عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجهلَ، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشَرَابَه».
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجهلَ، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشَرَابَه».
الزُّور: أصله: ازْوَرَّ عن الطريق؛ أي: مال عنه، وازْوَرَّ عن الحقِّ؛ ولذلك سُمِّيَ الكذبُ زُورًا [1].
1. انظر: "الغريبين في القرآن والحديث" للهروي (3/ 836)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 318)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (3/ 24).
يروي أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ»، وقول الزور يشمل كلَّ باطل وكذب. «والعَمَلَ به»؛ أي: العمل بالزور، فيشمل شهادةَ الزور، والغِيبة، والنميمة، وغير ذلك. «والجهلَ»: وهو: السفاهة، وعدم الحِلم، والصَّخَب والرفث، والسباب والتقاتل بالباطل، وغير ذلك مما نُهِي عنه الصائم. «فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشَرَابَه» تعالى ربُّنا عن أن يحتاج، فهو الغنيُّ عن العالَمين، وهذا تَعبير عن عدم القَبول.
يُحذِّر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث عن مُبطِلَين من مُبطلات الأعمال التي تُبطل أجرَ الصيام كما تُبطل سائر الحسنات، وهما: قولُ الزور والعملُ به، والجهلُ.
وقول الزور يشمل كلَّ باطل وكذب، لذا؛ نهى الله عز وجل عن قول الزُّور؛
قال تعالى:
﴿ فَٱجْتَنِبُوا ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلْأَوْثَٰنِ وَٱجْتَنِبُوا قَوْلَ ٱلزُّورِ ﴾
[الحج: 30]،
وأثنى تبارك وتعالى على عباده الذين لا يشهدون الزور بقوله:
﴿ وَٱلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِٱللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾
[الفرقان: 72]،
وجعله النبيُّ ﷺ من أكبر الكبائر؛ ففي الحديث عن أبي بكْرةَ رضي الله عنه قال:
قال النبيُّ ﷺ:
«ألا أُنبِّئُكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلسَ وكان متَّكِئًا فقال: ألا وقول الزُّور»، قال: فما زال يُكرِّرها حتى قلنا: ليْتَه سكتَ
[1].
وقوله: «والعمل به» أي: العمل بالزور، فيشمل شهادةَ الزور، والغِيبة، والنميمة، وغير ذلك.
وقوله: «والجهل»، وهو: السفاهة وعدم الحِلم، بما يؤدِّي إليه من الشجار، والعِراك والصَّخَب، وغير ذلك مما نُهِي عنه الصائم؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يرفُثْ، ولا يَصخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ» [2]. وقيل: الجهلُ هنا هو العملُ بما فيه خلافُ ما يَقتَضيه العلم، من الابتداع والتحريف [3].
وقوله: «فليس لله حاجة» تعالى ربُّنا عن أن يحتاج، فهو الغنيُّ عن العالَمين، وهذا تَعبير عن عدم الالتفات، والمبالاة، والقَبول، والْمَيل، تقول: لا حاجةَ لي في فلان؛ أي: لا تهتمُّ به ولا يُهِمُّك أمرُه [4].
والمقصود من إيجاب الصوم وشَرْعِه، ليس نفْسَ الجوع وعطشه؛ بل ما يَتبَعُه من كَسْر الشهوة، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفْس الأمَّارة للنفْس المطمئنَّة، فإذا لم يحصُل له شيءٌ من ذلك، ولم تتأثَّر به نفْسه، لم يكن له من صيامه إلا الجوعُ والعطشُ؛ لا يُبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نظرَ قَبولٍ؛ إذ لم يقصد به مجرَّد جوعه وعطشه، فيحتفل به، ويقبل منه [5].
وقد كان مَن قبلَنا من الأمم صومُهم الإمساكُ عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حَرَجٍ، ثم أرخص الله لهذه الأمَّة بحَذْف نصف زمانها - وهو الليل - وحَذْف نصف صومها عن الفَم - وهو الإمساك عن الكلام - ورخَّص لها فيها؛ ليرفعها بالكرامة في أعلى الدَّرَج، فوقعت في ارتكاب الزُّور، واقتراف المحظور في هَرَج؛ فأنبأ اللهُ سبحانه أنه في غِنًى عن الإمساك عن طعامه وشرابه إذا لم يُمسك مِن لسانه، وليس لله حاجة في شيء، ولا يناله بالسكوت أو الكلام نَيْلٌ؛ ولكن يناله التقوى والصيانة عن الزور والخَنَى؛ ليُجزل عليها الثواب، ويُكرم بها في المآب، وهذا يقتضي بتشديده في تهديده أنه لا ثوابَ له على صيامه [6].
وقد أفاد هذا الحديثُ أن حُكمَ الامتناع عن الفُسوق وقول الزُّور كالامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، وأن مَن لم يمتنع عن ذلك، فقد نقص أجرُ صيامه، وتعرَّض لسَخط ربِّه - جلَّ وعلا - وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «رُبَّ صائمٍ ليس له مِن صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السَّهَر» [7].
وفي الحديث وعيدٌ شديدٌ، وتغليظٌ كبيرٌ في حقِّ قول الزور؛ فإذا كان الزور يُحبط أجرَ الصوم الذي له من الثواب العظيم بحيث يخبِّئ الله ثوابَه؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال:
إن رسول الله ﷺ قال:
«قال الله: كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلا الصيامَ؛ فإنه لي»
[8]
فما الظنُّ بتلك السيئة التي غطَّت على هذا الثواب والأجر؟! [9].
وليس المعنى من قوله: «فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامه وشرابه» أن يؤمَر المغتاب، أو قائل الزور وفاعله بترك الصيام؛ وإنما هو تحذيرٌ له، وتخويفٌ؛ لكي يترك ذلك الفعل، ويجتنبه ليَتِمَّ له أجرُ صومه [10].
وقيل: إن المراد: مَن لم يدَعْ قولَ الزور مطلَقًا في الصيام وغيره؛ أي: مَن لم يتركْ طولَ عمره الزورَ والتلبُّسَ به، فما يصنَعُ بصومه؟! [11].
وقد ذهب بعضُ الفقهاء إلى أن الوقوع في قول الزور، والفسوق، والكذب ونحو ذلك، يُفطِّر الإنسانَ؛ كما لو أَكَلَ، أو شَرِبَ، أو جامَع عامدًا، إلا أن كافَّةَ العلماء على خلافهم، وقد سُئل الإمامُ أحمد رحمه الله عن الغِيبة هل تفطِّر؟ فقال: لو كانت تُفطِّر ما بَقِيَ لنا صيام.
1. رواه البخاريُّ (2654)، ومسلم (87).
2. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).
3. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 214)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 431).
4. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 467)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 497).
5. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 497).
6. "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (3/ 229).
7. رواه النسائيُّ في "السنن الكبرى" (3236)، وابن ماجه (1690)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 625). وانظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24).
8. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).
9. "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (9/ 250).
10. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 374)، "فتح الباري" لابن حجر (4/ 117).
11. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (10/ 276).
قال المظهريُّ رحمه الله: "الغرضُ من الصيام كسْرُ النَّفْس بترك الطعام، والغَرَض من كَسْر النَّفْس تركُ المناهي، والغَرَض الْمُعَظَّم من الصيام ترْكُ المناهي التي هي مُحَرَّمةٌ، لا ترك الطعام والشراب اللَّذينِ هما مباحانِ" [1].
قال ابن رجب رحمه الله: "اعلم أنه لا يتمُّ التقرُّبُ إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرُّب إليه بتَرْك ما حرَّم الله في كل حال من الكذب، والظلم، والعُدوان على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم" [2].
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «إذا صمتَ فلْيَصُمْ سمعُكَ، وبصركَ، ولسانكَ عن الكذب والمآثم، ودَعْ أذى الخادم، وليكن عليكَ وقارٌ وسَكينةٌ يومَ صيامك، ولا تجعلْ يومَ فِطركَ وصومكَ سواءً» [3].
قال القاضي البيضاويُّ رحمه الله: "المقصود من إيجاب الصوم وشَرْعِه، ليس نفْسَ الجوع وعطشه؛ بل ما يَتبَعُه من كَسْر الشهوة، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفْس الأمَّارة للنفْس المطمئنَّة، فإذا لم يحصُل له شيءٌ من ذلك، ولم تتأثَّر به نفْسه، لم يكن له من صيامه إلا الجوعُ والعطشُ؛ لا يُبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نظرَ قَبولٍ؛ إذ لم يقصد به مجرَّد جوعه وعطشه، فيحتفل به، ويقبل منه" [4].
قال ابن العربيِّ رحمه الله: "كان مَن قبلَنا من الأمم صومُهم الإمساكُ عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حَرَجٍ، ثم أرخص الله لهذه الأمَّة بحَذْف نصف زمانها - وهو الليل - وحَذْف نصف صومها عن الفَم - وهو الإمساك عن الكلام - ورخَّص لها فيها؛ ليرفعها بالكرامة في أعلى الدَّرَج، فوقعت في ارتكاب الزُّور، واقتراف المحظور في هَرَج؛ فأنبأ اللهُ سبحانه أنه في غِنًى عن الإمساك عن طعامه وشرابه إذا لم يُمسك مِن لسانه، وليس لله حاجة في شيء، ولا يناله بالسكوت أو الكلام نَيْلٌ؛ ولكن يناله التقوى والصيانة عن الزور والخَنَى؛ ليُجزل عليها الثواب، ويُكرم بها في المآب، وهذا يقتضي بتشديده في تهديده أنه لا ثوابَ له على صيامه" [5].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلّب: فيه دليلٌ أن حُكْمَ الصيام الإمساكُ عن الرَّفَث وقول الزور، كما يُمسِك عن الطعام والشراب، وإن لم يُمسِك عن ذلك، فقد تنقَّص صيامه، وتعرَّض لسَخط ربه وترك قبوله منه. وقال غيره: وليس معناه أن يؤمَر بأن يَدَع صيامه إذا لم يدع قول الزور؛ وإنما معناه التحذير من قول الزور" [6].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المؤلِّف: قولُ الزُّور هو الكذب، وهو محرَّم على المؤمنين، وهذا الحديث في شاهد الزور تغليظٌ شديد، ووعيد كبير، ودلَّ قوله ﷺ: «فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشَرَابَه» على أن الزور يُحبِط أجر الصائم، وأن من نطق به في صيامه؛ كالآكل الشارب عند الله تعالى في الإثم، فينبغي تجنُّبه، والحَذَر منه؛ لإحباطه للصيام الذى أخبر النبيُّ - عليه السلام - عن الله تعالى أنه قال فيه: «قال اللهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلَّا الصيامَ؛ فإنه لي، وأنا أَجْزِي به» [7]؛ فما ظنُّكَ بسيِّئةٍ غطَّت على هذا الفضل الجَسِيمِ والثَّوَاب العظيم؟!" [8].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "هذا باب في بيان حال من لم يدع؛ أي: لم يترك، قول الزّور، وهو الكذب والميل عن الحق، والعمل بالباطل والتّهمة. قوله: «والعمل به»؛ أي: بمقتضاه ممّا نهى الله عنه " [9].
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "«من لم يدع قول الزّور»؛ أي: الكذب، «والعمل به والجهل»؛ أي: السَّفَه، «فليس للّه حاجة»؛ أي: إرادة «في أن يدع شرابه وطعامه» رواه البخاريُّ وأبو داود واللّفظ له. الحديث دليل على تحريم الكذب والعمل به، وتحريم السَّفه، على الصّائم، وهما محرَّمان على غير الصّائم أيضًا؛ إلّا أنّ التّحريم في حقّه آكَدُ؛ كتأكُّد تحريم الزّنا من الشّيخ، والخُيَلاء من الفقير، والمراد من قوله: «فليس للّه حاجة»؛ أي: إرادة: بيان عظم ارتكاب ما ذكر، وأنّ صيامه كلا صيام، ولا معنى لاعتبار المفهوم هنا؛ فإنّ اللّه لا يحتاج إلى أحد، هو الغنيُّ سبحانه، ذكره ابن بطّال. وقيل: هو كناية عن عدم القبول؛ كما يقول المغضَب لمن ردَّ شيئًا عليه: لا حيلة لي في كذا، وقيل: إنّ معناه أنّ ثواب الصّيام لا يُقاوَم في حكم الموازنة ما يستحقُّ من العقاب لما ذُكِرَ" [10].
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والمراد بالزّور: الكذب. قوله: «فليس للّه حاجة»... إلخ. قال ابن بطّال: ليس معناه أنّه يؤمر بأن يدع صيامه؛ وإنّما معناه التّحذير من قول الزّور وما ذُكر معه. قال في الفتح: ولا مفهوم لذلك؛ فإنّ اللّه لا يحتاج إلى شيء؛ وإنّما معناه: فليس للّه إرادة في صيامه، فوضع الحاجة موضع الإرادة. وقال ابن المنير في حاشيته على البخاريِّ: بل هو كناية عن عدم القبول؛ كما يقول الْمُغضَب لمن ردَّ عليه شيئًا طلبه منه، فلم يقم به: لا حاجة لي في كذا. وقال ابن العربيِّ: مقتضى هذا الحديث أنّه لا يثاب على صيامه، ومعناه أنّ ثواب الصّيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزّور وما ذُكر معه. واستُدلَّ بهذا الحديث على أنّ هذه الأفعال تَنقُص ثواب الصّوم، وتُعُقِّب بأنّها صغائرُ تكفَّر باجتناب الكبائر" [11].
1. "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (3/ 24).
2. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 155).
3. رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8880)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (3374).
4. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 497).
5. "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (3/ 229).
6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 23).
7. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).
8. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 250).
9. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (10/ 275).
10. "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 567).
11. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (4/ 248).