عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»
عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»
رحمةُ اللهِ تعالى واسعةً لا مُنتهَى لها؛
قال سبحانه:
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
[الأعراف: 156]،
وجزءٌ من مائةِ جزءٍ من رحمته سبحانه يَتراحمُ به الخَلْقُ فيما بينهم؛ حتى إنَّ الفَرَس لتَرفعُ حافرَها عن ولدها؛ خشيةَ أن تُصيبَه [1].
وقد أرسَل اللهُ تعالى أنبياءَه ورُسُلَه رحمةً بعبادِه؛ فهَداهم إلى الحقِّ، وأنعَم عليهم بالإيمان، ورزَقهم الهِدايةَ والتوفيقَ، وأسْكَنهم دارَ كَرامتِه في الآخرة
قال سبحانه:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
[الأنبياء: 107].
ولهذا قَصَر رحمتَه على عبادِه الرُّحَماء، فمَن لم يَقتدِ به سبحانَه في رحمته بالخلق، فهو المحرومُ مِن رحمته تعالى،
قال ﷺ:
«إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»
[2].
وسببُ ذلك أنَّ المؤمن رحيمٌ بخَلْقِ اللهِ تعالى، يَرِقُّ قلبُه للضعيف، ويَأسى لحُزن المَكْلوم، ويألَمُ للمُبتلى، ويَحِنُّ على الضُّعفاء والمساكين،
قال سبحانه:
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}
[البلد: 17]،
وأخبر ﷺ أنَّه:
«لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»
[3].
وليس المقصودُ بالرحمةِ أن يَرحَم المسلمُ ذَوِيه وأهله دون غيرِهم؛ بل أن تَشمَل رحمتُه جميع الخلْقِ،
قال رَسولُ اللهِ ﷺ:
«وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَا يَضَعُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، كُلُّنَا يَرْحَمُ، قَالَ: «لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ؛ يَرْحَمُ النَّاسَ كَافَّةً»
[4].
وقد كان ﷺ أرحمَ النَّاسِ؛
قال فيه ربُّه سبحانه:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}
[آل عمران: 159]،
وقد امتلأ ﷺ رحمةً وعطفًا، فمِن ذلك قوله ﷺ:
«إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»
[5].
ولم تَقتصِرْ رحمتُه على النَّاس فحسبُ، بل تعدَّت إلى الحيوانات والطيور؛
فعنْ عبد الله بن مَسعود قال:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا».
الرَّحمةُ بالخلق من علامات السعادة؛ فإنَّ الشَّقِيَّ مَن حُرِم الرَّحمة، فالحذرَ الحذرَ من طبع أهل الشَّقاء.
الرَّحمةُ من صِفات الله تعالى التي يُحبُّ أن يَقتدي عبادُه به فيها؛ فيحبُّ أن يرى عبْدَه رحيمًا لطيفًا رؤوفًا بالخلْق، كالمغفرة والصَّفح والعفو والجُود.
النبيُّ ﷺ هو الأسوةُ الحَسَنةُ، وقد كان ﷺ رحيمًا بالكبار والصِّغار، قَبَّلَ ﷺ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما وعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ رضي الله عنه جالِسًا، فقالَ الأَقْرَعُ:
إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ، مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ»
[6].
لا أحد مُستغنٍ عن رحمةِ اللهِ تعالى، فكلُّ واحدٍ منا عنده عيوبٌ وذنوب وخَطايا، ولولا رحمتُه سبحانه لَهَلَك الخلقُ جميعًا. فمَن أراد أن يرحمه اللهُ تعالى، فلْيَرحَم خلْقَه، فهذه بَغْيٌّ مِن بَغايا بني إسرائيل رأت كلبًا يَلهَث يأكُلُ التُّراب من العطَش، فسَقَتْه فغفرَ اللهُ سبحانه لها برَحمتها للحيوانٍ [7].
الجزاءُ من جِنس العمل، فمَن رَحِم رُحِم، ومَن عَذَّب عُذِّب، ومَن يَسَّرَ يَسَّر اللهُ سبحانه له.
عدمُ رحمةِ الخلق سببٌ في دخول النار والعياذُ بالله؛
فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ»، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»، أَوْ «لَمَسَّتْكَ النَّارُ»
[8].
قال الشاعر:
إنْ كُنتَ لا تَرحَمُ المسكينَ إنْ عَدِما = ولا الفقيرَ إذا يَشْكو لكَ العَدما
فكَيْفَ تَرْجُو منَ الرَّحمنِ رَحْمتَه = وإنَّما يَرحَمُ الرحمنُ مَن رَحِما
8. وقال غيره:
إنْ كنتَ ترجو مِن الرَّحمنِ رحمتَه = فارْحَمْ ضِعافَ الورَى يا صاحِ مُحترِمَا
واقْصِدْ بذلك وَجْهَ اللهِ خالِقِنا = سُبحانَه مِن إلهٍ قدْ برى النَّسَما
واطلبْ جَزا ذاك مِن مَولاكَ رَحْمتَه = فإنَّما يَرْحَمُ الرحمنُ مَن رحِمَ
1. رواه البخاريُّ (6000)، ومسلم (2752).
2. رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).
3. رواه أحمد (9700)، وأبو داود (4942)، والترمذيُّ (1923).
4. رواه أبو يعلى (4258).
5. رواه البخاري (707).
6. رواه البخاريُّ (5997)، ومسلم (2318).
7. رواه البخاريُّ (3467)، ومسلم (2245).
8. رواه مسلم (1659).