فقه
1- يوجه رسول الله ﷺ المؤمنين إلى المسارعة في أداء الطاعات والأعمال الصالحة قبل أن تأتي فتن شديدةٌ، كأنها أجزاءُ الليلِ المظلم شديدِ السواد، ليس فيه نورُ قمر ونحوه، لا يُرى فيها حقٌّ من باطلٍ، قال ﷺ: «وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ» [1]
2- ثم أخبر النبي ﷺ أنَّ تلك الفِتَن شديدة الفتك بالمرء؛ حيث تدركُ المسلمَ فتصدَّه عن دينه سريعًا، فكأنما فتنته في عشيَّةٍ وضحاها؛ " لأن القلوب كثيرة التقلب من ربقة الحق، شديدة التطلع إلى منافذ الضلال، فإذا قُذف في روعها شيءٌ من المُضَلِّلَات وجد عندها داءً قاتلًا وشرًّا مستعدًّا"[2]، " ولأن المحن والشدائد إذا توالت على القلوب أفسدتها بغلبتها عليها، وبما تؤثر فيها من القسوة"[3]
3- وفي مثل تلك الحال قد يبيع الإنسانُ دينَه نظيرَ ثَمَنٍ حقيرٍ من أثمان الدنيا، سواءً كان مالًا أم منصبًا أم غير ذلك من متاع الدنيا الزائل.
وإنَّمَا حثَّ النبيُّ ﷺ على المبادرة بالأعمال قبل وقوع الفتن وفُشُوِّها لأن العبادةَ في زمن الفتن تكون شاقة على النفس، لانشغال الناس بالفتن التي تثبط عن العمل،
ولهذا قال ﷺ:
«الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»
[4]،
وقال ﷺ:
«يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ»
[5]
اتباع
1- سارع إلى العمل الصالح من عبادة وتعلم وتعليم وزواج وصلة رحم وغيرها، ولا تطل الأمل بتأجيله إلى غد وبعد غد، أو إذا كبرت، أو إذا حصّلت كذا وكذا، فقد تنزل الفتن التي تَصُدُّ الإنسانَ عن دينه وعبادته، فسارع قبل هجومِ الموانع.
2- كثيرًا ما يمتنع الإنسان عن العمل طلبًا للكمال الموهوم، ومن ثم لا يقدم فيها شيئًا حقيقيًا، كمن يؤخر نشر كتاب حتى يكمل، أو يؤخر هديته لزوجه حتى تكون على أكمل صورة، أو يؤخر قراءة القرآن والتسبيح حتى يكون في أحسن حال، ولا يزال يؤخر حتى تداهمه الأشغال، أو يضعف نشاطه، أو غير ذلك، ولو قدم ما تيسر له لتجمع له من الخير شيء كثير.
3- المبادرة مهارة، يكتسبها الإنسان بكثرة المبادرات نفسها، فتجدها شاقة عليه أول الأمر، ولا يحسنها، ثم مع الوقت تسهل عليه ويحسن تقديمها بما تيسر، فعوَّد نفسك على المبادرة بالعمل الصالح وعدم التردد: عن كلمة طيبة، أو صدقة يسيرة، أو نفع عارض غير مخطط له لقريبٍ أو بعيد.
4- تَعَرَّف إلى الله في الرَّخاء يعرفك في الشدة؛ فإذا بادرت بالأعمال الصالحة في فراغك وصحتك ورشدك، عصمك الله تعالى من الفتن والابتلاءات.
5- على المسلم أن يكثر من سؤال الله أن يُثَبِّته على دينه وألَّا يُعَرِّضَ قلبَه للفتن، وقد كان النبيُّ ﷺ يُكْثِرُ من قول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»[6]
6- الإنسان في غَمرة الفتنة قد لا يدرك أنه يبيع دينه بعَرَض من الدنيا، فربما تساهل في معاملة مالية أو رضي بأن يزاد في ماله وهو لا يستحقه، وربما اغتاب آخرين أو سكت عن غيبتهم ليرضي رئيسه، فراقب نفسك وحاسبها، ولا تغمِض عينيك عن ما يضرَّ دينك.
7- قال الشاعر:
فَبادِرْ إِذَا ما دَامَ في العُمْرِ فُسْحَةٌ = وَعَدْلُكَ مقْبُولٌ وصَرفُكَ قَيِّمُ
وَجُدَّ وَسَارِعْ واغْتَنِمْ زَمنَ الصِّبَا = ففي زَمَنِ الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فالموتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا = وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ وَمَهْزَم
المراجع
- مسلم (1844)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
- مسلم (2948)، عن معقل بن يسار رضي الله عنه
- .الترمذي (2260)، عن أنس رضي الله عنه
- .الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 163).
- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (1/ 326).
- أحمد (12107)، والترمذيُّ (2140)، وابن ماجه (3834).
فقه
1- بيَّن النبيُّ ﷺ وحذَّر من أمرٍ خطيرٍ يُحبط العمل، وسمَّاه النبيُّ ﷺ شركًا أصغر تفرقةً بينه وبين الشرك الأكبر المُخرِج من المِلَّة.
2- فسألوه: عن الشرك الأصغر؟ لأن الشرك معلوم، وهو اتخاذ شريك مع الله تعالى فيما لا يجوز إلا لله تعالى، ولكن التفريق بين أكبر وأصغر يحتاج إلى تعريف أو مثال يتبين به الأمر.
3- فأخبرهم ﷺ بمثال منه يشرحه، ومن أنَّ أخوف ما يخافه عليهم هو الرِّيَاء، وهو أن يُظهر الإنسانُ العبادةَ ليعلمَ بها الناسُ فيحمدوه عليها ويُثنوا عليه خيرًا.
وهذا مثال للشرك الأصغر، ومن أمثلة الشرك الأصغر أيضًا: الحلف بغير الله، وقول الرجل: ما شاء اللهُ وفلانُ، والتشاؤمِ، والرُّقى المكروهة، ونحو ذلك مما لا يخالف أصلَ التوحيد مخالفةً تامَّة، ولكنه نوع من الشرك[1]
على أن هذه الأمور قد تجرِّه إلى الشرك الأكبر؛ فإن الإنسان إذا حلَف بغير الله معتقدًا تعظيمَه، وكذلك لو صدَّق الكُهَّان في زعمهم أنهم يعلمون الغيب، والرياء كذلك إنْ كان في كلِّ أعماله، أو كان في أصل الاعتقاد، وكذلك إن ظنَّ أن التمائم والرُّقى هي التي تمنع الضرَّ، وتكشف المرض، فهذا كُلُّه من الشرك الأكبر[2]
4- ثم ذكر ﷺ أنَّ الله تعالى يعاقبهم إذا كان يوم القيامة، وإذا جازى جميعَ الخلقِ، وهم انتظروا أن جزاء أعمالهم التي ظاهرها أنها عبادة، ولكنهم نووا به غير الله.
5- يقول لهم الله: اذهبوا إلى الذين كُنتم تعملون الطاعات أمامهم ليروكم ويسمعوا بكم، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً لفعلكم؟ وهذا على سبيل الاستهزاء والاستخفاف بهم، فالله يُحبط عملهم ويُبطله
قال ﷺ:
«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عَمِل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشِرْكَه»[3]
وغاية ما يحصّله المرائي ثناءٌ قليل ثم يعقبه الخزي، قال ﷺ: «مَن سَمَّع سَمَّع اللهُ به، ومَن رَاءَى رَاءَى اللهُ به» [4]، أي: مَن أراد بعمله الناسَ، أسمعه اللهُ الناسَ، وأراهم عمله وكان ذلك حظَّه منه العاجل، وربما فضحه الله وأسمع فيه السوء وأرى الناس فيه ما يكره [5]. وأخبر ﷺ أنَّ أوَّلَ مَن تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة: مُنفقٌ وقارئٌ ومجاهد، وأنَّهم إنما فعلوا ما فعلوا مراءاةً وتشهيرًا، فلهذا حبط عملهم ولم يلقَ جزاءً[6]
اتباع
1- اقتد بهدي نبيك ﷺ في تعليم الناس، فقد استخدم النبيُّ ﷺ أسلوب التخويف وإظهار النصح في استهلال كلامه، وذلك بقوله: «أخوف ما أخاف عليكم»، وهذا الأسلوب يُثير انتباه السامع ويجذب عقله وسَمعَه. وجديرٌ بالناصح أن يتبع تلك الوسائل التشويقية التي تبعث على الانتباه.
2- الشرك الخَفِيُّ قد يفسد القلب وصاحبه لا يشعر لأنه غفل عنه، فقد يدخل الإنسان في الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن أو يريد الصدقة ونحو ذلك، فيرى أُناسًا فيرغب أن يروا عبادته ويسمعوا صوته، فإن جاهد نفسه وطرد عن قلبه ذلك ما استطاع لم يؤثر في عمله، أما إن استمرَّ فيها وتحوَّلت نيته من الإخلاص إلى الرياء أبطل ذلك العملَ، فراقب نفسك، وعوِّدها الإخلاص لتعتاد.
3- كان طلحةُ بن مُصرِّف -رحمه الله- قارئَ الكوفة، فلما رأى كثرة الناس عليه، خاف من الرياء، فمشى إلى الأعمش وقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوا طلحةَ[7]، ولعل قصده أن يريهم فضله ولئلا يقتصروا عليه فيغترّ، ولأن قصده نفع الناس حيث كان.
4- قد يجهر العبدُ بالطاعات ليس من باب الرياء، وإنما يُحِبُّ أن يُظهر شعائر الله أو يُحيي سُنَّةً ماتت بين الناس أو يفعل ذلك ليقتدي به الناس ويتأثروا به. هذا كله ليس من الرِّيَاء، الرِّيَاءُ أن يكون هَمُّ الإنسانِ في عبادته أن يراه النَّاس وينظروا إخلاصَه وخشوعَه وعبادَته فيرضى بذلك غرورُه.
5- مما يدفع به الرياء تذكر مقام الله تعالى، وصدق التوكل عليه، والتعوذ من الرياء، وكان النبيُّ ﷺ يُحَذِّر أصحابَه منه، ويأمرهم أن يتعوَّذوا بالله منه.
فعن أبي موسى الأشعريِّ - رضِي الله عنه - قال:
خطَبَنا رسول الله ﷺ ذاتَ يومٍ فقال: «أيُّها الناس، اتَّقوا هذا الشِّرك؛ فإنَّه أخفى من دَبِيب النَّمل»، فقال له مَن شاء الله أنْ يقول: وكيف نتَّقِيه وهو أخفَى مِن دَبِيب النمل يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من أنْ نُشرِك بك شيئًا نَعلَمُه، ونستَغفِرك لما لا نعلمه» [8]
6- قد يفعل العبدُ طاعةً من الطاعات مخلصًا فيها لله تعالى، ثم يراه الناسُ ويمدحونه ويثنون عليه خيرًا، فيفرح بذلك. وهذا لا يقدح في عمله ولا يكون من الرِّياء طالما أنَّه أخلص العملَ لله تعالى
فعن أبي ذر رضي اللهُ عنه قال:
قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ : أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»[9]
7- ليس من الرياء أن يتشجع الإنسان بحضرة الصالحين أو يستحيي، فيترك بعض المعاصي، أو يتقوى على بعض الطاعات من غير أن ينوي فيها مدحهم، وتلك من فوائد صحبة الصالحين.
8- لو أبصر المرائي حاله، لرأى أن عامة ما يرائيهم لا يقدِّرون ما يعمل، أو ينسونه بعد أن يعمل، أو ربما انتبهوا لمراءاته فنقص من قدره حيث أراد الزيادة، أو عاقبه الله تعالى بفضائح أخرى، فأفضل النجاة أن يقصد الله تعالى.
لَقَدْ خَسِرَ السَّاعِي إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ = نِفَاقًا وهَلْ بَعْدَ الرِيَاءِ نِفَاقُ؟!
سَتَلْقَى الَّذِي قَدَّمْتَهُ وَذَخَرْتَهُ = وِفَاقًا ألا إنَّ الجَزَاءَ وِفَاقُ
10- وقال غيره:
أيا نفسُ لا تَنْسَيْ عَنِ اللهِ فَضْلَهُ = فَتَأْيِيدُهُ مُلْكِي، وَخِذْلانُهُ هُلكي
وَلَيسَ دَبيبُ الذَّرِّ فوْقَ الصَّفاة في الظْـ = ـظَلامِ بأخفى من رياءٍ ولا شركِ
المراجع
- انظر: "التوحيد" لابن رجب (ص: 23)، "شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة" لابن عثيمين (ص: 115).
- انظر: "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" لابن عثيمين (6/ 357).
- مسلم (2985)، عن أبي هريرة رضي الله عته
- مسلم(2986)،عن ابن عباس رضي الله عنهما.
- انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (18/ 116)، وقارن: "فتح الباري" لابن حجر (11/345).
- مسلم (1905)، عن أبي هريرة رضي الله عنه
- صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص: 292).
- أحمد (19109).
- مسلم (2642).
فقه
1- وهناك ذكر النبيُّ ﷺ لأصحابه أربع صفات التي لا ينبغي أن تكون في مسلمٍ، بل هي من صفات المنافقين، فإذا اجتمعن في رجلٍ فهو مكتملُ النفاق.
والنِّفاقُ: إظهارُ الإنسانِ خلافَ ما يبطن، وهو قسمان: نفاقٌ اعتقاديٌّ، بأن يظهر الإسلامَ ويضمر الكفر، وهو مُخرجٌ من الإسلام، وهؤلاء
قال الله تعالى فيهم:
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
[النساء: 145، 146]،
والقسمُ الآخَر: نفاق عمليٌّ، كالكذب وإخلاف الوعد المذكور في هذا الحديث، فهذا لا يخرج من الإسلام، لكن فيه صفة من صفات النفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين، ومتوعد بالعذاب [1]
2- وقد لا تجتمع تلك الصفات الأربع في إنسان، ولكن فيه صفة منها، ففيه قدر من النفاق بقدر ما فيه من تلك الصفات:
3-الصفة الأولى: أنَّه يخون الأمانات، والخيانة: التصرُّفُ في الأمانة بغير وجه شرعيٍّ؛ كبَيعها، أو جَحدها، أو انتقاصها، أو التهاون في حفظها. والأمانة تشمل كلَّ ما اؤتُمِن عليه الإنسان من مال، أو عِرض، أو حقٍّ؛ وقد تعم الشرائعَ التي جعلها اللهُ أماناتٍ عندنا نعمل بها ونُعلِّمها للناس؛
ولذلك سمَّى اللهُ تعالى مخالفةَ كتابه وسُنَّة رسوله خيانةً:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
[الأنفال: 27][2]
4- الصفة الثانية: الكَذِب، وقد أمر اللهُ تعالى بالصِّدْق وأرشد إليه
فقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
[التوبة: 119].
وحذَّر ﷺ من عاقبة الكذب فقال: «وإن الكذبَ يَهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يَهدي إلى النار، وإن الرجُلَ لَيكذبُ حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا»[3]، ورأى النبيُّ ﷺ في نومه رجلًا يُشَقُّ شِدقه إلى قفاه ومنخراه إلى قفاه وعيناه إلى قفاه، فسأل عنه فقيل: الرجلُ يكذب الكذبة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق [4]
5- الصفة الثالثة: الغدر بالعهود، فإذا وضع عهدًا وعقدًا مع غيره خدعه بمخالفته. وقد حرَّم اللهُ تعالى الغدرَ ونهى عنه في غير موضعٍ في كتابه،
فقال تعالى:
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾
[النحل: 91]
وقال سبحانه:
﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾
[الإسراء: 34].
6- الصفة الرابعة: أن يميل الإنسانُ في خصومته عن الحقِّ، ويحتال في ردِّه، ويحاول أن يأخذَ ما ليس له، خاصَّةً إذا كان له قدرةٌ على البيان والمحاجة.
وقد أمر الله تعالى عباده بالعدل في كل الأمور، ونهاهم أن تحملهم العداوة والخصومة على ظلم الطرف الآخر،
قال سبحانه:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
[المائدة: 8].
وأخبر ﷺ عن عاقبة من أخذ حقَّ غيره بالباطل فقال: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» [5]
وهذه الأربع تجمع أصول النفاق، وهناك صفات قد تندرج فيها كإخلاف الوعد [6] . فعلامات النفاق وصفاته كثيرة، يجمع أصلها تلك الصفات، فعلى المسلم أن يحرص على ألَّا يعلَق به من تلك الصفات شيءٌ.
اتباع
1- من حُسنِ تَعلِيمِ النبيِّ ﷺ لأصحابه تقريبُ المرادِ باستخدام شَتَّى الوسائلِ التَّعليميَّة؛ ومن ذلك استخدامُ العددِ، فإذا سمع المسلمُ أنَّ الصفات التي ستُذكر أربعًا كان متشوقاً لسماعها وحفظها. فينبغي على العلماء والدعاة استخدام مثل تلك الأساليب في الحديث مع النَّاس وتعليمهم.
2- النفاق شر الصفات، وكل جزء منه فهو شر، والعاقل الصادق يحترز منها، ولا يبرئ نفسه، قال ابن أبي مليكة -أحد التابعين-: « أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ »[7]
3- لتكن صاحب مسؤولية، منتبهًا لما يوكل إليك من الأمانات، سواء من والديك، أو رؤساء العمل، أو من الأصدقاء، فإن احتجت أن تكتبها حتى لا تنساها أو تضيع فاكتبها، وكان بعض الصالحين يقيّد كل أمانة لديه، حتى ولو كان قلمًا، أو مبلغًا زهيدًا لطفل.
4- أداء الأمانة من صفات الكرام، وكان المشركون في مكَّة قبل الإسلام يُلَقِّبون النبيَّ ﷺ بالأمين، لأنها تحتاج لصبر، ودقة، وحرص، فكن كذلك.
5- عوَّد نفسك على الصدق، ولو في صغير الأمور، فالصدق عادة، ولا تبرر لنفسك الكذب بأنه مزاح، أو مؤانسة، أو مصلحة، والأمر لا يتطلب ذلك، ولا يزال الرجل يكذب حتى ينطبع على الكذب، فلا يتحرز منه، وحتى يعرف به، وتذكر أن الكذب شر المساوئ، وقد أراد أبو سفيان رضي الله عنه أن يكذب في حديثه مع هرقل عن النبيِّ ﷺ إلَّا أنَّه أبى ذلك، وقد كان حينئذٍ كافرًا.
6- أمر ﷺ بالوفاء بالعهود حتى مع المشركين أثناء حربهم؛ فقد أقبل حذيفةُ بن اليمان وأبوه على النبيِّ ﷺ أثناء غزوة بدرٍ، فذكرا أن المشركين أخذوهما وقالوا: تريدان محمدًا لتقاتلا معه، فقالا: لا، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا عليهما المواثيق والعهود أن يقصدا المدينة ولا يقاتلا مع النبيِّ ﷺ، فقال لهما النبيُّ ﷺ: «انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ» [8]، فلم يأمرهما بالقتال معه على عدو كافر، وفاء بالعهد.
7- على الغادر ألا يفرح بانتصارٍ أو مكسب موهوم يناله بغدره، فعاقبته فضيحة كبرى
قال ﷺ:
«لكلِّ غادر لواءٌ يُنصَب بغَدْرته يوم القيامة» [9]
فالخائنُ وإن عرف كَيفَ يرتِّب ويدبِّر أمورَه بحيث لا يُفتَضَحُ أمامَ نفر قليل من الناس، فأين يذهب يوم القيامة في لواء منصوب على غدرته أمام الخلق أجمعين؟!
8- لا تؤول لنفسك تضييع الأمانة، أو الكذب، أو الغدر، أو الفجور في الخصومة؛ لأن غيرك فعل ذلك، حتى ولو فعلته لمن فعل ذلك بك، فالمسلم يأتمر بأمر الله لا بهواه
قال ﷺ:
«أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» [10]
9- قال الشاعر:
واتْرُكْ خَلائِقَ قَوْمٍ لا خَلاقَ لَهُمْ = واعْمَدْ لأخْلاقِ أهلِ الفَضْلِ والأدَبِ
وإنْ دُعِيتَ لغدرٍ أو أُمِرْتَ به = فاهرُبْ بنفسِكَ عنه آبِدَ الهَرَبِ
10- وقال غيره:
والصّدقُ يألَفُهُ الكريمُ المرتجى = والكِذْبُ يألَفُهُ الدَّنيءُ الأَخْيَبُ
وَدَعِ الكَذُوبَ فلا يكن لك صاحبًا = إِنَّ الكذوبَ لَبِئْسَ خِلًّا يُصْحَب
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 47).
- "الأدب النبويُّ" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 18).
- البخاري (6094)، ومسلم (2607)، عن ابن مسعود .
- البخاري (6096)، عن سمرة بن جندب .
- البخاري (2680)، ومسلم (1713)، عن أم سلمة رضي الله عنها.
- البخاري (33)، ومسلم (59)، عن أبي هريرة .
- البخاري معلقًا، كتاب الإيمان، باب: خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
- مسلم (1787).
- البخاري (3188)، ومسلم (1735).
- أبوداود (3534).
فقه
هذا الحديث من أهمِّ أحاديث الشرع التي ينبني عليها كثيرٌ من الأحكام والقواعد الكُلِّية، ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إنّ أصول الإسلام ثلاثة أحاديثَ: حديث: «الأعمال بالنِّيَّات»، وحديث: «مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردٌّ»، وحديث: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»[1]
وفي هذا الحديث يَذكر النبيُّ ﷺ أنَّ الاتباع شرطٌ في قبول الأعمال؛ فمن ابتدع شيئًا وأتى بأمرٍ حادثٍ لا أصل له في دين اللهِ تعالى وسنَّةِ رسولِ الله ﷺ؛ فهو مردودٌ على صاحبه ولا أجْرَ له ولا ثواب، بل هو مَوْزورٌ لمخالفةِ هَدْيِ النبيِّ ﷺ.
والابتداعُ: الإتيانُ بأمرٍ مُحْدَثٍ بغير دليلٍ شرعيٍّ، سواءً كان ذلك في الاعتقاد – كنفي القَدَرِ واعتقاد النفع في الأموات – أو في العَمل وهو التعبُّد بما لم يتعبَّد به ﷺ، كالاحتفال بالمولد وابتداع الأذكار والأوراد التي لا أصل لها في الكتاب والسُّنَّة، وتخصيص بعض الليالي بالأعمال؛ كقيام ليلة النصف من شعبان، ونحو ذلك من الأمور التي سببُها الجهلُ بالشرعِ واتباعُ الهوى وتقليدُ غير المسلمين وتقديمُ العقلِ على الشرع.
وقد حذَّر اللهُ تعالى من اتباع الهوى والابتداع في الدين؛
فقال تعالى:
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران: 105]
قال قتادة رحمه الله: "الذين تفرقوا واختلفوا: أهلُ البدع"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "تبيَضُّ وجوهُ أهلِ السُّنَّة، وتَسْوَدُّ وجوهُ أهل البدعة"[2]
وعاب على المشركين تحليلهم وتحريمهم بغير أمرٍ منه
فقال سبحانه:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}
[يونس: 59].
وكان رسول الله ﷺ يقول في مقدِّمات خُطَبه: «وخيرُ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ»[3]
وأوصى أصحابَه فقال ﷺ:
«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[4]
وإنَّما حذَّر النبيُّ ﷺ من الابتداع في الدِّين لأنَّ هلاك الأُمَمِ السابقة كان بسببه؛ فاليهود والنصارى بدَّلوا الشرع وزعموا أنَّ عُزَيرًا والمسيحَ أبناءُ الله، وقالوا: نحنُ أبناءُ الله وأحباؤه، وحَرَّفوا التوراةَ والإنجيل وأهملوا الحدودَ، وتحايَلوا على الشرع بعقولهم.
وهذا الحديثُ يَرُدُّ على مَن زعم أنَّ بعض البدعِ حَسنةٌ؛ فإنَّه ﷺ قضى بأنَّ كلَّ عملٍ مُحْدَثٍ مردودٌ، وهذا يشملُ جميع البدع والأفعال المستحدَثة. وأما قول عمر: «نِعمَ البدعةُ هذه» حين جمع النَّاسِ في قيامِ رمضان خلف إمامٍ واحدٍ، وهو أُبَيُّ بنُ كعبٍ رضي الله عنه,[5] فإنَّما أراد أنَّها بِدعةٌ بالمعنى اللُّغوي، وهو كلُّ أمرٍ مُحْدَثٍ، سواءً كان له أصلٌ في الدِّين أم لا؛ إذ فعلُه ليس من البِدع؛ فقدْ صلَّى النبيُّ ﷺ بالنَّاس أيامًا، ثم ترك ذلك خشيةَ أن تُفرَض على المسلمين، فلمَّا مات النبيُّ ﷺ وانقطع الوحي ذهب ما كان يخشاه ﷺ، وكان فعلُ عمرَ رضي الله عنه اتباعًا لسُنَّتِه ﷺ[6] وتخصيصُ النبيِّ ﷺ الإحداثَ بقوله: «في أمرِنا هذا» يريدُ به الدِّينَ، يدلُّ على أنَّ الابتكار والابتداع في أمور الدُّنيا ليس مذمومًا ولا مَنهِيًّا عنه؛ فاختراعُ الآلاتِ وتطويرها عمَّا كانت عليه أمرٌ محمودٌ يُسَهِّلُ على النَّاس قضاءَ مصالحهم.
اتباع
1- هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أنّ حديث: «الأعمال بالنّيّات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أنّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكلُّ من أحدث في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدّين في شيء[7]. فعلى المسلم أن يُحَكِّم هذين الحديثين في كلِّ أفعاله؛ ينظر في ظاهرها هل يوافق الشَّرعَ؟ وفي باطنها: هل أراد بذلك وجهَ الله أم لا؟
2- في الحديث إشارةٌ إلى أنَّ أعمال العاملين كلِّهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكامُ الشّريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشّرع موافقًا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك، فهو مردود[8]
3- على المسلم ألَّا يقيس الشَّرع بعقله، ولا يُحِلُّ حرامًا أو يُحَرِّمُ حلالًا وُفق هواه؛ فالشرعُ كتابُ اللهِ تعالى وسُنَّةُ النبيِّ ﷺ.
4- إحياءُ السُّنَّة طاعةٌ عظيمةٌ يَستحقُّ بها المسلمُ أن يُضاف في حسناته أجرُ جميع من اقتدى به في الطَّاعة، كما أنَّ الابتداعَ في الدِّين ودعوةَ النَّاس إلى البِدَع كبيرةٌ عظيمةٌ ووِزْرٌ مُضاعَفٌ يَحمِل صاحبُه جميع أوزارِ من اتَّبعه فيه؛ فعَنْ أبِي هُريرةَ رضي الله عنه
أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كان لهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجورِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِنْ أجُورِهم شيئًا، ومَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كان عليه مِنَ الإثمِ مثلُ آثامِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ آثامِهم شَيئًا»[9]
5- قال الفُضيل -رحمه الله-: في
قوله تعالى:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
[الملك: 2]
أحسنُ العملِ أَخْلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صَوَابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، حتَّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالِص إذا كان لله عزَّ وجلَّ، والصَّواب إذا كان على السُّنَّة[10]
6- ليْس في الدِّين مسألةٌ إلا ولها أصلٌ في الكتاب والسُّنَّة تُقاسُ عليه ويُستنبط حكمُها منه، فيجب سؤالُ أهل العلم دون الابتداع في الدِّين، قال عبدُ اللّه بنُ مسعود رضي الله عنه: "اتَّبِعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيتُم؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"[11]
7- كان السَّلَفُ أحرصَ النَّاس على اتباع سُنَّة النبيِّ ﷺ وأصحابِه؛ قال إبراهيم النَّخَعيُّ-رحمه الله-: "لو بلغني عنهم - يعني الصّحابة - أنّهم لم يُجاوِزوا بالوضوء ظُفْرًا ما جاوزتُه به، وكفى على قومٍ وزرًا أن تُخالِف أعمالهم أعمال أصحاب نبيِّهم رضي الله عنه[12]
8- قال عمرُ بنُ عبد العزيز-رحمه الله-: "قِفْ حيث وقف القوم، وقُل كما قالوا، واسكت كما سَكتوا؛ فإنّهم عن عِلْم وَقَفوا، وببصر ناقدٍ كفُّوا، وهُم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى"[13]
9- لا سبيل للنجاة من الفتن إلا بالتمسُّك بكتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ؛ فكتابُ الله مَن اعتصَم به كفاه وهداه ووقاه، وسُنَّةُ نبيِّه ﷺ نورٌ على الطريق يومَ تعصِفُ ظلماتُ الفِتَن بالأمَّة. وفي الخبر عن رسول الله ﷺ: «وسترَوْنَ من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإيَّاكم والأمورَ المُحدَثاتِ؛ فإن كلَّ بِدعة ضلالة»[14]
10- قال الشاعر:
تَحْيَا الخلائِقُ وَالْغَوِيُّ يَشُدُّها = نحوَ الضَّلالِ لحَمْأَةٍ وفَسَادِ
يَسْعى بهم أهلُ الدَّهَاءِ بمَكْرِهم = ليُجَنِّبوهم منهجَ الإرشاد
لا يَفتُرون عن الوسائل للهوى = مهما رَأَوْا مِن شِدَّةٍ وعِنادِ
حَمَلوا النُّفُوسَ على الغَوايَة والأذى = وتَعَمَّقُوا في الزَّيْغِ والإفساد
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).
- الاعتصام (1/75).
- رواه مسلم (867).
- رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42).
- رواه البخاريُّ (2010).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 176).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 177).
- رواه مسلم (2674).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).
- رواه أبو داود (4607)، والترمذيُّ (2676)، وابن ماجه (42).
فقه
1- النبيُّ ﷺ أنَّ الدينَ الإسلاميَّ الحنيفَ يمتاز بسهولة أحكامه ويُسر تكاليفه، فلا تخرج عن الطاقة البشرية، ولا تَحوي التكاليف الشاقَّة التي كانت في الشرائع السابقة؛ فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْ ثوبَه النجاسةُ، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته النجاسة، و
لهذا قال سبحانه في وصف النبي ﷺ:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}
[الأعراف: 157].
ومن يُسر دين الإسلام أيضًا أنَّه جعل التكاليف مشروطةً بالاستطاعة، قال ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[1]؛ فالزكاةُ لا تجب على الفقير المحتاج، بل على الغنيِّ الذي يمتلك النِّصابَ المعروف، والحجُّ لا يجب إلا بشرط الاستطاعة في المال والصِّحَّةِ والطريق، وكذلك الصلاة؛ حيث يُصَلِّي العاجزُ عن القيامِ قاعدًا أو مضطجعًا أو كيْفما شاء، ويُفطِر المسافرُ والمريضُ مرضًا يُرجى بُرْؤه ثم يقضي ما أفطره، والمريضُ الذي لا يمكنه الصومُ بحالٍ يُفطِر ويُطعِم عن كل يومٍ مسكينًا، وهكذا في كل التكاليف الشرعية.
ومِن يُسرِ الإسلامِ كذلك أنَّه وضع الرُّخَصَ لأصحاب الأعذار، كتشريع صلاةِ الخوف لمن هم في حالة القتال، وقصرِ الصلاةِ والجمع بين الصلاتين للمسافر، والمسحِ على الخُفِّ للمقيم يومًا وليلةً وللمسافر ثلاثةَ أيام بلياليها، ونحو ذلك[2]
2- ولن يتشدَّدَ أحدٌ في أحكام الدين ويَدَعَ الرِّفقَ فيه فيَتعنَّت ويُلزِم نفسه فوقَ ما يستطيع؛ إلا عجَز وانقطع، فمهْما تمالَك نفسه وساعدته قُوَّته في الصَّبر على ما ألْزَم به نفسه إلا أنه سيَمَلُّ ويعود إلى اليُسر مُرهَقًا، فخيرُ الهَديِ هديُ النبيِّ ﷺ، ولذلك لمَّا قال عبدُ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «لَأقومنَّ الليلَ وأصومَنَّ النهارَ ما عِشت» بلغ ذلك النبيَّ ﷺ فنهاه عنه وأمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يقوم وينام، فأبى عبد الله اعتمادًا على قوته وأنه يطيق أكثر من ذلك، فقال ﷺ: «صُم يومًا وأفطر يومَين»، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فقال ﷺ: «صُم يومًا وأفطِر يومًا». يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وبعدما كَبِر وعجز عن المحافظة على صومه قال رضي الله عنه: «لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي»[3]، لأنه كره أن يغيِّر شيئًا فارق عليه النبي ﷺ .
3- ولهذا لا بد من السِّداد في العمل، وهو التوسُّطُ بين الإفراط والتفريط، والمقاربةُ في الأعمال، وهي أننا إنْ لم نَستطِعِ الأخذَ بالأكمل فعلينا أن نسعى إلى أخذ الأقرب[4]
وهذا أمر من النبيِّ ﷺ بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة دون إفراط ولا تفريط، فإذا لم يستطعِ الإنسانُ الإتيان بالأفضل من النوافل والطاعات، فلْيَأتِ بما يُقارِب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَك جُلُّه[5]
4- ثم ساق النبيُّ ﷺ البُشرى تطييبًا لأُمَّته؛ فإنَّهم وإنْ قصَّروا في الأعمال وعجَزوا عن الإتيان بالعبادة على الوجه الأمثل، إلَّا أنَّ اللهَ سبحانه أعدَّ لهم الجزاءَ العظيم، دون أن يَنقص من أُجورهم شيءٌ.
5- ولمَّا عَلم النبيُّ ﷺ أنَّ النَّاس لا يَقدرون على المداومة على العبادة أبدًا، أرشدهم إلى اغتنام أوقات نَشاطهم في عبادة الله والحرص على طاعاته، وهي أوَّل النَّهار، وآخره، كما حثَّهم على العبادة في أحبِّ الأوقات وأفضلها، وهي العبادة في آخرِ الليل[6]
اتباع
1- (1) استخدم النبيُّ ﷺ حرف "إنَّ" الناسخة، لإفادة التوكيد والمصداقية على كلامه. وهذا من أساليب البلاغيين والخطباء التي ينبغي على الدُّعاة استعمالها.
2- (1) إذا تفكَّر الإنسانُ في التكاليف الشرعية ورأى ما فيها من سهولة ويُسر، وما فيها من الرُّخص والتسهيل للمرضى والعاجزين؛ عَرَف مدى رحمة الله ولُطفه بعباده، فازداد حبًّا له وحِرصًا على مرضاته بأداء الطاعات.
3- (2) أفاد الحديثُ أنَّ ترك الرُّخَص في موضع الضرورة تنطُّعٌ وخسرانٌ، فمتى احتاج العبدُ إلى رُخْصَةٍ من الرُّخَص، فالحزمُ والسُّنَّةُ أن يأخذ بالرُّخصة ولا يُشدِّد على نفسه، فمتى صَعُب على مسافرٍ الصومُ فليُفطِر، ومتى أتعبَ المريضَ القيامُ للصلاة جلَس، وإن أحوج الفقرُ والجوعُ العبدَ إلى أكلِ الميتةِ ونحوها أحْيا نفسه بذلك ولا يُلقي بيده إلى التهلكة[7]
4- (2) لا يجوز للإنسان أن يتشدد في دين الله ويُوجب على نفسه ما لم يفرضه الله عليه، فالتشدد في الطاعات تنطعٌ.
5- (2) ليس معنى الحديث أنَّ المجتهد في الطاعات مسيءٌ، وإنما الإساءة في تكليف النفس ما لا تطيق.
6- (2) التمسُّك بسُنَّةِ النبيِّ ﷺ خيرٌ من الزيادة عليها، فالصومُ والفطرُ والقيامُ والنومُ خيرٌ من صيام الدهر وقيامه، ولهذا قال ﷺ للنفر الذين تقالُّوا عبادة النبيِّ ﷺ وأرادوا الزيادةَ عليها: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[8]
7- (2) في الحديث دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّين أحد إلّا غلبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير[9]
8- (2) الأَولى للعامل أن لا يُجهِد نفسه بحيث يَعجِز وينقطِع عن الطاعة؛ بل يعمل بتلطُّف حتى يدوم عمله ولا ينقطع، وفي الحديث: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»[10]
9- (3) المطلوب من العبد أن يبذل جهده في طاعة اللهِ تعالى والحرص على نَيل الكَمال ما استطاع، فيُجاهِد في تحقيق الخشوع الكامل في الصلاة، وفي إتقان العمل تمامًا، وفي فَهم دروسه ومذاكرتها كُلِّها، وفي الابتعاد عن جميع المعاصي وإتيان جميع المأمورات. فإن أدرك بعدَ مجاهدة نفسه جُلَّ ذلك فهو مشكورٌ مأجورٌ.
10- (3) السُّنَّةُ وسطٌ بين نقيضين؛ الإفراط والتفريط. فلا يُفْرِط الإنسانُ ويُشدِّد على نفسه في العبادات، ولا يُفَرِّط ويتساهل في ترك المأمورات وإتيان المنهيَّات.
11- (4) من السُّنَّة أن يُبشِّر الداعيةُ والفقيهُ العبدَ بفضل الله تعالى وثوابه على طاعته، وألَّا يُقنِّطه من رحمة الله.
12- (5) على الإنسان أن يختار أوقاتَ نشاطه في عبادة الله وطاعته، فإذا أحسَّ من نفسه الكسلَ أو الفتور يَرقُد ويرتاح، ثم يستأنفُ حين ينشط ويقوى. وذلك في العبادات والطاعات وأعمال الدنيا وطلب العلم وغير ذلك.
13- (5) توزيع الأعمال على مدار اليوم بحيث يكون له قسطٌ من الطاعة كل حينٍ خيرٌ من جمع الطاعات لساعةٍ واحدة تُرهق النفسَ والجسدَ.
14-(5) من رحمة الله تعالى بنا أنَّه لم يَفرِض علينا قيام الليل، ولا حثَّنا إلى قيامِ جميعه، بل قال ﷺ في الحديث: «وشَيءٍ من الدُّلجة» تخفيفًا وتيسيرًا لمشقَّةِ عمل الليل، وإلا لقال: «والدُّلجة»[11]
15-عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ»
[12]
16- دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبلٌ لزينب فإذا فَتَرَتْ تعلقت، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فَتَرَ فلْيَقْعُدْ»[13]
المراجع
- رواه مسلم (1337).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
- رواه البخاري (1131)، ومسلم (1159).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
- رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401)، عن أنسٍ رضي الله عنه.
- . "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
- رواه البخاري (6464)، ومسلم (783)، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
- رواه البخاري (5861)، ومسلم (782).
- رواه البخاري (1150)، ومسلم (784)، عن أنسٍ رضي الله عنه.
فقة
1- دخل أحدُ الأعراب من هَضْبة نجْدٍ – وهي هَضْبة تمتد من الحجاز غربًا إلى اليمامة شرقًا[1] - على النبيِّ ﷺ وهو جالسٌ مع أصحابه، وكان ذلك الأعرابي مُتفرِّقَ الشَّعْرِ، غيرَ مُبالٍ بمظهره، ينادي من بعيد ويتكلَّم بصوت عالٍ، فيَتردد صوتُه ولا يُفهَم ما يقول، فلما اقترب من المجلس فَهِموا كلامه، وإذا هو يَسأل عن شرائع الإسلام[2]
2- فأخبره النبيُّ ﷺ بفَرِيضة الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتينِ، وذكر ﷺ أنَّ عليه في اليوم والليلة خمسَ صلوات، وهي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. فسأله الأعرابيُّ: هل يجِب عليَّ شيءٌ غيرها إذا أدَّيتُ تلك الصلوات وأتيتُ بكامل أركانها وواجباتها وهيئاتها؟ فأجاب النبيُّ ﷺ أنه لا يَجِب عليه غير تلك الصلوات، إلا أن يتطوع.
والتَّطَوُّعُ: أن يتقرَّب العبد إلى الله تعالى بما لم يَفرضه عليه من العبادات؛ رَغْبَةً في عُلُوِّ الدرجات يَوْمَ القيامة، وهي أعمالٌ مندوبٌ إليها، يُثَابُ فاعلها، ولا يُعاقَب تَارِكُها[3]
3- ثم ذكَر ﷺ الصيام، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو الإمساكُ عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات من طُلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ناويًا محتسِبًا[4]، فأخبره ﷺ أنَّ عليه صيام شهر رمضان، فسَأل الأعرابيُّ النبيَّ ﷺ: هل يجب عليَّ صيامُ غير هذا الشهر؟ فأجابه ﷺ كذلك أنَّه لا يجِب صيامُ غير رمضان إلا أن يتطوَّع من نفسه بصيام غيره من الأيام المستحَب صيامها.
4- ثم بيَّن له النبيُّ ﷺ الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتينِ والصلاة، فأخبره بوجوبها، وذكَر له أحكامها.
والزكاةُ: التعبُّدُ لله تعالى بإخراج جزءٍ واجبٍ شرعًا في مالٍ مُعيَّن لطائفةٍ أو جهةٍ مخصوصة"[5]، وإنما سُمِّيت زكاةً لأنها تُزَكِّي النَّفْسَ وتُطَهِّرُهَا من الآثام؛
قال تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
[التوبة: 103].
فسأل الرجلُ النبيَّ ﷺ: هل يجِب عليَّ في مالي غير تلك الزكاة المفروضة؟ فقال النبيُّ ﷺ: لا، إلا أن تتطوَّع فتَتصدَّق بمالك في وجوه البرِّ.
5- فانصرف الرَّجلُ وهو يقول: «والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ منه» أي: يأتي بها على خير ما يَنبغي من غير زيادةٍ أو نقصان، كما تقول لمن كلَّفك بعمل: لا أزيد عليه ولا أنقُص.
وليس مرادُ الرجل أنَّه يَقتصر على تلك الأوامر دون غيرها مما لم يذكره النبيُّ ﷺ كغضِّ البصر وحِفظ الفَرْج وأداء الأمانة وصِدق الحديث ونحوها؛ فإنَّ ذلك مُنكَرٌ لا يجوز له قوله، ولا يُقِرُّه النبيُّ ﷺ على مثله، بل إنَّه سأل النبيَّ ﷺ عن الأعمال والفرائِض التي تُدخِله الجَنَّة، ولهذا لم يُخبِره ﷺ عن اجتناب المناهي ونحوها.
كما أنَّ مَن كان في المحافظة على ما أُمِر به بهذه المنزلة، فإنه متى وَرَد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله، فإنه يُبادِر إليه، ولا يتوقَّف عنه، فَرضًا كان أو سُنَّةً[6]
فأخبر ﷺ أنَّ الرَّجل إنْ أوفى بذلك وصدَق، فقد أفلح وفاز وأصاب كلَّ خير.
وإنما لم يَذكر النبيُّ ﷺ الشهادتينِ؛ لأنَّه عَلِمَ أنَّه يعلمها، أو لأنَّه جاء يسأله عن شرائع الإسلام العَملية، كما أنَّه ﷺ لم يُخِبره بالحَجِّ لأنَّه لم يكن فُرض بعدُ، أو ربما لم يكن واجبًا عليه، أو كان قد ذكَره ﷺ واختصره الراوي[7]
اتباع
1- (1) تحمَّل النبيُّ ﷺ فظاظةَ الأعرابيِّ ورفعَ صوته عليه، وفي ذلك بيانٌ للداعية والمُعَلِّم والمُرَبِّي أنَّه ينبغي عليه أن يكون صَبورًا محتملًا مشاقَّ الدعوة؛ فقد يتعرض للمخالفة والأذى؛ فينبغي عليه الصبر والتحمل والاقتداء بالنبيِّ ﷺ.
2- (1) على الدَّاعيةِ ووَليِّ الأمرِ والفقيه والمُرَبِّي أن يراعي الفوارق العقلية بين النَّاس، فلا يجعل معاملة جميع النَّاس واحدةً؛ فالنبيُّ ﷺ لم يَعِب على الرجل الأعرابيِّ رفعَ صوته ولا آخَذه بذلك.
3- (2) حَرَص الرجلُ على سؤال النبيِّ ﷺ على ما ينفعه دون حياءٍ منه، فكلَّما أمره بأمرٍ قال: «هل عليَّ غيرها؟»؛ فينبغي أن يحرص الإنسانُ على طلب العلم، وألا يمنعه الحياءُ أو الكِبرُ عن السؤال.
4- (2) في الحديثِ إشارةٌ إلى أن الفرائضَ وحدها إذا الْتَزمها صاحِبُها على الوجه الذي يَرضاه الخالقُ سبحانه، فهو من الناجين يومَ القيامة وإن تَرَكَ غيرها من النوافل؛ فإنَّ الله سبحانه بَيَّن أنه ما تَقَرَّب إليه العبدُ بشيءٍ أحبَّ إليه مما افترضه عليه، على أن ترك النوافل يفوت عليه الكثيرَ من الخَيرِ؛ فالعبدُ إذا كان مفلحًا ناجيًا بأداء الفرائض فحسبُ؛ فلا شكَّ أن أداءَه للنَّوافل تأكيدٌ للفلاح ورفعٌ للدرجات، وإعلاءٌ للمنزلة.
5- (2) نوافل الصلاة كثيرة، وأهمُّها وأرفعُها مقامًا السنن المؤكَّدات التي تكون مع الصلوات، وهي ركعتان قبل الفجر، وأربعٌ قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء
قال ﷺ:
«مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ»[8]
ومنها صلاة الضحى، وقيام الليل، والوتر، وغير ذلك من النوافل التي قال تعالى فيها في الحديث القدسي:
« وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[9]
6- (3) التطوع بالصِّيام من أفضل التطوع، وقد أعدَّ اللهُ تعالى له الجزاءَ العظيم؛ فصيام يوم عَرَفة يكفِّر سنةً ماضيةً وسَنةً مستقبَلةً[10]، وصيام عاشوراء يُكفِّر سنةً ماضيةً[11]، ومن أَتْبع رمضان بستٍّ من شوال كان كصيام الدَّهر كله[12]
7- (4) ذكر النبيُّ ﷺ الزكاةَ لأنَّها دليلٌ على إيمان العبد؛ فإنه لا يؤدِّي زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه إلَّا مؤمنٌ، وسببُ هذا أنَّ المال تحبُّه النُّفوس وتَبخَل به، فإذا سَمَحت بإخراجه لله عزَّ وجلَّ دلَّ ذلك على صحَّة إيمانها بالله تعالى، ووَعْده ووعيده؛ فعلى العبد أن يختبر إيمانَه ببذل الزكاة والصدقات وتمرينها على ذلك؛ فإنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى.
8- (5) قال الأعرابيُّ: «واللهِ لا أزيدُ على هذا ولا أنقص منه»، وهذا حينما عَلم أنَّ أداء الفرائض كافٍ في دخول الجنَّة؛ فلا بد أن يكون الإنسانُ حازمًا نشيطًا في كلِّ خيرٍ يعمله ويرجو ثوابه، ولا يَتقاعس أو تضعف هِمَّتُه بعد البدء فيه، سواءً في ذلك أعمال الآخرة والدنيا؛ فلا يَكسل طالبُ العلم عن مذاكرة دروسه، ولا يَفتُر الجنديُّ عن حراسة ثَغْره، ولا تغيبُ يدُ الإتقان عن العامل والصانع حتى ينتهي من عمله.
9- (6) تعقيب النبيِّ ﷺ على كلام الرجل دليلٌ على أنَّ ذلك ليس قاصرًا عليه، بل هو عامٌّ في حقِّ كل مسلم؛ فمن أدَّى الفرائض حقَّ الأداء، وانتهى عن النواهي والمحارم، كفاه ذلك في النجاة من النَّار ودخول الجَنَّة، إلَّا أنَّ للجنة درجاتٍ ومنازلَ، أعلاها وأفضلها أن يكون العبدُ في زُمرة الأنبياء والمرسلين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، ولا ريبَ أنَّ تلك المنزلة لا يُكتفى فيها بمجرد الفرائض، فكلُّ امرئٍ وعملُه! وكلُّ إنسانٍ وما تَطمَح إليه نفسُه من المنازل في الآخرة!
10- في الحديث مراعاةُ النَّبيِّ ﷺ لحال المدعوِّ والسائل؛ حيث لم يخبره بأكثر من الفرائض والأركان التي لا يستقيم إسلامُ أحدٍ بدونها. فعلى الداعية والعالم والفقيه أن يكون فَطِنًا يحسِن إجابةَ السائل ودعوةَ المدعوِّ بما يليق مع حاله.
11- قال الشاعر:
ارْتِفَاعُ الأَذَان فَوْقَ الْمَآذِنْ = فِي انْبِلَاجِ الصَّبَاحِ وَاللَّيْلُ سَاكِنْ
دَعْوَةٌ تَحْمِلُ الْحَيَاةَ إِلَى الْكَوْ = نِ وَسُكَّانِهِ قُرًى وَمَدَائِنْ
وَنِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْ = ضِ إِلَى ظَاهِرٍ عَلَيْهَا وَبَاطِنْ
وَلِقَاءٌ بَيْنَ الْمَلائِكِ وَالإِيـ = ـمَانِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ آذِنْ
وَانْطِلاقٌ إِلَى الْفَلاحِ إِلَى الْخَيْـ = ـرِ إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى وَالْمَحَاسِنْ
12- وقال غيره:
يا مَنْ تَصَدَّقَ مالُ اللهِ تَبْذلـُهُ = في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال نُقصانُ
كَمْ ضاعَفَ اللهُ مالًا جادَ صاحِبُهُ = إنَّ السَّخاءَ بِحُكْم ِاللهِ رضــوانُ
الشُّـحُّ يُـفْضي لِسُقْمٍ لا دَواءَ لَهُ = مالُ البَخيل ِغَدا إرْثًا لِمَنْ عانوا
إنَّ التَّصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُرِموا = أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتجْتَهُمْ بانوا
المراجع
- انظر: "أطلس الحديث النبوي" شوقي أبو خليل (ص: 365)، وتضم الآن الرياض والقصيم والأفلاج من مناطق السعودية.
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 106).
- انظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربينيِّ (2/ 182).
- انظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" ابن عثيمين (3/ 5).
- "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 13).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 104- 105).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 107).
- رواه مسلم (728).
- رواه البخاري (6502).
- رواه مسلم (1162).
- رواه مسلم (1162).
- رواه مسلم (1164).
فقه
1- اهتمَّ الإسلامُ بجميع شؤون الإنسان الظاهرة والباطنة؛ ولذلك حرَص على حُسن مظهر المسلم، وفي هذا الحديث يخبر النبيُّ ﷺ عن بعض خصالِ الفطرة، وهي خصال السُّنَّة التي فَطَر الله عليها العباد وشَرَعها لهم، وبها يَحصُل جمال الهيئة وكمال الخِلقة التي خُلق الإنسان عليها، وتَشهد بحُسنها العقولُ السليمة. وإلَّا فبعض الفِطَر قد تُنكَّس وتَنحرف عن أصلها
كما قال ﷺ:
«كلُّ مَولودٍ يُولَدُ على الفِطرة، فأبَواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانِه»[1]
على أنَّ خصال الفطرة ليست مُنحصِرةً في تلك العَشْر التي أخبر بها ﷺ في هذا الحديث، بل ورد غيرها في أحاديث أخرى، فليس المراد هنا الحصر.
2- فأوَّل تلك السُّنَن: قصُّ الشَّارب، وهو الشعر النابت فوق الشَّفة العليا. وإنما أُمِر بقصِّه لأنَّ في بقائه حصولَ الأذى بما يخرج من الأنف، ومباشَرة الماء عند الشرب، وربما يحمل في داخله ميكروبات مُضِرَّة[2]
وقصُّ الشَّاربِ سُنَّةٌ، والمختار في قصِّه: أن يجتهد في تقصيره حتى تبدو الشَّفَة.
3- وثانيها: ترك اللحية بحيث تكون وافرة ولا يحلقها ، و اللحية ما نبت من الشَّعر على ذَقَن الرَّجُل وخَدَّيه، والمقصود من إعفائها:
وقد جاءت الأحاديث في توفيرها بألفاظ: «أَعْفُوا، وأَوْفوا، وأَرْخوا، وأَرْجوا، ووفِّروا»، فحصل من مجموع تلك الروايات تحريم حلق اللحية، والأمر بترك اللحية حتى يكون لها وفرة، وأما الأخذ منها بما لا يخل بالوفرة فمحل اجتهاد فقهي.
4- وثالثها: استعمال السِّواك، وهو عُودٌ يؤخَذ من شجر الأراك يُستخدَم في تنظيف وتطييب الأسنان والفم، ويُزِيل عنهما الروائح الكريهة.
واستعمال السِّواك مشروعٌ مستحبٌّ في كلِّ الأوقات، يتأكَّد استحبابُه عند الصلاة والانتباه من النوم، وعند تغيُّر رائحة الفم وظُهور صُفْرة الأسنان
قال ﷺ:
؛«السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»[3]
5- ورابعها: استنشاق الماء، وهو أن يُدخِل الإنسانُ الماءَ في أنفه ثم يَنثُره؛ ليخرج ما فيه من أذًى ووسَخٍ.
6- وخامسُ تلك الخصال: قصُّ الأظافر، وهو أن يقُصَّ الإنسان ما طال من أظافره؛ لئلا تجتمع فيها الأوساخ والميكروبات المُضِرَّة.
7- وسادسُها: غسلُ عُقَدِ الأصابعِ ومفاصلِها كُلِّها؛ فإنَّها مظنَّة اجتماع الطين والنجاسات والجراثيم، ويلحق بذلك: ما يجتمع من الوسَخ في معاطف البدن، فينظِّفه ويزيله.
8- وسابعها: إزالةُ الشعر النَّابت تحت الإبْط؛ لأنه في مكان يجتمع فيه العَرَق والأوساخ، وتتغيَّر معه الرائحة.
وتتأدَّى السُّنَّةُ بإزالة ذلك الشَّعر بأي وسيلة كانت، سواءً كان بالحلْق أو بالنتف؛ لأنَّ الغرضَ إزالة ذلك الشعر، وقد حصل، وإن كان النَّتْفُ أحرى وأحسن لِمَن قَوِي عليه[4]
9- وثامن خصال الفطرة: حَلْقُ الشعر الخشِن الذي يَنبُت حول القُبُل عند الرجل والمرأة، وإنباتُ ذلك الشَّعْرِ علامةٌ على البلوغ. وتُسَمَّى تلك الإزالة استحدادًا؛ لأنَّه يُستعمَل الحديدة -وهي المُوسَى- في حلقه.
10- وتاسع تلك الصفات: انتقاص الماء، وهو استعمالُ الماءِ في الاستنجاء بعد قضاء الحاجة [5].
11- ونَسِي أحد رواة الحديث الصفة العاشرة، ورجَّح أن تكون المضمضة، وهي أن يُدير الإنسانُ الماءَ في فمِه ثم يمُجَّه
وقيل: بل العاشرةُ: الخِتان؛ بدليل حديث أبي هُرَيرةَ
عن النبيِّ ﷺ قال:
«الفِطْرَةُ خَمْسٌ -أو خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ-: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ»[6]
والختان للرجال واجبٌ ما لم يضر؛ وهو أن تُقطع الجلدة التي تُغَطِّي الحشفة حتى تنكشف جميعُها؛ فإن تلك الجلدة يَحتقِن بها البول وتكون سببًا في النَّجاسة، وأما النساء فليس عليهن ختان[7]
والأصلُ في قصِّ الشَّارب والأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أنْ يُتدارك ذلك كلَّما طال، وإلَّا فلا ينبغي أن يُترك ذلك حتى تنقضي أربعين يومًا؛ قال أنس بن مالك : «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ؛ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»[8]
اتباع
1- (1) اهتمَّ الإسلام بطهارة الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وحرَص على أن يكون الإنسان على خير مَظهَرٍ
فأخبر سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
[البقرة: 222]
وجعل «الطُّهور شَطْر الإيمان»([9] فعلى المسلم أن يَحرِص على نظافة جسده وحُسن مَظهَره، كما يحرِص على نقاء عقيدته وطهارة قلبه.
2- (1) اشترط اللهُ تعالى لوقوف عبده بين يديه أن يكون على طهارةٍ كاملةٍ، نظيف الثياب والبدن، مُستعدًّا للوقوف بين يديه بصلاح الباطن بالتوبة والظاهر بالطهارة وأخذ الزينة، ولهذا يقول المتوضِّئ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ».
3- (2) يُستحَب للإنسانِ أن يتبع سُنَّةَ النبيِّ ﷺ ويقصِّر شاربه، ويُستحَبُّ أن يبدأ بالشِّقِّ الأيمن تيامُنًا.
4- (3) لا يجوز للإنسانِ أن يقصَّ لحيته أو يحلقها، وإنما يجوز له تهذيبُ ما شذَّ منها، من باب التجمُّل.
5- (3) يُكرَه للإنسان بعض خصالٍ ذكرها العلماء في اللحية، منها صبغها بالسَّواد لغير الجهاد، وصبغها بالصُّفرة للظهور بمظهر الزُّهاد، وتبييضها لإيهام الشيخوخة والحكمة والعلم، وحلقُها ونتفُها، ونتفُ الشَّيب، وتسريحها وتصفيفها لاستمالة النساء، وتركُها شعثةً مُلَبَّدةً إظهارًا للزُّهد وعدم المبالاة بنفسه[10]
6- (4) يُستحَب للإنسان أن يستعمل السِّواك في تطهير فمه وتطييبه وإزالة الرائحة الكريهة عنه. ويجزئ كذلك استخدام الفرشاة والمعجون ونحو ذلك مما يفي بالغرض.
7- (4) يُستحَب استعمال السِّواك قبل كلِّ صلاةٍ امتثالًا لقوله ﷺ:
«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ»[11]
8- (4) لا يُكره استعمال السِّواك في أيِّ وقتٍ من الأوقات، بل يُستحَب استعمالُه للصائم كذلك؛
فعن عامر بن ربيعة أنَّه قال:
«رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ ما لا أُحصي يتسَوَّكُ وَهوَ صائمٌ»[12]
9- (5) الاستنشاق من الأفعال المُطَهِّرة للأنف، ولهذا أَمَر النبيُّ ﷺ المتوضئَ فقال: «وبالِغْ في الاستنشاقِ إلَّا أنْ تكونَ صائمًا»[13]
10-(6) ليَحرِصِ المسلم على تقليم أظافره وقصِّها، كما ينبغي أن يتعاهَد ما تحتها من الطين والوسَخ فيقوم بتنظيفه.
11- (7) يدخل في غسل البراجِم كلُّ ما يمكن أن يجتمع به الوَسَخُ مثل معاطف الأُذُن، وتحت ترهُّلات الجلد، وبين أصابع القدمَين، وكل موضع يمكن أن يجتمع العَرَقُ والتُّراب ونحوهما فيه [14]
12- (9) يُستحب أن يتعاهد الإنسانُ حلق عانته وغسل منابت الشعر وتطهير ما بين فخذيه ووصول الماء إلى كل بقعة من جلد الإنسان؛ حيث تكثر في تلك المنطقة الأمراض والالتهابات.
13-(10) استعمال الماء في تطهير المحل بعد قضاء الحاجة أفضل غالبًا من استعمال الأشياء الجامدة كورق الحمام، لأنه بالماء تزول النجاسة تمامًا ويطهر أثرها وتنتفي عن المحل رائحته الكريهة.ومما يلحق بذلك: رشُّ الإنسانِ الماءَ على ذَكَرِه أو ثيابه بعد الوضوء؛ لينفي عن نفسه الوسواس الذي يُوهِمه بأنَّ قطرات البول قد أتت على ثيابه[15]
14-(11) على المسلم ألَّا يَصُدَّه الغرورُ وعزَّةُ النَّفسِ عن قبول الحقِّ أو القولِ به؛ فراوي الحديث حين شكَّ أنَّه نَسِي شيئًا من الخصال صرَّحَ بذلك؛ فالتصريح بالخطأ والنسيان والجهل أفضل من الافتراء على اللهِ سبحانه وعلى رسوله ﷺ.
15-(11) المضمضة من سُنن الفطرة التي ينبغي للمسلم أن يحرِص عليها ويواظِب على فعلها؛ ليَنال رضا الله تعالى وأجر اتباع رسوله ﷺ، ولتَتِم له الطهارة الكاملة.
16-(11) الأفضل في الختان أن يُبادَر إلى ذلك بحسب الاستطاعة، فالختان في الصغر أفضل؛ حيث إنَّ نمو اللحم فيه أسرع، كما أنَّ الطفل لا يصيبه الألم النفسي الذي يصيب الكبار.
17- قال الشاعر:
وَوُلِدْتَ مَفْطُورًا بِفِطْرتَكِ التِي = لَيْسَتْ سِوَى التَّصْدِيقِ والإِيمَانِ
وَبُلِيتَ بالتَّكْلِيفَ أَنْتَ مُخَيَّرٌ = وَأَمَامَكَ النَّجْدَانِ مُفْتَتَحَانِ
فَعَمِلْتَ مَا تَهْوَى وَأَنْتَ مُرَاقَبٌ = مَا كُنْتَ مَحْجُوبًا عَن الدَّيَّانِ
المراجع
- رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
- رواه النسائي (5)، والبخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (1934).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- رواه البخاريُّ (5889)، ومسلم (257).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229).
- رواه مسلم (258).
- رواه مسلم (223).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149، 150).
- رواه البخاري (887)، ومسلم (252).
- رواه الترمذي (725)، وقال حديث حسن، والبخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (1934).
- رواه أبو داود (142)، والترمذي (788)، والنسائي (114)، وابن ماجه (448).
- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
فقه
1- سأل رجلٌ من الصَّحابة رضوان الله عليهم النبيَّ ﷺ عن الوضوء بماء البحر؛ فإنهم يسافرون عبْر البحر ويحملون معهم القليلَ من الماء، فإن توضَّؤوا منه عَطِشوا، فهل يجوز لهم – والحالة هذه – أن يتوضَّؤوا من ماء البحر؟
2- فأجابه ﷺ بأنَّ ماء البحر طاهرٌ في نفسه مطهِّرٌ لغيره، وإن اختلف لونُه وطعمُه عن الماء العذب.
3- وزاده ﷺ ببيان أنَّ ما مات من الحيوانات التي تعيش في البحر فهو حلالٌ يجوز أكلُه، مُستثنًى من
قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}
[المائدة: 3]
وقد قال ﷺ:
«أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ»[1]
اتباع
1- (1) كان سؤال الصحابيِّ رضي الله عنه واضحًا، شرح فيه موقفه كاملًا؛ لأنه قد تختلف الفتوى باختلاف الحال والمقام، ولذلك يجب على السائل أن يوضِّح المسألة للمفتي تمامًا، وعلى المفتي ألَّا يجيبه حتى يفهم المسألة كاملةً بتفاصيلها.
2- (1) حرَص الصحابيُّ على أمر دينه، فرغم أنَّه مسافرٌ يمكنه الجمع بين الصلوات أو تأخير الصلاة لآخر وقتها حتى ينزل إن كان سفرُه قصيرًا، إلا أنَّه اهتمَّ بمثل هذه المسألة، مراعيًا أداء الصلاةِ في وقتها. فينبغي ألَّا نَنشغِل بأمور الدنيا عن عبادة الله تعالى.
3- (2) أجاب النبيُّ ﷺ بقوله: «هو الطهور ماؤه»، ولم يُجِب بـ"نعم" مثلًا؛ لئلا يُفهَم أنَّه يجوز للمرء أن يتوضأ من ماء البحر في حال الضرورة فقط عندما يركب البحر ومعه ماءٌ قليل، ولا يجوز غسل النجاسات منه، بل قال: «هو الطهور ماؤه» ليفيد حكمًا عامًّا أنَّ ماء البحر طاهرٌ مطهِّرٌ، سواءً وُجد غيره من الماء العذب أم لم يُوجَد، وسواءً كان الإنسان في سفر أم إقامة[2] وهذا من حِكمة الفقيه؛ إذ ينبغي أن تكون إجابته واضحةً لا احتمالَ فيها.
4- (2) قوله ﷺ: «الطَّهُورُ ماؤه» بتعريف اللفظين توكيدٌ للحكم؛ فقد كان يمكن أن يقول: ماء البحر طهور، لكنَّه أكَّد ذلك بتعريف المبتدأ والخبر. فعلى العالم والفقيه أن تكون إجاباته مؤكَّدة لا مجال للشك فيها، وإلا كان السائلُ في حَيرةٍ من العمل بالفتوى.
5- (3) في الحديث جواز الزيادة على جواب السائل بما لم يسأله إذا رأى المسؤولُ حاجةَ السائل إلى ما غاب عنه السؤال عليه؛ فلمَّا كان السائل يداوم السفر عبر البحر، اقتضى ذلك أن يُصادف سمكًا طافيًا على الماء ميتًا، فأفاده ﷺ أنَّه حلالٌ يجوز له أكلُه؛ فيحسُن بالداعية والمُعلِّم والفقيه ألَّا يقتصر على جواب السائل بما يتضمنه سؤاله، إن رأى شيئًا آخر متعلقًا به غفل السائل عن السؤال عنه[3]
المراجع
- رواه ابن ماجه (3314).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 30، 31).
فقه
1- قام عثمان بن عفانرضي الله عنه أمام النَّاس يُعلِّمهم صفة الوضوء، فدعا بماءٍ يتوضَّأ به، فبدأ بكفَّيه فغسلهما ثلاثَ مرَّاتٍ، ثم أخذ ماءً في كفِّه فتمضمض وأدخل الماء في أنفه ثم طرده ليُنَظِّف ما بداخله، يفعل ذلك ثلاثًا، ثُمَّ غسل وجهه ثلاثًا، وحدُّ الوجه من منابت الشعر إلى أسفل الذقن طولًا، وبين شحمتي الأذنين عرضًا، ثم غسل يديه إلى المرفقين - وهما المفصلان بين الذراع والعضد – يبدأ بيده اليمنى فيغسلها ثلاثًا ثم يغسل اليسرى ثلاثًا كذلك، ثم مسح رأسه بيده المبلولة مرَّةً واحدةً، والفرضُ في الرَّأسِ المسحُ لا الغسل؛ تخفيفًا ورأفةً، ثم يغسل رِجْليه مع الكعبين – والكعبُ: العظم البارز في أسفل السَّاق- ثلاثًا، يبدأ باليمنى ثم اليُسْرى.
ولم يذكر الراوي أنَّه غسل أذنيه لأنَّها تُغسل – ظاهرًا وباطنًا - مع مسح الرأس، كما ثبت عنه ﷺ[1]
وقد روى عثمانرضي الله عنه في هذا الحديث أنَّ وضوءَ النَّبي ﷺ كان ثلاثًا ثلاثًا، وقد ورد في أحاديث أخرى أنه توضأ مرةً مرةً، ومرتين مرتين، فدلَّ مجموع ذلك أنَّ الفرضَ يحصلُ بمرةٍ واحدة مُطَهِّرة، وأن ما زاد عليها فهو سُنَّة، غير أنَّه ﷺ لم يزد على ثلاثِ غسلاتٍ لكلِّ عضوٍ، وقال: «فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ»[2]. فالواحدة مُجزِئة والثانية سُنَّة والثالثةُ أعلى الكمال، وما زاد على ذلك ظلمٌ.
2- ثم أخبر عثمان رضي الله عنه أنَّه رأى النبيُّ ﷺ يتوضَّأ هكذا، وأنه أراد أن يُعَلِّم النَّاس صفةَ وضوءِ النبيِّ ﷺ كما رآها.
3- ثم ذكر عثمان رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ أخبرهم أن مَن توضأ مثل هذا الوضوء ثم صلَّى ركعتين بخشوعٍ وإخلاصٍ لا يُحدِّث فيهما نفسَه بأحاديث الدُّنيا، بل إذا شغله شيءٌ مما يعرض للمسلم في صلاته طَرَده عنه ولم يسترسل فيه، كان جزاؤه أن يُغفر له جميع ذنوبه الماضية.
وظاهر الحديث يفيد أنَّ ذلك يشمل جميع الذُّنوب: الصغائر والكبائر، إلا أنَّ أشباهه من الأحاديث خصَّصت ذلك بالصغائر لا الكبائر
كقوله ﷺ:
«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»[3]
فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيِّدًا للمطلق في غيرها"[4]
4- ولمَّا كانت مغفرةُ الذنوب حاصلةً بالوضوء، كانت الصلاةُ والمشيُ إلى المسجد زائدةً في الأجر على التكفير؛ فيحصل له بالوضوء والصلاة تكفير الذنوب، وله كذلك أجرُ الصَّلاةِ والمشيِ إلى المسجد، لا ينقص من أجرهما شيءٌ، ولا يكتفي الربُّ سبحانه أنْ غفر له ذنوبَه، بل يجازيه كذلك على الصلاة والمشي.
اتباع
1- (1) لم يمنع الحياءُ عثمانَ رضي الله عنه مع ما عُرف من شدة حيائه من أن يتوضَّأ أمام النَّاس ليعلمهم صفة الوضوء. فلا يمنعك الحياءُ من طلب العلم أو نشره أو تصحيح خطأٍ أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
2- (1) تعلَّم من هذا الحديث صفةَ الوضوءِ المسنون، واحرص على اتِّباعه.
3- (1) خيرُ الوضوءِ ما كان ثلاثًا ثلاثًا، فاتَّبعه ولا تزِد على ذلك.
4- (1) غسل الكفين من سُنن الوضوء التي حرص عليها النبيُّ ﷺ وإن لم تُذكر في القرآن. فاحرص على جمع سنن الوضوء ومستحباته واتباعها.
5- المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين واجبة في الغسل والوضوء، لأن الأنف والفم من الوجه وغسل الوجه واجب، والأذنان من الرأس فيجب مسحهما.
6- (1) الترتيبُ بين الفروض والسنن فرضٌ يجب مراعاته.
7- (1) احرص على الموالاة في الوضوء، فلا تقطع وضوءك لشيءٍ ثم تستكمل، فإذا قطعت وضوءك قطعًا غير يسير حتى نشفت الأعضاء، فاستأنف من جديد.
8- (1) المرافق والكعبين يدخلان في الوضوء، فاحرص على استيعابهما بالغسل.
9- (1) الكعب هو العظمان البارزان في أسفل الساق، وليس ما اصطلح بعض النَّاس عليه من تسمية آخر باطن القدم كعبًا، فذلك يُسمى العَقِب لا الكعب.
10- (1) لم يتلفظ عثمان رضي الله عنه بالنِّية لأنَّ محلها القلب، والنطق بها بِدعةٌ.
11- (1) يُستفاد من فعل عثمان رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ لم يكن يقول شيئًا على وضوئه من الأوراد التي يقولها النَّاس، "ولم يُحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئًا غير التسمية، وكلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يُقال عليه، فكذِبٌ مختلَقٌ لم يقل رسول الله ﷺ شيئًا منه، ولا علَّمه لأمَّته، ولا ثَبَت عنه، غير التسمية في أوَّله، وقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين» في آخره"[5]
12- (2) ينبغي للمعلم والمُرَبِّي والداعية أن يلجأ إلى التعليم العملي الذي يرسخ في الأذهان وتصل إليه الأفهام، كما فعل عثمان رضي الله عنه.
13-(3) ينبغي للداخل للعبادة دفع الخواطر المتعلِّقة بأشغال الدنيا، وجهاد النفس في ذلك، فإن الإنسان يحضُره في حال صلاته ما هو مشغوف به.
14- (3) المقصود من أحاديث النَّفس ما كان منها متعلقًا بأمور الدنيا، أما التفكُّر في الآخرة وعذابها ونعيمها والحساب والصراط ونحو ذلك، فليس مما يُنهى عنه[6]
15- (3) إذا تعلَّق فكرُك بشيءٍ من أمور الدنيا وأنت في الصلاة فاقطعه عنك، وركِّز في صلاتك وتدبُّر معاني الآيات التي تقرأها أو تسمعها من الإمام، فإذا فعلتَ ذلك لم يضرَّك ولم يؤثر على صلاتك.
16-(3) فرصةٌ عظيمة لمغفرة الذنوب، بوضوءٍ وركعتين خفيفتين! فهل من مُشَمِّر؟
17- (3) بادر إلى إسباغ الوضوء
فقد قال ﷺ:
«أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى المكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى المسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»[7]
18- (3) إن الإسلام دين الطهارة والنظافة والجمال، حتى إنه جعل الطهارةَ من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحَّةُ كثيرٍ من العبادات.
19- (4) الجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسْبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة[8]
20- (4) يتفضل الله سبحانه على عباده بأن يغفر لهم الذنوب ويكافئهم على صلاتهم ومشيهم إليها، فكيف يردُّ ذلك الفضلَ عاقلٌ؟!
المراجع
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
- رواه أبو داود (135)، والنسائي (140)، وابن ماجه (422).
- رواه مسلم (233).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 87).
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7).
- رواه مسلم (251).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
فقه
التَّيَمُّم رُخصةٌ شرَعها اللهُ عزَّ وجلَّ لعباده عند فَقدِهم الماءَ أو عجْزِهم عن استعمالِه تيسيرًا عليهم،
وقد قال ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»[1]
وقد عرَّفه العلماءُ بأنَّه: القَصْدُ إلى الصَّعيد - التُّراب - لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحةِ الصَّلاة ونحوِها[2]. وهو مشروعٌ ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وهو خَصِيصةٌ خصَّ الله تعالى بها هذه الأمَّة"[3]. وفي هذا الحديث بيانُ صفتِه.
1- يذكر عمَّارٌ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ أرسله لبعض حاجاته، ثم إنَّه احتلَم وأصابته الجنابةُ، فتقلَّب بجميع بدنه في التُّراب الطاهر الذي له غُبار يَلصَق باليد والبدن حتى أصاب الترابُ جميع بدنه؛ ليَستبيحَ بذلك الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك، ثمَّ لَما عاد إلى النبيِّ ﷺ أخبره بذلك؛ ليَرى أكان فعلُه ذلك صوابًا أم خطأً.
2- فأخبره النبيُّ ﷺ أنَّه كان يكفيه أن يَضرب بيديه على الأرض ضربةً واحدةً ثم يمسح بها على كَفَّيه ووجهه؛
لقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
[المائدة: 6].
وإنَّما فعل عمَّارٌ ذلك لأنَّه رأى أنَّ التُّرَاب بديلٌ للماء؛ فكما ينبغي أن يَعُمَّ الماءُ جميع الجسد في الغُسل، فكذا التيمُّم في ظَنِّه واجتهاده.
ومعنى قوله ﷺ: «تقول بيَدَيك» أي: تفعل بيَدَيك.
اتباع
1- (1) دلَّ فِعلُ عمَّار رضي الله عنه أنَّ الواجبَ على المسلم إذا غاب عنه حُكمُ مسألةٍ من المسائل، لا يعرِف حكمَها وقولَ أهل العلم فيها، ولا يتَّسِع الوقت لسؤال غيره أو كان في سفرٍ بحيث لا يَقدر على الفُتيا؛ أن يجتهد ما استطاع، ثمَّ إذا تمكَّن من السؤال سأل ليتعرَّف على الحكم الشرعي الصحيح في تلك المسألة.
2- (1) في الحديث أنَّ المجتهدَ المتأوِّلَ إذا كان من أهل الاجتهاد وتأوَّل في مسألةٍ؛ أنَّه لا إعادة عليه إذا أصاب الحقَّ من وجهٍ؛ فالنبيُّ ﷺ لم يأمر عمَّارًا رضي الله عنه بالإعادة؛ لأنه أخطأ المشروع في صفة الطَّهارة، ولكنَّه أتى بالطهارة على غير الصورة المعتبَرة[4]
3- (2) دلَّ الحديثُ على أنَّ شرع الإسلام فيه الخير واليُسر، حيث لم يُكلِّف الإنسان ما لا يَقدِر عليه، فرخَّص له التَّيمم، وتساهل فيه حيث اكتفى فيه بمسح الكفِّين والوجه.
المراجع
- رواه أحمد (5866
- نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 223).
فقه
الصلاة هي الرُّكن الثاني من أركان الإسلام بعد الشَّهادتينِ، وهي عمودُ الإسلام الذي يُبنى عليها
قال ﷺ:
«رَأْسُ الأَمْرِ الإسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ»[1]
وهي أحبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍرضي الله عنه قَالَ:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»[2]
ولهذا كانت الصلاةُ علامةً تميِّز المسلمين؛ فالمنافق يتثاقل عنها، ولا يؤدِّيها إلا
كما قال سبحانه:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى}
[النساء: 142].
والكافرُ يجحَدُ وجوبَها ويتركها بالكُلِّيَّة،
ولهذا توعَّد الله عزَّ وجلَّ تاركها بقوله:
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}
[المدثر: 38 - 43]
وقد قال سبحانه عن سَقَر:
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}
[المدثر: 26 - 30].
وفي هذا الحديث يخبِر النبيُّ ﷺ عن حُكم تارك الصلاة، فيذكر أنَّها الفاصلة بين المسلم والكافر؛ فبيْن الرجلِ وبين الشِّرْك أو الكفر تركُ الصلاة
وهي كقوله ﷺ:
«الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[3]
وقال عمر رضي الله عنه: «لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ»[4]، وكان عبد الله بن شَقيقٍ رحمه الله يقول: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ»[5]
اتباع
1- أجمع الفقهاءُ على أنَّ تارك الصلاةِ جحودًا كافرٌ مرتدٌّ عن الدين، واختلفوا في تاركها تكاسلًا وتهاونًا؛ فقيل: كافرٌ، وقيل: فاسقٌ يُستتاب وإلا قُتل، وقيل: فاسقٌ ولا يُقتل. والمسلمُ الحقُّ الذي عرَف ربَّه تعالى وآمن بنبيِّه ﷺ لا يَنزِل تلك المنزلة التي اختلف فيها الفقهاء بين التكفير والتفسيق، وإنما يسارِع إلى مرضات الله تعالى ويتقربُ إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض.
2- لمَّا طُعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأدخلوه بيته، حاولوا أن يوقِظوه من إغمائه، فقالوا: لن يوقِظَه إلا الصَّلاة، فنادوا: الصلاةَ يا أمير المؤمنين! فقال: «نعم، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترَك الصلاة»، وصلَّى ودَمُه يسيل من جُرحه. فإلى أيِّ مدى كان اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بالصلاة؟![6]
3- عن عبد الله بن عمرِو بنِ العاص رضي الله عنهما، عن النبيِّ ﷺ: أنه ذَكَرَ الصَّلاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ»[7]
قال ابن القيِّم رحمه الله: "وإنما خصَّ هؤلاء الأربعة بالذِّكر؛ لأنهم من رؤوس الكَفَرة. وفيه نُكتةٌ بديعة؛ وهو أن تارك المحافظة على الصلاة، إمَّا أن يَشغَله مالُه أو مُلكُه أو رياسته أو تجارته، فمَن شَغَله عنها مالُه فهو مع قارون، ومن شَغَله عنها ملكه فهو مع فِرعونَ، ومن شَغله عنها رياسةٌ ووزارة فهو مع هامانَ، ومَن شَغَله عنها تجارته فهو مع أبيِّ بنِ خَلَفٍ"[8]
4- كيف يتخلَّف أحدٌ عن الصلاة وهي التي جعلها اللهُ سبحانه مكفِّرةً لسيئات العبد وخطاياه؟!
قال رسولُ اللهِ ﷺ:
«أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا»[9]
5- قال ابن مسعودرضي الله عنه في شأن صلاة الجماعة: «وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ»[10] فكيف يَتركُ الصلاةَ مسلمٌ بإرادته واختياره؟!
6- قال الشاعر:
ارْتِفَاعُ الأَذَان فَوْقَ الْمَآذِنْ = فِي انْبِلَاجِ الصَّبَاحِ وَاللَّيْلُ سَاكِنْ
دَعْوَةٌ تَحْمِلُ الْحَيَاةَ إِلَى الْكَوْ = نِ وَسُكَّانِهِ قُرًى وَمَدَائِنْ
وَنِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْ = ضِ إِلَى ظَاهِرٍ عَلَيْهَا وَبَاطِنْ
وَلِقَاءٌ بَيْنَ الْمَلائِكِ وَالإِيـ = ـمَانِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ آذِنْ
وَانْطِلاقٌ إِلَى الْفَلاحِ إِلَى الْخَيْـ = ـرِ إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى وَالْمَحَاسِنْ
7- وقال غيره:
يَنْسَى بِهَا دُنْيَاهُ وَهْوَ مُكَبِّرٌ = وَيَرَى حَقِيقَةَ نَفْسِهِ مُتَجَرِّدَا
جَافَتْ جُنُوبُ الصَّالِحِينَ مَضَاجِعًا = وَقَضَوْا لَيَالِيَهُمْ قِيَامًا سُجَّدَا
وَسَعَوْا إِلَيْهَا فِي الظَّلامِ يَحُثُّهُمْ = شَوْقٌ يَهُزُّ قَوِيَّهُمْ وَالْمُقْعَدَا
يَتْلُونَ آيَ اللهِ في مِحْرَابِهَا = وَالْفَجْرُ يُوشِكُ نُورُهُ أَنْ يُولَدَا
حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ النِّدَاءُ وَكَبَّرُوا = وَتَوَجَّهُوا للهِ رَبًّا مُفْرَدَا
أَبْصَرْتَ أَرْوَعَ مَا يُرَى فِي لحظةٍ = وَوَقَفْتَ إجلالاً تُحِيِّي الْمَشْهَدَا
وَرَأَيْتَهُمْ صَفًّا وَقَلْبًا واحِدًا = وَلِسَانُ حُبٍّ للسَّلامِ مُرَدِّدَا
المراجع
- رواه الترمذيُّ (2616)، والنسائيُّ (11330).
- رواه البخاريُّ (527)، ومسلم (85).
- رواه الترمذيُّ (2621)، والنسائيُّ (463)، وابن ماجه (1079).
- رواه مالك في الموطأ (1/39)، والدارقطني (1750).
- رواه الترمذي (2622).
- رواه مالك في الموطأ (1/39)، والدارقطني (1750).
- رواه أحمد (6576)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
- "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص: 51).
- رواه البخاريُّ (528)، ومسلم (667).
- رواه مسلم (654).
فقه
1- وَفَد مالك بن الحُوَيرث رضي الله عنه مع جماعة من أصحابه من بَنِي اللَّيث على النبيِّ ﷺ، وكانوا جميعًا شبابًا متقاربِين في السِّن، فأقاموا عنده عشرين ليلةً يتعلَّمون ويتفقَّهون في دين الله تعالى، فلمَّا أحسَّ منهم ﷺ أنَّهم قد اشتاقوا إلى أهلهم، سألهم إن كانوا تركوا أحدًا من أهليهم، فأخبروه بمن خلَفَهم من الأهل.
2- فلمَّا أخبروه أمرهم بالرجوع إليهم، وذلك من رأفته ورحمته ﷺ بالمؤمنين، وقد قال سبحانه
وتعالى فيه:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[التوبة: 128].
وإنما أمرهم النبيُّ ﷺ بالرجوع إلى أهلهم؛ لأن ذلك كان بعد فتح مكَّةَ؛ إذ انقطعت الهجرة بفتح مكَّةَ؛ لقوله ﷺ: «لا هِجرةَ بعد الفتحِ»[1]، فصار المُقام بالمدينة اختياريًّا، فمَن شاء أقام، ومَن شاء عاد إلى قومه بعد أن يتعلَّم ما يحتاج إليه من العلم والدين، ويعلِّمه قومه[2]
3- ولذلك أمرهم ﷺ بتعليم قومهم ما عَلِموه في دين الله تعالى، بل أخبرهم ﷺ أن التعليم وحده ليس كافيًا، فعلى كلِّ واحدٍ أن يأمر أهله ويراقبهم، فهو مسؤولٌ محاسبٌ عنهم،
قال تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}
[طه: 132]،
وقال ﷺ: «كُلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته» [3] ، فكما أنَّ التعليم واجبٌ، فكذلك الأمرُ والمتابعةُ [4]
4- ثُمَّ وضَع ﷺ القاعدة العريضة في الدِّين وأحكامه، وهي متابعة النبي ﷺ والاتباع له، في الصلاةِ وهيئاتها وأحكامها، وما يُقال فيها وما يُبطلها، وما يوجب سجودَ السهوِ بها؛ فإنَّ أفعالَ النبيِّ ﷺ بيانٌ لِما أجمل اللهُ تعالى ذكرَه في القرآنِ الكريم؛ فلم تأتِ آياتُ القرآنِ مُفَصِّلَةً أحكام الصلاة وعدد ركعاتها ومواقيتها وأركانها وسُننها وهيئاتها، بل أتت تأمر بالحفاظ على الصلاة في أوقاتها، تاركةً بيانَ ذلك لسُنَّتِه ﷺ القولية والفعلية، ولهذا قال ﷺ: «وصلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي».
وأجاز لهم الرجوع وأمرهم به؛ لأنه عَلم أنهم قد تعلَّموا ما يَكفيهم من أمور دينهم من الفقه والتوحيد، وإلَّا فما كان ﷺ لِيَتركهم يرجعون إلى أهليهم فضلًا عن أن يأمرهم بتعليمهم.
وهكذا في سائر التشريعات والأحكام؛ ففي الحجِّ يقول ﷺ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»[5]، وقد اتفق العلماءُ على أنَّ أفعال النبيِّ ﷺ إذا كانت بيانًا لمجملٍ كالصلاة والصيام والحجِّ، فإنها تُحمَل على الوجوب، إلا أن يدلَّ دليلٌ خاصٌّ على أنَّها ليست للوجوب[6]
5- ثم أرشدهم ﷺ إلى أنَّه إذا حضر وقت الصلاة أن يؤذِّنَ أحدُهم، ويُصَلِّي بهم أكبرهم سِنًّا.
وهذا الوجوب على جميع الأمَّة بشرط أن يَثبُت عنه ﷺ استمراره على الفعل المعيَّن، فيكون واجبًا على أُمته، أما ما لم يثبُت استمراره عليه فليس بواجب [7]
والأصلُ في الإمامة أن يُقدَّم الأقرأُ للقرآن، كما في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه
أن النبيَّ ﷺ قال:
«يؤمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمُهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً، فأقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمُهم سِلْمًا»
[8]،
وصلَّى عمرو بن سَلِمة رحمه الله بقومه زمان النبيِّ ﷺ وهو ابن سِتِّ سنين؛ لأنَّه كان أقرأَهم [9]. وإنَّما أمرهم النبيُّ ﷺ أن يُقدِّموا أكبرَهم سِنًّا لَما عَلِم من حالهم أنَّ قراءتهم مُتقاربة؛ بدليل قوله في رواية مسلم: «كانا مُتقارِبَين في القراءة [10]، وقد دخلوا الإسلام في وقت واحد؛ فالغالب أن تكون قراءتهم ومعرفتهم بالسُّنَّة متساويةٌ، فلهذا اختار الأكبر سِنًّا.
اتباع
1- (1) في الحديث بيانُ اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بطلب العلم ومعرفة الأحكام الشرعية، وأنهم تركوا في ذلك الأهلَ والوطنَ. وهذا لَما استقرَّ في نفوسهم من فضيلته وعظيم قدره، فلا ينبغي أن يُفَوِّت الإنسانُ على نفسِه ذلك الثواب، خاصةً وأن طلب العلم وتحصيله أصبح يأتيه من غير كَدٍّ أو مشقةِ سفر.
2- (1) اهتمَّ النبيُّ ﷺ بالشباب وحرَص على تعليمهم ثم إرسالهم سُفراء ودعاةً إلى أقوامهم؛ فالشباب عمادُ الأمة وحملة نهضتها، فيجب توجيه اهتماماتهم إلى العمل والدعوة والإصلاح.
3- (1) فَهِم النبيُّ ﷺ خصائص الشباب النفسية وأدرك احتياجاتهم العاطفية، ولهذا سمح لهم بالعودة إلى أهلهم، فينبغي مراعاة متطلباتهم وظروفهم والعناية بهم عناية خاصَّة.
4- (2) يجب على الداعية والمُعَلِّم والمُرَبِّي أن يكون رفيقًا رحيمًا، لا تتعارض دعوتُه مع حاجات النَّاس الضرورية، بل يرفق بهم ما استطاع، ويحرص على الانتفاع بأوقات نشاطهم ويقظتهم، ويمنحهم الراحةَ والفسحةَ التي تلائم أجسادهم وأرواحهم.
5- (2) من فقه الداعية والمُرَبِّي ألَّا يكلف أحدًا بما لا يطيق، بل يراعي قوَّته وقدرته على تنفيذ ما أُمر به شيئًا فشيئًا.
6- (2) ينبغي للإنسان أن يُقيم في أهله ما أمكنه، ولا ينبغي أن يغترب عنهم، ولا أن يبتعد عنهم، حتى إن الرسول ﷺ أمر المسافر إذا قضى حاجته أن يرجِع إلى أهله [11]
7- (3) أوصى النبيُّ ﷺ في هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث بتبليغ الدِّين ونشر الدعوة، ومنه قوله ﷺ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» [12]؛ فالداعيةُ مُبَلِّغٌ عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ، قائمٌ في النَّاسِ مقامَ النبيِّ ﷺ من دعوة النَّاسِ إلى الخير ونهيهم عن الشر، وبيان شرائع الدين وفقه أحكامه. فمَن لا يريد أن ينزل تلك المنزلة؟!
8- (3) بيَّن النبيُّ ﷺ أن الدعوة تحتاج إلى أمرٍ ومصابرةٍ على التنفيذ، وليست مجرد بيان الأوامر والنواهي، وكم تحمَّل النبيُّ ﷺ في سبيل تبليغ شريعة الله تعالى. فعلى الدُّعاة والعلماء أن يتحلَّوا بالصَّبر والمصابرة في سبيل تطبيق شرع الله تعالى.
9- (4) بيانُ أحكامِ الشرع مَوكولٌ إلى النبيِّ ﷺ وحدَه، لا إلى أقوال الرجال، ولا إلى العقول المجردة، ولا إلى الأهواء؛ فالتعبُّدُ لا بدَّ أن يكون موقوفًا على فعلِ النبيِّ ﷺ وقوله، لا نزيدُ ولا نَنقُص عمَّا شرعه.
10- (4) اتباعُ النبيِّ ﷺ في سُنَنِه سبيلُ الحياة والهداية؛ فبِها عرَف المسلمُ كيفية الصلاة ومواقيتها وأحكامها وأركانها وهيئاتها، وضبط أحكام سائر العبادات مِن زكاة وصيام وزكاةٍ وحجٍّ وغيرها، ولو امتنع مسلمٌ عن اتباع سُنَّته ﷺ لظلَّ حائرًا تائهًا لا يهتدي سبيلًا.
11- (4) يدخل في اتباعه ﷺ في الصلاة: اتباعُه في الأخذ بالرُّخَص؛ فمن حُسن الاقتداء به أن يُصَلِّي المريضُ جالسًا أو متكئًا حسبما يليق بحاله، وأن يفطر المسافرُ والمريضُ إذا تضرر بصيامه، وأن يصلي المسافرُ جمعًا وقصرًا، وغير ذلك من الرُّخص التي أخذ بها ﷺ في حياته،
وقال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»
[13]
12- (5) يرشِد الحديث إلى توقير الكبير وإنزالِه منزلةً تليق به من الأمور المعتبرة شرعًا، وذلك إذا لم يترتب على ذلك مخالفةٌ شرعيةٌ؛ فالنبيُّ ﷺ جعل السِنَّ مُرَجِّحًا للإمامة إذا تساوى النَّاس في مُقَوِّمات الإمامة من القراءة والفقه والقِدم في الإسلام.
المراجع
- رواه البخاريُّ (2783)، ومسلم (1353).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 236).
- رواه البخاريُّ (2409)، ومسلم (1829).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 148).
- رواه مسلم (1297).
- انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطّال (10/ 345)، "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (2/ 167).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 237).
- رواه مسلم (673).
- رواه البخاريُّ (4302).
- رواه مسلم (674).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 147).
- رواه البخاريُّ (3461).
- رواه أحمد (5866).
فقه
هذا الحديث من أهمِّ أحاديث فِقه الصلاة؛ حيث اشتمل على أهمِّ أركان الصلاة وواجباتها، وقد اهتمَّ الفقهاءُ به جدًّا واستدلُّوا به في كثيرٍ من مسائل الفقه، وهو مشهور بين العلماء بـ: "حديث المُسيء صلاته".
1- دخل رجلٌ المسجدَ فصلَّى، والنبيُّ ﷺ يراقب صلاته، فلما انتهى الرجلُ من صلاته جاء إلى النبيِّ ﷺ مُسَلِّمًا، فردَّ ﷺ السلامَ عليه، ثم أمره بالإعادة وأنَّ صلاته غيرُ مقبولة ولا مجزئةٍ عنه.ولولا أنَّها غيرُ مجزئةٍ لَمَا أمره ﷺ بالإعادة، ولَنبَّهَه على ما وقع فيه من الأخطاء ليَتفاداها بعد ذلك.وإنَّما لم يُبَيِّن له النبيُّ ﷺ ما أخطأ فيه من البداية ربَّما لأنه ﷺ ظنَّ أنَّ الرجل يعلم أحكام الصلاة وواجباتها وأركانها، لكنَّه خالَف عِلْمَه، فلذلك أمره بالإعادة، فلمَّا أخبر الرجلُ أنَّه لا يُحسِن الصلاةَ بيَّن له أحكامها، أو لأنَّه ﷺ إذا أمَر الرجلَ بالإعادة مرارًا ثم بيَّن له سبب الإعادة، كان ذلك أجمعَ لفَهمِه وحفظه، فلا يخطِئ بعد ذلك أبدًا[1]
2- فرجَع الرَّجُل وصلَّى كما صلَّى في المرة الأولى، ولهذا لمَّا رجع إلى النبيِّ ﷺ أمره بالإعادة مجدَّدًا، فذهب الرجل وصلَّى كصلاتِه الأولى، ويأمره النبيُّ ﷺ بالإعادة، فيخبره الرجلُ أنَّه لا يُحسِن غير تلك الصلاة، ويطلب من النبيِّ ﷺ أن يُعلِّمه كيف يصلي، وما الذي وقع فيه من الأخطاء فأفسَد عليه صلاته.
3- فأخبَره النبيُّ ﷺ أنَّه إذا أراد الصلاة فلْيَبدأ بتكبيرة الإحرام. ومعنى ذلك أنَّها ركنٌ لا تَصِح الصلاةُ بدونها؛ فالنبيُّ ﷺ يُعلِّم الرجلَ ما تصحُّ به صلاته، والمقامُ مقامُ تعليمٍ لا يُحسِن فيه أن يَزيد مع الأركان بيانَ السُّنَنِ ونحوها[2]ولم يَذكر النبيُّ ﷺ النِّيَّةَ لأنَّ الرجلَ قد عَلمها؛ إذ من أصول الدِّين التي لا يجهلها أحدٌ أن الأعمال بالنِّيات؛ في الصلاة والزكاة وجميع العبادات.
4- ثُمَّ أمره أن يَقرأ ما تيسَّر له من القرآن، وليس معنى ذلك أنَّه يجوزُ له أن يقرأ بما شاء، بل جاء تفصيلُ ذلك في الأحاديث الأخرى بوجوب قِراءة فاتحة الكتاب وأنه: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب»[3]، فيكون المرادُ أنَّ ما تيسَّر من القرآن هي الفاتحة؛ لأنَّ اللهَ سبحانه يسَّر حِفظها للرجال والنساء والأطفال، أو المرادُ ما بعد الفاتحة من القراءة حيث علم الرَّجلُ أنَّ قراءة الفاتحةِ ركنٌ في الصلاة، فأرشده إلى ما بعدها إن تيسَّر له ذلك[4]
5-ىثُمَّ أمره ﷺ بالركوع والطُّمأنينة فيه، والاعتدال واستواء الظَّهر عند الرفع منه، والطُّمأنينة في السُّجود. والمُراد من هذا بيانُ أنَّ الطُّمأنينة في الصلاة وعدم العجلة فيها ركنٌ من أركان الصلاة لا تَصِحُّ الصلاةُ بدونها، ولهذا أمره ﷺ بالإعادة، وقد ذمَّ ﷺ الصلاةَ التي ليس فيها طُمأنينة، فقال: «تلك صلاةُ المنافق؛ يجلس يَرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْنَيِ الشيطان، قام فنَقَرها أربعًا، لا يَذكُر الله فيها إلا قليلًا»[5]. ومعنى النَّقر: سرعةُ أداء الحركات وعدم الطُّمأنينة فيها كنَقْر الدِّيَكة
وقد ذكَر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث بعض أركان الصلاة التي لا تصحُّ إلا بها، وترك غيرها من الأركان، مثل: النيَّة، والجلوس للتشهد الأخير، والتسليم؛ لأنَّ الرجل قد عَلِم تلك الأمور، ورآه النبيُّ ﷺ وهو يؤديها، وإنما غابت عنه أشياء أخرى، فدلَّه النبي ﷺ على فِعلها [6]
اتباع
1- (1) أفاد الحديثُ أنَّ المسلم إذا دخل المسجدَ وفيه قومٌ جلوسٌ، فإنه يُستحبُّ له أن يصلي تحيَّة المسجد أولًا ثم يُسَلِّم على الجالسين.
2- (1) يجب على المسلم تعلُّم العلم الشرعيِّ الذي به تصحُّ عباداته؛ حتى لا تبطل عباداته.
3- (1) يُستحَب للعالِم والفقيه والداعية أن يجلس في المسجد ويَلْتف النَّاسُ حولَه، يَعِظهم ويحثُّهم على الخير، ويَصِف لهم صلاةَ النبيِّ ﷺ كما هي.
4- (1) يُشترَط في قَبول العمل الإخلاص وموافقة السُّنَّة، فكما أنَّ فقْدَ شرط الإخلاص يُحبِط العمل، فكذا العمل المخالف للسُّنة لا تصلِحه النية الصالحة.
5- (1) يجوز للداعية والفقيه أن يؤخِّر البيانَ في المجلس لحاجة؛ كأن يجعل السامع متلهِّفًا لسماع الحكم الشرعي، أو أن يحرِص على اجتماع الناس ليَسمعوا منه، ونحو ذلك.
6- (2) دلَّ الحديثُ على استحباب إفشاء السلام ووجوب ردِّه، وأنه يُستحَبُّ تَكراره إذا تكرَّر اللقاء وإن قرُب العهد، وأنه يجِب ردُّه في كلِّ مرة.
7- (2) في الحديث الرِّفقُ بالمتعلِّم والجاهل، ومُلاطفتُه، وإيضاح المسألة، وتلخيص المقاصد، والاقتصار في حقِّه على المهمِّ دون المكمِّلات التي لا يَحتمِل حاله حِفْظَها والقيامَ بها [7]
8- (3) مفتاح الصلاةِ التَّكبير، وهي تشير إلى أنَّك إذا دخلت في الصلاة وقلت: "اللهُ أكبر" فحقُّها أن تجعلَه أكبر من الدنيا وما فيها، فلا يَشغَلك عن الخشوع والطُّمأنينة شاغلٌ من صَوارِف الحياة الدنيا.
9- (4) دلَّ الحديثُ على التيسير على المسلمين وعدم تكليفهم بما يشُقُّ عليهم، فأمْرُ النبيِّ ﷺ الرجلَ بالقراءة بما تيسَّر يخالِفُ مداومة بعضِ الأئمة بقِراءة السور الطِّوال في الصلاة والتشديد على النَّاس،
وقد قال ﷺ:
«إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ»
[8]
10- (5) الطُّمأنينة ركنٌ في الصلاةِ لا تصحُّ الصلاةُ بدونه، والغرضُ منها تَعَقُّل معاني الصلاةِ وما يقوله المسلمُ فيها من الأذكار والأدعية، وليست مجرد حركات يؤديها المسلم فيَرفع ويَخفِض.
من التواصي بالحقِّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تَنبيهُ الجاهلين وتعليمهم؛ فعن زيد بن وهب رحمه الله قال: رَأَى حُذَيْفَةُ رضي الله عنه رجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، قَالَ: (مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًاﷺ عَلَيْهَا)، وهذا من الزَّجرِ الشديدِ [9]
قال الشاعر:
تُصَلِّي بلا قَلْبٍ صَلاةً بِمِثْلِهَا = يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوْبَةِ
فوَيْلَكَ تَدْرِي مَن تُناجِيهِ مُعْرِضًا = وبَيْنَ يَدَيْ مَنْ تَنْحَنِي غَيْرَ مُخْبِتِ
تُخَاطِبُهُ إيَّاكَ نَعْبُدُ مُقْبِلًا = عَلَى غَيْرِهِ فيهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةِ
ولو رَدَّ مَن نَاجَاكَ لِلغَيْرِ طَرْفَهُ = تَمَيَّزْتَ مِن غيظٍ عليهِ وَغَيْرَةِ
المراجع
- انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطيبي (3/ 977)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (30/ 313)، "فتح الباري" لابن حجر (2/ 281).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 282).
- رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 210)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 282)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 29).
- رواه مسلم (622).
- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 107).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 108، 109)
- رواه البخاري (703)، ومسلم (467)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- رواه البخاريُّ (791).
فقه
1- يَذكر النبيُّ ﷺ أنَّ مَن صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها الفاتحة فهي ناقصةٌ غيرُ تامَّة.وهذا النُّقصانُ من نُقصان الصِّحة الذي يؤثر على قَبول العمل؛
لقوله ﷺ:
«لا صلاةَ لِمَنْ لم يَقرأْ بفاتحة الكتاب»
[1]
وسُمِّيت الفاتحة بأمِّ القرآن لأنَّها أصلُه، ومعاني سُوَر القرآن جميعًا -من الثناء على الله والتعبُّد له والترغيب والترهيب وقصص السابقين- راجعةٌ إليها، كما أنَّ مَكَّةَ أمُّ القرى لأنَّها أصلُها [2]
2- فسُئل أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث عن قِراءتها للمأموم في جماعةٍ، فأخبره أنَّ عليه أن يَقرأها في سِرِّه. وهذا القولُ وإن كان موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه إلا أنَّه في حُكم المرفوع؛ فعن عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه ، قال: كنا خلْفَ رسول الله ﷺ في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله ﷺ، فثَقُلَت عليه القراءة، فلما فرَغ قال: «لعلكم تَقْرؤون خلْفَ إمامكم؟» قلنا: نعمْ، هَذًّا يا رسول الله، قال: «لا تَفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ لِمَن لم يقرأْ بها» [3]
3- ثُمَّ علَّل أبو هريرة رضي الله عنه سببَ قوله ذاك؛ وهو أنَّ الله تعالى أخبر في الحديث القدسي أنَّه قَسَم القراءة بينه وبين عبدِه نِصفَين.
والمراد من القِسمةِ قِسمةُ المعاني، وهو أنَّ اللهَ سبحانه يُقابِل اللفظ بما يساويه؛
فإذا قال العبدُ:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الفاتحة: 2]،
قال الله تعالى: حَمِدني عبدي.
وقد يكون المرادُ من التَّنصيفِ أنَّ السورة نِصفها تعبُّدٌ وثناءٌ وتمجيدٌ لله تعالى، ونِصفُها الآخرُ طلبٌ ودعاءٌ، وقد وعَد اللهُ سبحانه باستجابته، وموضع التنصيفِ
قولُه تعالى:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
[الفاتحة: 5]؛
فالجملةُ الأولى مع ما قبلها ثناءٌ ومدحٌ وتمجيدٌ وتعبُّدٌ لله تعالى، والجملةُ الأخرى وما بعدها استعانةٌ بالله وطلبُ الهدايةِ منه[4]
والتعبير بالصلاة عن قِراءة الفاتحةِ من تَسمية الشيء بأهمِّ أجزائه،
كقوله تعالى:
{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}
[الإسراء: 110]
فالمعنى: "ولا تَجهَرْ بقراءتك"[5]
4- ثم أخبَر ﷺ أنَّ العبد إذا
قال:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الفاتحة: 2]
يقولُ الله تبارك وتعالى: «حَمِدني عبدي»،
وإذا قال العبدُ:
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
[الفاتحة: 3]
والحمد والثَّناءُ والتمجيدُ ألفاظٌ متقارِبة، تتَّفِق جميعها في أنَّها للمدح وذِكر المحاسن؛ إلَّا أنَّ الحمد لا يختصُّ بفعلٍ؛ ولهذا
قال سبحانه:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الفاتحة: 2]
فنَحمَده لأنه الله رب العالمين، أمَّا الثناء فهو ذِكر صفات الممدوح التي تَستحقُّ الثَّناء، ولهذا ذكرها اللهُ تعالى عند قول العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ حيث إنَّه لمَّا ذكَر صفة الرحمة قابَلها بالثَّناء، ولمَّا تحدَّث عن اليوم الآخر وأنَّه سبحانه مالِكُه والمتصرِّف فيه، ناسَب ذلك الإخبارُ بالتمجيدِ الذي فيه بيانُ العُلُوِّ والعظَمة[6]
5- فإذا قال العبدُ:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
[الفاتحة: 5]،
قال سبحانه: «هذه بيني وبين عبدي، ولِعَبْدي ما سأل»؛ حيث تضمَّنت الآية التَّذَلُّلَ لله تعالى والافتقارَ إليه، وإخلاصَ العبادة له وحده، وطلبَ الاستعانة به، والعبادةُ اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويَرْضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وذلك يَتضمَّن تعظيم الله عزَّ وجلَّ وبيان قُدرته على تحقيق سُؤْلِه [7]
6- وإذا قال العبدُ:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
[الفاتحة: 6، 7]
قال الله تعالى: «هذا لِعَبْدي، ولِعَبْدي ما سَألَ» أي: يَستجيب دُعاءه ويعطيه ما يتمنَّى.والمغضوب عليهم: اليهود؛ غَضِب اللهُ تعالى عليهم حين علِموا الحقَّ وخالفوه وحادُوا عنه، والضالُّون: النصارى؛ حيث تخبَّطوا عن جهالةٍ وابتداعٍ في الدِّين بغير علم[8]
اتباع
1- (1) الفاتحةُ أمُّ القرآن، وهي أصلُه، وجميع معاني السُّور راجعةٌ إليه. فالكَيِّسُ مَن عرَف معانيها، واستنبَط أحكامَها، وتبيَّن أسرارَ تفضيلها واختصاصها.
2- (1) يمكن أن نَستخرجَ من هذه السورة علومَ الدُّنيا والآخرة كلها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم المُلك، وعِلم الدِّين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة [9]
3- (1) دلَّ الحديث على وُجوب قراءة الفاتحة في كلِّ ركعةٍ في الصلاة؛ فلا يجوز لمسلمٍ أن يُصَلِّي بغيرها.
4- (1) كرَّر النبيُّ ﷺ قوله: «فهي خِدَاجٌ» ثلاثًا ليُفهَم عنه ويُحفظ، وليؤكِّد على السَّامع حُكم ذلك. والتَّكرار أسلوبٌ نبويٌّ أكثر النبيُّ ﷺ من استخدامه، وحَرِيٌّ بالداعية والمعلم والمُرَبِّي أن يَلتفِت إليه ويُكثِر استخدامه.
5- (2) سأل الناسُ أبا هُرَيرة رضي الله عنه عن حُكم قراءة الفاتحة للمأموم؛ إذ يُمكِن أن يكون لها حكمها المنفصِل، ولهذا لم يُنكِر عليهم أبو هُرَيرة رضي الله عنه سؤالهم؛ فلا يَسْتحي مسلمٌ أن يسأل عمَّا لا يَعلمه، وعلى الفقيه والداعية ألَّا يَضِيق ذَرعًا بأسئلة السائل وإنْ كانت مُكرَّرَةً أو مُتَضَمَّنَةً في كلامه.
6- (3) سمَّى اللهُ سبحانَه الفاتحةَ صلاةً لأنها أهمُّ أجزائها؛ فلا يَنبغي لمسلمٍ أن يَغفُل عن ذلك الجزء الأهمِّ بحيث يَقرؤه على عَجَلٍ دون تأمُّلٍ وتدبُّر.
7- (3) أثناء قِراءة سورة الفاتحة في الصلاة تأمَّل المحاوَرة والمناجاة بين الإنسان وبين ربِّه عز وجل؛ فالواجب علينا أن تكون قلوبنا حاضرةً في حال الصلاة؛ حتى تبرأ ذِمَّتنا، وحتى ننتفِع بها؛ لأن الفوائد المترتِّبة علي الصلاة إنما تكون علي الصلاة الخاشعة الكاملة [10]
8- (4) يباهي اللهُ سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين ويَفرُح بهم؛ فإذا قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول سبحانه: حَمِدني عبدي، مُباهيًا فرحًا، فأيُّ عملٍ أعظم وأرجى نفعًا وثوابًا مِن عملٍ يَفرَحُ به اللهَ تعالى.
9- (5) يَجدُر بالمسلم أن يتأمَّل قوله جلَّ جلالُه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ فقد قيل: إنها تَجمع سرَّ الكتب المنزَّلة من السماء كلِّها؛ لأن الخلق إنما خُلقوا ليَعبُدوا الله تعالى؛
كما قال جل وعلا:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]،
والعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قُدرةَ للعِباد عليها بدون إعانة الله لهم؛ فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عَبْده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضلٌ من الله على عبده [11]
10- (6) أمر اللهُ سبحانه عبادَه أن يطلبوا منه أن يَهديهم الصِّراط المستقيم الذي عليه الأنبياء والصِّدِّيقين والشهداء، فمَن استقام على هذا الصراط، حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سَيره على الصراط يوم القيامة، ومَن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو مَن يعرِف طريق الهدى ولا يتَّبِعه كاليهود، أو ضالٌّ عن طريق الهدى؛ كالنصارى، ونحوِهم من المشركِين [12]
11- (6) أرشد الله تعالى عبادَه أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم، وأن يُجَنِّبَهم طريق اليهود والنصارى، وذلك يقتضي أن نصرِف أنفسَنَا عن اتباعهم وتقليدهم، بل نخالفُهم ما استطعنا سبيلًا.
12- (6) إذا ختَم القارئ في الصلاة قراءةَ الفاتحة، أجاب اللهُ تعالى دعاءه فقال: «هذا لِعَبْدي ولِعَبْدي ما سأل»، وحينئذٍ تؤمِّن الملائكة على دعاء المصلِّي، فيُشرَع للمصلِّين موافقتهم في التأمين معهم؛ فالتأمينُ مما يُستجابُ به الدعاء [13]
قال الشاعر:
تُصَلِّي بلا قَلْبٍ صَلاةً بِمِثْلِهَا = يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوْبَةِ
فوَيْلَكَ تَدْرِي مَن تُناجِيهِ مُعْرِضًا = وبَيْنَ يَدَيْ مَنْ تَنْحَنِي غَيْرَ مُخْبِتِ
تُخَاطِبُهُ إيَّاكَ نَعْبُدُ مُقْبِلًا = عَلَى غَيْرِهِ فيهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةِ
ولو رَدَّ مَن نَاجَاكَ لِلغَيْرِ طَرْفَهُ = تَمَيَّزْتَ مِن غيظٍ عليهِ وَغَيْرَةِ
المراجع
- رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 272)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 25)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (1/ 286).
- رواه أبو داود (823)، والترمذيُّ (311).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/204)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 375).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 203)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتي (1/ 239).
- انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربي (2/ 376)، "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 104).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 27)، "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 149).
- انظر: "تفسير ابن كثير" (1/140).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 355).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103)
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
فقه
لمَّا هاجر النبيُّ ﷺ إلى المدينة، وجَد الأنصار يحتفلون ويلعبون في يومينِ معيَّنينِ من أيام السَّنة، وهما: يوم النَّيروز ويوم المهرَجان[1]، فاستنكَر النبيُّ ﷺ احتفالهم في هذينِ اليومينِ، فأخبروه أنَّ هذينِ اليومينِ من أعياد الجاهلية التي اعتادوا الاحتفال واللَّعِب فيها، فنهاهم النبيُّ ﷺ عن ذلك وأخبرهم أنَّ الله قد أبْدَلهم بهذينِ اليومينِ خيرًا منهما؛ عِيدَي الفطر والأضحى.
والحديث يدلُّ على حُرمة الاحتفال بأعياد الكُفَّار والمشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وذلك من قواعدِ الولاء والبَراء، حيث ذكَر ﷺ أنَّ الله قد أبدلهم بهما خيرًا منهما، والإبدال لا يكون إلا مع ترك المُبْدَل منه.
ويشهَد لهذا التحريم أن هذَين العيدَين قد انْمَحى أثرُهما في الإسلام، فلم يَبْقَ لهما ذِكْر في عهد النبيِّ ﷺولا في عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، ولو لم يكُن قد نهى الناسَ عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه، لَكانوا قد بَقُوا على العادة؛ إذ العاداتُ لا تُغَيَّر إلا بمُغَيِّر يُزيلها، لا سيَّما أن طِباع النساء والصِّبيان وكثيرٍ من الناس مُتشوِّفةٌ إلى اليوم الذي يتَّخِذونه عيدًا للبطالة واللعب[2]
اتباع
1- أفاد الحديثُ أنَّ الاحتفال بأعياد الكفار وأيامهم لا يجوز شرعًا، فلا يجوز للمسلم أن يحتفل بتلك الأعياد، ولا أن يتشبَّه بالكُفَّار في طعامهم وشرابهم ذلك اليوم.
2- إذا كان النهيُ عن الاحتفال بأعياد الكفار التي قد انطَمَست شَعائرهم ولن تعود إلا في آخِرَ الدهر، فالاحتفالُ بأعياد اليهود والنصارى أشدُّ تحريمًا؛ لِما أخبر ﷺ من حدوث التشبُّه بهم، ونهى عن ذلك وحذَّر.
3- دلَّ الحديث على مشروعية اللَّهو واللَّعبِ في أيام العيد؛ حيث جعلها النبيُّ ﷺ بدَلًا عن أيام الجاهلية التي كانوا يألَفون اللعب فيها، وقد ترَك النبيُّ ﷺ الحبشةَ يلعبون في المسجد بالحِرابِ يومَ العيد، وجعل أمَّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها تشاهدهم حتى اكتَفَت[3]
4- يجوز للمسلم أن يَفرح ويلعب في أيام العيد، بشرط ألَّا يكون في لَهْوه شيءٌ من الحُرمة؛ كلَعِب المَيْسِر والألعاب التي فيها النَّرد، أو الاختلاط بين الرجال والنساء، وألَّا يَشغَله ذلك عن ذِكر الله تعالى.
5- إظهار السرور والفرح في الأعياد من شعائر الإسلام، فتُشرَع الألعاب واللهو والتزاوُر وصِلة الأرحام والتوسعة على الأهل في النفقات، بما يحصل معه انبساط النَّفْس وراحة البدن.
6- يجب أن يَستحضر المسلم في العيد نِية إحياء شَعيرة الفرح في العيد، فيُؤجَر على لَعِبه ولَهْوه وطعامه وشرابه.
7- على الإمام والداعية تفقُّدُ أحوال الناس وعاداتهم، ومعاملاتهم، وبيان الحلال والحرام منها؛ فربَّما أَلِف الناسُ عادةً من العادات، كان لها أصلٌ يُحرِّمها أو يجعلها مَكروهة، دون أن يعلَم الناسُ ذلك، فإذا استبان الأمرُ للإمام والداعية والعالِم أخبَر الناسَ بحُكم الله تعالى وحكم رسوله ﷺ، فانصاع الناسُ لأمره.
8- إيجادُ البديل خيرُ وسيلةٍ لتَرْك المنهيِّ عنه، فإذا أراد المُرَبِّي أن يَنزِع عن أبنائه وتلامذته بعضَ العادات أو الأفعال السيِّئة، فعليه أن يَجِد لهم البديل الصالح الذي يَرتاحون إليه، كما فعَل سبحانه حين عوَّض المسلمين عن أعيادهم بعيدَي الفطر والأضحى.
9- سدُّ الذرائع أصلٌ من أصول الشرع؛ ولهذا نهى النبيُّ ﷺ عن اللَّعِب في أعياد المشركين؛ خوفًا من أن تَتدرَّج إلى درجة المشاركة في الطقوس والعبادات. ولهذا يَحسُن بالفقيه والعالِم مراعاةُ هذا الأصل في أحكامه وفَتاواه؛ فربَّما يرى المصلحة في تحريم شيءٍ لا يتعلَّق التحريمُ به في نفسه، وإنما لِما يؤدِّي إليه من المعاصي أو الكفر.
10- قال الشاعر:
هَذَا هُوَ الْعِيدُ فَلْتَصْفُ النُّفُوسُ بِهِ = وَبَذْلُكَ الْخَيْرَ فِيهِ خَيْرُ مَا صُنِعَا
أَيَّامُهُ مَوْسِمٌ لِلْبِرِّ تَزْرَعُهُ = وَعِنْدَ رَبِّي يُخَبِّي الْمَرْءُ مَا زَرَعَا
فَتَعَهَّدُوا النَّاسَ فِيه، مَنْ أَضَرَّ بِهِ = رَيْبُ الزَّمَانِ وَمَنْ كَانُوا لَكُمْ تَبَعَا
وَبَدِّدُوا عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى شُجُونَهُمُ = دَعَــا الإِلَهُ لِهَذَا وَالرَّسُولُ مَعَا
وَاسُوا الْبَرَايَا وَكُونُوا فِي دَيَاجِرِهِمْ = بَـدْرًا رَآهُ ظَلامُ اللَّيْلِ فَانْقَشَعَا
المراجع
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (2/ 342).
- انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 488).
- رواه البخاريُّ (949، 950)، ومسلم (829).
فقه
لمَّا هاجر النبيُّ ﷺ إلى المدينة، وجَد الأنصار يحتفلون ويلعبون في يومينِ معيَّنينِ من أيام السَّنة، وهما: يوم النَّيروز ويوم المهرَجان[1]، فاستنكَر النبيُّ ﷺ احتفالهم في هذينِ اليومينِ، فأخبروه أنَّ هذينِ اليومينِ من أعياد الجاهلية التي اعتادوا الاحتفال واللَّعِب فيها، فنهاهم النبيُّ ﷺ عن ذلك وأخبرهم أنَّ الله قد أبْدَلهم بهذينِ اليومينِ خيرًا منهما؛ عِيدَي الفطر والأضحى.
والحديث يدلُّ على حُرمة الاحتفال بأعياد الكُفَّار والمشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وذلك من قواعدِ الولاء والبَراء، حيث ذكَر ﷺ أنَّ الله قد أبدلهم بهما خيرًا منهما، والإبدال لا يكون إلا مع ترك المُبْدَل منه.
ويشهَد لهذا التحريم أن هذَين العيدَين قد انْمَحى أثرُهما في الإسلام، فلم يَبْقَ لهما ذِكْر في عهد النبيِّ ﷺ ولا في عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، ولو لم يكُن قد نهى الناسَ عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه، لَكانوا قد بَقُوا على العادة؛ إذ العاداتُ لا تُغَيَّر إلا بمُغَيِّر يُزيلها، لا سيَّما أن طِباع النساء والصِّبيان وكثيرٍ من الناس مُتشوِّفةٌ إلى اليوم الذي يتَّخِذونه عيدًا للبطالة واللعب[2]
اتباع
1- أفاد الحديثُ أنَّ الاحتفال بأعياد الكفار وأيامهم لا يجوز شرعًا، فلا يجوز للمسلم أن يحتفل بتلك الأعياد، ولا أن يتشبَّه بالكُفَّار في طعامهم وشرابهم ذلك اليوم.
2- إذا كان النهيُ عن الاحتفال بأعياد الكفار التي قد انطَمَست شَعائرهم ولن تعود إلا في آخِرَ الدهر، فالاحتفالُ بأعياد اليهود والنصارى أشدُّ تحريمًا؛ لِما أخبر ﷺ من حدوث التشبُّه بهم، ونهى عن ذلك وحذَّر.
3- دلَّ الحديث على مشروعية اللَّهو واللَّعبِ في أيام العيد؛ حيث جعلها النبيُّ ﷺ بدَلًا عن أيام الجاهلية التي كانوا يألَفون اللعب فيها، وقد ترَك النبيُّ ﷺ الحبشةَ يلعبون في المسجد بالحِرابِ يومَ العيد، وجعل أمَّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها تشاهدهم حتى اكتَفَت([1]).
4- يجوز للمسلم أن يَفرح ويلعب في أيام العيد، بشرط ألَّا يكون في لَهْوه شيءٌ من الحُرمة؛ كلَعِب المَيْسِر والألعاب التي فيها النَّرد، أو الاختلاط بين الرجال والنساء، وألَّا يَشغَله ذلك عن ذِكر الله تعالى.
5- إظهار السرور والفرح في الأعياد من شعائر الإسلام، فتُشرَع الألعاب واللهو والتزاوُر وصِلة الأرحام والتوسعة على الأهل في النفقات، بما يحصل معه انبساط النَّفْس وراحة البدن.
6- يجب أن يَستحضر المسلم في العيد نِية إحياء شَعيرة الفرح في العيد، فيُؤجَر على لَعِبه ولَهْوه وطعامه وشرابه.
7- على الإمام والداعية تفقُّدُ أحوال الناس وعاداتهم، ومعاملاتهم، وبيان الحلال والحرام منها؛ فربَّما أَلِف الناسُ عادةً من العادات، كان لها أصلٌ يُحرِّمها أو يجعلها مَكروهة، دون أن يعلَم الناسُ ذلك، فإذا استبان الأمرُ للإمام والداعية والعالِم أخبَر الناسَ بحُكم الله تعالى وحكم رسوله ﷺ، فانصاع الناسُ لأمره.
8- إيجادُ البديل خيرُ وسيلةٍ لتَرْك المنهيِّ عنه، فإذا أراد المُرَبِّي أن يَنزِع عن أبنائه وتلامذته بعضَ العادات أو الأفعال السيِّئة، فعليه أن يَجِد لهم البديل الصالح الذي يَرتاحون إليه، كما فعَل سبحانه حين عوَّض المسلمين عن أعيادهم بعيدَي الفطر والأضحى.
9- سدُّ الذرائع أصلٌ من أصول الشرع؛ ولهذا نهى النبيُّ ﷺ عن اللَّعِب في أعياد المشركين؛ خوفًا من أن تَتدرَّج إلى درجة المشاركة في الطقوس والعبادات. ولهذا يَحسُن بالفقيه والعالِم مراعاةُ هذا الأصل في أحكامه وفَتاواه؛ فربَّما يرى المصلحة في تحريم شيءٍ لا يتعلَّق التحريمُ به في نفسه، وإنما لِما يؤدِّي إليه من المعاصي أو الكفر.
10- قال الشاعر:
هَذَا هُوَ الْعِيدُ فَلْتَصْفُ النُّفُوسُ بِهِ = وَبَذْلُكَ الْخَيْرَ فِيهِ خَيْرُ مَا صُنِعَا
أَيَّامُهُ مَوْسِمٌ لِلْبِرِّ تَزْرَعُهُ = وَعِنْدَ رَبِّي يُخَبِّي الْمَرْءُ مَا زَرَعَا
فَتَعَهَّدُوا النَّاسَ فِيه، مَنْ أَضَرَّ بِهِ = رَيْبُ الزَّمَانِ وَمَنْ كَانُوا لَكُمْ تَبَعَا
وَبَدِّدُوا عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى شُجُونَهُمُ = دَعَــا الإِلَهُ لِهَذَا وَالرَّسُولُ مَعَا
وَاسُوا الْبَرَايَا وَكُونُوا فِي دَيَاجِرِهِمْ = بَـدْرًا رَآهُ ظَلامُ اللَّيْلِ فَانْقَشَعَا
المراجع
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (2/ 342).
- انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 488).
- رواه البخاريُّ (949، 950)، ومسلم (829).
فقه
في الحديث بيانُ فضلِ صلاة الجماعة وعظيمِ ثَوابها؛ حيث كانت أفضلَ من صلاة المنفرِد بسبعٍ وعشرين مَنزِلةً.
وقد وردت أحاديث أخرى تخالِف هذا العدد، كقوله ﷺ: «صلاة الرجُل في الجماعة تَضعُف على صلاته في بيته، وفي سُوقه، خَمْسًا وعشرين ضِعفًا؛ وذلك أنه إذا توضَّأ فأحسَنَ الوضوء، ثم خرَج إلى المسجد، لا يُخرجه إلا الصلاة، لم يَخْطُ خُطوةً، إلا رُفِعَت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى، لم تَزَل الملائكة تُصلِّي عليه ما دام في مُصلَّاه: اللهمَّ صلِّ عليه، اللهم ارْحَمه، ولا يَزال أحدُكم في صلاة ما انتظر الصلاةَ» متفق عليه[1]
وليس بين العددينِ تناقضٌ؛ فإن الصَّغير لا ينافي الكبير، ويُحمَل الصَّغير على أنَّه كان أوَّل الأمر، ثم تفضَّل اللهُ بالزيادة من خمسٍ وعشرين إلى سبعٍ وعشرين، أو أنَّ فارق الدرجتينِ يَختلف بحسب كَمال الصلاة، ومحافظة هيئتها، وخُشوعها، وكثرة جماعتها، وشرف البُقعة، ونحو ذلك[2]
وقد نظَر العلماءُ في أسباب تفاضل صلاة الجماعة، فكان منها ما ذُكر في الحديث السَّابق، ومنها: إجابةُ المؤذِّن بِنيَّة الصّلاة في الجماعة، والتَّبكيرُ إليها في أوَّل الوقت، والمشيُ إلى المسجد بالسَّكينة، ودخولُ المسجد داعيًا، وصلاةُ التَّحيَّة عند دخوله، وانتظارُ الجماعة، وصلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، وشهادتهم له، وإجابة الإقامة، والسَّلامةُ من الشَّيطان حين يَفِرُّ عند الإقامة، والوقوف منتظرًا إحرام الإمام أو الدُّخول معه في أيِّ هيئة وَجَده عليها، وإدراك تكبيرة الإحرام، وتسوية الصُّفوف وسدُّ فُرَجِها[3]
اتباع:
1- ينبغي للمسلم الحرصُ على صلاة الجماعة؛ فإنَّها خيرٌ من صلاة الإنسان وحده، وفيها من الثَّواب والفضيلة ما لا يجوز تركُه.
2- على المسلمِ أن يحرِص على أداء الصلاة في جماعة؛ ليُدرِك ما جعله اللهُ سبحانه لأهل الجماعات؛ فقد أعدَّ الله تعالى منزلًا في الجنة لمن غدا إلى المسجد أو راح؛ فعَنْ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عنِ النَّبِيِّ ﷺقالَ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاح»[4]
4- مَن أراد تكفير السيئات ومحو الخطايا ورفع الدرجات في الجَنَّة، فلْيَحرِص على الجماعات؛ قال ﷺ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى المكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى المسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»[5]
5- السَّعيدُ مَن اغتنم أجرَ إدراك الجماعة في المسجد، فممَّا أعدَّه اللهُ سبحانه أنَّ صلاة الجماعة تُعطيك أجر حجَّة؛ قال ﷺ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ المحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يَنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ المعْتَمِرِ، وَصَلَاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّين» [6]
6- صلاة الجماعة تشهدها الملائكة، أفلا تريد أن تكون ممن تُثني عليهم الملائكةُ وتشهد لهم بالصلاة عند رب العالمين؟! قال ﷺ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الفَجْرِ وَصَلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»[7]
7- قَالَ ابن مسعود رضي الله عنه : «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ ﷺ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ»[8]
8- قال عبد الله بن عُمرَ القواريريُّ رحمه الله: لم تكُنْ تَفوتني صلاة العَتَمة في جماعة، فنزل بي ضَيفٌ فشُغلت به، فخرجتُ أطلبُ الصلاةَ في قبائل البصرة، فإذا الناس قد صلَّوْا وخَلَت القبائل، فقلتُ في نفْسي: رُوي عن النبيِّ ﷺأنه قال: «صلاة الجماعة تَفضُل على صلاة الفذِّ خمسًا وعشرين درجة»، ورُوي: «سبعًا وعشرين». فانقلبتُ إلى منزلي، فصلَّيتُ العَتَمةَ سبعًا وعشرين مرةً، ثم رقَدتُ فرأيتُني مع قوم راكبي أفراسٍ، وأنا راكبٌ فرسًا كأفراسِهم ونحن نتجارى، فالْتَفتُّ إلى أحدهم فقال: لا تُجهِدْ فرسَكَ؛ فلستَ بلاحقِنا! فقلتُ: فلِمَ ذاك؟ قال: إنَّا صلَّيْنا العَتَمةَ في جماعة[9]
9- دلَّ الحديثُ أنَّ تأخير الصلاة رجاءَ انتظار الجماعة خيرٌ من أدائها في أول الوقت منفردًا، إلا أنْ يخاف المسلمُ خروجَ الوقتِ فلْيُصلِّ منفردًا.
10- قال الشاعر:
ارْتِفَاعُ الأَذَان فَوْقَ الْمَآذِنْ = فِي انْبِلَاجِ الصَّبَاحِ وَاللَّيْلُ سَاكِنْ
دَعْوَةٌ تَحْمِلُ الْحَيَاةَ إِلَى الْكَوْ = نِ وَسُكَّانِهِ قُرًى وَمَدَائِنْ
وَنِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْ = ضِ إِلَى ظَاهِرٍ عَلَيْهَا وَبَاطِنْ
وَلِقَاءٌ بَيْنَ الْمَلائِكِ وَالإِيـ = ـمَانِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ آذِنْ
وَانْطِلاقٌ إِلَى الْفَلاحِ إِلَى الْخَيْـ = ـرِ إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى وَالْمَحَاسِنْ
المراجع
- رواه البخاريُّ (647)، ومسلم (649).
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان الصديقيِّ (6/ 548).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 133، 134).
- ) رواه البخاريُّ (662)، ومسلم (669).
- رواه مسلم (251).
- رواه أحمد (22304)، وأبو داود (558).
- رواه البخاريُّ (555)، ومسلم (632).
- رواه مسلم (654).
- "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 221).
فقه
1- يخبر النبيُّ ﷺ أنَّ المساجدَ أحبُّ البِقاع إلى الله تعالى؛ فهي بيتُ الطاعةِ وأساسُ التقوى وموطنُ الذِّكر، ومهْدُ العلمِ، ومنطلَقُ الدعوةِ إلى الله تعالى.
ولهذا كان النبيُّ ﷺ حريصًا على بناء المسجد أوَّل ما وصَل المدينة المنورة، وكان يحمل الحجارةَ بنفسه ﷺ مع أصحابه رضوان الله عليهم.
فالمسجد هو اللَّبِنة الأولى في تكوينُ دولة الإسلام، ومنه تُنشَرُ الدعوة، وفيه تعليمُ أحكام الإسلام وشرعه، وكان النبي ﷺ منه يدير شؤون الدولة، ويناقش مع الصحابة خُطَط الحروب والغزوات، ويستقبلُ الوفود والرُّسُل، ويُنفِذ السرايا والبعوث، ويفصِل بين الخصوم وغير ذلك.
ومن يرتاد المساجد هم أهلُ الإيمان والخشية،
الذين قال سبحانه فيهم:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}
[النور: 36 - 37]،
ووصفهم بالإيمان بقوله جلَّ وعلا:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}
[التوبة: 18].
ولذلك كان الإنفاقُ على بيوت اللهِ تعالى أعظمَ النفقات،
قال ﷺ:
«مَن بنى مَسجِدًا يَبْتغي به وجه الله، بَنى الله له مِثله في الجنة»
[1]
2- وأخبر النبي ﷺ أنَّ أبغض البِقاع في الأرض الأسواقُ؛ حيث اللَّغطُ واللغوُ والغشُّ والخداعُ والأيمان الكاذبة والمعاملات الربوية وإخلاف الوعود والغفلة عن ذكر الله ونحو ذلك، ولهذا أخبر سَلمانُ الفارسي رضي الله عنه أنَّ الأسواقَ «معركةُ الشيطان، وبها يَنصِب رايته»[2]
اتباع:
1- (1) أخبر ﷺ أنَّ المساجدَ أحبُّ الأماكن إلى الله، وذلك يقتضي أن تكون العبادةُ فيها خيرًا من العبادة في غيرها؛ فالصلاة في المسجد خيرٌ من الصلاة في البيت والسُّوق، ومجالس العلم في المسجد خيرٌ منها في غيره، والإنفاق على بناء المساجد أفضلُ وأكثرُ ثوابًا من الإنفاقِ في سائر وجوه البرِّ.
2- (1) كانت نهضةُ الإسلامِ وسرُّ تقدُّمِه في تفعيل دور المسجد التربوي والدَّعَوي والتعليمي، فلمَّا أُلغي ذلك الدور فَشا الجهلُ والغفلةُ في شباب المسلمين حتى صار كثيرٌ منهم لا يَعرف أركان الإسلام وأحكامه. فإذا أردنا الرجوع إلى رَكْب الحضارة فعلينا أن نهتم بالتنشئة الصحيحة وتفعيل دور المسجد في ذلك المجال.
3- (1) إذا كان المسجدُ أحبَّ الأماكن إلى الله تعالى، فلا شكَّ أن المُكثَ فيه بنية العبادة وانتظار الصلاة له ثوابٌ عظيمٌ، لا ينبغي على المسلم تفويته قدْرَ الإمكان.
جعل اللهُ سبحانه إدامة الذَّهاب إلى المساجد من أعظم الأعمال التي تُقرِّب العبدَ من ربِّه جلَّ وعلا؛ حتى إنَّه ﷺ ذكَر في السبعة الذين يُظِلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: «ورجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ بالمساجد»[3]
5- (1) المساجد بيوت الله تعالى، جُعِلت لها من الآداب التي ينبغي على المسلم الحرص عليها؛ كلُبس أحسن الثياب، وأخْذ الزينة، والتطيُّب بما عند المرء من الطِّيب، وتركُ الأطعمة ذات الروائح الكريهة، كالثُّوم والبصل ونحوها مما يؤذِي الملائكة وبني آدم.
6- (1) يُستحَب أن يستهلَّ المسلمُ دخولَه المسجد بالأدعية المأثورة؛
لقوله ﷺ:
«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ»
[4]
7- (1) يُستحبُّ لمن دخل المسجد ألَّا يجلس حتى يصلي ركعتينِ تحيةَ المسجد؛
قال ﷺ:
«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ»
[5]
8- (2) الأسواق شرُّ الأماكن لِما فيها من المعاصي والفجور والجدال وغير ذلك، وما كان مثلَها في العِلَّة يقتضي نفس الحكم، فإذا كان بيتُ الإنسانِ ومحلُّ عمله فيه من الأيمان الكاذبة والفجور والسبِّ والشتم ونحوها؛ كان من شرِّ الأماكن عند الله تعالى.
9- (2) يُكرَه للإنسان أن يذهب إلى السُّوق لغير حاجةٍ، أما إذا ذهب لحاجةٍ كالبيع والشراء فلا يُكره؛
لقوله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}
[الفرقان: 20].
10- (2) ينبغي لمن دفعته الحاجةُ للذهاب إلى السوق ألَّا يكونَ أوَّلَ الداخلين إليها، ولا آخر الخارجين عنها؛ لقول سلمان الفارسي رضي الله عنه : «لَا تَكُونَنَّ -إِنِ اسْتَطَعْتَ- أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ»[6]
11- قال الشاعر:
مَنْ عَلَّقَ الْقَلْبَ في بَيْتِ الإلهِ وَلَمْ = يَطْلُبْ سِوَى مِنْ كَرِيمٍ مُنْعِمٍ مَدَدَا
فَذَاكَ مِمَّنْ يُظِلُّ اللهُ حِينَ نَرَى = لا ظِلَّ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ أَبَدَا
كَمْ خَائِفٍ مِنْ ذُنُوبٍ جَاءَ مُرْتَجِفًا = وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَ بَيْتِ اللهِ مُلْتَحَدَا
فَسَبَّحَ اللهَ، صَلَّى، قَامَ مُنْكَسِرًا = بِبَيْتِ مَنْ غَيْرُهُ بِالْحَقِّ ما عُبِدَا
حَتَّى زَكَتْ رُوحُهُ وَالنَّفْسَ هَذَّبَهَا = فَلا تَرَى ظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ أَوْ حَسَدَا
وَكَمْ غَوِيٍّ أَتَى وَالْوَهْمُ يُغْرِقُهُ = فَعَادَ يَحْمِلُ فِي أَضْلَاعِهِ رَشَدَا
وَكَمْ جَهُولٍ أَتَى مُدَّثِرًا بِدُجًى = فَصَارَ بَدْرًا بِنُورِ الْعِلْمِ مُتَّقِدَا
المراجع
- رواه البخاريُّ (439)، ومسلم (533).
- رواه مسلم (2451).
- رواه البخاريُّ (660)، ومسلم (1031).
- رواه مسلم (713).
- رواه البخاريُّ (444)، ومسلم (714).
- رواه مسلم (2451).
فقه:
1- يُخبِر النبيُّ ﷺ عن ثلاث عبادات من فعَلها فقد عرَف الإيمانَ وأصابه وتمكَّنَ منه. واستخدم الطَّعم مع أمرٍ معنويٍّ غير محسوس ولا مَطعومٍ تأكيدًا، وتشبيهًا بالطعام اللذيذ بجامعِ الالتذاذ ومَيل القلب إليهما.
وقد استعمل القرآنُ الكريمُ ذلك الأسلوب باستخدام لفظ الذَّوق مع العذاب والنَّكال،
كقوله عزَّ وجلَّ:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}
[النساء: 56]،
وأتى بها النبيُّ ﷺ في قوله: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»[1]
وطَعمُ الإيمان الذي يَذوقه العبدُ هو تحمُّل المشاقِّ في رضا الله تعالى، والرضا بقَضائه وقدَره، وإيثار الآخرة على الدنيا، وانشراح صَدره بجميع ذلك.
2- الخَصْلة الأولى التوحيد، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وتَشمل العبادةُ جميعَ ما يُحِبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة؛ كالمحبة، والرجاء والخوف، والدعاء والاستعانة، والذَّبح والنذر، والتقرب بأنواع النوافل والطاعات، فلا يجعل شيئًا من ذلك لغيرِ الله سبحانه.وهذه الخصلة التي أرسل اللهُ عزَّ وجلَّ بها جميع الأنبياء والمرسلين؛
قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
[الأنبياء: 25]،
ولذلك فقد توعَّد مَن ترَك توحيده بالخلود في النَّار وإحباط العمل كائنًا من كان،
قال جل وعلا لنبيِّه ﷺ:
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}
[الزمر: 65، 66].
3- وثاني تلك الخصال أن يُخرج العبدُ زكاة ماله طائعًا مختارًا، تَطِيب نفسه بذلك وتُعِينه على أدائها كلَّ عامٍ.
وقد ذكَر الزكاةَ دون غيرها؛ لأنَّ المال تحبُّه النفوس وتَبخَل به، فإذا جادت به النَّفسُ مختارةً طائعةً كان ذلك علامةً على صحَّةِ إيمانها؛ إذ المنافقون هُم الذين ينفقون على مَضَضٍ وكَراهية،
قال سبحانه:
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}
[التوبة: 54].
4- والخصلة الأخيرة متعلِّقة بما قبلها، وهي أنَّ العبدَ إذا همَّ بإخراج زكاته، لم يَتَحرَّ أفسَدَ وأرْدَأ ما فيها ليخرجها؛ فإذا وجَبت زكاة مواشيه لم يَختَر الكبيرة المُسِنَّة الضعيفة، ولا الجَرْباء، ولا المريضة التي لا يجوز ذَبْحها وأكلها، ولا سائر ما يُستقبَح منها كالعَرْجاء والنَّحيفة والصغيرة جدًّا ونحو ذلك.
وليس معنى ذلك أنَّ المسلِم إذا كانت كلُّ ماشيته مريضةً لم يجزئه إخراج شيءٍ منها، بل المراد تحذيرُ مَن يَنتخِب أسوأَ ما عنده ليُخرِجها في الزكاة، تصديقًا لقوله
عزَّ وجلَّ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
[البقرة: 267].
فالمؤمنُ الحقُّ الذي يَجِد حلاوة الإيمان في نفسه يَمتثِل
قوله سبحانه:
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
[آل عمران: 92].
5- ثُمَّ بيَّن النبيُّ ﷺ أنَّ المطلوب في الزكاة إخراجُ أوسط المال، وهو المعتدِل بين النقيضينِ؛ فلا يُخرِج أفضلَ ما عنده ولا أسوأَه، وقد كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنس بن مالك رضي الله عنه: «ولا يُخْرَجُ في الصدقة هَرِمةٌ، ولا ذاتُ عَوار، ولا تَيْسٌ، إلا ما شاء المُصَدِّق»[2]، أي: المُتصدِّق، وقال ﷺ لمُعاذ بن جَبل رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن: «وتَوَقَّ كرائمَ أموال الناس»[3]، أي: اجتَنِبْها ولا تَختَرْها.
اتباع:
1- (1) يجب على الداعية والمُرَبِّي استخدام الألفاظ والأساليب التي تجذِب انتباه السامع وتبعَث فيه الإنصاتَ وحُسن الفَهم لِما يُقال؛ حيث استخدم النبيُّ ﷺ جملةً إجماليةً، أخبر فيها عن خصالٍ ثلاثٍ يتحصَّل لمن أدركها تمامُ الإيمان، ومثل هذا يَستدعي من المستمِع الإنصاتَ وعَدَّ تلك الخصال واحدةً واحدةً؛ حتى لا تُفلِت عنه خصلة منها.
2- (2) الخصلة الأولى هي أصل كلِّ الخصال المذكورة في هذا الحديث وغيرها؛ فإذا حقَّق الإنسانُ التوحيدَ الصحيح، طابت نفسُه وانشَرَحت للعبادة، وأيقن أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، فسَهُلت عليه التكاليف والمشقَّات في ذات الله تعالى.
3- (3) من علامات الإيمان التي يستطيع المسلم التحقُّق منها في نفسه أن ينظر في محبته للزكاة وإخراج الصدقات؛ فإنَّ المالَ تحبُّه النفوس، فإذا بذَله العبدُ طائعًا راضيًا مُحتسِبًا، كان ذلك أمارةً على صِدق إيمانه.
4- (4) كيف يَتصدَّق المؤمنُ بشيء قبيحٍ خَبيثٍ وهو يعلم أنَّه يقع في يدي الله عزَّ وجلَّ قبْل يَدِ الفقيرِ؟!
5- (5) كان السَّلفُ رضوان الله عليهم يحرِصون على الإنفاق من أفضل ما عندهم؛ فلمَّا سمع أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه
قولَه تعالى:
{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
[آل عمران: 92]،
تصدَّق بأحب مالِه إليه، وهو بستانٌ له يُسمى "بَيْرُحاءَ" كان النبيُّ ﷺ يدخله ويشرب من مائه[4]، وكان الربيع بن خُثَيْم رحمه الله يُحبُّ السُّكَّر، فكان يتصدق به على النَّاس؛ امتثالًا
لقوله تعالى:
{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
[آل عمران: 92][5]
- قال الشاعر:
يا مَنْ تَصَدَّقَ مالُ اللهِ تَبْذلُهُ = في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال نُقصانُ
كَمْ ضاعَفَ اللهُ مالًا جادَ صاحِبُهُ = إنَّ السَّخاءَ بِحُـكْمِ اللهِ رضــوانُ
الشُّـحُّ يُـفْضي لِسُقمٍ لا دَواءَ لَهُ = مالُ البَخيل ِغَدا إرْثًا لِمَنْ عانوا
إنَّ التَّصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُرِموا = أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتجْتَهُمْ بانوا
المراجع
- رواه مسلم (34).
- رواه البخاري (1455).
- رواه البخاريُّ (1458)، ومسلم (19)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
- رواه البخاري (1461)، ومسلم (998).
- "الزهد" لأحمد بن حنبل (ص: 267).
فقه
1- يُخبِر النبي ﷺ أنَّ الله تعالى طيِّبٌ مُنَزَّهٌ عن النقائص والعيوب. وأصل الطِّيب: الزكاءُ والطهارةُ والسلامة من الخُبث[1]
ولذلك فلا يَقبَل الله تعالى إلا الطيِّب من الأعمال والنفوس؛ فلا يُقرِّب منه سبحانه مَن كان خبيثَ النَّفسِ يَحمل البغضاءَ والضَّغينةَ للناس، ومَن كان يُخالِق الناس بخُلق بَذِيء، ومَن نبَت جسدُه مِن أكل الحرام.
كذلك لا يَقبَل سبحانه من الأعمال إلا الطيِّب، فلا يقبل عملًا دخَله الشِّرك والرياء، ولا يَقبل صدَقةً من مالٍ أُخِذ بغير وجه حقٍّ،
قال ﷺ:
«ما تصدَّق أحدٌ بصدَقةٍ من طيِّب - ولا يَقبَل اللهُ إلا الطيِّبَ - إلا أخَذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تَمْرةً، فتَرْبو في كَفِّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله»
[2]
- والفَلوُّ ولدُ الحصانِ، والفصيلُ ولدُ الناقةِ- وقال أيضًا: «لا تُقبَل صلاةٌ بغير طُهُور، ولا صَدقةٌ مِن غُلُولٍ»[3]
ويَدخل في الخبيث الذي لا يَقبله اللهُ تعالى أن يَعمَد الرجلُ إلى أسوأ ما في ماله ليُخرِجه عن زكاة ماله،
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}
[البقرة: 267].
2- ثم بيَّن ﷺ أنَّه لا فرق في الأمر بإطابة المطعم والمشرب والمَلْبَس بين الأنبياء والمرسلين وبين أتباعهم من المؤمنين؛ فكما أَمَر اللهُ تعالى جميعَ النَّاس بالأكل من الطيِّبات والعمل الصالح، فكذا أمَر أنبياءَه ورسلَه، فالكلُّ مأمورٌ بطلب الحلال وترْكِ الحرام.
3- ثم أخبر ﷺ أنَّ الأكلَ من الحرام عاملٌ من عوامل عدم استجابة الدعاء مع توافُر أسبابها؛ فقد يَخرج الرجل مسافرًا في أحد أسفار الطاعات؛ كالحج أو الجهاد أو الدعوة أو نحوها، تبدو عليه آثار السَّفر والإجهاد، فشَعْرُه متفرِّقٌ غير مُهَذَّبٍ، وعلى وجهه وثيابِه آثارُ الغُبار، يرفع يديه إلى السماء داعيًا مُلِحًّا على الله أن يَستجيب له، غير أنَّه عاكفٌ على الحرام؛ فأكلُه وشُربه ومَلْبَسُه وغذاؤه من الحرام؛ فكيف يُستجاب لمثل هذا؟!
وقوله: «فأنَّى يُستجاب» استفهامٌ وقَع على وجه التعجُّب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابةِ ومَنْعها بالكُلية؛ إذ يجوز أن يَستَجيب اللهُ تَفضُّلًا وكرمًا منه سبحانه، ويجوز أن يَستَجيب ليكون ذلك إمْهالًا له وقَطعًا لحُجَّته أمام الله. فيُؤخَذ من هذا أن التوسُّعَ في الحرام والتغذِّيَ به من جُملة موانع الإجابة[4]
اتباع:
1- (1) المؤمن كلُّه طيِّبٌ؛ قلبُه ولسانُه وجسدُه، وذلك بما سكَن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذِّكر، وعلى جَوارحه من الأعمال الصالحة، التي هي ثمرة الإيمان، وهي داخلة في اسمه كذلك، فهذه الطيِّباتُ كلُّها يَقبلها الله تعالى[5]، فعلى المسلم أن يَزداد إيمانًا حتى يزداد طيبًا وزكاءً.
2- (1) يُحبُّ اللهُ تعالى أن يَرى اقتداءَ عبده به في بعض صفاته التي لا تختص به؛ كالرحمة واللُّطف والعفو ونحوها؛ يحبُّ أن يرى عبده مُقتديًا به في رحمته ولُطفه وعفوه، وكذلك يُحِب أن يكون عبدُه طيِّبًا بعيدًا عن النقائص والرذائل.
3- (1) على العبدِ أن يحِرص على إطابة مَطْعمه ونفسه وعمله؛ حتى يحبَّه الله ويتقبَّل عمله؛ قال وَهْبُ بنُ الورد رحمه الله: "لو قُمتَ مَقامَ هذه السَّارية [أي في المسجدِ]، لم ينفعْكَ شيءٌ حتَّى تَنظُر ما يَدخُل بطنَك حلال أو حرام"[6]
4- (2) إذا أراد المُعلِّمُ والمُرَبِّي أن يَفعل تلميذُه شيئًا ما، فعليه أن يكون قدوةً له فيه، فكما يأمره بالحرص على الجماعات، فلْيَكن أوَّلَ الحاضرين إلى الجماعة، وإذا حثَّه على التطوع بالنوافل، كان واجبًا أن يَراه تلميذُه كذلك. ولهذا أخبر ﷺ أنَّ المرسلين مأمُورون بطلب الحلال وترك الحرام شأنُهم شأنُ جميع المؤمنين، لا فرْقَ بينهما.
5- (2) في الحديث إعلاءٌ لشأنِ المؤمن؛ حيث وجَّه الله تعالى لهم ما أمَر به المرسَلين، فهمْ أهلٌ لذلك لإيمانهم ورِفعة درجتهم[7]
6- (3) أخبر ﷺ أنَّ السَّفرَ من بواعث إجابة الدعاء؛ إذ هو مَظِنَّةُ حصول انكسار النفْس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاقِّ، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء[8]،
قال ﷺ:
«ثلاثُ دَعَوات مُستَجابات لا شكَّ فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم»
[9].
فإذا كان المسلمُ على سفرٍ فلْيُكثِر من الدعاء؛ فإنه حَرِيٌّ أن يُستجاب له.
7- (3) من بواعث إجابة الدعاءِ رفع الأيدي في الدُّعاء مُتضرِّعًا خاشعًا؛
قال ﷺ:
«إن ربَّكم تبارَك وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ، يَستَحيي من عبده إذا رفَع يدَيْه إليه أن يردَّهما صِفْرًا»
[10]
فعلى المسلم أن يرفع يده في الدُّعاء في المواضع التي رفع فيها النبيُّ ﷺ يده.
8- (3) الإلحاحُ في المسألة من أسباب إجابة الدُّعاء، فلا يَعجَل المسلمُ في دعائه فيدعو مرةً ثم يترك الدعاء، بل يُكثِر من الدعاء ويُلحُّ على ربِّه الكريم،
قال ﷺ:
«يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ؛ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»
متفق عليه [11]
9- (3) أكل الحلال من أعظم أسباب إجابة الدعاء، والأكل من الحرام مانعٌ من ذلك. ولهذا قال وَهْب بن مُنبِّه رحمه الله: "مَن سرَّه أن يَستَجيب الله دعوتَه، فلْيُطِبْ مَطْعمَه"، وقال يوسفُ بن أسباطٍ رحمه الله: "بلغَنا أن دعاءَ العبد يُحبَس عن السماوات بسوء المَطْعَم"[12]
10- (3) إذا كان الرجلُ مسافرًا في طاعة من الطاعات، عاكفًا عليها، ولا يُستجاب له لمجرَّد أنَّ طعامه من الحرام، فكيف بمن هو مُنهمِكٌ في الدنيا أو في مَظالِم العباد، أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير؟![13]
11- حرَص السَّلف رضوان الله عليهم على إطابة مَطْعَمهم، والبُعد عمَّا أورث شكًّا في حِلِّه وحرمته؛
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
"كان لأبي بكر غلامٌ يُخرِج له الخَراج [أي: يعطيه كل يوم ما عيَّنَه وجعَله عليه من كسبه]، وكان أبو بكر يأكُل من خَراجِه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلامُ: أتَدْري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكِهانة، إلا أني خدَعْتُه، فلَقِيَني فأعْطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يدَه، فقاءَ كلَّ شيء في بطنِه"
[14]
12- قال الشاعر:
نحْنُ نَدْعُو الإلهَ في كُلِّ كَربٍ = ثُمَّ نَنساهُ عِندَ كَشْفِ الكُروبِ
كَيْفَ نَرجُو إجابةً لدُعاءٍ = قَدْ سَدَدْنا طَرِيقَها بالذُّنوبِ؟!
المراجع
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 535)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 655).
- رواه البخاريُّ (1410)، ومسلم (1014).
- رواه مسلم (224).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 60)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 260).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 142).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 269).
- رواه أبو داود (1536)، والترمذيُّ (1905)، وابن ماجه (3862).
- رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865).
- رواه البخاري (6340)، ومسلم (2735).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
- رواه البخاري (3842).