الفوائد العلمية
1. أخبرَنا الله تعالى بجزاء العبادات، وأن الحسنة بعَشْر أمثالها، إلى سَبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة، إلا الصومَ؛ فإنه مُستَثنًى من ذلك، فلم يُخبر الله بجزائه مَلَكًا مقرَّبًا، أو نبيًّا مُرسلًا.
2. الأعمال كلُّها يُجازى عليها ابنُ آدمَ، وكلُّها له، وإنما جَعَل الله الصيامَ وحدَه له تعالى لأمور [1]، منها: أن أعمال بني آدم يمكِن الرياء فيها، فيكون لهم، إلا الصيام فإنه لا يمكِن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الْمُمسِك شِبعًا كحال الممسك تقرُّبًا.
3. ربما أضاف الله تعالى الصيام له تشريفًا وتخصيصًا؛ كقوله تعالى:
وقوله تعالى:
﴿نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَٰهَا﴾
4. ربما أضاف الله تعالى الصيام له لأن الصوم لا يعلمه أحدٌ غير الله؛ لأن كلَّ طاعة لا يقدِر المرء أن يُخفيَها، وإن أخفاها عن الناس لم يُخْفِها عن الملائكة، والصومُ يمكِنه أن يَنْوِيَه ولا يعلم به مَلَك ولا بشَر؛ فلهذا لا يمكِن أن يَدخُله الرياء.
5. ربما أضاف الله تعالى الصيام له لأن الاستغناء عن الطعام صفةٌ لله تبارك وتعالى؛ فإنه يُطْعِمُ ولا يُطْعَم، كأنه قال: إن الصائم إنما يتقرَّب إليَّ بأمر هو متعلِّق بصفة من صفاتي، وهذا على معنى تشبيه الشيء في بعض معانيه، وإن كان لا يجوز أن يكون لله شريكٌ في كُنْهِ صفاته، كما لا شريكَ له في ذاته.
6. ربما أضاف الله تعالى الصيام له لأن أعمال بني آدم كلَّها لهم فيها حظٌّ إلا الصيام؛ فإنهم لا حظَّ لهم فيه.
7. ربما أضاف الله تعالى الصيام له لأن أعمالهم يقتصُّ منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام؛ فإنه لله تعالى، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئًا [2].
8. قوله: «وأنا أجزي به» فيه زيادةُ تفضيل للصوم، وإن كانت كلُّ العبادات إنما يَجزي بها الله تعالى، والمراد: مضاعفةُ الحسنات من غير عدد ولا حساب [3].
9. في الحديث بيان أن الصيام وقايةٌ وجُنَّةٌ؛ لأن المسلم يتستَّر به من شَوكة الشيطان وإغوائه، والجُنَّة إنما يَكْمُل الانتفاع بها إذا كانت مُحْكَمةً ومسرودةً في غير اختلال، وكذلك الصيام إنما يحقِّق التستُّر به على حَسَبِ العناية به من التحفُّظ، والإتقان، والتنَزُّه عن الخطأ فيهما، فإذا وُجد فيه بعض الخلل، نقَص بحصَّته ثوابُ العمل؛ ولهذا ترتَّب عليه ما بعده من النهي عن الصَّخَب، والرفَث، والفسوق [4].
10. في الحديث النهيُ عن الصَّخب والفسوق والجهل، ونحو ذلك من الأمور التي تَحرُم على الصائم وغيره، وإنما ذكَرَها هنا توكيدًا وتنبيهًا على أن الصوم أبعدُ ما يكون عن الرفَث والجهل، وهو كقوله تعالى في الأشهر الحُرُم:
﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنفُسَكُمْ ۚ﴾
فأكَّد حرمةَ الأشهر الحُرُم، وجعل الظلمَ فيها آكَدَ من غيرها [5].
11. قوله «لخُلوف فم الصائم»: قيل: إنه مجاز؛ لأنّه جَرَت العادة بتقريب الرّوائح الطّيِّبة منَّا، فاستُعير ذلك للصّوم لتقريبه من اللّه، فالمعنى: أنّه أطيب عند اللّه من ريح المسك عندكم؛ أي: يُقرَّب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم. وقيل: المراد أنّ ذلك في حقِّ الملائكة، وأنّهم يستطيبون ريح الخُلوف أكثرَ ممّا تستطيبون ريح المسك، وقيل: المعنى أنّ حكم الخلوف والمسك عند اللّه على ضدِّ ما هو عندكم، وقيل: المراد أنّ اللّه تعالى يَجْزيه في الآخرة، فتكون نكهته أطيبَ من ريح المسك، كما يأتي المكلوم وريح جُرْحه تفوح مسكًا، وقيل: المراد أنّ صاحبه ينال من الثّواب ما هو أفضلُ من ريح المسك، لا سيَّما بالإضافة إلى الخلوف. وقيل: إنّ الخلوف أكثر ثوابًا من المسك المندوب إليه في الجُمَع ومجالس الذِّكر [6].
12. الفرحتان في الحديث: أما الفرح بلقاء ربِّه، فلِما أعدَّه له من الجزاء الذي أخفاه عن جميع خَلْقه، فلم يَعلَمه غيره، وأما الفرح بفِطره، فيُحتمَل أن يكون فرحًا بالطعام بعد الجوع والعطش، ويُحتمَل أن يكون فرحًا بأن أتمَّ الله عليه صومه في خير وعافية، وسلامته من الفساد [7].
13. فَرَحُ كلِّ أحدٍ بحسَبِه؛ لاختلاف مَقامات الناس في ذلك؛ فمنهم مَن يكون فرحُه مُباحًا - أي: بالطعام والشراب، وهو الطبيعيُّ - ومنهم مَن يكون مُستَحبًّا [8].
14. الْجُنَّةُ: الوقاية وَالسَّتْر أو السُّترة من النار، أو من الآثام، أو مما يُؤْذيه من الشهوات، أو من جميع ذلك [9].
المراجع
1. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 946)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (4/ 240)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 212)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 490)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 458).
2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (10/ 1).
3. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 940).
4. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 459).
5. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 214).
6. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 105، 106).
7. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 947)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 112).
8. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 118).
9. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).
الفوائد الفقهية
15. اختُلف في المراد بقوله: «فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ»؛ هل يقولها الإنسان في نفْسه، أو يقولها للذي يُقاتله ويَسبُّه؟ والصحيح أنه يقولها جهرًا للذي يُقاتله؛ ليَعلَم أنه إنما سكَت عنه لا عجزًا منه ولا هوانًا؛ وإنما لأنه صائمٌ لله تعالى، وهذا المانع الذي منعه عنه، فينزجر السابُّ بذلك، ولا يظنُّ من ذلك ذُلَّ الرجُل وهوانه. ولأن ذلك قد يَزجُر السابَّ أيضًا إن كان هو الآخرُ صائمًا؛ كأن يكون ذلك في رمضان أو غيره، فيُذكِّره بصومه فينزجر [1].
16. اتَّفَق جمهور العلماء على أن الصائم لا يفطِّره السبُّ والشتم والغِيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزِّه صيامه عن اللفظ القبيح [2].
17. حَمَل الجمهور النَّهْيَ عن الرَّفَث والصَّخَب ونحوهما على التحريم، إلا أنهم خَصُّوا الفِطْرَ بالأَكْل والشُّرب والجِماعِ [3].
18. قال الأوزاعيُّ: إنّ الغِيبة تفطِّر الصّائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأَفرَط ابن حزم فقال: يُبطِلُه كلُّ معصية من متعمِّد لها ذاكرٍ لصومه، سواءٌ كانت فعلًا أو قولًا؛ لعموم قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، ولقوله: «من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [4].
19. قال ابن القصّار: معناه أنه يصير في معنى المفطِر في سقوط الأجر، لا أنه يُفطِر في الحقيقة؛ كقوله تعالى:
﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾
ومن اغتاب فلم يكن آكلاً لحمَ أخيه مَيْتًا في الحقيقة؛ وإنما يصير في معناه [5].
20. السواكُ مُستَحبٌّ للصائم وغير الصائم؛ إذ الحديث في كراهته للصائم ضعيفٌ لا يَصِحُّ، وأحاديثُ السواك الصحيحة مطلَقةٌ ليس فيها استثناء الصائم، والخُلُوف إنما يكون من الجَوف لا من الفم، فلا يؤثِّر استخدام السواك فيه، كما أنه ظهر من الحديث أن الخُلُوف ليس مأمورًا بتركه على حاله [6].
21. يجوز أن يُظهر العاملُ من عمله شيئًا ليتَّقِيَ به الشرَّ [7]، ولا ينبغي للإنسان أن يُخبر الناس بعبادته إلا لوجهِ نفعٍ، أو دفع ضُرٍّ، وإلا كانت مَظِنَّة الرياء والسُّمعة.
1. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (13/ 20)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 432).
2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24، 25).
3. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).
4. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).
5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24، 25).
6. انظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (1/ 150).
7. انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (6/ 88).
الفوائد الحديثية
22. قوله: «وإن امرؤ قاتله أو شاتمه»، وفي رواية صالح: «فإن سابّه أحد أو قاتله» ولأبي قرّة من طريق سهيل عن أبيه: «وإن شتمه إنسان فلا يكلّمه»، ونحوه في رواية هشام عن أبي هريرة عند أحمد، ولسعيد بن منصور من طريق سهيل: «فإن سابّه أحد، أو ماراه»؛ أي: جادله. ولابن خزيمة من طريق عَجْلانَ مولى الْمُشْمَعلِّ عن أبي هريرة: «فإن سابّك أحد فقل: إنّي صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس». ولأحمدَ والتّرمذيِّ من طريق ابن المسيِّب عن أبي هريرة: «فإن جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم». وللنّسائيِّ من حديث عائشة: «وإن امرؤ جَهِل عليه فلا يشتمه ولا يسبَّه»، واتّفقت الرّوايات كلُّها على أنّه يقول: «إنّي صائم»، فمنهم من ذكرها مرّتين، ومنهم من اقتصر على واحدة [1].
23. قوله: «والذي نفْسُ محمدٍ بيده» يُقسم النبيُّ ﷺ بربِّه تأكيدًا وتوثيقًا، وهو الصادق المصدوق، والظاهرُ أن الحديث القدسيَّ انقطع إلى هنا، والآتي من كلام النبيِّ ﷺ، كما صُرِّح بذلك في بعض الروايات: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلْفَةُ فَمِ الصَّائِم...».
24. روى عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أكثرُ من ثمانمائةٍ راوٍ، ما بين صحابيٍّ وتابعيٍّ، وله خمسةُ آلافِ حديث وثلاثُمِائةٍ وأربعةٌ وسبعونَ حديثًا، اتَّفَق البخاريُّ ومسلم منها على ثَلاثمِائة حديثٍ، وانفرد البخاريُّ بثلاثةٍ وسبعين حديثًا [2].
1. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).
2. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 72).
الفوائد التربوية
25. إن المنهج الإسلاميَّ في التربية يَربِط بين العبادة وحقائقِ العقيدة في الضمير، ويَجعَل العبادةَ وسيلةً لإحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حيَّة تتخلَّل المشاعر، ولا تَقِف عند حدود التفكير.
26. من أفضل أنواع الصّبر: الصّيام؛ فإنّه يَجمَع الصّبر على الأنواع الثّلاثة؛ لأنّه صبر على طاعة اللّه عزّ وجلّ، وصبر عن معاصي اللّه؛ لأنّ العبد يترك شهواته للّه ونفسُه قد تُنازعه إليها، وفيه أيضًا صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يَحصُل للصّائم من الجوع والعطش، وكان النّبيُّ ﷺ يسمِّي شهر الصّيام شهر الصّبر [1].
1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 26).
الفوائد اللغوية
27. قوله: «لخُلوف» بضمِّ الْمُعجَمة واللّام وسكون الواو بعدها فاء. قال عياض: هذه الرّواية الصّحيحة، وبعض الشّيوخ يقوله بفتح الخاء، قال الخطّابيُّ: وهو خطأ، وحكى القابسيُّ الوجهين، وبالغ النّوويُّ في "شرح المهذَّب" فقال: لا يجوز فتح الخاء، واحتجَّ غيره لذلك بأنّ المصادر الّتي جاءت على فَعُول بفتح أوّله قليلة؛ ذكرها سيبويهِ وغيره، وليس هذا منها، واتّفقوا على أنّ المراد به تغيُّر رائحة فم الصّائم بسبب الصّيام.
28. يرفث بالضّمِّ والكسر، ويجوز في ماضيه التّثليث، والمراد بالرَّفَث هنا - وهو بفتح الرّاء والفاء ثمّ المثلّثة - الكلام الفاحش، وهو يُطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدِّماته، وعلى ذكره مع النّساء أو مطلقًا، ويحتمل أن يكون لما هو أعمّ منها [1].
29. قوله: «فم الصّائم» فيه ردٌّ على من قال: لا تَثبُت الميم في (الفم) عند الإضافة إلّا في ضرورة الشّعر؛ لثُبوته في هذا الحديث الصّحيح وغيره [2].
1. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).
2. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 105، 106).