عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «قال اللهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلَّا الصيامَ؛ فإنه لي، وأنا أَجْزِي به، والصِّيامُ جُنَّةٌ، وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ، والذي نفْسُ محمدٍ بيده، لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريحِ المِسْك، للصائمِ فَرْحتانِ يَفرَحُهما: إذا أفطَرَ فَرِحَ، وإذا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بصومِه»

عناصر الشرح

غريب الحديث:

جُنَّةٌ: أي: ساترٌ ووَاقٍ [1].

يرفُث: الرَّفَث: الجِماع [2].

يصخَب: الصَّخَب: الصياح ورفعُ الصوت والجَلَبة [3].

خُلُوف: تغيُّر رائحة الفم عند الصيام والجوع [4].


المراجع

1. قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (1/ 156): "الصوم جُنة: قيل: من النار ساترٌ عنها مانعٌ منها". وقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 308): "أي: يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات. والجُنة: الوق

2. قال أبو عبيد الهرويُّ في "الغريبين في القرآن والحديث" (3/ 759): "الرَّفَث: الجماع، والرفث: التصريح بذِكر الجماع والإعرابُ به"، قال الأزهريُّ: "هي كلمة جامعة لكلِّ ما يريده الرجلُ من امرأته".

3. قال الحميديُّ في "تفسير غريب ما في الصحيحين البخاريِّ ومسلم" (ص 431): الصَّخب: الصياح والضوضاء والجَلَبة.

4. قال القاسم بن سلّام في "غريب الحديث" (1/ 327): "تغيُّر طعم الفم لتأخير الطعام".




المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو هُرَيرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربِّه تعالى:

«قال اللهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلَّا الصيامَ؛ فإنه لي، وأنا أَجْزِي به»

أي: الأعمال كلُّها يُجازى عليها ابنُ آدمَ، وكلُّها له، وإنما جَعَل الله الصيامَ وحدَه له تشريفًا لهذه العبادة الجليلة وتعظيمًا. «والصِّيامُ جُنَّةٌ»؛ أي: سِتر ووقاية من النار أو من المعاصي. «وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ»، فيتجنَّب الصائم الأمور التي تَحرُم على الصائم وغيره؛ كالصَّخب والفُحش والفسوق والجهل ونحو ذلك. «فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ» حتى لا يستدرجه إلى السِّباب والتقاتُل بالباطل.

قال ﷺ: 

«والذي نفْسُ محمدٍ بيده، لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريحِ المسك»

يُقسِم ﷺ مبالغةً في التأكيد على أن تغيُّر رائحة فم الصائم بسبب الصيام أطيبُ عند الله مِن ريحِ المسك. «للصائم فرحتانِ يَفرَحُهما: إذا أفطَرَ فَرِحَ» بأن أتمَّ الله عليه صومه في خير وعافية، وبذهاب الظَّمأ والجوع وثُبوت الأجر. «وإذا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بصومِه»؛ لِما يرى ما أعدَّه الله له من الجزاء في الآخرة.




الشرح المفصَّل للحديث:

هذا الحديث القُدسيُّ يَرْويه النبيُّ ﷺ عن ربِّه في فضائل الصوم، وما أَعَدَّه الله للصائمين من النعيم المقيم، والفوز العظيم.

قوله تعالى: «كلُّ عمل ابن آدم له، إلا الصيامَ؛ فإنه لي» الأعمال كلُّها يُجازى عليها ابنُ آدمَ، وكلُّها له، وإنما جَعَل الله الصيامَ وحدَه له تعالى لأمور، منها:

  • أن يكون أضافه إليه إضافةَ تشريف وتخصيص؛

    كقوله:

    ﴿عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ﴾

    [إبراهيم: 37]،

    وقوله تعالى:

    ﴿نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَٰهَا﴾

    [الشمس: 13].

  • أن يكون أراد: الصوم لا يعلمه أحدٌ غيري؛ لأن كلَّ طاعة لا يقدِر المرء أن يُخفيَها، وإن أخفاها عن الناس لم يُخْفِها عن الملائكة، والصومُ يمكِنه أن يَنْوِيَه ولا يعلم به مَلَك ولا بشَر؛ فلهذا لا يمكِن أن يَدخُله الرياء.

  • أن الاستغناء عن الطعام صفة لله تبارك وتعالى؛ فإنه يُطْعِمُ ولا يُطْعَم، كأنه قال: إن الصائم إنما يتقرَّب إليَّ بأمر هو متعلِّق بصفة من صفاتي، وهذا على معنى تشبيه الشيء في بعض معانيه، وإن كان لا يجوز أن يكون لله شريكٌ في كُنْهِ صفاته، كما لا شريكَ له في ذاته.

  • أن يكون المراد بقوله: «الصوم لي»؛ أي: من صفة ملائكتي؛ لأن العبد في حالة الصوم يشبه الْمَلَك؛ لأنه يَذكُر ولا يأكل، يمتَثِل العبادة ولا يَقضي شهوته.

  • أن يكون المراد أنه تعالى أخبرنا بجزاء العبادات، وأن الحسنة بعَشْر أمثالها، إلى سَبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة، إلا الصومَ؛ فإنه مُستَثنًى من ذلك، فلم يُخبر الله بجزائه مَلَكًا مقرَّبًا، أو نبيًّا مُرسلًا.

  • أن سائر الحسنات راجعةٌ إلى صَرف المال، واشتغال البَدَن بما فيه رضاه، والصومُ يتضمَّن كَسْر النفْس، وتعريض البدن للنُّقصان والنُّحول، مع ما فيه من الصبر على مَضَض الجوع، وحُرقة العطش، فبينَه وبينها أمدٌ بعيدٌ.

  • أنَّ في الصيام اجتماعَ أنواع الصبر الثلاثة؛ فهو صبرٌ على طاعة الله؛ لأن الإنسان يَصبر على هذه الطاعة ويَفعلها، وعن معصيته؛ لأنه يَتجنَّب ما يَحرُم على الصائم، وعلى أقدار الله؛ لأن الصائم يُصيبه ألَمٌ بالعطش، والجوع، والكسل، وضعف النفْس، فلهذا كان الصوم من أعلى أنواع الصبر؛ لأنه جامع بين الأنواع الثلاثة،

    وقد قال الله تعالى:

    ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم﴾

    [الزمر: 10].

  • أن معنى قوله تعالى: «الصوم لي» أن الصوم يقمَع عَدُوِّي، وهو الشيطان؛ لأن سبيل الشيطان إلى العبد اقتضاءُ الشهوات، فإذا تركها العبدُ، بَقِيَ الشيطان لا حَراكَ به، ولا حِيلةَ له [1].

وقوله: «وأنا أجزي به» فيه زيادةُ تفضيل للصوم، وإن كانت كلُّ العبادات إنما يَجزي بها الله تعالى، والمراد: مضاعفةُ الحسنات من غير عدد ولا حساب [2].

وقوله: «والصيامُ جُنَّةٌ»؛ أي: وقاية، وإنما أخبر أنه وقايةٌ وجُنَّةٌ؛ لأن المسلم يتستَّر به من شَوكة الشيطان وإغوائه، والجُنَّة إنما يَكْمُل الانتفاع بها إذا كانت مُحْكَمةً ومسرودةً في غير اختلال، وكذلك الصيام إنما يحقِّق التستُّر به على حَسَبِ العناية به من التحفُّظ، والإتقان، والتنَزُّه عن الخطأ والخَطَل فيهما، فإذا وجد فيه بعض الخلل، نقَص بحصَّته ثوابُ العمل؛ ولهذا ترتَّب عليه ما بعده من النهي عن الصَّخَب، والرفَث، والفسوق [3].

وقوله: «جُنَّة» يُحتمَل أن يكون من النار؛ فإنه يَحُول بين الصائم وبينها، ويُحتمَل أن يكون عن المعاصي؛ لأنه يَكسِر الشهوةَ ويُضعف القوَّة، فيمتنع به الصائم عن مواقعة المعاصي، فصار كأنه جُنَّةٌ وسترٌ دونها [4].

وقوله: «وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يرفُثْ، ولا يَصخَبْ» الصَّخب والفسوق والجهل ونحو ذلك؛ من الأمور التي تَحرُم على الصائم وغيره، وإنما ذكَرَها هنا توكيدًا وتنبيهًا على أن الصوم أبعدُ ما يكون عن الرفَث والجهل، وهو كقوله تعالى:

﴿قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ﴾

[المؤمنون: 1، 2]،

فالخشوع في الصلاة أوكَدُ منه في غيرها، وقال في الأشهر الحُرُم:

﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾

[التوبة: 36]،

فأكَّد حرمةَ الأشهر الحُرُم، وجعل الظُّلْمَ فيها آكَدَ من غيرها [5].

وقوله: «فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ» اختُلِف في المراد بالقول هنا؛ هل يقولها الإنسان في نفْسه أو يقولها للذي يُقاتله ويَسبُّه؟ والصحيح أنه يقولها جهرًا للذي يُقاتله؛ ليَعلَم أنه إنما سكَت عنه لا عجزًا منه ولا هوانًا؛ وإنما لأنه صائمٌ لله تعالى، وهذا المانع الذي منعه عنه، فينزجر السابُّ بذلك، ولا يظنُّ من ذلك ذُلَّ الرجُل وهوانه. ولأن ذلك قد يَزجُر السابَّ أيضًا إن كان هو الآخَرُ صائمًا؛ كأن يكون ذلك في رمضان أو غيره، فيُذكِّره بصومه فينزجر [6].

وقوله: «والذي نفْسُ محمدٍ بيده» يُقسم النبيُّ ﷺ بربِّه تأكيدًا وتوثيقًا، وهو الصادق المصدوق، إلا أن ذلك للتأكيد والحثِّ، وبيان الفضل. والظاهرُ أن الحديث القدسيَّ انقطع إلى هنا، والآتي من كلام النبيِّ ﷺ، كما صُرِّح بذلك في بعض الروايات: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلْفَةُ فَمِ الصَّائِم...».

قوله: «لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريحِ المسكِ» هذا من باب الثناء على الصائم والرضا بفِعله؛ لئلا يمنعَه تغيُّر رائحة فمه عن مواظبة الصوم. وفي معنى ذلك عدَّةُ أوجه:

  • أن ذلك استعارة ومجاز؛ فقد جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة مِنَّا، فاستُعير ذلك من الصوم لتقريبه من الله تعالى. فيكون المعنى: أن خُلوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك عندكم؛ أي: إنه يقرِّب إليه أكثر من تقريب المِسك إليكم.

  • وقيل: يجعله اللهُ - عزَّ وجلَّ - كذلك في الآخِرة، فيكون أطيبَ عنده من رِيح المسك، كما يفعل في المجاهد في سبيل الله، حيث يجعل الدَّمَ برِيح المسك.

  • أن صاحب الخُلوف يَنال من الثواب ما هو أفضلُ من رِيح المسك عندنا.

  • أنه يُعتَدُّ برائحة الخُلوف، وتُدَّخر على ما هي عليه أكثرَ مما يُعتَدُّ بريح المسك، وإن كانت عندنا نحن بخلافه.

  • أن الخُلوف أكثر ثوابًا من المسك حيث نُدِبَ إليه في الجُمَع والأعياد، ومجالس الحديث والذِّكر، وسائر مجامع الخير [7].

وقوله: «للصائم فرحتانِ يَفرَحُهما: إذا أفطَرَ فَرِحَ، وإذا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بصومِه»، أما الفرح بلقاء ربِّه، فلِما أعدَّه له من الجزاء الذي أخفاه عن جميع خلقه، فلم يعلمه غيره، وأما الفرح بفِطره، فيُحتمَل أن يكون فرحًا بالطعام بعد الجوع والعطش، ويُحتمَل أن يكون فرحًا بأن أتمَّ الله عليه صومه في خير وعافية وسلامته من الفساد [8]. 

ولا مانعَ من الحمل على ما هو أعمُّ مما ذُكر؛ ففرَحُ كلِّ أحد بحسَبه؛ لاختلاف مَقامات الناس في ذلك؛ فمنهم مَن يكون فرحُه مُباحًا - أي: بالطعام والشراب - وهو الطبيعيُّ، ومنهم مَن يكون مُستَحبًّا [9].



المراجع

1. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 946)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (4/ 240)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 212)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (1/ 490)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 458).

2. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 940).

3. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنّة" للتوربشتيِّ (2/ 459).

4. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 939)، "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (6/ 88).

5.  انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 214).

6. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (13/ 20)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 432).

7. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 112)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (4/ 96).

8. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 947)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 112).

9. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 118).



النقول:

قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "قوله: «كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيامَ فإنه لي»: اختُلف في معنى هذا على أقوال: أحدها: أن أعمال بني آدم يمكِن الرياء فيها، فيكون لهم، إلا الصيام فإنه لا يمكِن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الْمُمسِك شِبعًا كحال الْمُمْسِك تقرُّبًا، وارتضاه ا لمازِريُّ.

وثانيها: أن أعمال بني آدم كلَّها لهم فيها حظٌّ إلا الصيام؛ فإنهم لا حظَّ لهم فيه، قاله الخطَّابيُّ.

وثالثها: أن أعمالهم هي أوصافهم، ومناسِبةٌ لأحوالهم، إلا الصيامَ؛ فإنه استغناءٌ عن الطعام، وذلك من خَواصِّ أوصاف الحقِّ سبحانه وتعالى.

ورابعها: أن أعمالهم مضافةٌ إليهم إلا الصيام؛ فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفًا؛ كما قال: (بيتي) و(عبادي).

وخامسها: أن أعمالهم يقتصُّ منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام؛ فإنه لله تعالى، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئًا" [1].

قال ابن حجر رحمه الله: "وَالْجُنَّةُ بضمِّ الجيم: الوقاية والسَّتْر، وقد تبيَّن بهذه الرّوايات متعلَّق هذا السَّتر، وأنّه من النّار، وبهذا جَزَم ابن عبد البرّ، وأمّا صاحب النّهاية، فقال: معنى كونه جُنّةً؛ أي: يقي صاحبه ما يؤذيه من الشّهوات، وقال القرطبيُّ: جُنّة؛ أي: سُترة، يعني: بحسب مشروعيّته، فينبغي للصّائم أن يصونه ممّا يُفسده ويَنقُص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث...» إلخ، ويصحُّ أن يُراد أنّه سُترة بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النّفس، وإليه الإشارة بقوله: «يدع شهوته...» إلخ، ويصحُّ أن يُراد أنّه سُترة بحسب ما يحصل من الثّواب وتضعيف الحسنات. وقال عياض في "الإكمال": معناه: سُترة من الآثام، أو من النّار، أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النّوويُّ، وقال ابن العربيِّ: إنّما كان الصّوم جُنّةً من النّار؛ لأنّه إمساك عن الشّهوات، والنّار محفوفة بالشّهوات، فالحاصل أنّه إذا كفَّ نفسه عن الشّهوات في الدّنيا، كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة" [2].

قال المازِريُّ رحمه الله: "تخصيصه الصومَ هاهنا بقوله: «لي»، وإن كانت أعمال البرِّ المخلَصة كلُّها له تعالى؛ لأجْلِ أنَّ الصَّوْمَ لا يمكِن فيه الرِّياء كما يمكِن في غيره من الأعمال؛ لأنه كفٌّ وإمْسَاكٌ، وحال الْمُمْسِكِ شِبعًا أوْ لِفَاقةً كحال الممسِك تقرُّبًا، وإنما القصد وما يُبطنه القلب هو الْمُؤَثِّر في ذلك، والصلوات والحجُّ والزكاة أعمال بَدَنية ظاهرة، يمكِن فيها الرياء والسُّمعة؛ فلذلك خُصَّ الصوم بما ذكره دونها. وأما قوله: «أطْيَبُ عند الله من ريح المِسْك»، فمجازٌ واستعارة؛ لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائعُ تميل إلى شيء، فتَستطِيبه وتَنفِر عن آخَرَ، فتستقذره، والله تعالى يتقدَّس عن ذلك؛ ولكن جرت العادة فينا بتقريب الروائح الطيبة منّا، واستُعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله سبحانه. و «خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ» بضم الخاء: تغيُّره. قال الهرويُّ: يُقال: خَلَفَ فُوه إذا تغيَّر، يَخْلُف خُلُوفًا" [3].

قال ابن حجر رحمه الله: "حُكي عن عائشةَ، وبه قال الأوزاعيُّ، أنّ الغِيبة تفطِّر الصّائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأَفرَط ابن حزم فقال: يُبطله كلُّ معصية من متعمِّد لها ذاكرٍ لصومه، سواء كانت فعلًا أو قولًا؛ لعموم قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، ولقوله: «من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، والجمهور وإن حملوا النّهي على التّحريم، إلّا أنّهم خصُّوا الفِطر بالأكل والشُّرب والجِماع، وأشار ابن عبد البرِّ إلى ترجيح الصّيام على غيره من العبادات، فقال: حَسْبُكَ بكون الصّيام جنّةً من النّار فضلًا" [4].

قال القاضي عياض رحمه الله: "قوله: «الصيام جُنَّة»؛ أي: سِتْرٌ ومانع من الرَّفَث والآثام، أو مانع من النار وساتر منها، أو مانع من جميع ذلك، ومنه: الْمُجْن للتُّرْس الذى يُسْتَتَر به، ومنه سُمِّيت الملائكة والشياطين جِنًّا؛ لاستتارهم عن أعين الناس، ورؤيتهم، وفي بعض الروايات: «فلا يصخب»، وهو من معنى يَجهَل، والصَّخَب بالسين والصاد: الصياح، ورواه الطبريُّ: «فلا يسخر» بالراء، ومعناه صحيح؛ لأن السخرية بالقول والفعل كلُّه من الجهل وبمعناه، وقد ذهب الأوزاعيُّ إلى أن السبَّ والغِيبة يفطِّران الصائم، وخصَّ النهيَ عن الرَّفَثِ والجهل هنا، وهو في كلِّ حال منهيٌّ عنه؛ لتأكيد حقِّ الصَّوم، ولتضعيف الإثم بفعل ذلك به؛ لإهانته حقَّ الشهر، ومراعاة الصوم، أَوْ لِئَلَّا يَفسَد صومُه على مذهب من يراه" [5].

 قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «والّذي نفسي بيده» أقسم على ذلك تأكيدًا. قوله: «لخلوف» بضمّ المعجمة واللّام وسكون الواو بعدها فاء. قال عياض: هذه الرّواية الصّحيحة، وبعض الشّيوخ يقوله بفتح الخاء، قال الخطّابيُّ: وهو خطأ، وحكى القابسيُّ الوجهين، وبالغ النّوويُّ في "شرح المهذّب" فقال: لا يجوز فتح الخاء، واحتجَّ غيره لذلك بأنّ المصادر الّتي جاءت على فَعول بفتح أوَّله قليلة؛ ذكرها سيبويهِ وغيره، وليس هذا منها، واتّفقوا على أنّ المراد به تغيُّر رائحة فم الصّائم بسبب الصّيام. قوله: «فم الصّائم» فيه ردٌّ على من قال: لا تثبت الميم في الفم عند الإضافة إلّا في ضرورة الشّعر؛ لثبوته في هذا الحديث الصّحيح وغيره. قوله «أطيب عند اللّه من ريح المسك»: اختلف في كون الخلوف أطيب عند اللّه من ريح المسك مع أنّه سبحانه وتعالى منزّه عن استطابة الرّوائح إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنّه يعلم الشّيء على ما هو عليه على أوجه، قال المازريُّ: هو مجاز؛ لأنّه جرت العادة بتقريب الرّوائح الطّيّبة منّا، فاستعير ذلك للصّوم لتقريبه من اللّه، فالمعنى: أنّه أطيب عند اللّه من ريح المسك عندكم؛ أي: يقرِّب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وإلى ذلك أشار ابن عبد البرِّ، وقيل: المراد أنّ ذلك في حقّ الملائكة وأنّهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر ممّا تستطيبون ريح المسك، وقيل: المعنى أنّ حكم الخلوف والمسك عند اللّه على ضدِّ ما هو عندكم، وهو قريب من الأوّل، وقيل: المراد أنّ اللّه تعالى يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما يأتي المكلوم وريح جرحه تفوح مسكًا، وقيل: المراد أنّ صاحبه ينال من الثّواب ما هو أفضل من ريح المسك، لا سيّما بالإضافة إلى الخلوف. حكاهما عياض، وقال الدّاوديُّ وجماعة: المعنى أنّ الخلوف أكثر ثوابًا من المسك المندوب إليه في الجُمَع ومجالس الذّكر، ورجّح النّوويُّ هذا الأخير، وحاصله حمل معنى الطّيب على القبول والرّضا" [6].

قال ابن رجب رحمه الله: "ومن أفضل أنواع الصّبر: الصّيام؛ فإنّه يَجمَع الصّبر على الأنواع الثّلاثة؛ لأنّه صبر على طاعة اللّه عزّ وجلّ، وصبر عن معاصي اللّه؛ لأنّ العبد يترك شهواته للّه ونفسُه قد تُنازعه إليها؛ ولهذا في الحديث الصّحيح: «إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصّيام، فإنّه لي وأنا أجزي به، إنّه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي»، وفيه أيضًا صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصّائم من الجوع والعطش، وكان النّبيُّ ﷺ يسمِّي شهر الصّيام شهرَ الصّبر" [7].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «فلا يرفث»؛ أي: الصّائم، كذا وقع مختصرًا، وفي الموطّأ: «الصّيام جنّة، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث...» إلخ، ويرفث بالضّمِّ والكسر، ويجوز في ماضيه التّثليث، والمراد بالرَّفَث هنا - وهو بفتح الرّاء والفاء ثمّ المثلّثة - الكلام الفاحش، وهو يُطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدِّماته، وعلى ذكره مع النّساء أو مطلقًا، ويحتمل أن يكون لما هو أعمّ منها. قوله: «ولا يجهل»؛ أي: لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل كالصّياح والسّفه ونحو ذلك. ولسعيد بن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه: «فلا يرفث ولا يجادل». قال القرطبيُّ: لا يُفهم من هذا أنّ غير الصّوم يُباح فيه ما ذكر؛ وإنّما المراد أنّ المنع من ذلك يتأكّد بالصّوم" [8].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال الداوديُّ: تخصيصُه في هذا الحديث ألَّا يَرْفُثَ ولا يجهل، وذلك لا يحلُّ في غير الصيام؛ وإنما هو تأكيد لحُرمة الصوم عن الرفث والجهل؛

كما قال تعالى:

﴿قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ﴾

[المؤمنون: 1، 2]،

والخشوع في الصلاة أوكَدُ منه في غيرها، وقال في الأشهر الحُرُم:

﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾

[التوبة: 36]،

فأكَّد حُرمةَ الأشهر الحُرم، وجَعَل الظُّلمَ فيها آكَدَ من غيرها، فينبغي للصائم أن يعظِّم من شهر رمضانَ ما عظَّم الله ورسوله، ويَعرِف ما لَزِمه من حُرمة الصيام. قال غيره: واتَّفَق جمهور العلماء على أن الصائم لا يفطِّره السبُّ والشتم والغِيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزِّه صيامه عن اللفظ القبيح، وقال الأوزاعيُّ: إنه يَفطُر بالسبِّ والغِيبة، واحتجَّ بما رُوي أن الغِيبة تفطِّر الصائم. قال ابن القصّار: معناه أنه يصير في معنى المفطِر في سقوط الأجر، لا أنه يُفطِر في الحقيقة؛

كقوله تعالى:

﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾

[الحجرات: 12]،

ومن اغتاب فلم يكن آكلاً لحمَ أخيه مَيْتًا في الحقيقة؛ وإنما يصير في معناه، ويجوز أن يكون في معنى التغليظ، كما قال: الكذب مجانِبٌ للإيمان، فإن قيل: فما معنى قوله: «فليقل: إني صائم»، والمندوب إليه أن يَستتِر بعمله ليَكثُر ثوابه؟ قيل: إذا قال: إني صائم، ارْتَدَع، وعَلِم أنه إذا اجترأ عليه في صوم، كان أعظمَ في الإثم، فليَعلَم أيضًا أن الصوم يَمنَع من الردِّ عليه، ومثلُ هذا لا يُكرَه إذا كان لعُذر، وقيل معناه: أن يقول ذلك لنفسه" [9].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «وإن امرؤ قاتله أو شاتمه»، وفي رواية صالح: «فإن سابّه أحد أو قاتله» ولأبي قُرَّة من طريق سُهيل عن أبيه: «وإن شتمه إنسان فلا يكلّمه»، ونحوه في رواية هشام عن أبي هريرة عند أحمد، ولسعيد بن منصور من طريق سهيل: «فإن سابّه أحد، أو ماراه»؛ أي: جادله. ولابن خزيمة من طريق عَجْلانَ مولى الْمُشْمَعلِّ عن أبي هريرة: «فإن سابّك أحد فقل: إنّي صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس». ولأحمدَ والتّرمذيِّ من طريق ابن المسيِّب عن أبي هريرة: «فإن جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم». وللنّسائيِّ من حديث عائشة: «وإن امرؤ جَهِل عليه فلا يشتمه ولا يسبَّه»، واتّفقت الرّوايات كلُّها على أنّه يقول: «إنّي صائم»، فمنهم من ذكرها مرّتين، ومنهم من اقتصر على واحدة" [10].



المراجع

1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (10/ 1).

2. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).

3. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (2/ 61، 62).

4. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).

5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 110).

6. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 105، 106).

7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 26).

8. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).

9. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24، 25).

10. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).





مشاريع الأحاديث الكلية