الفوائد العلمية
1. في هذا الحديث بيانُ نَفحة عظيمة من نفحات الله، وهي غُفران الذنوب التي تقدَّمت جميعًا بصيام شهر رمضان، وقيام لَيْلِه.
2. هذا الحديثُ دليلٌ بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تُقبَل إلا مع الاحتساب وصدق النيَّات، ويشهد له حديث عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه،
أن النبيَّ ﷺ قال: «إنما الأعمالُ بالنِّيَّات»
3. في هذا الحديث بيان أنه لا بد أن يكون الصيام والقيام «إيمانًا»؛ أي: يصوم وهو مؤمنٌ بأن الله تعالى قد فرضَه عليه، مُصَدِّقٌ بموعود الله للصائمين، وما أَعَدَّ لهم، ويصومه لله تعالى، لا عن خوفٍ من الناس، ولا استحياء منهم، دون اعتقاد بفرضيته عليهم، ولا اعتقادٍ بتعظيم ذلك الشهر.
4. في هذا الحديث بيان أنه لا بد أن يكون الصيام والقيام «احتسابًا»؛ أي: يريد بصيامه وقيامه وجه الله تعالى، ويحتسب الثواب على الله، ويصوم راغبًا في الثواب، طيِّبةً نفسُه بذلك، غيرَ مستثقِل لصيامه، ولا مستطيل لأيَّامه، بريئًا من الرياء والسُّمعة، فقد يفعل ما يعتقد صِدْقَه لا مُخْلِصًا؛ بل رياءً أو خوفًا من قاهر، أو من فَوَات منزلة، ونحو ذلك.
5. حقيقة التقوى العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيَفعَل ما أَمَر الله به؛ إيمانًا بالأمر، وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه؛ إيمانًا بالنهي، وخوفًا من وعيده [2].
6. التقوى أن تَعمَل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تتركَ معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، فالتقوى تجمع بين الإيمان، وبين طلب الثواب والخوف من العقاب، وهو الاحتساب [3].
7. لا بدَّ لكل عملٍ أن يكون مبدؤُه الإيمانَ، وغايتُه ثوابَ الله، وابتغاءَ مرضاته، وهو الاحتسابُ [4].
8. اختلفوا في سرِّ تسمية ليلة القَدْر بهذا الاسم؛ فقيل: لأن لها قَدْرًا عظيمًا؛
قال تعالى: ﴿
إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ ﴿١﴾ وَمَآ أَدْرَٰكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ ﴿٢﴾ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍۢ ﴿٣﴾
﴾
وقيل: لأن فيها تقديرَ الأشياء من أمور السَّنة، وقيل: فيها سَوْقُ المقادير إلى المواقيت، وقيل: قُدِّر في وقتها إنزالُ القرآن [5].
1. رواه البخاريُّ (1)، ومسلم (1907).
2. "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10).
3. انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10)، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).
4. انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10)، "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" لابن القيم (1/ 459).
5. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 390).
الفوائد الفقهية
9. الصيام: الامتناع عن الطعام، والشراب، والشهوة بنِيَّة العبادة لله تعالى، من أذان الفجر إلى أذان المغرب.
10. لا يُقبَل صوم رمضانَ إلا بنِيَّة، فيجب في الصوم الفرضِ أن ينويَ الإنسان الصيامَ قبل الفجر، أما النَّفْلُ فيجوز أن ينويَ بعد الفجر ما دام لم يأكُل أو يشرب [1].
11. ذهب إليه الجمهور إلى أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنيَّة من الليل، وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعيُّ، وإسحاق، وقالوا: يُجزئه التَّبْييتُ قبل الزوال، ولا سَلَفَ لهم في ذلك، والنيَّة إنما ينبغي أن تكون متقدِّمةً قبل العمل، وحقيقةُ التبييت في اللغة يقتضي زمن الليل، ورُوي هذا عن ابن عمرَ، وحفصةَ، وعائشةَ، ولا مخالف لهم [2].
12. قوله: «ومَن قام ليلة القَدر»؛ أي: قامها بالصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، ونحو ذلك من العبادات، وليس المراد بقيام ليلة القدر قيامَ جميع ليلِها؛ بل يَحصُل ذلك بقيام جزءٍ، ولو يسيرًا من الليل، كما في مطلَق التهجُّد، أو إدراك التراويح مع الإمام [3].
13. اختلف العلماء في تحديد ليلة القَدْر على أقوال؛ فقيل: إنها في كل شهر رمضان، وقيل: هي ليلةُ السابعَ عَشَرَ من رمضانَ؛ لقوله تعالى:
﴿۞ وَٱعْلَمُوٓا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن
شَىْءٍۢ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ
وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم
بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ
يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ۗ
وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ
قَدِيرٌ﴾
ويوم التقى الجمعان كان يومَ بدر في السابعَ عَشَرَ من رمضانَ. وقيل: هي ليلة الحادي والعشرين، وقيل: ليلة الثالث والعشرين، وقيل: ليلة الخامس والعشرين، وقيل: ليلة السابع والعشرين، وقيل: في الليالي الوتر من العشر الأواخر [4].
14. القول الصحيح في تحديد ليلة القدر أنها لا تُعلم بعينها؛ لكنها في العشر الأواخر من رمضان؛ ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت:
«كان النبيُّ ﷺ إذا دخل العشْرُ شدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»
«أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا»
فمَن قام العشر الأواخر، فقد أدرك ليلة القَدْر لا محالةَ [7].
15. قوله: «ومَن قام رمضان»؛ أي: قام لياليَ رمضانَ كلِّها، على أنه لا تعارُضَ بين مغفرة الذنوب بقيام ليلة القَدْر وحْدَها، ومغفرتها بقيام ليالي رمضان جميعًا؛ فإن كل واحدٍ منهما صالحٌ لتكفير السيِّئات؛ فقد يغتنم الإنسانُ قيامَ رمضانَ جميعًا بما فيه من ليلة القدر، فيُغفَر له ما تقدَّم من ذَنْبه، وقد يقصِّر في قيام رمضان كله، ويغتنم قيام ليلة القَدْر، فيحصل له ذلك بعون الله وتوفيقه [8].
16. ذكر النبيُّ ﷺ للغفران طريقَين؛ أحدهما: يمكِن تحصيلُه يقينًا؛ لكنه شاقٌّ، وهو قيامُ رمضانَ كلِّه. والآخَر: الاقتصار على قيام ليلة القدر وتحرِّيها، وهذا لا سبيل إلى اليقين فيه؛ وإنما مَبْناه على الظنِّ والتَّخْمِين [9].
17. قوله: «غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»: اختلف الفقهاءُ، هل يَغفِر اللهُ له الذنوبَ جميعًا؛ صغائرَها وكبائرها؟ فذهب بعضهم إلى القول به، وأن الله لم يَستَثنِ الكبائرَ دونَ الصغائر، وقد ذهب أكثرُ الفقهاء إلى أن ذلك مختصٌّ بالصغائر دون الكبائر [10].
18. هناك أحاديثُ كثيرةٌ تشهد لقول معظم الفقهاء أن غفران الذنوب مختصٌّ بالصغائر دون الكبائر؛ مثل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ كان يقول: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمُعة إلى الجُمُعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّراتٌ ما بينهن إذا اجتَنَب الكبائر» [11]، وما رواه عثمانُ بنُ عفَّانَ رضي الله عنه قال:
«ما من امرئٍ مسلمٍ تحضُرُه صلاة مكتوبةٌ، فيُحسن وُضوءَها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفَّارةً لِما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتِ كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه»
ويشهد لذلك أن مذهب أهل السُّنة أن الكبائر تكفِّرها التوبة، أو إقامة الحدِّ، أو رحمة الله تعالى [13]. ورحمة الله واسعة، وفضله عظيم.
19. قوله:
«ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»
لعلَّ هذا فيمن لم يَقُم رمضانَ، فيُغفر له لقيامه ليلة القدر، أو من لم يكن قيامه إخلاصًا واحتسابًا [14].
20. من يقم ليلة القدر، هل يقتضي قيامَ تمام اللّيلة، أو يكفي أقلُّ ما ينطلق عليه اسم القيام؟ ذهب بعض الأئمة إلى أنّه يكفي الأقلُّ، حتّى قيل بكفاية فرض صلاة العشاء في دخوله تحت القيام فيها؛ لكن الظّاهر منه عُرْفًا أنه لا يقال: قيام اللّيلة، إلّا إذا قام كلَّها أو أكثرها [15].
21. قيل: إن قوله: «من يقم ليلة القدر» مثلُ: من يصم يومًا، فكما لا يكفي صوم بعض اليوم ولا أكثره، فكذلك لا يكفي قيام بعض ليلة القدر ولا أكثرها؛ وذلك لأن ليلة القدر وقعت مفعولاً لقوله: يقم، فينبغي أن يوصف جميع اللّيلة بالقيام؛ لأن من شأن المفعول أن يكون مشمولاً بفعل الفاعل [16].
1. انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (4/ 21)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (13/ 72).
2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 21).
3. انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 161).
4. انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربِّي (4/ 265)، "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (3/ 495).
5. رواه البخاريُّ (2024)، ومسلم (1174).
6. رواه البخاريُّ (11622)، ومسلم (1165) واللفظ له.
7. انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربِّي (4/ 265)، "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (3/ 495).
8. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 76)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 164).
9. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 76)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 164).
10. انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 163)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 77).
11. رواه مسلم (233).
12. رواه مسلم (228).
13. انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 163)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 77).
14. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 113).
15. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 228).
16. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني (1/ 228).
الفوائد العقدية
22. من مظاهر ربوبية الله تعالى انفرادُه بتعظيم ما يشاء من خَلْقِه، وما يختار من الزمان والمكان، فهو الذي يفعل ما يشاء لحِكمة يَعلَمها سبحانه، ومن ذلك أنه تعالى جعل لبعض الأزمنة الأماكن فضائلَ ومزايا ليست لغيرها، فجَعَل يومَ عرفةَ خيرَ أيَّام العام، ويومَ الجُمُعة أفضلَ أيام الأسبوع، وجَعَل الكعبةَ أفضلَ البقاع، وشهرَ رمضان أفضلَ الشهور، وليلةَ القَدْر أفضلَ الليالي جميعًا.
الفوائد التربوية
23. إن المنهج الإسلاميَّ في التربية يَربِط بين العبادة وحقائقِ العقيدة في الضمير، ويَجعَل العبادةَ وسيلةً لإحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حيَّة تتخلَّل المشاعر، ولا تَقِف عند حدود التفكير.
24. الاحتساب أن يعتَدَّ المرء بالأجر عند الله، يدَّخِره إلى الآخرة، لا يرجو أن يتعجَّل شيئًا منها في الدنيا؛ لأن ما يَفتَح الله على العبد في الدنيا من المال، ويناله من لذَّة، فمحسوب من أجره، ويُحاسَب يوم القيامة به [1].
25. أخفى الله تعالى ليلة القَدْر ليتحقَّق اجتهادُ الطالب في الليالي جميعها، كما أُخفيت ساعةُ الإجابة يوم الجُمُعة، والوقت الذي يَنزِل الله عزَّ وجلَّ فيه إلى السماء الدنيا، وقد كان النبيُّ ﷺ يجتهد في العَشْر ما لا يجتهد في غيرها [2].
المراجع
1. انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربي (2/ 476).
والأثر أخرجه مالك في "الموطأ" (2/936)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (24524).
2. انظر: "التبصرة" لابن الجوزيِّ (2/ 97).
الفوائد الحديثية
26. قوله: «غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»: قد ورد في بعض الروايات الشاذَّة الباطلة زيادة: «وما تأخَّر»، وهذه ليست صحيحةً، لا تجوز لأحد؛ فإنها من خصائصه ﷺ [1].
27. روى عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أكثر من ثمانمائةٍ راوٍ، ما بين صحابيٍّ وتابعيٍّ، وله خمسةُ آلافِ حديث وثلاثُمِائةٍ وأربعةٌ وسبعونَ حديثًا، اتَّفَق البخاريُّ ومسلم منها على ثَلاثمِائة حديثٍ، وانفرد البخاريُّ بثلاثةٍ وسبعين حديثًا [2].
1. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 315)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 494).
2. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 72).
الفوائد اللغوية
28. إعراب «إيمانًا»: يجوز فيها أكثر من وجه؛ منها: حَالٌ، بأن يكون المصدر (إيمان) بمعنى اسم الفاعل؛ أَيْ: صام مُؤْمِنًا مُحْتَسِبًا، ومنها: مفعول له، والمعنى: صام رمضان من أجل إيمانه بأمر الله وتصديقه بوعده. ومنها: نائب عن المفعول المطلَق، والمعنى: صام صومَ إيمان وتصديق.
29. قَوْله: «غُفِر لَهُ» من الغَفْرِ، وهو السَّتْر والتغطية، ومغفرة الله لعبده: إلباسه إيَّاه العَفْوَ وسَتْرُه ذُنوبَه [1].
30. هل مغفرة الذنوب تقتضي مغفرة ذنب يتعلّق بحقِّ النّاس؟ أجيب: بأن لفظه مقتضٍ لذلك؛ ولكن عُلم من الأدلّة الخارجية أن حقوق العباد لا بدَّ فيها من رضى الخصوم، فهو عامٌّ اختصَّ بحقِّ الله تعالى ونحوه بما يدلُّ على التّخصيص، وقيل: يجوز أن تكون (من) تبعيضية [2].
31. رمضان ليس اسمًا من أسماء الله كما قال بعض الناس، ولهذا يجوز أن نقول: «دخل رمضان»، و«دخل شهر رمضان» [3].
1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني (1/ 226).
2. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني (1/ 228).
3. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 112)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 389).