عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» متفق عليه

فقه

أرسل النبيُّ ﷺ معاذًا إلى اليمن داعيًا وحاكمًا، قرابة سنة 10 هـ:

1-وأخبره أنه سيأتي جماعة ً من اليهود أو النصارى ممن كان لهم كتاب التوراة أو الإنجيل، ليستعدَّ لهم لأنهم أهلُ عِلم في الجُملة[1].

2- ثم أوصاه أن يبدأ بدعوتهم إلى الشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولنبيِّه ﷺ بالرسالة؛ لأنهما أصلُ الدين الذي لا يصحُّ شيء من فروعه إلا بهما، فهم مطالَبون أوَّلًا بالجمع بينهما [2]، فاليهود والنصارى لم يحققوا ما ينجِّيهم من شهادة التوحيد والإقرار بالرسالة، فهم أشركوا مع الله بعزير أو بعيسى، وكذبوا بدعوة الرسول ﷺ [3].


   3- ثم أخبره ﷺ بأنهم إن انقادوا بما أمرتَهم بأن تلفَّظوا بالشهادتين، وأقرُّوا بتوحيد الله ورسالة النبيِّ ﷺ، فأَعلِمْهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كلِّ يوم وليلة، وعرِّفهم كيفيَّتها.

وقد دلَّ قوله ﷺ: «فإن هم أطاعوا لك بذلك» على الانقياد والفعل لا مجرد الإقرار بالوجوب والفرضية، فلا بد أن يُقِرُّوا ويؤدوا الصلاة في أوقاتها[4].

   4-ثم تدرَّج بعد الإقرار بوجوب الصلاة وأدائها إلى الزكاة، فأمره أن يُعْلِمَهم أن الله فَرَضَ على أغنيائهم زكاةً، وهو قدرٌ يسير معلوم يُجمَع من أموالهم، ويفرَّق على فقرائهم.

5- ثم أمر ﷺ معاذًا إذا أطاعه القوم وبذلوا له المال ليأخذ منه قدرَ الزكاة بأن يتوقى إخراج نفائس الأموال التي يُحبها أصحابها وتتعلق نفوسهم بها؛ كأن تكون له شاةٌ يحبها ويهتم بها لغزارة لبنها أو غير ذلك، فلا يجوز أخذها في الصدقة؛ رفقًا بأصحاب الأموال، فلم يجعل اللهُ مواساة الفقراء على حساب الإجحاف بالأغنياء، فلو طابت نفسُ ربِّ المال بشيء من كرائم أمواله، جاز أخذها منه.

وقد قال عمر بن الخطَّاب لرجلٍ أرسله لجمع الصدقات: «ولا تأخُذِ الأكولةَ، ولا الرُّبَّى – التي تُربى في البيت ولا تُترك تَطلب رزقها في الأرض لنفاستها عند أصحابها - ، ولا الماخِضَ – الحامل على وشك الولادة - ، ولا فحْلَ الغَنَمِ»[5].

6-ثم حذَّره ﷺ من عاقبة الظلم ، في أخذ الصدقات أو في سائر أمور الولاية والحكم، ومراده بتجنُّب دعوة المظلوم: تَجَنُّب سببه؛ لأن الظلم باعثٌ إلى الدعاء على الظالم.
وقد دلَّ قوله ﷺ: «فإن هم أطاعوا لك بذلك» على الانقياد والفعل لا مجرد الإقرار بالوجوب والفرضية، فلا بد أن يُقِرُّوا ويؤدوا الصلاة في أوقاتها.

ودعوة المظلوم مسموعةٌ مستجابة لا تُرَدُّ، تُفتح لها أبواب السموات السبع، وليس بينها وبين إجابتها حجابٌ[6]، وفي الحديث:

«ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»

[7].

اتِّباع:

1-بعث النبيُّ ﷺ معاذَ بن جبل إلى اليمن وهو في العشرينات من عمره، فتحمَّل المسؤولية والغربة عن أهلِه وديارِه في سبيل الله تعالى وطاعة لرسوله ﷺ، فكم نتحمل نحن لأجل ذلك؟


2-كان رسولُ الله ﷺ يحمِّل أصحابه المسؤوليات الكبار وهو في أوائل شبابهم، وهم لم يكونوا يتهربون منها، فعلى الأب والمعلم والمربي ونحوهم أن يعوّدوا من تحتهم على تحت أيديهم على المسؤولية، وألا يستصغروهم، وعلى أولئك أن يكونوا أهلًا لذلك.

3-خذ ما صحَّ من حديث رسول الله ﷺ ولو كان ناقله واحداً، فقد أرسل النبي ﷺ معاذًا بالأمور العظام من العقائد والفقه، ومن السلطة حتى في أموال الناس، وكل ذلك دالٌّ على اعتبار خبر الآحاد.

4-تعرَّف على طبيعة من تقابلهم، فقد أخبر النبيُّ ﷺ معاذًا بأنه سيأتي أهل الكتاب، ليراعي ما يجب في دعوتهم[8]، من الأولويات الأدلة والأساليب وغيرها، ولوكنهم أهل علم وجدل، فاحرص على جمع المعلومات المؤثرة قبل أي مشروع تقوم به.


5-اهتم النبيُّ ﷺ بإرشاد عُمَّاله ووعظهم، فهو لم يرسل معاذًا حتى بين له الواقع، ورتّب له الأعمال، وأمره بالعدل، وحذَّره من الظلم، مع كمال معاذ رضي الله عنه في دينه وعلمِه، فلا تقصِّر في وصية من معك، وعلى الموصَّى ألا يتكبر عن ذلك.


6-اهتم النبيُّ ﷺ بالأولويات، وتدرج بها، فلم يأمر معاذًا بالبدء بذنوب لا يخلو منها الناس في سلوكياتهم، مع أهمية معالجتها، بل بدأ بأصل الدين ومفتاح الإيمان وهو الشهادتان، ثم الصلاة، ثم الزكاة، وهكذا علينا في تربيتنا ودعوتنا وتعليمنا، بل في عامة مشاريعنا: أن نبدأ بالأهمِّ فالمهم، قالت عائشة رضي الله عنها: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناسُ إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا»[9].

7-الإيمان والصلاة والزكاة: هي أصول الإيمان العظام التي تكرر اقترانها في القرآن والسنة كثيرًا، وفيها من الأجر والتأثير الإيماني ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فحتى لو كنتَ ومن معك قائمًا بأصلها: فاحرص على كمالها.

8-حذَّر النبي ﷺ معاذًا أن يأخذ الصدقة مما تعلقت به النفوس من كرائم المال، بل أمره بالعدل، وفي ذلك من العدل ومراعاة الشعور وفهم الناس ما على كل داعية وأب ومربٍّ ومسؤول أن يعمل بمثله، فيراعيه في أمره ونهيه .

9-احرص أن تنام وليس هناك مظلوم لم ينم حزنًا مما قلته أو فعلته، سواء كان زوجًا أو ابنًا أو طالبًا أو عاملًا أو بائعًا أو قائد مركبة في الطريق، ولا تستسهل الظلم مع من تراه دونك، ولو كان من أهل المعاصي، وقد خوَّف النبيُّ ﷺ معاذًا من الظلم غاية التخويف، حتى وهو يرسله إلى كفَّار من أهل الكتاب، وقد يؤمن بعضهم وقد لا يؤمن.

قال الشاعر:

وتنبّه إلى أن الظلم كما يكون في الدماء والأموال، فقد يكون بالكلمة التي لا تلقي لها بالاً؛ فتجرح قلبًا، أو تهدم بيتًا، أو تفسد صداقة، أو تعيق نجاحًا..

لا تَظْلِمَنَّ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرًا = فالظُّلْمُ آخِرُه يَأْتِيكَ بالنَّدَمِ

نامَتْ عُيُونُكَ والمظلومُ مُنْتَبِهٌ = يَدْعو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لم تَنَمِ

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (3/ 358).
  2. "كشف اللثام شرح عمدة الأحكام" للسفارينيِّ (3/ 400).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض" (1/ 239).
  4. انظر: " العدة في شرح العمدة لابن العطار" (2/ 798).
  5. مالك (2/372)، والطبراني في المعجم الكبير (6395). وصحَّحه النووي في "المجموع" (5/427)، وجوَّد إسناده ابن كثير في "إرشاد الفقيه" (1/248).
  6. "فتح المنعم شرح صحيح مسلم لموسى شاهين لاشين" (1/ 70).
  7. الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، عن أبي هريرة، وصححه ابن الملقن في "البدر المنير" (5/ 152)
  8. "فتح الباري" لابن حجر (3/ 358).
  9. البخاريُّ (4993).

مشاريع الأحاديث الكلية