عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»

فقه

يخبر العباس رضي الله عنه بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:

1. أن للإيمان طعمًا ولذَّةً وحلاوةً، وقد استخدم النبيُّ ﷺ لفظة: "ذاق" مع الإيمان مع أنه ليس بشيء ماديٌّ لإيصال المعنى؛ فإذا كان الإنسان يتذوق الأكل والشرب ويحسُّ لهما طعمًا لذيذًا، فكذلك يحسُّ للإيمان أثرًا في نفسِه يعرفُه من جرَّبه [1]

ومن معنى هذه اللذة انشراح الصدر وراحة البال والأنس بالله، وبذلك تهون المعاصي في عين الإنسان فيجتنبها، وتسهل عليه الفرائض فيتحمل مشاقَّها، ولا يقنط من رحمة ربه ويرضى بقضائه، وهذه اللذة لا تنال إلا بشروط.

2. الشرط الأول الرضا بالله ربًّا، والرضا: الاقتناع بالشيء والاكتفاء به عن غيره، ومن الرضا بالله تعالى تصديقه في أخباره، والتسليم له في أحكامه الشرعية، والصبر وتطمين النفس في أحكامه القدرية .

وليس المراد من الرضا الإقرار بوجود الله تعالى أو ربوبيته؛ فهذا شرطٌ في الإسلام أصلًا ويقول به أكثر من الكفار، وإنما المقصود هو الرضا الخاص، وهو أن يرضى به مُدَبِّرًا خالقًا مُشرعًا، فيرضى حكمه ويرتضي تشريعه، فيعبده ويحبه ويرضاه ويتوكل عليه ويخلص الإنابة إليه، ولا يخاف غيره خوف السِّرِّ، ويرضى بقضائه وقدره، فلا يصدر عنه ما يُغضبه سبحانه عليه[2].

3.الشرط الثاني: الرضا بالإسلام دينًا، ومعنى ذلك أن يرضى به شرعًا؛ فيتبع أمره ويجتنب نهيه، ويختاره على سائر الأديان، ويجعله ركنه الركين الذي يأوي إليه، فيوالي ويعادي عليه، ويُضَحِّي من أجله بكل غالٍ ونفيس.

4.والشرط الثالث: الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، ويتضمن ذلك الإقرار والتصديق بأنه رسولٌ من الله، والرضا بما جاء به من عند الله من الأمر والنهي، وقبول ذلك الشرع والتصديق له والانقياد والعمل والخضوع. وهو رضا المحبِّين المتَّبِعين، المهتدين بهَدْيِه، المقتدِين به، الممتثلين لطاعته، الباذلين النفسَ والنفيس في الدفاع عن سنَّته، المتشوِّقين للقائه.

ويتبين بهذا أنه لا يأتي أحدٌ بمفهوم الإيمان إلا إذا اجتمعت لديه أصول الدين الثلاثة؛ الإيمان بالله ونبيه ودينه.

اتباع

  1. آمن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بابن أخيه، مع أنه أكبر سناً منه، وقد تحمَّل في سبيل ذلك عداوة قومه وأهله، وهي صفة تدفع العاقل أن يتقبل الحقَّ ممَّن كان؛ صغيرًا أو كبيرًا، قويًّا أو ضعيفًا، غنيًّا أو فقيرًا.

  2. ثبت العباسُ رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين فرَّ أكثر أصحابه من حوله يوم حنين. وهذا يدل على صدق إسلامه وذوقه لطعم الإيمان رغم قرب إسلامه، فكيف بمن وُلد على الإسلام أو له فيه أعوامٌ عديدة ولم يزل يعبد الله على حرفٍ؟! لا بد أن يتحقق فينا الإيمان، فنكون كما

قال تعالى:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾

[الأحزاب: 23].

3. للإيمان لذة قد لا يدركها من عاش في الإيمان زمنًا لعدم تحقيقه لحقائقها، أو عدم استشعاره المقارنة بسواها، فكلما رأيت نفسك تؤثر لذائذ الدنيا على لذائذ الإيمان فذكرها وحثها على طلب لذة الإيمان. 

4. تطلَّب الرضا بالله ربًا بتذكرك أنه الرحمن الرحيم، العزيز الحكيم، وبكل شيءٍ عليم، وغير ذلك من صفاته التي تطمئن فيها النفس إلى تصديقه في خبره، وتسليمه لأمره ونهيه، والطمأنينة لقدره، وبتذكر نعمه الظاهرة والباطنة، وأن ما لم نعلم من نعمه أعظم مما علمناه، وما لم نعلم من خلقه وحكمته في تدبيره أعظم مما علمناه. 

5. تطلَّب الرضا بالإسلام دينًا بتذكرك أنه شرعٌ الله تعالى، الذي لا أعلمَ منه، ولا أحكمَ منه، ولا أرحمَ منه، وأن العاقل يعلم من الكمال الذي في بعض تفاصيل هذا الدين ما يقنعه بكمال ما لم يعلم.

6.تطلَّب الرضا بالنبيِّ ﷺ رسولًا، بتذكَّر كماله في كل صفة بشرية، ومنها كمال علمه، وعقله، وتأييد الله تعالى له وعصمته له، وتذكر عظيم بذله لأمته، وشفقته عليهم، وأنه لو قارن من قارن من الخلق به لظهر قصور جميع الخلق أمامه ﷺ .

7. هذه الدنيا على ما فيها من بلاء ومشقة وتعب وإيذاء، تصير جنةً للمؤمن بالرضا والتسليم والإيمان، ولهذا قيل: "الرضا جنة الدنيا، ومستراحُ العارفين". فهلَّا غرسنا جنتنا في الدنيا بأيدي الرضا! فإذا أصابت المسلم مصيبةٌ أو فاته بابٌ من أبواب الرزق والخير سلَّم أمره لله، وآمن بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب اللهُ لنا، فحينئذ تدخل السكينةُ قلبه، ويرتاح من اليأس والقنوط والتحسر على ما فات.

8. كان أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ عبدِ العزيز يدعو بهذا الدعاء: "اللهم رضِّني بقضائك، وبارك لي في قَدَرك؛ حتى لا أحبَّ تعجيل ما أخَّرتَ، ولا تأخير ما عجَّلتَ"[3]

9.سُئل يحيى بن معاذ: متى يَبلُغ العبدُ مَقام الرضا؟ فقال: إذا أقام نَفْسَه على أربعة أصول في ما يُعامِل به رَبَّه، يقول: إن أعطَيْتَني قَبِلْتُ، وإن مَنعْتَني رَضِيتُ، وإن تركتني عبدتُ، وإن دعوتَني أجبتُ[4]. فعلينا أن نفتش في أنفسنا؛ هل توافرت فينا تلك الصفات؟ وبقدر ما تتوافر فينا صفة فقد بلغنا من الرضا شيئًا.

10. قال الشاعر: 

رِضَاكَ خيرٌ من الدنيا وما فيها

يا مالكَ النَّفْسِ قاصِيها ودانِيها

فليس للروح آمالٌ تُحقِّقها

سوى رضاك فذا أقصى أمانيها

فنظرةٌ منك يا سُؤلي ويا أَمَلي

خيرٌ إليَّ من الدنيا وما فيها

المراجع

  1. نظر: شرح المشكاة للطِّيبيِّ الكاشف عن حقائق السنن (2/ 446).
  2. ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبيِّ (1/ 210)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 393).
  3. نظر: "أدب المرتعى في علم الدُّعا" لابن عبد الهادي (ص: 164).
  4. "لوامع الأنوار البهية" للسفارينيِّ (1/ 359).

مشاريع الأحاديث الكلية