106 - مَنزِلَة الفِقْهِ في الدِّين

عن معاويةَ، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسمٌ، واللهُ يُعطِي، ولن تزالَ هذه الأُمَّة قائمةً على أمر الله، لا يَضرُّهم مَن خالَفَهم، حتى يأتيَ أمرُ الله».

فقه:

1- من أراد الله له تعالى الخير العظيم في الدنيا والآخرة؛ يسر له حسن الفهم لأحكام الإسلام، وأوامره، ونواهيه، ومقاصده، ويزداد ذلك بما يعلمه من معرفة المسائل بأدلتها، والنظر في الآيات والأحاديث والآثار، وتعلُّم أصول العلوم المساعدة على فهمها، والاجتهاد لمعرفة الصواب.

ومفهومُ الحديث أن مَن لم يتفقَّهْ في الدين فقد حُرِم الخيرَ[1]، وإنما خصَّ عِلمَ الدين بالذِّكر دونَ سائر العلوم؛ لأنه أشرفُها، فهو الموصِّلُ إلى الله، وبه تكون عبادتُه وطاعته واجتنابُ نواهيه، ومِن ثَمَّ مصالح الدنيا والآخرة، والنجاة من مهالكهما، وسائر العلوم هي تبعٌ وخدَمٌ لعلوم الدِّين، وقاصرةٌ دونها[2].

2- ثمَّ بيَّن ﷺ أنَّه خازنٌ يتولى قسمة ما أعطاه الله تعالى، سواءً كان عطاءَ المال والرزق أو عطاءَ العلم. 

فمعنى أنه ﷺ قاسمٌ في العلم أنه يُبلِّغ ما أُمر ببلاغه، دون أن يبخس أحدًا منه، وأن الفَهْم والفقه إنما هو هِبةٌ وعطاء من الله عزَّ وجلَّ على ما أراد بحكمته.

3- ثم بشَّر ﷺ أُمَّته أن الله تعالى سيجعلها مستمرةً في كل زمنٍ على دينها، وناصرة له، محفوظة من هلكتها بأيدي أعدائها، لا ينقص درجتها عند الله تعالى، مهما خالفها العدو بحرب فكرية أو عسكرية. 

ويكفي في تحقق ذلك بقاء طائفة من الأمة على ذلك، وأما بعض الأمة فقد يتخلى عن القيام عن بعض أمر الله تعالى.

4- ويستمر قيام هذه الأمة إلى آخر الزمان، ولعل المراد به ما في حديث أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال:

«إن اللهَ يبعثُ ريحًا من اليمن ألْيَن من الحرير، فلا تدعُ أحدًا في قلبه مثقالُ حبَّة إيمان»[3].

فالساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق.

اتباع: 

1- إذا أردت الخير فاطلبه في مظانه، وذلك فيما أرشدك إليه رسول الله ﷺ ، فاللهُ هو الذي يعلم أين الخيرُ وييسره لمن أراد، وهو الفقه في دين الله تعالى.

2- ليكن له بحث دائمٌ عن طرق الفقه في الدين، فالباحث عنها باحثٌ عن الخير في الدنيا والآخرة.

3- اطلب كمال الفقه عند أصحاب رسول الله ﷺ، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما -وهو دون الخلفاء الراشدين- كان ممن دعا النبيُّ ﷺ له حين وضع له ماءً لوضوئه، فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [4].

4- تقويم الناسِ يكون بمقدار ما ظهر عليهم من الخير، والفقهُ في الدين وظهورُ آثاره هو من أعظم ما يوزن به الناس: عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ، لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، فقال: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ فقال: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» [5].

5- التفقُّه فعل مستمر، وفي كل تفقُّهٍ جديد خيرٌ مزيد، ولم يأَمَر اللهُ نبيَّه ﷺ أن يطلب الزيادة إلا في العلم فقال:

﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾

[طه: 114]

فلا تقف في العلم على حدٍّ معين، أو عُمُر معين.

6- كان النبيُّ ﷺ قائمًا على الناس بمصالحهم في العلم والمال ونحوهما، فكلُّ من ولّاه تعالى إرثًا من إرثِ النبي ﷺ بالمسؤولية على علم أو مال فليعلم أنه مجرد قاسم لما أعطاه الله تعالى، فلا يغترَّ، ولا يقصِّر، وليقسم على ما أراده الله تعالى.

7- لا تخف على دين الله تعالى، ولا تحزن لما يصيب هذه الأمة مما قدره الله تعالى من العوارض في أمر دينها ودنياها، فلا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على دين الله ونصرته، لا يضرها المخالف وهو استعمل يده وفكره في حربها، فكن من تلك الفئة الخاصة عند ربها.

8- قال الشاعر: 

العلمُ مُبلِغُ قومٍ ذِرْوَةَ الشَّرَفِ = وصاحبُ العِلْمِ محفوظٌ من التَّلَفِ

يا صاحبَ العِلْمِ مَهْلًا لا تُدَنِّسُه = بالْمُوبقاتِ فما للعلمِ من خَلَفِ

العلمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لهُ = والجهلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العزِّ والشَّرَفِ

المراجع

  1. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 163- 164).
  2. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ لابن بطَّال" (1/ 154).
  3. مسلم (117).
  4. البخاريُّ (143)، ومسلم (2477).
  5. مسلم (817)، وعُسفان منطقة شمال مكة بقرابة 85 كلم، قرب شمال شرق جدة، و"مولى" أي كان أو كان آباؤه عبيداً فأعتقوا، وهو نقص عند العرب.


مشاريع الأحاديث الكلية