عَن مُعاذِ بنِ جبلٍ ‏‏رضى الله عنه قال:كنتُ رَدِيفَ النبيِّ ﷺ على حمارٍ، فقال: «يا معاذُ!، أتدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ؟ وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟» قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: «فإنَّ حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا.وحقَّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا».قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبشِّر الناس؟ قال: «لا تُبَشِّرْهم فيتَّكلوا» متفق عليه.

فقه: 

1-  كان معاذٌ راكبًا خلفَ النبيِّ ﷺ على حمارٍ:

2- ، فأراد ﷺ أن يثير تعلمه فسأله: هل تَعرِف ما الذي يستحقُّه على عباده مما جَعَله واجبًا عليهم ؟ وما حقُّ العباد الذي أَوجَبه الله على نفسه؟

3-  فأجاب معاذٌ رضي الله عنه بـ"الله ورسوله أعلم"؛ أي: أنا لا أدري..

وهذه العبارة تقال في أمور الشرع، أما إذا سُئل الإنسان في أمرٍ من أمور الدنيا أو أمور الغيب ونحوها مما لا يعلمه رسول الله ﷺ فيقول: "الله أعلم".

4- فبيَّن النبيُّ ﷺ الجوابَ؛ فذكر أنَّ حقَّ اللهِ -جلَّ وعلا- على عباده أن يتوجَّهوا بالعبادة إليه، والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة[1]، وهي حالة من الذل والطاعة وتوجه القلب للمعبود، ولا بد مع عبادة الله[2]: ألا يُشـركوا معه في العبادة أيَّ أحد -ولو كان نبيًا أو ملكًا أو صالحاً-، ولا بأيِّ شرك -ولو قل، ولو بمجرد اللفظ-،فهذا حق الله:

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾

[الإسراء: 23]

وقال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾

[الذاريات: 56 - 58].

5- وحقُّ العباد على الله -وهو حقٌ أوجبه الله تعالى كرمًا منه على نفسه ولم يكن واجبًا عليه [3]-؛ أنهم إن عبدوه ولم يشركوا به : ألا يُدخِلهم النار فـ«مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْـرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشـْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»[4]:

﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾

[المائدة: 72].

ومعنى ذلك أنَّ المسلم المُوَحِّدَ لا يُخلُّد في النار أبدًا؛ فإن كانت حسناته أغلب دخل الجنة وحَرُم على النار، وإن كان من أهل المعاصي وسيئاته أغلب فأمره إلى الله؛ إن شاء عذَّبه ما شاء ثم صرفه إلى الجنة، وإن شاء غفر له وأدخله الجنة. وأما من مات على الشـرك، فإنه لا يدخل الجنَّة، بل يُخلَّد في النار أَبَد الآباد، من غير انقطاع عذاب:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾

[النساء: 48][5].

6- فلمَّا سمع معاذٌ تلك البشرى من النبيِّ ﷺ أحبَّ أن يُبَشِّر الناس بذلك، فاستشار رسول الله ﷺ، فأشار عليه ﷺ ألا يفعل ذلك؛ لأنَّ بعضهم ربما إذا علِمَ ذلك اعتمد بقلبه على توحيده، وتكاسل عن الطاعات وتركها.

وجاء في الروايات الأخرى ما يشير إلى أن معاذًا فهم أن النهيَ وصية نبوية لمصلحة عدم الاتكال، وأن ذلك لا يمنع من التحديث لمصلحة العلم ونحوه، ولهذا أخبر معاذٌ بها عند موته تأثمًا أن يكتم العلم.

اتِّباع:

  1. لا تتكبر عن المركب غير الفاخر، وراقب نفسك حين تنفر من الجلوس بجانب طبقات الناس، أو الأكل معهم، مما قد يشير لكبر ظاهر أو خفي، فقد ركب النبيُّ ﷺ على حمارٍ، وركب معاذٌ خلفه، وهو أسوتنا في التواضع، والانبساط مع الناس.

  2. لا تمتنع من الانتفاع بما سخره الله تعالى من الدواب، واستعمل ذلك باعتدال، فقد ركب النبي ﷺ هو ومعاذ على دابة واحدة، وانتفع من وقتك عليها في التعلم والإفادة في الفرص المناسبة، كمن يعلم ولده وهو خارج لنزهة برية، أو في طريقه لمدرسته أو جامعته؛ لاسيما هذا الزمان الذي قد يطول فيه الطريق بالزحام فتهدر فيه أوقات كثيرة. 

  3. اتبع النبيُّ ﷺ في تعليم معاذٍ أسلوب السؤال؛ ليستحثه على إعمال العقل، وليثبت في قلبه الجوابَ بعد أن عجز عنه، فينبغي على الداعية أن يختار من الوسائل ما يستثير الهِمَم، وينشط العقول، ويجذب الأسماع والأفهام.

  4. ليس عيبًا أن يجهل الإنسان شيئًا من أمر الدنيا أو الدين، فما ضرَّ معاذٌ – وهو أعلم الناس بالحلال والحرام - أن يقول لما لا يعلم: «الله أعلم». فتجنب أن تفتي في الدين بغير علم لكبر أو حياء:

    ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾

    [البقرة: 168، 169]،

    ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

    [النحل: 116، 117].

  5. كلُّ حق تطلبه من الناس أو يطلبه الناس منك: فهناك حقٌ أعظم منه، وهو حق ربك عليك، وهو حقٌ أزيد من عددِ كلِّ نعمة منه عليك، فتذكره دائماً، ولتكن حياتك دائرة عليه:

    ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾

    [الأنعام: 162، 163].

  6. الله يريد منك ألا تشرك به شيئاً، أي شيء، فكما تجتنب الشرك الأكبر من عبادة الأصنام، والاستغاثة بالنجوم، والتوسل بكلمات للقوى الخفية، فتجنب الشرك الأصغر، كالحلف بالمخلوقين ولو كان النبي ﷺ ، ووضع الخرز التي تدفع العين -زعموا-، أو الشرك بإرادة الناس بتحسين الصلاة ونحوها، وفي الحديث القدسي:

    «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»

    [6].

  7. راقب قلبك، وقاوم كلَّ شرك يغزوه، وأبشر بالخير، وفي الحديث:

« إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا [أي من الذنوب]، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ! فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ»، قَالَ: «فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ»

[7].

  1. أحاديث الرُّخَص لا تُشاع في عُموم الناس؛ لئلَّا يَقصُـر فَهْمُهم عن المراد بها، وقد سَمِعها معاذٌ فلم يَزدَد إلا اجتهادًا في العمل وخشية لله عزَّ وجلَّ، فأما من لم يبلغ منزلته، فلا يؤمَن أن يُقصِّر اتِّكالًا على ما يفهمه من الخبر[8]. وقريبٌ من هذا قولُ ابن مسعود رضي الله عنه:

    «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»

    [9]،

    وعليه فبعض العلوم تناسب بعض الناس دون بعض كما قال علي رضي الله عنه: «حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟» [10].

المراجع

  1. "مجموع الفتاوى" (10/ 149، 150).
  2.  "فتح الباري لابن حجر" (11/339).
  3. "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للكورانيّ (5/438).
  4. مسلم (93)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
  5. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم للقرطبيِّ" (1/290)
  6.  مسلم (2985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
  7.  الترمذي (2639) وابن ماجه (4300).
  8.  "فتح الباري لابن حجر" (11/340).
  9. انظر مسلم بعد حديث رقم (5).
  10.  البخاري (127) .

مشاريع الأحاديث الكلية