عَن مُعاذِ بنِ جبلٍ ‏‏رضى الله عنه قال:كنتُ رَدِيفَ النبيِّ ﷺ على حمارٍ، فقال: «يا معاذُ!، أتدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ؟ وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟» قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: «فإنَّ حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا.وحقَّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا».قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبشِّر الناس؟ قال: «لا تُبَشِّرْهم فيتَّكلوا» متفق عليه.

عناصر الشرح

غريب الحديث

رَدِيف: الرَّدِيفُ هُوَ الرَّاكِبُ خَلْفَ الراكب. يقال منه: رَدِفْتُهُ أَرْدَفُهُ، إِذَا رَكِبْتُ خَلْفَه  [1]  

المراجع

  1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (1/230).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يقول مُعاذُ بنُ جبلٍ ‏‏رضي الله عنه : (كنتُ رَدِيفَ النبيِّ ﷺ على حمارٍ)؛ أي: كنتُ راكبًا خلفَه ﷺ، فقال لي: «يا معاذُ، أتدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ؟ وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟»؛ أي: هل تَعرِف ما حقُّ الله الذي أَوجَبه على عباده؟ وما حقُّ العباد الذي أَوجَبه الله على نفسه؟

أجاب معاذٌ: «قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ»؛ أي: لا أعلم، وهذا في حياة النبيِّ ﷺ أما بعد وفاته فيُقال: اللهُ أعلمُ.

فقال ﷺ: «فإنَّ حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا»؛ أي: إن حقَّ الله على عباده أن يعبدوه وحدَه، ويتقرَّبوا إليه بالطاعات، ولا يعصونه، ولا يُشـركوا مع الله شيئًا. «وحقَّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا»؛ أي: وحقّ العباد على الله إن فعلوا ذلك، أن لا يُدخِلَهم النار، ولا يعذِّبهم، وأن يُدخلهم جنَّته.

فقال معاذٌ: قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبشِّر الناس؟ قال: «لا تُبَشِّرْهم فيتَّكلوا»؛ أي: لا تبشِّرْهم فيعتمدوا على ذلك إذا أخبرتَهم ولا يَعمَلوا.

الشرح المفصَّل للحديث

يُخبِر الصحابيُّ الجليلُ معاذُ بنُ جبلٍ رضي الله عنه عن نفسه أنه صَحِب النبيَّ ﷺ  ذاتَ مرَّةٍ فيقول: (كنتُ رديفَ النبيِّ ﷺ على حمارٍ)؛ أي: كنتُ أَركَب خلفَ النبيِّ ﷺ  على حماره، والرَّدِيف: "الراكبُ خلفَ الراكبِ بإذنه، ورِدْفُ كلِّ شيءٍ مؤخَّره"[1]، وفي هذه الجملة إشارة إلى تواضع النبيِّ ﷺ حيث حَمَل معاذًا  خلفه على حمار له، وبيانٌ لفضل معاذِ بنِ جبلٍ وعِظَم مكانته عند النبيِّ ﷺ.

فقال لي: «يا معاذُ، أتدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ؟ وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟»؛ أي: ناداه النبيُّ ﷺ وبادره بسؤال، فقال له: يا معاذُ، هل تعرف ما حقُّ الله تعالى الذي أَوجَبه على عباده؟ وما حقُّ العباد الذي أَوجَبه الله تعالى على نفسه؟ وهذه طريقةٌ لطيفة من النبيِّ ﷺ  كان يعلّم بها أصحابه رضوان الله عليهم، وهي طريقة السؤال والجواب، فسؤاله فيه استثارة لنفس معاذ رضي الله عنه وجلب اهتمامه وتركيزه، ولَفْتُ انتباهه.

قال معاذ: (قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلم): فأجاب معاذ رضي الله عنه بقوله: الله ورسوله أعلم، وفي جواب معاذ رضي الله عنه بيان لفقهه وفَهمه وأَدَبِه مع الله تعالى ومع رسوله ﷺ، حيث وَكَل إجابة السؤال الذي خَفِيَ عنه إجابتُه إلى الله تعالى وإلى رسوله ﷺ، وفي هذا الجواب تنبيهٌ للمسلمين أن لا يتحرَّجوا من عدم الإجابة عن الأسئلة التي لا يعرفون إجابتها، فقد فَعَلها قبلَهم أكابرُ الصحابة رضوان الله عليهم، وأكثرُهم فقهًا وعلمًا، وأن لا يتجاسروا على الإفتاء بغير علم؛ فالفتوى بغير علم مُنكَرٌ عظيم، وإثمٌ مُبين، واتِّباع لخطوات الشيطان؛

قال تعالى:

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ . إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ

[البقرة: 168، 169]،

  والقولُ على الله بغير علم من أشدِّ المحرَّمات، وجعله الله تعالى قرينَ الشِّرك لخطورته

فقال تعالى:

قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ

ﱠ [الأعراف: 33].

قال : «فإنَّ حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يُشـركوا به شيئًا»؛ أي: إن حقَّ الله جلَّ وعلا على عباده أن يتوجَّهوا إليه بالعبادة، ولا يُشـركوا معه غيره، ويتقرَّبوا إليه بالطاعات، ويبتعدوا عن المعاصي، فهو وحدَه تعالى المستحِقُّ للعبادة والمتوجَّه بها إليه؛

قال تعالى:

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ

[الإسراء: 23]،

وقال تعالى:

قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ

ﱠ [الأنعام: 162-163]،

"والمراد هنا ما يستحقُّه اللهُ على عباده مما جَعَله محتَّمًا عليهم، وحقُّ الله على العباد هو ما وَعَدهم به من الثواب، وأَلزَمهم إيَّاه بخطابه، والمراد بالعبادة: عملُ الطاعة، واجتناب المعاصي، وعَطَف عليها عدمَ الشِّـرك؛ لأنه تَمَام التوحيد، والحِكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدَّعون أنهم يعبدون الله؛ ولكنهم كانوا يعبدون آلهةً أخرى، فاشترط نفيَ ذلك، وقال ابن حبَّانَ: عبادةُ الله إقرارٌ باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح" [2]

قوله ﷺ : «وحقّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشـركُ به شيئًا»؛ أي: وحقّ العباد على الله إن هم فعلوا ذلك، وأقبلوا على طاعته، واجتنبوا معصيته، وأَفرَدوه وحدَه بالعبادة، أن لا يُدخِلهم النار، ولا يعذِّبهم، وأن يُدخلهم جنَّته، ويَشهَد لذلك قولُ النبيِّ ﷺ: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْـرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشـْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»  [3 ]، ومن أَشرَك بالله عزَّ وجلَّ فمثواه النار؛

قال تعالى:

إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ

[المائدة: 72]،

و"إن من مات لا يتَّخِذ مع الله شريكًا في الإلهيَّة، ولا في الْخَلْق، ولا في العبادة، فلا بُدَّ من دخوله الجنَّة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنة، وأن من مات على الشـرك، لا يدخل الجنَّة، ولا يناله من الله تعالى رحمةٌ، ويُخلَّد في النار أَبَد الآباد، من غير انقطاع عذاب" [4]، والله تعالى يَغفِر الذنوب جميعها، عدا الشـرك؛

قال تعالى:

إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا

[النساء: 48]

 واعلم - يَرحَمُك الله - أنه "ليس للعباد على الله حقٌّ ابتداءً، وإنما وجب ذلك بموجب وعده؛ لأنه لا يُخلف الميعاد [5]، فالله تعالى لا يجب عليه شيء؛ وإنما أوجب ذلك على نفسه منَّةً وتفضُّلاً ومجازاة لعباده على أعمالهم.

قال معاذٌ: قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبشـِّر الناس؟ قال: «لا تُبَشّـِرْهم فيتَّكلوا» والمعنى: أنك إذا أخبرتهم بهذه البشارة، تكاسلوا عن الطاعات وتركوها؛ اتِّكالاً على هذه البِشارة، فاتركهم يجتهدوا في العبادات ويتنافسوا فيها، وذلك خاصٌّ بمن يُخشى منه الاتِّكال وترك العمل.

و"يؤخَذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتَّكِلوا أن أحاديث الرُّخَص لا تُشاع في عُموم الناس؛ لئلَّا يَقصُـر فَهْمُهم عن المراد بها، وقد سَمِعها معاذٌ فلم يَزدَد إلا اجتهادًا في العمل وخشية لله عزَّ وجلَّ، فأما من لم يبلغ منزلته، فلا يؤمَن أن يُقصِّر اتِّكالاً على ظاهر هذا الخبر"[6]

المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن حجر (10/389).
  2.  "فتح الباري" لابن حجر (11/339).
  3.  رواه مسلم (93).
  4. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (1/290)
  5. "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للكورانيِّ (5/438).
  6.  "فتح الباري" لابن حجر (11/340).

النقول

قال ابن حجر رحمه الله رحمه الله: "قوله: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟»: الْحَقُّ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَحَقِّقٍ، أو ما سيوجَد لا محالةَ، ويُقال للكلام الصِّدْقِ: حقٌّ؛ لأنَّ وقوعه متحقِّق لا تردُّدَ فيه، وكذا الحقُّ المستحَقُّ على الغَير إذا كان لا تردُّد فيه. والمراد هنا: ما يستحقُّه اللّه على عباده ممَّا جعله محتَّمًا عليهم. قاله ابن التَّيميُّ في التّحرير، وقال القرطبيُّ: حقُّ اللّه على العباد هو ما وعدهم به من الثّواب، وألزمهم إيّاه بخطابه. قوله: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»: المراد بالعبادة: عمل الطّاعات واجتناب المعاصي. وعطف عليها عدم الشّرك؛ لأنّه تمام التّوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أنّ بعض الكفرة كانوا يدَّعون أنّهم يعبدون اللّه؛ ولكنّهم كانوا يعبدون آلهةً أخرى، فاشترط نفيَ ذلك، وتقدَّم أنّ الجملة حاليَّة، والتّقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به. قال ابن حبّان: عبادة اللّه: إقرار باللّسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح؛ ولهذا قال في الجواب: فما حقُّ العباد إذا فعلوا ذلك، فعبَّر بالفعل ولم يعبِّر بالقول. قوله: «هل تدري ما حقُّ العباد على اللّه إذا فعلوه؟»: الضّمير لما تقدّم من قوله: «يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا». في رواية مسلم: «إذا فعلوا ذلك». قوله: «حقّ العباد على اللّه أن لا يعذبهم». في رواية ابن حبّان من طريق عمرو بن ميمون: «أن يغفر لهم ولا يعذّبهم»، وفي رواية أبي عثمان: «يدخلهم الجنّة»، وفي رواية أبي العوّام مثله، وزاد: «ويغفر لهم»، وفي رواية عبد الرّحمن بن غنم: «أن يدخلهم الجنّة»، قال القرطبيّ: "حقّ العباد على اللّه ما وعدهم به من الثّواب والجزاء، فحُقَّ ذلك ووجب بحُكم وعده الصِّدْقِ، وقولِه الحقِّ الّذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخُلف في الوعد؛ فاللّه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحُكم الأمر؛ إذ لا آمِرَ فوقَه، ولا حُكم للعقل؛ لأنّه كاشف لا موجِبٌ"[1].

قال ابن تيمية رحمه الله: "والعبادةُ هي الغاية الّتي خلق اللّه لها العبادَ من جهة أمر اللّه ومحبَّته ورضاه

كما قال تعالى

وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ

[الذاريات: ٥٦]

وبها أَرسَل الرُّسل وأَنزَل الكُتب، وهي اسم يجمع كمال الحبِّ للّه ونهايتَه، وكمال الذُّلِّ للّه ونهايتَه؛ فالحبُّ الخَلِيُّ عن ذلٍّ، والذّلُّ الخليُّ عن حبٍّ، لا يكون عبادةً؛ وإنّما العبادة ما يجمع كمال الأمرين؛ ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلّا للّه، وهي وإن كانت منفعتُها للعبد واللّه غنيٌّ عن العالمين، فهي له من جهة محبَّته لها ورضاه بها؛ ولهذا كان اللّه أشدَّ فرحًا بتوبة العبد من الفاقد لراحلته عليها طعامُه وشرابه في أرض دَوِيَّة مُهلكة إذا نام آيِسًا منها، ثمّ استيقظ فوجدها، فاللّه أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته"[2].

 قال العباد  رحمه الله رحمه الله: "قال: «إن حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق الله على العباد أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا» فمهَّد للجواب بهذه الأسئلة وهذا الخطاب؛ حتى يكون عند معاذ الحرص والاهتمام بتلقِّي ما يسمعه من رسول الله ﷺ 

وقوله: (قلت: الله ورسوله أعلم)، فيه دليلٌ على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم. وأما في زمنه ﷺ ، فإنه كان إذا سألهم وكانوا لا يعلمون فإنهم يقولون: الله ورسوله أعلم. فيُعطيهم الجواب، وأما بعدَ ذلك، فليس لأيِّ إنسان إذا سُئل عن أيِّ شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم، فقد يُسأل عن قيام الساعة فيقال له: متى تقوم الساعة؟ فلا يصلح أن يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الرسول ﷺ  لا يعلم متى قيام الساعة، فالذي يضاف إليه العلم على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعلم كلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء

كما قال الله عز وجل:

قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ

[النمل:65]

وأما الرسول ﷺ  فإنه لا يَعلَم كلَّ غَيب، وقد أمر الله نبيَّه ﷺ  أن يقول:

قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ

[الأنعام:50]،

فلا يعلم من الغَيب إلا ما أَطلَعه الله عليه"  [3]

قال ابن تيمية  رحمه الله : "وقد اتَّفَق العلماء على وجوب ما يَجِب بوعد الله الصادق، وتنازعوا هل يُوجِب اللهُ بنفسه على نفسه، ويحرِّم بنفسه على نفسه على قولين، ومن جوَّز ذلك احتجَّ

بقوله سبحانه:

كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ

[الأنعام: ٥٤]

وبقوله في الحديث القدسيِّ الصحيح: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي…»[4]  إلخ، وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خَلقه، فهذا قول القَدَرية، وهو قول مبتدَع مخالِف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنَّة متَّفِقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربُّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن، وأن العباد لا يوجِبون عليه شيئًا؛ ولهذا كان من قال من أهل السنَّة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرَّم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحِقٌّ على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإن الله هو المنعِم على العباد بكلِّ خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسِل إليهم الرسلَ، وهو الميسِّر لهم الإيمانَ والعملَ الصالح، ومن توهَّم من القَدَرية والمعتزلة ونحوِهم أنهم يستحقُّون عليه من جنس ما يستحقُّه الأجير على المستأجِر، فهو جاهلٌ في ذلك، وإذا كان كذلك، لم تكن الوسيلةُ إليه إلا بما منَّ به من فضله وإحسانه، والحقُّ الذي لعباده هو من فضله وإحسانه، ليس من باب المعاوَضة، ولا من باب ما أَوجَبه غيرُه عليه؛ فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك"[5]

قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث جَوَازُ ركوب اثنينِ على حمار، وفيه تواضُعُ النّبيِّ ﷺ ، وفضلُ معاذ وحُسْنُ أَدَبِه في القول وفي العلم بردِّه لِما لم يُحِطْ بحقيقته إلى علم اللّه ورسوله، وقُرْبُ منزلته من النّبيّ ﷺ ، وفيه تَكرار الكلام لتأكيده وتفهيمه، واستفسار الشّيخ تلميذَه عن الحكم ليختبر ما عنده، ويبيِّن له ما يُشكِل عليه منه. وقال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاريِّ: قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ من تبشير النّاس لئلّا يتَّكلوا: أن أحاديث الرُّخص لا تُشاع في عموم النّاس لئلّا يَقصُر فَهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يَزْدَدْ إلّا اجتهادًا في العمل، وخشيةً للّه عزّ وجلّ، فأمّا من لم يبلغ منزلتَه فلا يؤمَن أن يقصِّر اتّكالًا على ظاهر هذا الخبر، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسّنّة أنّ بعض عصاة الموحّدين يدخلون النّار، فعلى هذا فيجب الجمع بين الأمرين، وقد سلكوا في ذلك مسالك؛ أحدُها: قول الزُّهْريِّ: إنّ هذه الرّخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود، وسيأتي ذلك عنه في حديث عثمان في الوضوء، واستبعده غيره من أنّ النَّسخ لا يدخل الخبر، وبأنّ سماع معاذ لهذه كان متأخّرًا عن أكثر نزول الفرائض. وقيل: لا نسخ؛ بل هو على عمومه؛ ولكنَّه مقيَّد بشرائطَ كما تُرتَّب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقّفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك، عَمِل المقتضي عملَه، وإلى ذلك أشار وهب بن منبِّه بقوله: ليس من مفتاح إلّا وله أسنان. وقيل: المراد ترك دخول نار الشّرك. وقيل: ترك تعذيب جميع بدن الموحِّدين؛ لأنّ النّار لا تُحرق مواضع السّجود. وقيل: ليس ذلك لكلِّ من وحَّد وعبد؛ بل يختصُّ بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يُتصوَّر حصول التّحقيق مع الإصرار على المعصية؛ لامتلاء القلب بمحبَّة اللّه تعالى وخشيته، فتنبعث الجوارح إلى الطّاعة، وتنكفُّ عن المعصية. انتهى ملخَّصًا. وفي آخر حديث أنس عن معاذ في نحو هذا الحديث، فقلت: ألا أُخْبِرُ النّاس، قال: «لا؛ لئلّا يتّكلوا» فأخبر بها معاذ عند موته تأثّمًا"[6]

قال القرطبيُّ  رحمه الله: "إن من مات لا يتَّخِذ مع الله شريكًا في الإلهيَّة، ولا في الْخَلْق، ولا في العبادة، فلا بُدَّ من دخوله الجنَّة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنة، وأن من مات على الشـرك، لا يدخل الجنَّة، ولا يناله من الله تعالى رحمةٌ، ويُخلَّد في النار أَبَد الآباد، من غير انقطاع عذاب"[7]

قال ابن تيمية  رحمه الله: "العبادة: هي اسم جامع لكلِّ ما يحبُّه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة؛ فالصّلاةُ والزّكاة والصّيام والحجُّ، وصِدق الحديث وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنّهيُ عن المنكر، والجهاد للكفّار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السّبيل والمملوك من الآدميّين والبهائم، والدّعاء والذّكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصّبر لحكمه، والشّكر لنعمه، والرّضا بقضائه، والتّوكّل عليه، والرّجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك، هي من العبادة للّه؛ وذلك أنّ العبادة للّه هي الغاية المحبوبة له والمرضيَّة له، الّتي خلق الخلق لها؛ كما

قال تعالى:

وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ

[الذاريات: ٥٦]

 وبها أَرسَل جميع الرّسل"[8]

المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن حجر (11/339).
  2.  "مجموع الفتاوى" (10/ 19، 20).
  3.  "شرح الأربعين النووية للعباد (8/ 9).
  4. رواه مسلم (2577).
  5.  "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص: 409، 410).
  6.  "فتح الباري" لابن حجر (11/ 340).
  7. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (1/290)
  8.  "مجموع الفتاوى" (10/ 149، 150).


مشاريع الأحاديث الكلية