأماكن من الفَوز العظيم والفلاح الْمُبين ما يُحفِّز الإنسانَ على العمل، واغتنام النَّفَحات.
وفي هذا الحديث بيانُ نَفحة عظيمة من نفحات الله، وهي غُفران الذنوب التي تقدَّمت جميعًا بصيام شهر رمضان، وقيام لَيْلِه.
والصيام: الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، بنِيَّة العبادة لله تعالى، من أذان الفجر إلى أذان المغرب، وهو مأخوذٌ من
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾
ومن الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله ﷺ قال: قال الله عزَّ وجلَّ: «يَدَعُ شَهْوَتَه وطعامَه من أجْلي»
قوله: «إيمانًا»؛ أي: صَامَه وهو مؤمنٌ بأن الله عزَّ وجلَّ قد فرضَه عليه، مُصَدِّقٌ بموعود الله للصائمين، وما أَعَدَّ لهم [2]، وأن يصومَه لله تعالى، لا عن خوفٍ من الناس، ولا استحياء منهم من غير اعتقاد بفرضيته عليهم، ولا اعتقاد بتعظيم ذلك الشهر [3].
وقوله: «احتسابًا»: أن يحتسب الثوابَ عند الله، لا يرجو جزاءً من أحد غيره، فيفعل الطاعةَ ابتغاءَ مرضاة الله ورجاءَ ثوابه. والاحتسابُ من الحَسْب، وهو العَدُّ؛ كأن الفاعل يعتدُّ بعمله الذي عَمِله [4]. وقيل: الاحتساب: أن يتلقَّى الشهر بطِيبة نفْس، فلا يتجهَّم لمورده، وألَّا يستطيل زمانه؛ لكن يغتنم طولَ أيامه وامتدادَ ساعاتها؛ لِما يرجوه من الأجر والثواب فيها [5]. وقيل: أن يفعل ذلك يُريد به وجهَ الله بريئًا من الرياء والسُّمعة [6].
وقد أفاد قوله: «إيمانًا واحتسابًا» أن الأعمال الصالحة لا تُقبل إلا بالاحتساب، وصِدق النيَّات؛ كما في الحديث عن عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال: «إنما الأعمالُ بالنِّيَّات» [7]، وأنه لا يُقبَل صوم رمضانَ إلا بنِيَّة، فيجب في الصوم الفرضِ أن ينويَ الإنسان الصيامَ قبل الفجر، أما النَّفْلُ فيجوز أن ينويَ بعد الفجر ما دام لم يأكُل أو يشرب [8]. ودائمًا ما يجتمع الإيمان والاحتساب معًا، حتى إن طَلْقَ بنَ حَبيبٍ رحمه الله لما عرَّف التقوى قال: "أن تَعمَل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تتركَ معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله"، فقَرَن بين الإيمان، وبين طلب الثواب والخوف من العقاب، وهو الاحتساب؛ فلا بدَّ لكل عملٍ أن يكون مبدؤُه الإيمانَ، وغايتُه ثوابَ الله، وابتغاءَ مرضاته، وهو الاحتسابُ [9].
وقيل: الاحتساب أن يعتَدَّ بالأجر عند الله، يدَّخِره إلى الآخرة، لا يرجو أن يتعجَّل شيئًا منها في الدنيا؛ لأن ما يَفتَح الله على العبد في الدنيا من المال، ويناله من لذَّة، فمحسوب من أجره، ويُحاسَب يوم القيامة به. وقد رأى عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه جابرَ بنَ عبدِ الله رضي الله عنه يشتري لحمًا بدِرْهَمٍ، فقال: أَمَا يُريد أحدكم أن يطويَ بَطْنَه عن جاره، أو ابنِ عمِّه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية:
﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَٰتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا﴾؟!
وقوله: «ومَن قام ليلة القَدر»؛ أي: قامها بالصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، ونحو ذلك من العبادات.
واختلفوا في سرِّ تسمية ليلة القَدْر بهذا الاسم؛ فقيل: لأن لها قَدْرًا عظيمًا؛
﴿إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ ﴿١﴾ وَمَآ أَدْرَٰكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ ﴿٢﴾ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍۢ ﴿٣﴾﴾
وقيل: لأن فيها تقديرَ الأشياء من أمور السَّنة، وقيل: فيها سَوْقُ المقادير إلى المواقيت، وقيل: قُدِّر في وقتها إنزالُ القرآن [11].
وليس المراد بقيام تلك الليلة قيامَ جميع ليلِها؛ بل يَحصُل ذلك بقيام جزءٍ، ولو يسيرًا من الليل، كما في مطلَق التهجُّد، أو إدراك التراويح مع الإمام [12].
وقد اختلف العلماء في تحديد ليلة القَدْر على أقوال؛ فقيل: إنها في كل شهر رمضان، وقيل: هي ليلةُ السابعَ عَشَرَ من رمضانَ؛
﴿وَمَآ
أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ﴾
ويوم التقى الجمعان كان يومَ بدر في السابعَ عَشَرَ من رمضانَ. وقيل: هي ليلة الحادي والعشرين، وقيل: ليلة الثالث والعشرين، وقيل: ليلة الخامس والعشرين، وقيل: ليلة السابع والعشرين، وقيل: في الليالي الوتر من العشر الأواخر، والقول الصحيح فيها أنها لا تُعلم بعينها؛ لكنها في العشر الأواخر من رمضان؛ ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت:
«كان النبيُّ ﷺ إذا دخل العشْرُ، شدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»
وحديث ابن عمر رضي الله عنه:
«أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا»
فمَن قام العشر الأواخر، فقد أدرك ليلة القَدْر لا محالةَ [15].
وإنما أخفى الله عزَّ وجلَّ تلك الليلة ليتحقَّق اجتهادُ الطالب في الليالي جميعها، كما أُخفيت ساعةُ الإجابة يوم الجُمُعة، والوقت الذي ينزل الله عز وجل فيه إلى السماء الدنيا، وقد كان النبيُّ ﷺ يجتهد في العَشْر ما لا يجتهد في غيره [16].
قوله: «ومَن قام رمضان»؛ أي: قام لياليَ رمضان كلَّها، على أنه لا تعارُضَ بين مغفرة الذنوب بقيام ليلة القَدْر وحْدَها، ومغفرتها بقيام ليالي رمضان جميعًا؛ فإن كلَّ واحدٍ منهما صالحٌ لتكفير السيئات؛ فقد يغتنم الإنسانُ قيامَ رمضان جميعًا بما فيه من ليلة القدر، فيُغفَر له ما تقدَّمَ من ذَنْبه، وقد يقصِّر في قيام رمضان كله، ويغتنم قيام ليلة القَدْر، فيحصل له ذلك بعون الله وتوفيقه.
فذكر النبيُّ ﷺ للغفران طريقَين:
أحدهما: يمكِن تحصيلُه يقينًا؛ لكنه شاقٌّ، وهو قيامُ رمضانَ كلِّه.
والآخَر: الاقتصار على قيام ليلة القدر وتحرِّيها، وهذا لا سبيل إلى اليقين فيه؛ وإنما مَبْناه على الظنِّ والتَّخْمِين [17].
قوله: «غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ أي: يَغفِر اللهُ - عزَّ وجلَّ - له الذنوبَ جميعًا؛ صغائرَها وكبائرها، وهذا ظاهر الحديث؛ لكن قد اختلف الفقهاءُ في ذلك؛ فذهب بعضهم إلى القول به، وأن الله لم يَستَثنِ الكبائرَ دونَ الصغائر، وذهب أكثرُ الفقهاء إلى أن ذلك مختصٌّ بالصغائر دون الكبائر، ويشهَد له أحاديثُ كثيرةٌ؛ مثل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ كان يقول: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمُعة إلى الجُمُعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّراتٌ ما بينهن إذا اجتَنَب الكبائر» [18]، وأيضًا ما رواه عثمانُ بنُ عفَّانَ رضي الله عنه قال: سَمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «ما من امرئٍ مسلمٍ تحضُرُه صلاة مكتوبةٌ، فيُحسن وُضوءَها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفَّارةً لِما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتِ كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه» [19]. ويشهد لذلك أن مذهب أهل السُّنة أن الكبائر تكفِّرها التوبة، أو إقامة الحدِّ، أو رحمة الله تعالى [20]. ورحمة الله واسعة، وفضله عظيم.
1. رواه البخاريُّ (1894)، ومسلم (1151) واللفظ له.
2. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 945)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 112).
3. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 8)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1573).
4. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 21)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (4/ 161)
5. "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 945).
6. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 61).
7. رواه البخاريُّ (1)، ومسلم (1907).
8. انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (4/ 21)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (13/ 72).
9. انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10)، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).
10. انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 476). والأثر أخرجه مالك في "الموطأ" (2/936)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (24524).
11. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 390).
12. انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 161).
13. رواه البخاريُّ (2024)، ومسلم (1174).
14. رواه البخاريُّ (11622)، ومسلم (1165) واللفظ له.
15. انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربِّي (4/ 265)، "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (3/ 495).
16. انظر: "التبصرة" لابن الجوزيِّ (2/ 97).
17. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 76)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (4/ 164).
18. رواه مسلم (233).
19. رواه مسلم (228).
20. انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 163)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 77).
النقول:
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا هو الإيمانُ والاحتسابُ الْمُشارُ إليه في كلام النَّبِيِّ ﷺ كقوله: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»، و«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ،»، فالصيامُ والقيام: هو الطَّاعَةُ، والإيمانُ: مراقبة الأمر. وإخلاصُ الْبَاعِثِ: هو أن يكون الْإِيمَانُ الْآمِرَ لَا شَيْءَ سِوَاهُ. وَالِاحْتِسَابُ: رَجَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ. فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يَحْمِي مِنَ الْبِدْعَةِ وَآفَاتِ الْعَمَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" [1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قوله: «إيمانًا»: يريد تصديقًا بفرضه، وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: «احتسابًا» يريد بذلك: يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وَجْهَ الله، وهذا الحديثُ دليلٌ بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تُتقبَّل إلا مع الاحتساب وصدق النيَّات؛ كما قال - عليه السلام -: «الأعمال بالنِّيَّات، ولكلِّ امرئ ما نوى»، وهذا يردُّ قَوْلَ زُفَرَ، فإنه زَعَم أنه يجزئ صوم رمضان بغير نِيَّة، وقولُه مردود بهذه الآثار، وإذا صحَّ أنه لا عمل إلا بنيَّة، صحَّ أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنيَّة من الليل؛ كما ذهب إليه الجمهور. وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعيُّ، وإسحاق، وقالوا: يُجزئه التبييتُ قبل الزوال، ولا سَلَفَ لهم في ذلك، والنيَّة إنما ينبغي أن تكون متقدِّمةً قبل العمل، وحقيقةُ التبييت في اللغة يقتضي زمن الليل، ورُوي هذا عن ابن عمرَ، وحفصةَ، وعائشةَ، ولا مخالف لهم" [2].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»: هذا أيضًا مثل الأول، ولعلَّ هذا فيمن لم يَقُم رمضانَ، فيُغفر له لقيامه ليلة القدر، أو من لم يكن قيامه إخلاصًا واحتسابًا" [3].
قال ابن الملقِّن رحمه الله: "معنى قوله: «إيمانًا»؛ أي: تصديقًا بأنه حقٌّ، فصدَّق بفضل صيامه وقيامه. وقوله: «احتسابًا»؛ أي: يريد به وجه الله تعالى، بريئًا من رياء وسُمعة، فقد يفعل ما يعتقد صِدْقَه لا مُخْلِصًا؛ بل رياءً أو خوفًا من قاهر، أو من فَوَات منزلة، ونحو ذلك" [4].
قال ابن حجر رحمه الله: "المراد بالإيمان: الاعتقاد بحقِّ فرضيّة صومه، وبالاحتساب: طلب الثّواب من اللّه تعالى، وقال الخطّابيُّ: احتسابًا؛ أي: عزيمةً، وهو أن يصومه على معنى الرّغبة في ثوابه، طيّبةً نفسُه بذلك، غيرَ مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيّامه" [5].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «إيمانًا»؛ أي: تصديقًا بأنّه حقٌّ وطاعة. قوله: «واحتسابًا»؛ أي: إرادة وجه الله تعالى؛ لا لرياء ونحوه، فقد يفعل الإنسان الشّيء الّذي يعتقد أنه صادق؛ لكن لا يفعله مخلصًا؛ بل لرياء أو خوف أو نحو ذلك، يقال: احتسابًا؛ أي: حَسبه الله تعالى. يقال: احتسبت بكذا أجرًا عند الله تعالى، والاسم الحِسبة، وهي الأجر. وفي "العباب": احتسبت بكذا أجرًا عند الله؛ أي: اعتددتُه أنوي به وجه الله تعالى، ومنه قوله عليه السّلام: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا...» الحديث. واحتسبت عليه كذا؛ أي: أنكرته عليه، قاله ابن دُريد، ومنه: محتسِب البلد. قوله: «غفر له» من الغفر، وهو السَّتر، ومنه الْمِغفَر، وهو الخودة، وفي "العباب": الغَفْر التغطية، والغَفر والغفران والمغفرة واحد، ومغفرة الله لعبده: إلباسه إيّاه العفوَ وسَتره ذنوبَه" [6].
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما التقوى، فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيَفعَل ما أَمَر الله به؛ إيمانًا بالأمر، وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه؛ إيمانًا بالنهي، وخوفًا من وعيده؛ كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: " أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله". وهذا أحسن ما قيل في حدِّ التقوى؛ فإن كلَّ عمل لابدَّ له من مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعةً وقُربة حتى يكون مصدرُه عن الإيمان، فيكون الباعثُ عليه هو الإيمانَ الْمَحْضَ، لا العادةَ، ولا الهوى، ولا طلب الْمَحْمَدة والجاه، وغير ذلك؛ بل لا بدَّ أن يكون مبدؤه محضَ الإيمان، وغايتُه ثوابَ الله، وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب" [7].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "من يقم ليلة القدر، هل يقتضي قيام تمام اللّيلة، أو يكفي أقلُّ ما ينطلق عليه اسم القيام؟ وأُجيب: بأنّه يكفي الأقلُّ، وعليه بعض الأئمّة، حتّى قيل بكفاية فرض صلاة العشاء في دخوله تحت القيام فيها؛ لكن الظّاهر منه عُرفًا أنه لا يقال: قيام اللّيلة، إلاّ إذا قام كلَّها أو أكثرها. قلت: قوله: «من يقم ليلة القدر»؛ مثل: من يصم يومًا، فكما لا يكفي صوم بعض اليوم ولا أكثره، فكذلك لا يكفي قيام بعض ليلة القدر ولا أكثرها؛ وذلك لأن ليلة القدر وقعت مفعولاً لقوله: يقم، فينبغي أن يوصف جميع اللّيلة بالقيام؛ لأن من شأن المفعول أن يكون مشمولاً بفعل الفاعل، فافهم. ومنها ما قيل: ما معنى القيام فيها إذ ظاهره غير مراد قطعًا؟ وأجيب: بأن القيام للطاعة كأنّه معهود من قوله تعالى:
﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَٰنِتِينَ﴾
وهو حقيقة شرعيّة فيه. ومنها ما قيل: الذّنب علم؛ لأنّه اسم جنس مضاف، فهل يقتضي مغفرة ذنب يتعلّق بحق النّاس؟ وأجيب: بأن لفظه مقتضٍ لذلك؛ ولكن عُلِم من الأدلّة الخارجية أن حقوق العباد لا بدّ فيها من رضى الخصوم، فهو عامٌّ اختصَّ بحقِّ الله تعالى ونحوه بما يدلُّ على التّخصيص، وقيل: يجوز أن تكون (من) تبعيضية. وفيه نظر" [8].
قال ابن رجب رحمه الله: «المحبُّون تطول عليهم الليالي فيَعُدُّونها عدًّا لانتظار ليالي العشر في كل عام، فإذا ظَفِروا بها نالوا مطلوبهم، وخدموا محبوبهم» [9].
1. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).
2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 21).
3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 113).
4. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 61).
5. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 115).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني (1/ 226).
7. "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10).
8. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 228).
9. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 204).