1- في الحديث: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية، وأن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية، وأن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ، والترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر، والترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط[1]
2- قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[2]
3- في الحديث بيان أنه لا يتشدد أحد في هذا الدين ويَترُك الرِّفق، إلا عجز وانقطع؛ فيُغلَب.
4- في الحديث إشارة إلى أنه لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً[3]
5- رُوِيَ عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛ ﴿وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ﴾»
[الحديد: 27] [4]
6- في الحديث الأمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً[5]
7- في الحديث تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[6]
8- في الحديث تنبيهٌ على اغتنام أوقات النشاط في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ؛ «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ».
9- في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[7]
10- في الحديث تبشير بنفع القليل من العبادة، وحُسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ[8]
11- استعار ﷺ الأوقاتَ الثلاثةَ في قوله: «واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلجة» لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة[9]
12- في الحديث أنه ينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة؛ كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل[10]
13- قد يُستفاد من الحديث الإشارةُ إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنَّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر[11]
14- قوله ﷺ: «الدين يسر»: الدين والإسلامُ والإيمان شيءٌ واحد - إذا ذُكر كلُّ واحد منها بمفرَده في النصِّ - واقع على الأعمال، فقد سمَّى ﷺ الأعمال في هذا الحديث دينًا[12]
15- في الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه[13]
16- في الحديث دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّين أحد إلّا غلبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير[14]
17- معنى الحديث: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب[15]
18- لو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي[16]
19- لو تفكَّرتَ في الزكاة، لوجدتَ أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه، وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك؛ بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره[17]
20- لو تفكَّرتَ في الصوم، لوجدتَ أنه شهرٌ واحد في السنة، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا[18]
21- لو تفكَّرتَ في الحجِّ، لوجدتَه ميسَّرًا لمن استطاع إليه سبيلاً، ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ[19]
المراجع
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
- رواه مسلم (1337).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 224).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 224).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
1- في الحديث: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية، وأن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية، وأن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ، والترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر، والترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط[1]
2- قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[2]
3- في الحديث بيان أنه لا يتشدد أحد في هذا الدين ويَترُك الرِّفق، إلا عجز وانقطع؛ فيُغلَب.
4- في الحديث إشارة إلى أنه لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً[3]
5- رُوِيَ عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛ ﴿وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ﴾»
[الحديد: 27] [4]
6- في الحديث الأمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً[5]
7- في الحديث تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[6]
8- في الحديث تنبيهٌ على اغتنام أوقات النشاط في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ؛ «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ».
9- في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[7]
10- في الحديث تبشير بنفع القليل من العبادة، وحُسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ[8]
11- استعار ﷺ الأوقاتَ الثلاثةَ في قوله: «واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلجة» لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة[9]
12- في الحديث أنه ينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة؛ كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل[10]
13- قد يُستفاد من الحديث الإشارةُ إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنَّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر[11]
14- قوله ﷺ: «الدين يسر»: الدين والإسلامُ والإيمان شيءٌ واحد - إذا ذُكر كلُّ واحد منها بمفرَده في النصِّ - واقع على الأعمال، فقد سمَّى ﷺ الأعمال في هذا الحديث دينًا[12]
15- في الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه[13]
16- في الحديث دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّين أحد إلّا غلبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير[14]
17- معنى الحديث: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب[15]
18- لو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي[16]
19- لو تفكَّرتَ في الزكاة، لوجدتَ أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه، وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك؛ بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره[17]
20- لو تفكَّرتَ في الصوم، لوجدتَ أنه شهرٌ واحد في السنة، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا[18]
21- لو تفكَّرتَ في الحجِّ، لوجدتَه ميسَّرًا لمن استطاع إليه سبيلاً، ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ[19]
المراجع
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
- رواه مسلم (1337).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 224).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 224).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
1- في الحديث: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية، وأن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية، وأن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ، والترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر، والترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط[1]
2- قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[2]
3- في الحديث بيان أنه لا يتشدد أحد في هذا الدين ويَترُك الرِّفق، إلا عجز وانقطع؛ فيُغلَب.
4- في الحديث إشارة إلى أنه لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً[3]
5- رُوِيَ عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛ ﴿وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ﴾»
[الحديد: 27] [4]
6- في الحديث الأمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً[5]
7- في الحديث تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[6]
8- في الحديث تنبيهٌ على اغتنام أوقات النشاط في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ؛ «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ».
9- في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[7]
10- في الحديث تبشير بنفع القليل من العبادة، وحُسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ[8]
11- استعار ﷺ الأوقاتَ الثلاثةَ في قوله: «واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلجة» لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة[9]
12- في الحديث أنه ينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة؛ كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل[10]
13- قد يُستفاد من الحديث الإشارةُ إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنَّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر[11]
14- قوله ﷺ: «الدين يسر»: الدين والإسلامُ والإيمان شيءٌ واحد - إذا ذُكر كلُّ واحد منها بمفرَده في النصِّ - واقع على الأعمال، فقد سمَّى ﷺ الأعمال في هذا الحديث دينًا[12]
15- في الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه[13]
16- في الحديث دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّين أحد إلّا غلبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير[14]
17- معنى الحديث: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب[15]
18- لو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي[16]
19- لو تفكَّرتَ في الزكاة، لوجدتَ أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه، وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك؛ بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره[17]
20- لو تفكَّرتَ في الصوم، لوجدتَ أنه شهرٌ واحد في السنة، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا[18]
21- لو تفكَّرتَ في الحجِّ، لوجدتَه ميسَّرًا لمن استطاع إليه سبيلاً، ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ[19]
المراجع
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
- رواه مسلم (1337).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 224).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 224).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
حديث جبريلَ في مراتب الدين، علومُ الشريعة كلُّها راجعة إليه، ومتشعِّبة منه؛ فهو حديث عظيم القدر، كبير الشأن، جامعٌ لأبواب الدِّين كلِّها، بأيسر أسلوب، وأوضح عبارة، حيث إنه يتضمَّن أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وأركان الإخلاص لله وحده لا شريك له، والساعة وأشراطها.
تناول هذا الحديث الشريف مراتب الدين الثلاث: الإسلامَ والإيمان والإحسان، وإن بينها ارتباطًا وثيقًا؛ إذ إن دائرةَ الإسلام أوسعُ هذه الدوائر، تليها دائرة الإيمان، فالإحسان، ومن ثمَّ فإن كلَّ محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم.
الإيمان أخصُّ وأضيق دائرةً من الإسلام، وقد ردَّ الله تعالى في كتابه الكريم على الأعراب الذين ادَّعَوْا لأنفسهم مقام الإيمان، وهو لم يتمكَّن في قلوبهم بعدُ
قال تعالى:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[الحجرات: 14].
جبريلُ – عليه السلام - أحد الملائكة العِظام؛ بل هو أفضل الملائكة؛ لشَرَف عمله؛ لأنه يقوم بحمل الوحيِ من الله تعالى إلى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وقد رآه النبيُّ ﷺ على صورته التي خُلِق عليها مرَّتين.
رأى النبيُّ ﷺ جبريل على هيئته الحقيقية مرتين؛ الأولى: وهو في غار حِراء، رآه وله ستُّمِائةِ جَناح، قد سدَّ الأُفُق أمام الرسول ﷺ فلا يرى السماءَ
قال الله تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ(6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ(8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
[النجم: ٤ – ٩]
دنا جبريلُ من فوقُ فتدلَّى؛ أي: قَرُب إلى محمدٍ ﷺ فأوحى إلى عبده - الرسول ﷺ - ما أوحاه من وحيِ الله الذي حمَّله إيَّاه. والثانية: عند سِدْرة المنتهى
قال تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ
[النجم: ١٣ – ١٤].
جعل الله تعالى للملائكة قُدرةً على أن يتشكَّلوا بغير أشكالهم الأصلية، فها هو جبريل قد جاء في صورة ذلك الرجل.
في الحديث تفسير الإسلام بأعمال الجوارح الظّاهرة من القول والعمل؛ فشهادةُ أن لا إله إلَّا اللَّه، وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه، عمل اللِّسان، والصَّلاة والصَّوم عمل بدنيٌّ، وإيتاء الزَّكاة عمل ماليٌّ، والحجُّ مركَّب من العمل البدنيِّ والماليِّ.
ممّا يدلُّ على أنَّ جميع الأعمال الظَّاهرة تدخل في مسمَّى الإسلام: قولُ النّبيِّ ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[1]، وفي الصّحيحين عن عبد اللّه بن عمرو أنَّ رجلًا سأل النّبيَّ ﷺ: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أن تُطعِم الطَّعامَ، وتَقرأَ السَّلام على من عرفتَ ومن لم تعرف»، وكذلك ترك المحرَّمات داخلٌ في مسمَّى الإسلام أيضًا[2].
الإحْسَان في الحديث هو إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه، وهو الجِدُّ في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها. وهناك نوع آخر من الإحسان، وهو الإحسان في حقوق الخَلْق، وهو بذل جميع المنافع مِن أيِّ نوعٍ كان، لأيِّ مخلوق يكون[3].
عن عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ»
[4].
أماراتُ أو علاماتُ الساعة الصُّغْرى كَثيرةٌ، وقد ظهَرَ أغْلَبُها، وفي هذا الحديث يَذكر النبيُّ ﷺ علامتينِ منها.
علاماتُ الساعة الكُبرى، أخبَر بها ﷺ في أكثرَ من موضعٍ، ولم تَظهَر بعدُ، وظهورُها يكون قُبَيْلَ قيام الساعة؛ ومنها: طلوع الشمس من مغربها، وظُهورُ الـمَهْديِّ الـمُنتظَرِ، وخُروجُ الدَّجَّال، ونُزولُ عيسى بنِ مَريَمَ، وغير ذلك.
مضمونُ ما ذُكِر من أشراط السَّاعة في هذا الحديث يرجع إلى أنّ الأمور توسَّد إلى غير أهلها؛ كما قال النّبيُّ ﷺ: لمن سأله عن السّاعة:
«إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة»
[5].
في الحديث إشارة إلى أنَّه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشّاء - وهم أهل الجهل والجفاء - رؤوسَ النّاس، وأصحابَ الثّروة والأموال، حتّى يتطاولوا في البُنيان، فإنّه يَفسَد بذلك نظام الدّين والدّنيا[6].
في ردود النبيِّ ﷺ على من يسأل عن موعد الساعة توجيهٌ إلى أنه ليس مطلوبًا من المؤمن أن يَعرِف موعد يوم القيامة؛ بل المطلوب منه أن يتجهَّز لها بالطاعات والقُربات.
في أحاديث النبيِّ ﷺ توجيهٌ إلى أنْ يأخذَ المسلمُ حِذْرَه، ويُحصِّن نفْسه، ومَن هم تحتَ ولايته من شرِّ هذه الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
قوله ﷺ في تفسير الإحسان: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه...» إلخ، يُشير إلى أنّ العبد يعبد اللّه على هذه الصِّفة، وهي استحضار قُربه، وأنّه بين يديه كأنّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهَيبة والتَّعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة: «أن تخشى اللّه كأنّك تراه»، ويوجب أيضًا النُّصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها[7].
المراجع
- رواه البخاريُّ (10).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 98- 101).
- "بهجة قلوب الأبرار" للسعديِّ (204- 206).
- رواه البخاريُّ (4697).
- رواه البخاريُّ (59).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 139).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 126).
1. في الحديث دليلٌ على أن خطأ المجتهد في الاجتهاد مَعفوٌّ عنه[1].
2. في الحديث أن الصواب في الاجتهاد واحدٌ، وصاحبه له أجرانِ، والمخطئ معذورٌ، وله أجرٌ واحدٌ[2].
3. في الحديث إشارة إلى فضل العلماء ورفعة منزلتهم عند الله عزَّ وجلَّ.
4. الاجتهادُ هو بَذلُ الوُسْع واستفراغُ الجُهد في طلب الأمر، والوصول إليه. والمراد به: ردُّ القضية التي تُعرَض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب والسُّنَّة[3].
5. المقصود بالمجتهد في الحديث هو المجتهد المتَّبِعُ للحُجَج الشرعية من الكتاب والسُّنَّة والقياس، لا من يبطلون الشرع بدعوى إعمال العقل، ويتحايلون على إسقاط الفرائض.
6. في الحديث ترغيب الحاكم في إعمال العقل في الحقِّ وبالحقِّ، وتبشيره بالأجر من الله على ذلك، حتى وإن لم يُوفَّق للصواب.
7. في الحديث لفظ «الحاكم» يشمَل القاضيَ والمفتيَ، فالإنسان إذا اجتهد في طلب الحقِّ، وتبيَّن له شيءٌ من الحقِّ، ثم أفتى به، أو حكم به، فهو على خيرٍ، إن أصاب فله أجرانِ، وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ، ولا يُضيع الله تبارك وتعالى أجرَ مَن أحسن عملًا[4].
8. الفضلُ الواردُ في الحديث مخصوصٌ بالحاكم المؤهَّل لهذا الحكم، بأن يكون أهلاً للاجتهاد بدايةً، وتتوفَّر فيه الشروطُ الْمُعتَبَرة فيمَن يتصدَّرُ لهذا المقام، من تحصيل العلوم والمعارف اللازمة، وتوفُّر القُدرات العقلية التي تؤهِّله للاجتهاد، أما إذا اجترأ على الحُكم، وهو ليس أهلًا له، فهو عاصٍ غيرُ مأجور، حتى وإنْ أصاب.
9. الأجرُ في الحديث ليس على الخطأ؛ وإنما هو أجرُ الاجتهاد، وتتَبُّع الحقِّ، وبَذْل الوُسْع، والخطأ معفوٌّ عنه بعد ذلك[5].
10. الاجتهادُ لا يكون إلا فيما هو مستسَاغٌ، ويمكِن الاجتهادُ فيه من الفروع ونحوها، أما المسلَّمات والأصول التي هي أركانُ الشريعة، وأمَّهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه، ولا مدخلَ فيها للتأويل، والأمورُ المعلومة من الدِّين بالضرورات، فلا مجالَ للاجتهاد فيها، ومَن أخطأ فيها غيرُ معذور في الخطأ، وحكمه في ذلك مردود[6].
11. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي السُّنَنِ:
«الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِه، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِخِلَافِهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ»[7].
12. اختلف العلماء في هل كلُّ مجتهد مصيبٌ أو المصيب واحد، وهو من وافَق الحكم الّذي عند اللّه تعالى، والآخر مخطئ لا إثم عليه لعُذره؟ والأصحُّ عند الشّافعيِّ وأصحابه أنّ المصيب واحد؛ لأنه سُمِّيَ مُخطئًا، ولو كان مصيبًا لم يُسَمَّ مخطئًا؛ لأنه محمول على من أخطأ النصَّ، أو اجتهد فيما لا يَسُوغ فيه[8].
13. الْمُصِيب في أصول التّوحيد واحدٌ بإجماع من يُعْتَدُّ به، ولم يخالف في ذلك إلَّا عبدُاللّه بنُ الحسن العَبْتَريُّ، وداودُ الظّاهريُّ، صوَّبا المجتهِدين في الأصول والفروع [9].
المراجع
- انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للأمير الصنعانيِّ (2/ 25).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 160).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" ابن الأثير (1/ 319- 320).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 677).
- انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للأمير الصنعانيِّ (2/ 25).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2594).
- رواه أبو داود (3573)، والترمذيُّ (1322)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 818)، من حديث بريدة.
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2594).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 14).
1. هذا الحديث فيه بعض القواعد العظيمة التي انْبنى عليها الدين، من وجوب التقوى، والاتِّباع، وتحريم الابتداع، وطاعة أُولي الأمر في المعروف، والصبر على أذاهم، واتِّباع سُنَّة الصحابة والخلفاء الراشدين.
2. قوله: (موعظةً بليغةً)؛ أي: تامّةً في الإنذار، وجيزةَ اللّفظ، كثيرةَ المعنى، أو بالَغ فيها بالإنذار والتّخويف
كقوله تعالى:
{وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}[1].
[النساء: 63]
3. لم يكن ﷺ يُطيل الموعظةَ، ولا يَعِظهم كلَّ يوم؛ بل كان يختار الأوقات المناسبة للموعظة؛ لئلَّا يَمَلُّوا ويسأموا، أو تعتادَ قلوبهم ذلك، وكان عبد الله بن مسعود يُذَكِّرُ الناس في كلِّ خميسٍ، فقال له رجُل: يا أبا عبد الرحمن، لوددِتُ أنَّك ذكَّرتنا كلَّ يوم، قال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة، كما كان النبيُّ ﷺ يتخوَّلنا بها؛ مخافةَ السآمة علينا[2].
4. في الحديث استحباب طلَب الوصية من العالِم، وأنها ليست من السؤال المذموم[3].
5. في الحديث إخبار النبيِّ ﷺ عما سيكون من الاختلاف، وفي هذا دليلٌ على صدق نبوَّته ﷺ[4].
6. في الحديث الأمر بالاعتصام بسُنَّة النبيِّ ﷺ عند الاختلاف، ثم بسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعده
ويشهد له قول الله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِ} [5].
[النساء:59]
7. «وَجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَت منها العيونُ» هذان الوصفان قد مدح الله بهما عباده المؤمنين في غير موضِع من القرآن
فقال:
{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}
[المائدة: 83]
وقال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
[الأنفال: 2]
وقال تعالى:
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ 34 الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
[الحج: 34، 35]
وقال تعالى:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
[الحديد: 16]
8. قوله: «عبدًا حبشيًّا»: ساقه ﷺ في مَضرِب المثَل – مبالغةً - عن الشيء الذي لا يكاد يوجد؛ كما روى جابر بن عبد الله ﭭ أن رسول الله ﷺ قال:
«مَن بنى مسجدًا لله كمِفْحَصِ قَطَاةٍ، أو أصغرَ، بنى الله له بيتًا في الجنة»[6]،
ومِفْحَص القَطاة: موضع الطائر الذي يَبيض فيه، وقدر مِفْحَص قَطاة لا يكون مسجدًا لشخصٍ آدميٍّ[7]؛ فإنه ﷺ قال في حديث معاوية:
«إن هذا الأمر في قريش لا يُعاديهم أحدٌ إلا كبَّه الله على وجهه؛ ما أقاموا الدين»[8].
9. قيل في معنى «عضُّوا عليها بالنواجذ»: المحافظة على هذه الوصية بالصبر على مقاساة الشدائد، كمن أصابه ألمٌ فأراد أن يصبر عليه، ولا يستغيث منه بأحد، ولا يُريد أن يُظهر ذلك عن نفْسه، فجعل يشتدُّ بأسنانه بعضها على بعض[9].
10. قوله: «الأمور المحدَثات»: الأمور الْمُحدَثة في الدين على قسمين: إما أن يكون محدَثٌ ليس له أصلٌ في الدين، فهذا باطلٌ مذمومٌ، وإما أن يكون له أصلٌ قيس عليه، واشتُقَّ منه، فهذا ليس بمذموم؛ إذ الحداثة في حدِّ ذاتها ليست محلًّا للمدح أو الذم، وإلا فقد قال الله تعالى:
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [10].
[الأنبياء: 2]
11. المراد بالبدعة: ما أُحْدِث في الدين مما لا أصلَ له في الشريعة يدُلُّ عليه، فأما ما كان له أصلٌ من الشرع يدُلُّ عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعةً لغةً، وما كان محدَثًا في أمور الدنيا فلا عَلاقة له بالبدعة هنا[11].
12. قوله: «كل بدعة ضلالة» هذا من جوامع كَلِمه ﷺ، فإنَّه قعَّد قاعدةً في هذا الدين بعبارة موجَزة يَسيرة
وهي كقوله ﷺ:
«مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ»[12]
فكل مَن أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة[13].
13. استحسان السَّلَف لبعض الأفعال على أنها بدعة؛ كقول عمرَ بنِ الخطَّاب عن جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد: «نِعمَ البدعةُ هذه»[14]، إنما ذلك في البِدَع اللغوية، لا الشرعية؛ فإن فعله له أصلٌ في الشرع؛ فإن النبيَّ ﷺ صلَّى بالناس، ثم خشيَ أن تُفرض عليهم، فترك ذلك، فلما تولَّى عمرُ جمعَهم على أُبيِّ بن كَعب وقال قولته تلك، فلم تكن بدعةً شرعية[15].
14. قوله: «أوصيكم بتقوى اللّه»؛ أي: بمخافته والحَذَر من معصيته
قال تعالى:
{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}
[النساء: 131]
أي: بأقسامها الثّلاثة، وهي تقوى الشِّرْكِ، وتقوى المعصيةِ، وتقوى ما سوى اللّه، وهذا من جوامع الكلم؛ لأنّ التّقوى امتثال المأمورات، واجتناب المنهيَّات، وهي زاد الآخرة تُنجيكم من العذاب الأبديِّ، وتبلِّغكم إلى دار السُّرور، وتوجب الوصول إلى عتبة الجلال والقُدس والنُّور[16].
15. قوله ﷺ: (فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا)؛ يعني: أن من يعش منكم ويُمَدَّ له في عمره، فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ اختلافًا كثيرًا في الولاية، واختلافًا كثيرًا في الرأي، واختلافًا كثيرًا في العمل، واختلافًا كثيرًا في حال الناس عمومًا، وفي حال بعض الأفراد خصوصًا، وهذا الذي وقع؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لم ينقرضوا حتى حصلت الفتن العظيمة في مقتل عثمان رضي الله عنه، وعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبلها مقتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وغير ذلك من الفتن المعروفة في كتب التاريخ[17].
16. قوله ﷺ: (فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا) ينطبق على كل زمن، فالذين عُمروا منا يجدون الاختلاف العظيم بين أول حياتهم وآخر حياتهم، فمن عاش ومُدَّ له في العمر، رأى التغيُّر العظيم في الناس، وحصل خلاف بين الأمة في السياسة، وفي العقيدة، وفي الأفعال، والأحكام العملية[18].
17.
قال تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِ}
[النساء: 59]
طاعة الله أصل، وكذلك طاعة رسوله ﷺ أصل بما أنه مُرسَل منه، أما طاعة أولي الأمر من المؤمنين فهي تبع لطاعة الله وطاعة رسوله، فلم يكرِّر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كرَّرها عند ذكر الرسول ﷺ ليقرِّر أن طاعتهم مستمَدَّة من طاعة الله وطاعة رسوله.
18.
قال ﷺ:
«السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»[19].
19.
قال ﷺ:
«وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا»[20].
المراجع
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 251).
- رواه البخاريُّ (70)، ومسلم (2821).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 66).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 66).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 67).
- رواه ابن ماجه (738)، وصحَّحه البوصيريُّ في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (1/ 94).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 300)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 88).
- رواه البخاريُّ (3500).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 301)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 89).
- انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 147)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 98).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 127).
- رواه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
- رواه البخاريُّ (2010).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 251).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 280).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 282).
- رواه البخاريُّ (7144).
- رواه مسلم (1838).
في الحديث بيان أن جبريل لَمَّا أكَّد على النبيِّ ﷺ حقَّ الجِوَار، وكثَّر عليه من ذلك، غَلَب على ظنِّ النبيِّ ﷺ أن الله سيَحكُم بالميراث بين الجارين. وهذا يدلُّ على أن هذا الجارَ هنا هو جارُ الدار [1].
ليس المعنى في الحديث أن جبريل يَشرَع توريثَه؛ لأن جبريل ليس له حقٌّ في ذلك؛ لكن المعنى أنه سينزل الوحي الذي يأتي به جبريل بتوريث الجار، وذلك من شدَّة إيصاء جبريلَ به النبيَّ ﷺ [2].
الجار يُطلَق ويُراد به الدّاخل في الجِوار، ويُطلَق ويُراد به المجاوِر في الدّار، وهو الأغلبُ، والّذي يظهر أنّه المراد به في الحديث؛ لأنّ الأوَّل كان يَرِث ويُورَث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التّوريث بين المتعاقِدَيْنِ، فقد كان ثابتًا، فكيف يُترجَّى وقوعه؟! وإن كان بعد النّسخ، فكيف يُظنَّ رجوعه بعد رفعه؟! فتعيَّن أنّ المراد به المجاوِر في الدّار [3].
الجيرانُ ثلاثة: كافرٌ، فله حقُّ الجِوَار، ومسلمٌ أجنبيٌّ، فله حقُّ الجِوار، وحقُّ الإسلام، ومسلمٌ قريبٌ، فله حقُّ الجِوار، وحقُّ الإسلام، وحقُّ القَرابة [4].
كلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا، كان آكَدَ حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهَدَ جارَه بالهَدية والصَّدَقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيَّته بقول أو فعل [5].
أوصى الله عزَّ وجلَّ بالجار في كتابه الكريم؛
فقال سبحانه:
﴿۞ وَٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ﴾
[النساء: 36]؛
أي: الجار القريب والجار الذي ليس له قَرَابةٌ.
الجارُ مأمورٌ بالإحسان إلى جاره، وكذلك مأمورٌ بكفِّ الأذى عنه، وتَحرُم أذيَّتُه لجاره تحريمًا أشدَّ من تحريم أذى المسلمين مُطلقًا، وقد بيَّن النبيُّ ﷺ أن ذلك من علامات الإيمان باليوم الآخر؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ...»
[6].
بيَّن ﷺ أن إيذاء الجار لجاره سببٌ في عدم دخوله الجنَّة؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
[7].
نفى ﷺ الإيمانَ عمَّن لم يأمن جارُه بوائقه؛
فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»
[8].
قال الحسن البصريُّ: "ليس حُسْنُ الجِوار كفَّ الأذى، ولكنْ حُسْنُ الجوار احتمالُ الأذى" [9].
حِفْظُ الجار من كمالِ الإيمان، وكان أهلُ الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَبِ الطاقة؛ كالهَدِيَّة، والسلام، وطَلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه، على اختلاف أنواعه، حسيَّةً كانت أو معنوية [10].
خرج قوله: «حتى ظننتُ أنه سيورِّثه» مخرج المبالغة في شدَّة حفظ حقِّ الجار.
اختُلف في المراد بهذا التوريث، فقيل: يُجعَل له مشاركة في المال بفَرْضِ أَسْهُمٍ مُعطاةٍ مع الأقارب، وقيل: المرادُ أن ينزَّل منزلةَ من يَرِث بالبرِّ والصِّلة، والأوَّل أظهر [11].
الميراث على قسمين: حسّيٌّ ومعنويٌّ، فالحسّيُّ هو المراد هنا، والمعنويُّ ميراث العلم، ويمكِن أن يُلحَظ هنا أيضًا؛ فإنّ حقَّ الجار على الجار أن يعلِّمه ما يحتاج إليه [12].
اسم الجار يَشمَل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصّديق والعدوَّ، والغريب والبلديَّ، والنّافع والضّارَّ، والقريب والأجنبيَّ، والأقربَ دارًا والأبعد، وله مراتبُ بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصّفات الأُوَل كلُّها، ثمّ أكثرها، وهلمَّ جرًّا، إلى الواحد، وعكسُه من اجتمعت فيه الصّفات الأخرى كذلك، فيُعطى كلٌّ حقَّه بحسَبِ حاله [13].
المراجع
1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 610).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 177).
3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441، 442).
4. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 228)، "التعيين في شرح الأربعين" لسليمان بن عبد القويِّ (1/ 136) بتصرُّف.
5. "تفسير السعديِّ" (ص: 178).
6. رواه البخاريُّ (6018)، ومسلم: (47).
7. رواه مسلم (46).
8. رواه البخاريُّ (6016).
9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 353).
10. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
11. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441).
12. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441).
13. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
في الحديث حثٌّ على المسارعة إلى أداء الحقوق، وردِّ المظالم إلى أهلها في الدنيا، حتى ولو كانت ببذل الأموال، فهي أَهْوَنُ من أخذ الحسَنات من الظالم، وحمل السيِّئات عليه يوم القيامة.
في الحديث توجيه وإرشاد لمن تحمَّل مَظلِمة لأحد أن يسأَله أن يجعلَه في حِلٍّ، ويطلُب براءةَ ذمَّته، والعفوَ عنه، ومسامحته في الدنيا، أو ليؤدِّ إليه مَظلِمته قبل يوم القيامة.
حذَّر الله تعالى من ظُلْم العباد، سواءٌ أكان هذا الظلم ظلمًا ماديًّا أم ظلمًا معنويًّا؛
قال تعالى:
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
[الشورى: 42].
الظلم ظُلمات على صاحبه يوم القيامة؛
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ»
[1]
الظُّلم من أقبح المعاصي، وأشدِّها حُرمةً، شرُّه عظيم، وعاقبتُه وَخيمة، في الدنيا والآخرة.
الظالم عقابه شديد؛
قال تعالى:
إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
[إبراهيم: 22]،
وقال تعالى:
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا
[الفرقان: 19]
توعَّد الله الظالمين بتعجيل العقوبة لهم في الدنيا؛
فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»
[2]
التوبة من المظالم التي تتعلَّق بحقوق العباد لها شرط خاصٌّ بها غير شروط التوبة العامَّة، وهو التحلُّل من المظالم، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها؛ فشروط التوبة هي: إخلاص النية لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على ارتكابها، والعَزْمُ على عدم العودة إلى المعصية، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها إذا كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوق العباد، وأن تكون في الوقت المخصَّص لقَبولها؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل لحظة الموت.
الْمَظلِمة: اسمٌ لِمَا أُخِذ بغير حقٍّ، سواءٌ كانت هذه المظلمةُ في العِرْضِ؛ كغِيبةٍ، أو نميمة، أو سبٍّ وشتم، أو كانت في أكلِ مال، أو غصْب أرض بغير حقٍّ.
في قوله: «مِنْ عِرْضِهِ أو شيء»: قدَّم العِرض لأن أكثر مظالم الناس في العِرض؛ كالغِيبة، والنَّمِيمة، والسبِّ والشتم، وهلمَّ جرًّا.
اختلف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد معاملة ومُلابَسة، ثم حلَّل بعضهم بعضًا من كلِّ ما جرى بينهما من ذلك، هل يبيِّن الظالم للمظلوم قَدْرَ ظُلمه أو لا؟ وهل يُشترَط أن يَعرِف المظلوم مقدارَ الظُّلم الذي وقع عليه أو ماهيَّته؟ فقال قوم: إن ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يبيِّن مقداره، وقال آخرون: إنما تصحُّ البراءة إذا بيَّن له، وعَرَف ما له عنده، أو قارب ذلك بما لا مُشاحَّة في مثله[3]
في معنى هذا الحديث حديث المفلِس؛
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ:
«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»
[4]
الظلم نوعانِ: أحدهما: ظُلم النفْس، وأَعظَمُه الشِّرك، ثم يَليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائر. والثاني: ظُلم العبد لغيره[5].
مَدَارُ الظُّلم على النقص؛ كما
قال الله تعالى:
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا
[الكهف: 33].
ويدور على أمرين: إما منع واجب للغير؛ كأن تمنع شخصًا من دَين عليك فلا توفِّيه، أو تماطل به، وإما تحميله ما لا يجب عليه؛ كأن تدَّعي عليه دَينًا وتأتي بشهادة زور فيُحكم لك به، فهذا ظلم[6].
المراجع
- رواه البخاريُّ (2447)، ومسلم (2579).
- رواه أبو داود (4902)، وابن ماجه (4211)، والترمذيُّ (2511)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 577).
- رواه مسلم (2581).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 36)
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 245).
في الحديث بشارة بأنَّ الإسلامَ والهِجرةَ والحجَّ؛ كلُّ ذلك يمحو ما كانَ قبلَهم منَ الذُّنُوبِ والكبائر، وإنْ كانتْ مثلَ الجبالِ.
المبايعةُ هي "المعاقَدة والمعاهَدة، شُبِّهت بعقود المال؛ لأن كلًّا يُعطي ما عنده بما عند الآخَر؛ فما عند النبيِّ ﷺ الثوابُ والخيرُ الكثيرُ، وما عندهم التزامُ الطاعة"[1]
تمحو الهجرةُ إلى النبيِّ ﷺ قبلَ فتح مكَّة ما قبلها، وبعد الفتح الهجرةُ من دار الحرب إلى دار الإسلام.
حديث: «لا هِجرةَ بعد الفَتْح»[2]، معناه: لا هجرةَ من مكة إلى المدينة؛ لأن أهلها صاروا مسلمين، وصارت دارَ إسلام، وإنما الهجرة من دار الحرب[3]
اتَّفَق العلماء أن الإسلام يهدِم ما كان قبلَه مطلَقًا، يَسْتوي في ذلك المظالِمُ وغيرُها من الذنوب، وكذا الكبيرة والصغيرة، وأما الهجرة والحجُّ، فقد وقَع فيهما الخلافُ بين العلماء؛ فقيل: إنهما لا يُكفِّران المظالِم، ولا يُقطَع فيهما أيضًا بغُفران الكبائر التي بين الله وبين العباد، فيُحمَل الحديث على أن الحجَّ والهجرة يَهدِمان ما كان قبلَهما من الصغائر، ويَحتمِل أنهما يهْدِمان الكبائر أيضًا فيما لا يتعلَّق به حقوقُ العباد بشرط التوبة، وقيل: إنهما يَمْحوان ما قبلَهما من الكبائر والصغائر، وكذا المظالمُ[4]
الإسلام يهدِمُ ما كان قبلَه بنصِّ الكتاب العزيز؛
قال الله تعالي : ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾
[الأنفال: 38] [5].
الحجُّ يَهدِم ما قبلَه؛
لقول النبيِّ ﷺ:
«مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفسُق، رجَع من ذنوبه كيوم ولدَته أُمُّه»
[6]
قبول التوبة من لُطْفِ اللهِ سُبْحانه ورحمَتِه بخَلْقِه؛ فالناسُ يقَعون في الكُفْرِ والمعاصي، ومع ذلك يُيَسِّرُ اللهُ تعالى لهم التَّوبةَ، ويَقبَلُها منهم سبحانه ويَغفِرُ لهم.
السُّنة في المصافحة عند البيعة باليد اليُمنى من الجانبينِ للرجال[7]، وأما النساء فبيعتُهم باللسان؛ فعن عائشة ڤ قالت: «واللهِ ما مسَّت يدُ رسول الله ﷺ يدَ امرأة قطُّ، غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسول الله ﷺ على النساء إلا بما أمره الله، يقول لهن إذا أخذ عليهن: «قد بايعتُكنَّ»[8]
من له ذنوبٌ فتاب من بعضها دون بعض، فإنّ التّوبة إنّما تقتضي مغفرة ما تاب منه، أمّا ما لم يتب منه فهو باقٍ فيه على حُكم من لم يتب، لا على حكم من تاب، وليس في هذا نزاع إلّا في الكافر إذا أسلم، فإنّ إسلامه يتضمَّن التّوبة من الكفر، فيُغفَر له بالإسلام الكفر الّذي تاب منه[9]
هل تُغفَر للكافر الذي أسلم الذّنوبُ الّتي فعلها في حال الكفر ولم يَتُب منها في الإسلام؟ هذا فيه قولان معروفان: أحدُهما: يُغفَر له الجميع؛ لإطلاق قوله ﷺ: «الإسلام يهدم ما كان قبله»، مع
قوله تعالى:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ
[الأنفال: ٣٨]
والقول الثّاني: أنّه لا يَستحقُّ أن يُغفر له بالإسلام إلّا ما تاب منه[10].
12. عن أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«مَنْ أحْسَن فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُؤاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ، أُخذ بالأول والآخر»
[11].
المراجع
- "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" لشمس الدين البرماويِّ (1/ 157).
- رواه البخاري (2783)، ومسلم (1353).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي بن محمد القاري (1/ 102).
- انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 282).
- شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (4/ 138)
- رواه البخاريُّ (1521)، ومسلم (1320).
- انظر: "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 431).
- رواه البخاريُّ (5288)، ومسلم (1866).
- "مجموع الفتاوى" (10/ 323).
- "مجموع الفتاوى" (10/ 323).
- رواه البخاريُّ (6921)، ومسلم (120).
هذا الحديث قال عنه العلماء: إنه رُبع الإسلام [1].
يدور الإسلام على أربعة أحاديثَ: هذه الثلاثة: حديث: «الحلال بيّن والحرام بيِّن»، وحديث: «الأعمال بالنيَّة»، وحديث: «مِن حُسن إسلام المرءِ ترْكُه ما لا يَعنيه»، وحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»، وقيل: حديث «ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبَّك الناس» [2].
المؤمن للمؤمن كالبُنيانِ المرصُوصِ يشُدُّ بعضُه بعضًا، والمؤمنون كالجسدِ الواحدِ، إذا اشتكَى منهُ عضوٌ تَداعى له سائرُ الجسد بالسَّهرِ والحُمَّى، والمحبَّةُ بين المؤمنين من أهمِّ ما يربطهم ويميِّزهم.
في الحديث بيان أن أُخوَّة الإسلام التي يجتمِعُ تحتَ ظِلالِها المسلِمون في شتَّى بِقاعِ الأرض تُوجِبُ عليهم أُمورًا وواجباتٍ تُجاهَ إخوتِهم المسلِمين، فلا يَكمُلُ إيمانُ المرءِ إلَّا إذا أحبَّ لأخيهِ ما يُحِب لنفْسهِ مِن الخيرِ، ويَكرهُ لأخيهِ ما يَكرَهُ لنفْسِه مِن الأذَى والشرِّ، وهو معنًى عظيمٌ من معاني الأُخوَّة الإيمانية التي ربط بها الإسلامُ بين أتباعه.
في الحديث بيان أنه على المسلم أن يحبَّ لأخيه مِن الطاعات والأشياء المباحات ما يحبُّه لنفْسه، ويَدُلُّ عليه ما جاء في رواية النَّسائِيِّ في هذا الحديث: «حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُحِبَّ لِنَفْسِهِ» [3].
الحديث ظاهرُه التساوي - يعني: يحب لأخيه مثلَ ما يحب لنفْسه - وحقيقتُه التفضيلُ؛ لأن الإنسانَ يحبُّ أن يكونَ أفضلَ الناس، فإذا أحبَّ لأخيه مثلَه، فقد دخلَ هو في جُملة المفضولين؛ ألا ترى أن الإنسانَ يجب أن يَنتصِف من حقِّه ومَظْلمته، فإذا كمَل إيمانه وكانت لأخيه عنده مَظْلِمة أو حقٌّ، بادر إلى إنصافه من نفْسِه، وآثَرَ الحقَّ، وإن كان عليه فيه بعضُ المشقَّة [4].
المراد بهذا الحديث كفُّ الأذى والمكروه عن الناس، ويُشبِه معناه قولُ الأحنف بن قَيس، قال: كنتُ إذا كرِهتُ شيئًا من غيري، لم أفعلْ بأحدٍ مثلَه [5].
ليس المرادُ من الحديث أن يمحوَ العبدُ من طَبْعه حبَّ الخير لنفْسه؛ فهذه طبيعة إنسانية لا يمكِن القضاءُ عليها؛ وإنما يمكِن تهذيبُها بحيث يتمنَّى الخيرَ لأخيه المسلم، ويحبُّه له من جهة لا يُزاحمه فيها، ولا يأتي على حظِّه المباح، بحيث لا تَنقُص النعمة على أخيه شيئًا من النِّعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم؛ وإنما يَعسُر على الْقَلْب الفاسد [6].
إن قيل: كيف يُتصوَّر هذا وكلُّ أحدٍ يُقدِّم نفْسه فيما يختاره لها، ويحبُّ أن يَسبِق غيره في الفضائل، وقد سابَق عمرُ أبا بكرٍ؟ فالجواب: أن المراد حصولُ الخير في الجُملة، واندفاعُ الشرِّ في الجملة، فينبغي للإنسان أن يحبَّ ذلك لأخيه كما يحبُّه لنفْسه، فأما ما هو من زوائد الفضائل، وعُلوِّ المناقب، فلا جُناحَ عليه أن يُؤثِر سبْقَ نفْسِه لغيره في ذلك [7].
نظَّمت شريعة الإسلام علاقة الناس بربهم سبحانه؛ حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الوقت نفسه شرع لهم الإسلام ما ينظِّم علاقتهم بعضهم ببعض؛ حتى تَسُود الأُلفة والمحبَّة في المجتمع المسلم، ولا يتحقَّق ذلك إلا إذا حرص كلُّ فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصَه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلاميُّ القويُّ المترابط، ذو الأساس المتين.
إن المسلم يتَّسِع الخير في قلبه لكل البشر؛ ليشمل محبَّة الخير لغير المسلمين، فيحبُّ لهم أن يمنَّ الله عليهم بنعمة الإيمان، وأن يُنقذهم الله من ظُلمات الشرك والعصيان.
من مقتضيات هذا الحديث أن يُبغض المسلم لأخيه ما يُبغضه لنفسه، وهذا يدفعه إلى تجنُّب الصفات الذميمة التي يُبغض أن يعامله الناس بها؛ كالحسد، والحِقد، والبُغض للآخرين، والأنانية، والجشع، وغيرها.
إن من ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم أن ينشأ في الأمة مجتمع فاضل، يَنعَم أفراده فيه بأواصر المحبة الوُثقى، وترتبط لَبِناته حتى تغدوَ قوية متماسكة كالجسد الواحد، الذي لا تقهره الحوادث، ولا تغلبه النوائب، فتتحقَّق للأمة وَحْدتُها.
المراجع
1. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (11/ 27).
2. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (11/ 27).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 16، 17).
4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 65).
5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 65).
6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 17).
7. "كشف المشكل من حديث الصحيحينِ" (3/ 232).
في الحديث تعظيمُ حقوق المسلمين بعضِهم على بعض، والحضُّ على التَّرَاحُم والْمُلاطفة والتَّعَاضُدِ في غَير إِثْمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ.
يحضُّ الإسلام على التآلف والتراحم والتوادِّ؛ حتى تَعْلُوَ عقيدة الإسلام عن أدران الأرض، فيعيش المسلم بين إخوانه معزَّزًا مكرَّمًا، في عُسره ويُسره، وقوَّته وضعفه، وفي سائر أحواله.
ليس من صفات المسلمين القسوةُ والإعراض والتناسي والتجاهل للآخرين، وكلَّما ضعف الإيمان في قلوب الناس، ظهرت هذه الصفات السيِّئة بقوة، وتلاشَت الهُوِيَّة والنُّصرة للمؤمنين، وضَعُفت العلاقة بأمَّة الإسلام.
إن الإسلام يُعنى ببناء المجتمع الإسلاميِّ المتماسِك الْمُتحابِّ، الذي يَنتِج منه خيرُ أمَّة أُخرِجت للناس، مجتمع يَسودُه الودُّ والمحبَّةُ والأُلْفة والعَطف والتعاون، وهلمَّ جرًّا، وقد حضَّ النبيُّ ﷺ على هذه المكارم لتكون هي صفاتِ المؤمِنين الصادقِين فيما بينَهم، فيصيروا كالبُنيانِ المرصُوصِ يشُدُّ بعضُه بعضًا؛ أو كالجسدِ الواحدِ، كلُّ فرد منهم كالعضو من هذا الجسد، فإذا اشتكَى منهُ عضوٌ، أصابت الشكوى كلَّ الجسد، فتَداعى لذلك العضوِ بقيَّةُ أعضاء الجسد بالسَّهر والأَرَق وعدم النوم، والحُمَّى والحرارة الشديدة.
نظَّمت شريعة الإسلام علاقة الناس بربهم سبحانه؛ حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الوقت نفسِه شرع لهم الإسلام ما ينظِّم علاقتهم بعضهم ببعض؛ حتى تَسُود الأُلفة والمحبَّة في المجتمع المسلم، ولا يتحقَّق ذلك إلا إذا حرص كلُّ فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصَه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلاميُّ القويُّ المترابط، ذو الأساس المتين.
من أجل قيام أمة واحدة، ومجتمع إسلامي متماسك؛ أرشد النبيُّ ﷺ أمَّته إلى تحقيق مبدأ التكافل والإيثار؛ فقال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، فبيَّن أن من أهمِّ عوامل رسوخ الإيمان في القلب: أن يحبَّ المسلم لإخوانه حصول الخير الذي يحبُّه لنفسه، من حلول النِّعم وزوال النِّقم، وبذلك يكتمل الإيمان في القلب.
إن من ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم أن ينشأ في الأمَّة مجتمع فاضل، يَنعَم أفراده فيه بأواصر المحبة الوُثقى، وترتبط لَبِناته حتى تغدوَ قوية متماسكة كالجسد الواحد، الذي لا تقهره الحوادث، ولا تغلبه النوائب، فتتحقَّق للأمة وَحْدتُها.
في الحديث بيانُ حضِّ الإسلامِ على المؤاخاةِ والأُلفةِ والتوادِّ والتعاطف والمواساةِ بين المؤمنينَ، وأنْ يَكونوا مُتعاضدِين مِثلَ الجَسدِ الواحدِ، ومثلَ البُنيانِ المرصوصِ؛ لتَقْوى وَحْدتُهم، وتَتَّفِقَ كَلِمتُهم؛ فيُرشِد النَّبيُّ ﷺ أُمَّتَه في هذا الحديثِ إلى ما يحتاج إليه بناء أمَّة قوية متحابَّة، يغشاها التوادُّ والتَّراحُمَ والحبُّ والتعاطف؛ بضرب المثل الذي لا بد أن يكون عليه أفراد هذه الأمَّة المؤمنة، التي هي خير أمَّة أخرجت للناس.
"الّذي يَظهَر أنّ التّراحم والتّوادد والتَّعاطُف، وإن كانت متقاربةً في المعنى؛ لكنْ بينها فرق لطيف، فأمَّا التّراحمُ، فالمراد به أن يَرحَم بعضهم بعضًا بأخوَّة الإيمان، لا بسبب شيء آخر، وأمّا التّوادُد، فالمراد به التواصل الجالب للمحبَّة؛ كالتّزاور والتّهادي، وأمّا التّعاطف، فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثّوب عليه ليقوِّيه" [1].
المؤمنون، هم كالجَسَد الواحد، إذا اشتكت عَيْنُه اشتكى الجِسْمُه كلُّه، وإذا اشتكت يدُه، اشتكى الجسم كلُّه، ومعلومٌ حال الجسد إذا أُصِيب بألمٍ أو مرضٍ في أيِّ موضع منه، حتمًا سيَعُمُّ الألم والتَّعَب والشكوى.
عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:
«المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا ستَره الله يوم القيامة»
[2].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»
[3].
13.
عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ
[4].
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
2. رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
3. رواه مسلم (2699).
4. رواه البخاريُّ (481)، ومسلم (2585).
هذا الحديث عليه مَدَارُ الإسلام [1].
النصيحة هي عِمَاد أمرِ الدِّين وقِوَامُه، وبها ثباتُه وقوَّته، وهي كَلِمةٌ جامعة، من وَجِيز الأسماء، ومختصَر الكلام، وهي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يُمكِن أن يُعَبِّر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تَجْمَع معناه غيرُها.
حكم النصيحة أنها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقط عن غيره، وهي لازمةٌ على قدر الطاقة، إذا عَلِم الناصح أنه يُقبَل نُصحُه، ويُطاع أمرُه، وأَمِن على نفسه المكروهَ، وأما إن خَشِيَ الأذى، فهو في سَعَةٍ منها[2].
ضوابط النصيحة: الإخلاص لله فيها، والعلم بما يَنصَح به، وأن لا يجهر بنصيحته، وأن يراعيَ الوقت والمكان المناسبينِ، واللِّين والرفق في النصيحة، وأن لا تكون النصيحة على شرط القَبول.
النصيحة تؤتي ثمارها للناصح في الحالين، سواء أقَبِلها المنصوحون فعاد نفعها عليه وعليهم في الدنيا والآخرة، أم رفضوها فنال الأجر، وحقَّ عليهم الإثم والعقاب.
في الحديث النصيحة لله تعالى، وتكون بتوحيده، ووصفه بصفات الكمال والجلال جميعًا، وتنزيهه عما يضادُّها ويُخالفها، وتجنُّب معاصيه، والقيام بطاعاته، ومحابِّه، بوصف الإخلاص، والحبِّ فيه، والبُغض فيه، وجهاد مَن كفر به تعالى، وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك، والحثِّ عليه[3].
النصيحة لله بكل جوانبها راجعة إلى العَبْدِ من نصيحة نفسه، واللّه تعالى غنيٌّ عن نُصح النّاصحين.
في الحديث النصيحةُ لكتاب الله، وتكون بالإيمان بأنّه كلامه تعالى، وبتحليل ما حلَّله، وتحريم ما حرَّمه، والاهتداء بما فيه، والتَّدبُّر لمعانيه، والقيام بحقوق تلاوته، والاتّعاظ بمواعظه، والاعتبار بزواجره، والمعرفة له.
في الحديث النصيحةُ لرسول الله ﷺ، وتكون بالإيمان به، واتِّباعه، وطاعته، وتعظيم حقِّه، وتوقيره حيًّا وميِّتًا، ونُصرته، ومحبَّته، ومحبَّة مَن أَمَرَ بمحبَّته من آله وصَحْبِه، ومعرفة سنَّته، والعمل بها، ونشرها، والدّعاء إليها، والذّبِّ عنها.
في الحديث النصيحة للأمراء، وتكون بطاعتهم في الحق، ومعونتهم عليه، وتذكيرهم به، وإعلامهم بما غفلوا عنه، أو جهِلوه في أمر دينهم، ومصالح دنياهم، والصلاة خلفَهم، والجهاد معهم، وتنبيههم عند الغفلة، وألَّا يُغَرُّوا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدعى بالصلاح لهم.
في الحديث النصيحة للعلماء، وتكون بالاستماع لهم، والتواضُع معهم، وأن يحرِص على تلقِّي ما عندهم من العلم، وألَّا يتتبَّع الإنسان عَوْراتِهم، وزلَّاتهم، وما يخطئون فيه؛ لأنهم غير معصومين، قد يَزِلُّون، وقد يُخطئون[4].
في الحديث النّصيحة لعامَّة المسلمين، وتكون بإِرَادَة الْخَيْر لهم، والسعيِ فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وهدايتهم إلى الْحقِّ، وإرشادهم إلى مصالحهم في دنياهم وأُخراهم، وكَفِّ الأذى عنهم، ونحوِ ذلك.
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 37).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/129).
- "صيانة صحيح مسلم" لابن الصلاح (ص: 221).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 393).
في هذا الحديث إشارةٌ إلى فضيلة آية
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾
[المائدة:3]
، وأن اليهود عَلِموا فضلَها وقيمتَها، وحسدونا عليها.
هذا الرجُل الذي جاء إلى أمير المؤمنين هو كعب الأحبار، وقد أسلم بعد ذلك؛ ولهذا قال الراوي: (رجُلٌ من اليهود)؛ أي: كان منهم حينئذ[1].
في الحديث بيان شرف تلك الآية، وأنها نزلتْ في أطيب بُقعة، وأفضل زمان[2].
في الحديث بيان أن أعداء الإسلام يدرسونه جيِّدًا، ويَغبِطون المسلمين على النِّعَم التي حباهم بها الله.
إن دين الإسلام كامل في أحكامه وتشريعاته، لا نقص فيها بأي وجهٍ من الوجوه؛ فقد حوت كل ما يحتاج إليه الناس من أمور الدنيا والآخرة، ومن العبادات والمعاملات، ومن الأخلاق والسلوك والسياسة والاقتصاد وهلمَّ جرًّا.
إن دين الإسلام كامل في أصوله وفروعه، وفي أحكام الدنيا والآخرة، وكل ما يحتاج إليه العباد؛ فهو مبيِّن فيه أتمَّ تبيين بألفاظ واضحة، ومَعانٍ جَليَّة.
الإسلام دينٌ شاملٌ، ليس خاصًّا بأمَّة دون أخرى، أو بعرق دون آخر؛ فالله أرسل رسوله للناس جميعًا
قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
[سبأ: 28].
من مظاهر كمال دين الإسلام: أنه دينٌ شامل للثقلين؛ الإنس والجن؛ فالجنُّ والإنس مطالَبون باتِّباع هذا الدين
قال تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
من مظاهر كمال الإسلام: عدم تعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح؛ بل لا بدَّ أن يتوافقا؛ فالإسلام يحضُّ على العلم، ويحترم العقل، ويضع كلَّ شيء في موضعه المناسب له.
من مظاهر كمال الإسلام: عدم التعارض والتصادم في أخباره وأحكامه.
إن الإسلام دين كامل بصلوحه لكل زمان ومكان، ومرونته واستيعابه للمتغيِّرات؛ فنصوصه الشرعية تستوعب كل الحالات والاحتياجات، وتتواكب مع المستجِدَّات، بما يتوافق مع مقاصد الدين ولا يتناقض معها، ودون أن تمسَّ أصول الدين.
من مظاهر كمال الإسلام: أن تشريعاته واقعية، تراعي حاجاتِ الإنسان، ولا تضيِّق عليه، فيُحِلُّ الطيِّباتِ ويحرِّم الخبائث؛ فهو يُبيح الزواج ويحرِّم الزنا والفواحش، ويبيح المعاملات بين الناس، ويحرِّم الربا، وهَلُمَّ جرًّا.
من مظاهر كمال الإسلام: أن هناك صلةً وُثقى بين الإيمان وعمل الصالحات والأخلاق الحسنة والسلوك الحسن.
من مظاهر كمال الإسلام: أن تكليفاتِه تراعي قدرة الإنسان واستطاعته
قال تعالى:
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
[البقرة: ٢٨٦]
، فتراعي أحوال المكلَّفين؛ فأحكام الصلاة والصيام وغيرها تختلف بين الصحيح والمريض والعاجز وكبير السنِّ.
إن الإسلام دينٌ كامل بأصوله وقواعده وأخلاقه، رسالة عالمية خالدة لكل إنسان، وكل عِرق، وكل بلد، هو الذي ارتضاه الله للناس منهجًا في الحياة يُصلح أحوالهم
قال تعالى:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
[المائدة:3].
من مظاهر كمال دين الإسلام: أنه الدين الخاتم، وأنه محفوظ بحفظ الله له
قال تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
[الحجر: 9].
العيد مُشتَقٌّ من العَوْد؛ لأنه يعود كلَّ عام، ويجمع العيد أمورًا، منها: العَوْد والتَّكرار، والاجتماع عليه، ثم ما يتلوه من العادات والعبادات[3].
إكمالُ الدين حاصلٌ بأمورٍ؛ منها: اكتمال الشرائع والفرائض والحدود، ونفي المشركين عن البيت، فلم يعُدْ يحجُّ مشركٌ ولا يدخُله
لقوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
[التوبة: 28] [4].
كمال الإسلام بعزِّه، وظُهوره، وذُلِّ الشرك، وفُتوره، وبرفع النَّسخ عنه، وزوال الخوف من العدوِّ، والظهور عليه، وأمْن هذه الشريعة من أن تنسخها شريعةٌ بعدها، وفتح مكة[5].
قال تعالى:
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾
ولم يقُل:
(أنعمت عليكم)
لأن النعمة كانت موجودةً مبتدَأة بابتداء دعوة الإسلام، والنعمةُ هنا بالهداية إلى الإيمان، واكتمال الشرع، وظهور الدين[6].
قوله تعالى:
﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
أي: أعلمتُكم اليوم رضايَ؛ فإنه تعالى لم يزَلْ راضيًا عن الإسلام؛ فهو الذي شَرَعه للخلق[7].
قوله تعالى:
﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
أي: رَضِيتُه لكم كما هو، فلا نسخَ فيه بعد اليوم، ولن تنسخه شريعةٌ أخرى من الشرائع، فهو الدين الخاتم[8].
في ردِّ عمر على الرجُل دليلٌ على اهتمام المسلمين بذلك والانتباه له؛ فإنهم قد علموا ذلك، وحفِظوا متى وأين نزلتْ.
معنى قول عمر أنَّا ما تركنا تعظيم ذلك اليوم والمكان؛ أما المكان فهو عرفات، أعظم ركن في الحجِّ، الذي هو أحدُ أركان الإسلام، وأما الزمان، فهو يوم الجُمُعة، وهو أفضلُ أيام الأسبوع، وزاد ذلك أنه يوم عرفة، وهو أفضل أيام الدهر، فإذا اجتمع اليومان كان خيرًا وفضلًا[9]؛ فكأنَّ عمر قال له: قد جعلنا اليوم عيدًا، والمكان كذلك[10].
في الحديث دلالة على أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابينِ من قبلنا؛ إنما تكون بالشرع والاتِّباع، فهذه الآية لما تضمَّنت إكمال الدين وإتمام النعمة، أنزلها الله في يوم شرعه عيدًا لهذه الأمَّة من وجهين؛ أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة. والثاني: أنه يوم عيد أهل الموسم، وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم، وقد قيل: أنه يوم الحجِّ الأكبر[11].
جاء تسمية عرفة عيدًا في قول النبيِّ ﷺ: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»[12]. وقد أَشكَل وجهه على كثير من العلماء؛ لأنه يدلُّ على أن يوم عرفة يومُ عيد لا يُصام، كما رُوي ذلك عن بعض المتقدِّمين، وحَمَله بعضهم على أهل الموقف، وهو الأصحُّ؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار؛ فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيَّام التشريق، فيشارك أهل الأمصار أهلَ الْمَوسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نُسُكهم [13].
معنى الآية: اليومَ أكملتُ لكم دينكم بالنصر والإظهار؛ لأنهم بذلك يُجرون أحكام الدين من غير مانع، وبه تمامه، وهذا كما تقول: تمَّ لي الْمُلك إذا كُفِيتَ ما تخافه[14]. واليوم أكملتُ لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أَنزلتُ، وبيان ما بيَّنتُ لكم؛ فلا زيادةَ في ذلك ولا نقصان منه بالنَّسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفةَ عام حجَّة الوداع[15].
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾
أحكامه وفرائضه، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام[16].
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾
بإكماله، وقيل بدخول مكة آمنين
﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
اخترت
﴿ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾
حال؛ أي: اخترتُه لكم من بين الأديان، وآذنتُكم بأنه هو الدين الْمَرضيُّ وحدَه[17].
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾
بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع؛ ولهذا كان الكتاب والسنَّة كافِيَين كلَّ الكفاية، في أحكام الدين أصوله وفروعه؛ فكل متكلِّف يَزعُم أنه لا بدَّ للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنَّة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطِل في دَعْواه، قد زعم أن الدين لا يَكمُل إلا بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله[18].
﴿ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
الظاهرة والباطنة
﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
أي: اخترته واصطفَيْتُه لكم دينًا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرًا لربِّكم، واحمَدُوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها[19].
المراجع
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 270).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (1/ 147).
- انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 496).
- انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي (1/ 513)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (7/ 339)، "تفسير ابن رجب الحنبلي" (1/ 384).
- انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي (1/ 513)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (7/ 339)، "تفسير ابن رجب الحنبلي" (1/ 384).
- انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي (1/ 514).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (7/ 339).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (7/ 339).
- انظر: "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرماني (1/ 179)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 129).
- انظر: "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرماني (1/ 179)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 129).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 172، 173)
- أخرجه أبو داود (2419)، والترمذيُّ (773) والنسائيُّ (4186)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (2090).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 172، 173).
- "تفسير الألوسي = روح المعاني" (6/ 60).
- "تفسير الألوسي = روح المعاني" (6/ 60).
- "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (8/ 408، 409).
- "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (8/ 408، 409).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 173).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 173).
إذا جاء في النصوص الشرعية ذكرُ لفظةِ "الْإِيمَانِ" دون لفظة "الإسْلامِ" - كما في هذا الحديث – أو جاء ذكر لفظة "الإسلام" دون لفظة "الإيمان"، فإن المذكورَ منهما يَعُمُّ جميع الدين من الأعمال الظاهرة والباطنة. وعلى ذلك؛ فلفظة "الإيمان" في هذا الحديث تشمل معنى الإسلام، فيُقَالُ هنا: إن الإيمان اسمٌ لجميع الطاعات الباطنةِ والظاهرة، فَيُفَسَّر الإيمان هنا بما يفَسَّر به الإسلام لو جاء مُفْرَدًا.
إذا قُرن لفظ "الإيمان" بـ"الإسلام" في النصوص الشرعية، فإن الإيمان في القلب، وَالْإِسْلَامَ ظَاهِرٌ؛ كما في حديث جبريل، وما ورد في "الْمُسْنَدِ" عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ»[1].
في الحديث إشارة إلى أنَّ شُعب الإيمان وخصاله متفاوتة في الفضل والْمَكانة، ليست على درجة واحدة.
ليس المقصود من الحديث الاهتمام بحصر أعداد شعب الإيمان؛ فإن كلَّ شُعب الإيمان مفصَّلة مُبيَّنة في جملة الشريعة، فما أُمِرنا بالعمل به عَمِلناه، وما نُهينا عنه انتهَيْنا عنه.
في الحديث دليل على أن شُعب الإيمان تدخل فيها أعمال القلوب والجوارح واللسان، فيكتمل إيمان من يستوفي هذه الشُّعب.
أفضل شُعب الإيمان وأعلاها: التوحيدُ، وهو "قول: لا إله إلا اللهُ"، القول المواطئ للقلب، بإخلاص وصِدق ويقين، فيطمئنُّ القلب بها، وتَأنَس النفس إليها، فلا يصحُّ شيءٌ من هذه الشُّعب إلا بها.
في الحديث ذِكْر عدد شُعب الإيمان دونَ بيان الشُّعب وتفصيلاتها؛ مما يدفع السامعَ إلى تفقُّد الآيات والأحاديث التي ورَدَ فيها ذِكْر الإيمان؛ مما يُفيد في طلب العلم.
في الحديث أن أدنى الشعب إِمَاطَةُ الأَذَى عن الطَّرِيقِ، وهو عمل يسير؛ لكن نفعه متعدٍّ، حيث يصير المؤمن إيجابيًّا يُزيل الأذى عن الناس في طرقهم، كما يزيله من قلوبهم ونفوسهم وعقولهم، وهذا يدلُّ على عظمة هذا الدين الذي جعل إيمان المرء يزداد برفع الأذى من طريق الناس، ويَنقُص بالتفريط فيه.
في الحديث النصُّ على الحياء؛ تأكيدًا على فضله وقَدْره؛ فهو رأس الفضائل والشِّيم والأخلاق، وعماد شُعب الإيمان، وبه يتمُّ الدِّين، وهو دليل الإيمان، ورائد الإنسان إلى الخير والهدى.
اكتفى النبيُّ ﷺ هنا ببيان أفضل الإيمان وأدناه؛ لبيان أن ما دونَ التوحيد وفوقَ إماطة الأذى من أعمال الإسلام داخلٌ في مسمَّى الإيمان.
عطفُ الخاصِّ على العامِّ يوحي بأهمية الخاصِّ، والتأكيد عليه، فبعدَ أن ذكَر النبيُّ ﷺ أفضلَ الإيمان وأدناه، أردَفَ ببيان أن الحياء من الإيمان؛ للتأكيد على فضله، وإلا فهو داخلٌ قطعًا في الإيمان؛ فهو أفضلُ من إماطة الأذى.
الحياء من الله تعالى: هو ألا يراكَ حيث نهاك، ولا يَفقِدُك حيث أمرَكَ، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومُراقبة له حاصلة.
لَوْلَا الحياءُ، لم يُقْرَ الضَّيْف، وَلم يُوفَ بالوعد، وَلم يؤدَّ أمانة، وَلم يقْض لأحَدٍ حَاجَة، وَلَا تحرَّى الرجل الْجَمِيل، فآثره، والقبيح، فتجنَّبه، وَلَا ستر لَهُ عَورَة، وَلَا امْتنع من فَاحِشَة، وَكثير من النَّاس لَوْلَا الْحيَاءُ الَّذِي فِيهِ، لم يؤدِّ شَيْئًا من الأمور المفترضة عَلَيْهِ، وَلم يَرْعَ لمخلوق حَقًّا، وَلم يصل لَهُ رحمًا، وَلَا برَّ لَهُ والدًا؛ فَإِن الْبَاعِث على هَذِه الأفعال، إِمَّا دينيٌّ، وَهُوَ رَجَاء عَاقبَتهَا الحميدة، وَإِمَّا دُنْيَوِيٌّ عُلويٌّ، وَهُوَ حَيَاء فاعلها من الْخَلق، قد تبيَّن أنه لَوْلَا الْحيَاءُ إِمَّا من الْخَالِق اَوْ من الْخَلَائق لم يَفْعَلهَا صَاحبها[2].
المراجع
- أخرجه أحمد (12404)، وأبو يعلى (2923)، وابن أبى شيبة (30319)؛ قال الهيثميُّ (1/52): رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، ورجاله رجال الصحيح ما خلا عليَّ بنَ مسعدة، وقد وثَّقه ابن حبَّانَ وأبو داود الطيالسيُّ وأبو حاتم وابن معين، وضعَّفه آخرون.
- "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 277).
في الحديث بيان أنه لا يَلْتبس أمرُ الحقِّ والباطل على المؤمن البصير؛ "بل يَعرِف الحقَّ بالنور الذي في قلبه، ويَنفِر عن الباطل فيُنكره"[1].
كان الصحابة الكرام ﭫ أحرَصَ الناس على معرفة أبواب الخير، وأكثرَهم اجتهادًا في طريقه، ومِن ثَمَّ كانوا يَسألون رسولَ الله ﷺ عن كلِّ ما يوصِّلهم إليه.
البِرُّ في أصله: هو كلمة جامعةٌ لجميع أفعال الخير وخِصال المعروف، والإثمُ: هو كلمةٌ جامعةٌ لجميع أفعال الشرِّ والقبائح، كبيرِها وصغيرها [2].
البِرُّ يُطلَق باعتبارين؛ أحدُهما: باعتبار معامَلة الخَلق بالإحسان إليهم، وربما خُصَّ بالإحسان إلى الوالدين، فيقال: بِرُّ الوالدين، ويُطلَق كثيرًا على الإحسان إلى الخَلق عمومًا، والثاني: أن يُراد به فِعلُ جميع الطاعات الظاهرة والباطنة؛ كقوله تعالى:
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
[البقرة: 177][3].
الإثمُ: هو اسمٌ للمعصية والذنب، ومخالَفة أمر الله عزَّ وجلَّ[4].
في الحديث بيان أن حُسن الخُلق أعظم خِصال البِرِّ، ويعني بحُسن الخُلق: الإنصافَ في المعامَلة، والرِّفق في المجادَلة، والعدل في الأحكام، والبذل، والإحسان[5].
إن حُسن الخُلق هو الدين كلُّه، وهو حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام؛ ولهذا قابَله بالإثم[6].
قال رسول الله ﷺ:
«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلْقُهُ»
[7].
فجَعَل البيت العُلويَّ جزاءً لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حُسن الخُلق، والأوسط لأوسطها، وهو ترك الكَذِب، والأدنى لأدناها، وهو ترك الْمُمَاراة وإن كان معه حقٌّ. ولا رَيْبَ أن حُسن الخُلق مشتمِلٌ على هذا كلِّه.
قال رسول الله ﷺ:
«إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا، وَإِنَّ من أَبْغَضكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَلِمْنَا "الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ" فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُون» [8]. الثَّرْثَار: هو كثير الكلام بغير فائدة دينية، والمتشدِّق: المتكلِّم بمِلءِ فِيهِ تفاصحًا وتعاظمًا وتطاولاً وإظهارًا لفضله على غيره، وأصله من الفَهْقِ وهو الامتلاء
[9].
حُسن الخُلق يقوم على أربعة أركان، لا يُتصوَّر قيام ساقه إلا عليها: الصبرِ والعفَّة والشجاعة والعدل[10].
إن حُسن الخلُق يشمَل كلَّ خصال الخير والطاعة؛ فالبِرُّ يكون بمعنى الصِّلة، وبمعنى اللُّطف، والْمَبَرَّة، وحُسن الصحبة والعِشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامعُ حُسن الخلُق[11].
حُسن الخُلق مع الله: أن تتلقَّى أحكامَه الشرعيةَ بالرضا والتسليم، وألَّا يكون في نفْسك حرجٌ منها، ولا تَضِيقَ بها ذَرْعًا، فإذا أمرك الله بالصلاة، والزكاة، والصيام وغيرها، فإنكَ تُقابل هذا بصَدر مُنشرِح. وأيضًا حُسن الخُلق مع الله في أحكامه القدَرية؛ فالإنسان ليس دائمًا مسرورًا حيث يأتيه ما يُحْزنه في ماله، أو في أهله، أو في نفْسه، أو في مجتمعه، والذي قدَّر ذلك هو اللهُ عزَّ وجلَّ، فتكون حَسَنَ الخُلق مع الله، وتقوم بما أُمِرْتَ به، وتَنزجر عمَّا نُهِيتَ عنه[12].
حُسن الخُلق مع الناس: هو بَذْل النَّدى، وكفُّ الأذى، والصبر على الأذى، وطَلاقة الوجه[13].
في الحديث وضعُ قاعدةٍ نَبَوِيَّة عظيمة لمعرفة علامة الإثم إذا لم يكنْ هناكَ نصٌّ صريحٌ، أو نقلٌ صحيحٌ، واشتبه الأمرُ، والتَبَس الحُكم، وهي قوله ﷺ:
«والإِثْمُ ما حاكَ في صَدرِكَ، وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ».
«ما حاكَ في صَدرِكَ»؛ "أي: ما أثَّر في القلب ضِيقًا وحرَجًا، ونُفورًا وكَراهةً"[14]؛ "أي: تحرَّك فيه القلب وتردَّد، ولم ينشرحْ له الصدرُ، وحصل في القلب منه الشكُّ، وخوفُ كونِه ذنْبًا"[15].
عن الحسنِ بنِ عليٍّ قال: حفظتُ من رسول الله ﷺ:
«دعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبكَ؛ فإن الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ»
[16].
في الحديث إشارةٌ إلى أن الإثم عند الناس مُستَنكَر، بحيث يُنكِرونه عند اطِّلاعهم عليه. لذا؛ فإن صاحبه يَكره اطِّلاعَ الناس عليه فيه، وهذا أعْلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنْكَره الناس على فاعله وغير فاعله.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما رآه المؤمنون حَسنًا، فهو عند الله حَسنٌ، وما رآه المؤمنون قبيحًا، فهو عند الله قبيحٌ"[17].
الحديثُ لِمَن كان قلبُه صافيًا سليمًا؛ فهذا هو الذي يَحيك في نفْسِه ما كان إثمًا، ويَكره أن يطَّلِع عليه الناس، أما المتمرِّدون الخارجون عن طاعة الله، الذين قسَت قلوبهم، فهؤلاء لا يُبالون؛ بل ربما يَتبجَّحون بفِعل المنكَر والإثم؛ فالكلام هنا ليس عامًّا لكلِّ أحد؛ بل هو خاصٌّ لِمَن كان قلبُه سليمًا طاهرًا نقيًّا؛ فإنه إذا همَّ بإثم - وإن لم يعلم أنه إثمٌ من قِبَل الشرع - تَجِدُه متردِّدًا، يكرَه أن يَطَّلِعَ الناسُ عليه، وهذا أمارةٌ وليس بقاعدة؛ أي: علامةٌ على الإثم في قلب المؤمن[18].
إنما أحاله النبيُّ ﷺ على هذا الإدراك القلبيِّ؛ لِما عَلِم من جَودة فَهْمه، وحُسن قَريحته، وتَنْوير قلبه، وأنه يُدرك ذلك من نفْسه. وهذا الجوابُ لا يَصلُح لغليظ الطَّبع، قليلِ الفَهْم، فإذا سأل عن ذلك مَن قلَّ فَهْمُه، فُصِّلت له الأوامرُ والنواهي الشرعية[19].
هذا البيان من رسول الله ﷺ لمعنى البِرِّ والإثم "يدُلُّ على أن اللهَ فطَر عِباده على معرفة الحقِّ والسكون إليه وقَبوله، ورَكَزَ في الطِّباع محبَّةَ ذلك والنُّفور من ضدِّه، فهذا يدُلُّ على أن الحقَّ والباطل لا يَلتبس أمرُهما على المؤمن البصير؛ بل يَعرِف الحقَّ بالنُّور الذي عليه، فيَقبَله قلبُه، ويَنفِر عن الباطل، فيُنكِره ولا يَعرفه[20].
إن التردُّد في الشيء والتحرُّج منه دليلٌ على أنه إثم، وليس منه تردُّد الْمُبتلى بالوَسواس وتحرُّجه[21].
إن الفتوى لا تُزيل الشُّبهة إذا كان المستفتي ممَّن شرَح الله صدره، وكان المفتي إنما أفتى بمجرَّد ظنٍّ أو مَيل إلى الهوى من غير دليل شرعيٍّ، فأما ما كان له مع الْمُفْتَى به دليلٌ شرعيٌّ، فيجب على المستفتي قَبوله، وإن لم ينشرح صدرُه؛ كقصر الصلاة في السفر والمطر، والجمع بين الصلاتين للمرض، وكالمسح على الخُفَّين، مما لا يطمئنُّ به صدرُ كثيرٍ من الجهلة[22].
في الحديث بيانُ أن اطمئنان الصدر وانشراحه نعمةٌ من الله يُعرف بها الحقُّ من الباطل، وأن انقباض النفْس دليلٌ على ترك الفعل، وسلامة الصدر التي يُدرِك بها العبد الحلال من الحرام إنما هي لِمَن له قَلبٌ سليم مؤمن، بخلاف مَن طَبَع الله على قلبه، فأراه الحقَّ باطلًا، والباطلَ حقًّا.
المعصيةُ آفةٌ ونقصٌ يكره الإنسان السَّوِيُّ أن يُظهرها، فإذا ظهر منه خلافُ ذلك، فهو صاحبُ قلب مريض منكوس.
المراجع
- "التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثًا النووية" لإسماعيل بن محمد الأنصاريِّ (ص: 63).
- "الفتح المبين بشرح الأربعين" لابن حجَرٍ الهيتميِّ (ص: 462).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 98- 99).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (8/ 3178).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 523).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 306).
- رواه أبو داود (4800)، والطبرانيُّ في "المعجم الكبير" (7488)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2648).
- رواه الترمذيُّ (2018)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2897).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 306، 307).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 308).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 111).
- "شرح الأربعين النووية" لابن عُثيمين (ص: 268).
- شرح الأربعين النووية" لابن عُثيمين (ص: 268).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجبٍ الحَنْبليِّ (2/ 99).
- شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 111).
- رواه الترمذيُّ (2518)، والنسائيُّ (5711)، وقال الترمذيُّ: حديث صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/ 637).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجبٍ الحنبليِّ (2/ 101).
- شرح الأربعين النووية" لابن عُثَيمين (ص: 268).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 523).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجبٍ الحنبليِّ (2/ 101).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، لعبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 65).
- "التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثًا النووية" لإسماعيل بن محمد الأنصاريِّ (ص: 63).
1. هذا الحديثُ من أَجمَع الكَلِم الجوامع الّتي بُعث بها ﷺ؛ فإنَّ كلَّ عمل يعمله عامل من خير وشرٍّ هو بحسَبِ ما نواه، فإن قَصَد بعمله مقصودًا حسنًا، كان له ذلك المقصود الحسَنُ، وإن قصد به مقصودًا سيِّئًا، كان له ما نَوَاه[1].
2. قال الإمام أحمدُ والشافعيُّ رحمهما الله: يدخل في حديث (الأعمال بالنيات) ثُلث العلم؛ وسببُ ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه، والنيَّةُ أحد الأقسام الثلاثة[2]).
3. رُوي عن الشافعيِّ $ أنه قال: يَدخُل هذا الحديثُ في سبعين بابًا من الفقه. وقال جماعة من العلماء: هذا الحديث ثُلث الإسلام[3].
4. أصولُ الإسلام ثلاثةُ أحاديثَ: حديثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وحديثُ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ،»، وحديثُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»[4].
5. استحبَّ العلماء أن تُستفتَح المصنَّفات بهذا الحديث، وممن ابتدأ به في أوَّل كتابه: الإمام أبو عبد الله البخاريُّ. وقال عبد الرحمن بن مهديٍّ: ينبغي لكلِّ من صنَّف كتابًا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث؛ تنبيهًا للطالب على تصحيح النيَّة[5].
6. في الحديث بيانُ أن الأعمال وثوابها وفضلَها يتوقَّف على نيَّة صالحة وإرادة صادقة.
7. المراد بالأعمال في الحديث أعمالُ الجوارح كلُّها، وتَدخُل في ذلك الأقوال؛ فإنها من عَمَل اللسان، وهو من الجوارح.
8. في الحديث بيان أن الأعمال مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالنيَّات، فلا يغترَّ إنسانٌ بحُسن علانيَته مع سوء سَريرته؛ فإنما يُثاب الإنسان بنيَّته.
9. يتناول العلماء النيَّةَ بمعنيين؛ أحدهما: تمييز العبادات بعضِها عن بعض؛ كتمييز الصلواتِ: الفجر من الظُّهر من العصـر وهكذا، أو تمييز العبادات من العادات؛ كتمييز الغُسل الواجب من غُسل التنظُّف، ونحو ذلك. والثاني: تمييز المقصود بالعمل، هل هو اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أم غير الله، أم اللهُ وغيره؟[6].
10. يشير الحديث إلى أنه ربما كانت نيَّةُ الْمَرْءِ خيرًا من عَمَله
ويَشهَد لذلك حديث النبيِّ ﷺ:
«مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ »، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ.....»[7]
. فهذا رجلٌ لم يَبذُل جهدًا أو يقدِّم عملًا، أثابه الله عزَّ وجلَّ بنيَّته، ورفع أجره إلى مرتبة العاملين المنفِقين.
11. في الحديث أن الأمر المعوَّل عليه في الأعمال كلِّها هو النيَّة،
ويشهد لذلك قول النبيِّ ﷺ:
«إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»[8]
فالله تعالى إنما يَنظُر إلى القلوب؛ لأنها مَظِنَّة النيَّة.
12. تعريف الهجرة إلى الله شـرعًا: هي ترك ما نهى الله عنه[9].
13. للهجرة معنيان؛ أحدهما: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن؛ (كالهجرة إلى الحبشة، والهجرة من مكَّةَ إلى المدينة)، والثاني: الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإيمان؛ (كالهجرة إلى المدينة بعد استقرار النبيِّ ﷺ بها، حيث كانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكةُ، فانقطع الاختصاص، وبقيَ عموم الانتقال من دار الكفر لمن قَدَر عليه باقيًا[10].
14. في الحديث إشارة إلى أنه لو صَلَحت نيَّة المرء، أعانه الله تعالى على عمله، حتى وإن لم يتيسَّـر له أسبابه.
15. في قَوْله: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» إخبارٌ أنّه لا يَحصُل له من عمله إلّا ما نواه به، فإن نوى خيرًا حصل له خيرٌ، وإن نوى به شرًّا حصل له شرٌّ [11].
16. قوله: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»: ليس هذا تكريرًا محضًا للجملة الأولى؛ فإنَّ الجملة الأولى دلَّت على أنّ صلاح العمل وفساده بحسب النّيَّة الْمُقتَضِية لإيجاده، والجملة الثّانية دلَّت على أنّ ثواب العامل على عمله بحسب نيَّته الصّالحة، وأنّ عقابه عليه بحسب نيَّته الفاسدة، وقد تكون نيَّته مباحةً، فيكون العمل مباحًا، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب[12].
17. في الحديث إشارة إلى أن الْعَمَلَ في نفسه، صلاحَه وفسادَه وإباحتَه، بحسَبِ النِّيَّةِ الحاملةِ عليه، الْمُقْتَضِيَةِ لوجوده، وأن ثواب العامل وَعِقَابَهُ وَسَلَامَتَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ التي بها صار الْعَمَلُ صالِحًا، أو فاسدًا، أو مُباحًا[13].
18. في قَوله ﷺ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» إشارة إلى أن مَنْ هاجَرَ إلى دار الإسلامِ حُبًّا لِلَّه ورسوله، وَرَغْبَةً في تَعَلُّمِ دِينِ الإسلام، وإظهارِ دِينِه حيث كان يَعْجِزُ عنه في دار الشِّرْكِ، فهذا هو الْمُهَاجِرُ إلى اللَّهِ ورسوله حَقًّا[14].
19. فِي قَوْلِهِ: «إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» تَحْقِيرٌ لِمَا طَلَبَه من أَمْرِ الدنيا، واستهانَةٌ به، حيث لم يُذْكَرْ بلفظه[15].
20. الهجرةُ لأمور الدّنيا لا تنحصر؛ فقد يهاجِر الإنسان لطلب دنيا مباحةٍ تارةً، ومحرَّمة تارةً، وأنواع ما يُقصَد بالهجرة من أمور الدّنيا لا تنحصر؛ فلذلك قال: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» يعني كائنًا ما كان[16].
المراجع
- "مجموع الفتاوى" (18/ 254).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 24).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 25).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 24، 25).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/66).
- رواه أحمد (18024)، وابن ماجه (4228)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (16).
- رواه مسلم (2564).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/16).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/16).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 65).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 65).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 65).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 73).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 73).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 73).
إن الغاية من خلق الإنسان هي أن يوحِّد الله تعالى ويعبده سبحانه؛
قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]
وقال تعالى:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
[الأنبياء: 25].
دَلَّ الله تعالى الإنسان على طريق الخير وطريق الشرِّ، وتَرك له حرية الاختيار بينهما؛
قال تعالى:
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}
[البلد: 10]،
وقال تعالى
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }
[الشمس: 7-8]؛
أي: بيَّن لها الخير والشرَّ، وهداها لما قُدِّر لها، ثم أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب؛ حتى يستقيم الإنسان على عبادته، فيَحُوز خيرَيِ الدنيا والآخرة.
في الحديث بيانُ مقدارِ تفضُّل الله على عباده، بأن جعل همَّ العبدِ بالحسنة، وإن لم يَعمَلها، حسنةً، وجعل همَّه بالسيِّئةِ، إن لم يَعمَلها، حسنةً، وإن عَمِلها كُتِبت سيِّئةً واحدة، وإن عَمِل الحسنةَ كُتِبت عَشْرًا وربما تضاعفت إلى أكثرَ من سبعمائة ضعف.
لولا هذا التفضُّلُ العظيم من الله تعالى على عباده المؤمنين المذكور في الحديث، لم يَدخُلِ أحدٌ الجنَّة؛ لأن السيِّئاتِ من العباد أكثرُ من الحسنات، والإنسان بطبعه كثيرُ الذنوب والمعاصي؛
فعَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه سلم قَالَ:
«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»
[1]،
ومهما عظُمت الذنوب، فرحمةُ الله أعظم؛ طالما أن الْمَرْءَ موحِّد لربِّه، لا يُشرك به شيئًا؛
قال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ}
[النساء: 48].
من كفَّ عن فعل الشَّرِّ، فقد نَسَخ اعتقاده للسيِّئة باعتقادٍ آخَرَ نوى به الخير، وعصى هَواه الْمُريد للشَّرِّ، فذلك عَمَلٌ للقلب من أعمال الخير، فجُوزِيَ على ذلك بحسنة، وهذا كقوله ﷺ:
«على كلِّ مُسلمٍ صَدَقةٌ». قالوا: فإن لم يَفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنه صَدَقةٌ»
[2]؛
فالكفُّ عن الشر والسيئات صدقة[3].
من هَمَّ بسيِّئة، فتَرَكها لوجه الله تعالى، هو المقصود من الحديث، أما من تَرَكها مُكرَهًا على تركها بأن يُحالَ بينه وبينها، فلا تُكتَب له حسنة، ولا يَدخُل في معنى الحديث.
مُضَاعَفَةُ الحسنة بعَشْر أمثالها لازِمٌ لكُلِّ الحسنات، وقد دلَّ عليه قوله تعالى:
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ }
[الأنعام: 160].
دلَّ على زيادة المضاعفة على عشْر أمثال الحسنة لمن شاء اللّه أن يضاعِف له،
قوله تعالى:
{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
[البقرة: 261]،
حيث دلَّت هذه الآية على أنّ النّفقة في سبيل اللّه تُضاعف بسَبعمِائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء.
قال تعالى:
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
[الأنعام: 160].
وهو شاهد لما في الحديث من أن السيئة بمثلها، من غير مضاعفة.
في قوله: «كُتبت له سيّئة واحدة» إشارة إلى أنّها غير مضاعفة؛ لكنّ السّيّئة تَعظُم أحيانًا بشرف الزَّمان أو المكان.
قال تعالى:
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ }
[التوبة: 36].
قال قتادة: اعلموا أنّ الظُّلم في الأشهر الحُرم أعظم خطيئةً ووزرًا فيما سوى ذلك، وإن كان الظُّلم في كلّ حال غيرَ طائل؛ ولكنّ اللّه تعالى يعظِّم من أمره ما يشاء تعالى ربُّنا[4].
قد تُضاعَف السّيّئات بشرَف فاعلها، وقوَّة معرفته باللّه، وقُربه منه؛ فإنّ من عصى السُّلطان على بِساطه أعظم جُرمًا ممّن عصاه على بُعد؛ ولهذا توعَّد اللّه خاصَّة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عَصَمهم منها؛ ليبيِّن لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك؛
كما قال تعالى:
{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ }
[الإسراء: 74، 75]،
وَقَالَ تَعَالَى:
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرً 30 وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}
[الأحزاب: 30 - 31].
قال ﷺ:
«إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً»، والظّاهر أنّ المراد بالتّحدُّث هنا حديث النّفس، وهو الهمُّ، وفي حديث خُرَيمِ بْنِ فَاتَكٍ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»
[5]
وهذا يدلُّ على أنّ المراد بالهمِّ هنا هو العزم المصمِّم الّذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرَّد الخطرة الّتي تَخطُر، ثمّ تنفسخ من غير عزم ولا تصميم.
جَعَل الله تعالى الهمَّ بالحسنةِ حَسَنةً؛ لأن الهمَّ بالخَير هو فعلُ القلب بعقد النيَّة على ذلك؛ فالهمُّ بالحسنة إنما هو فِعْلُ العبد بقلبه دون سائر الجوارح؛ كذِكْرِ الله بقلبه، فالمعنى الذي به يَصِل الْمَلَكانِ الموكَّلان بالعبدِ إلى عِلْمِ ما يَهُمُّ به بقلبه، هو المعنى الذى به يَصِل إلى علم ذِكْرِ ربِّه بقلبه، ويَجُوز أن يكون جَعَل الله لهما إلى عِلْمِ ذلك سبيلاً؛ كما جَعَل لكثير من أنبيائه السبيلَ إلى كثير من علم الغيب، فغيرُ مستنكَر أن يكون الكاتبانِ الموكَّلان بابن آدمَ، قد جَعَل لهما سبيلاً إلى علم ما في قلوب بنى آدَمَ من خير أو شرٍّ، فيَكتُبانِه إذا حدَّث به نفسَه أو عَزَم عليهل[6].
في الحديث الهمُّ بالسّيّئات من غير عمل لها أنّها تُكتب حسنةً كاملةً،
وفي حديث أبي هريرة قال:
«إنّما تركها من جرَّاي»
[7]
يعني: من أجلي. وهذا يدلُّ على أنّ المراد من قَدَر على ما همَّ به من المعصية، فتركه للّه تعالى، وهذا لا ريب في أنّه يُكتَب له بذلك حسنة؛ لأنّ تركه المعصيةَ بهذا القصد عمل صالح.
إن همَّ المرء بمعصية، ثمّ ترك عملها خوفًا من المخلوقين، أو مُراءاةً لهم، فقد قيل: إنّه يعاقَب على تركها بهذه النّيّة؛ لأنّ تقديم خوف المخلوقين على خوف اللّه محرَّم، وكذلك قصد الرّياء للمخلوقين محرَّم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله، عوقب على هذا التّرك[8].
إن سَعى المرء في حصول المعصية بما أَمكَنه، ثمّ حال بينه وبينها القَدَر، فقد ذكر جماعة أنّه يُعاقَب عليها حينئذ؛
لقول النَّبِيِّ ﷺ:
«إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»
[9].[10].
قال ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تُكَلِّمْ بِهِ، أَوْ تَعْمَلْ بِهِ»
[11]
وفيه دليل على أنّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه، فإنّه يُعاقَب على الهمِّ حينئذ؛ لأنّه قد عَمِل بجوارحه معصيةً، وهو التّكلُّم باللّسان.
المراجع
- رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
- رواه البخاريُّ (1445)، ومسلم (1008).
- انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 199، 200).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 316 - 318).
- رواه أحمد (19244)، وحسّنه شعيب الأرنؤوط.
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 199، 201).
- رواه مسلم (129).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/321، 322).
- رواه البخاريُّ (31)، ومسلم (2888).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/321، 322).
- رواه أحمد (9097)، والترمذيُّ (1183)، وقال: حديث حسن صحيح.
في الحديث أنه لا يستحقُّ رحمة الله تعالى إلَّا الرَّاحمون الموفَّقون.
في الحديث أن الرّحمة في الإسلام عامَّةٌ وشاملة لا تخصُّ أحدًا دون أحد، ولا نوعًا من الخلق دون نوع.
إشاعة الرّحمة بين أفراد المجتمع تَجمَع شَمْلَه، وتهذِّب أخلاقَه، وتَرفَع شأنَه، وتجعله مجتمَعًا متماسِكًا.
من رحمته تعالى أنه أَحْوَجَ الخلق بعضهم إلى بعض لتتمَّ مصالحهم، ولو أغنى بعضَهم عن بعض لتعطَّلت مصالحهم، وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنيَّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته [1].
رحمة الله تعالى لا حدود لها، وقد أنزل الله تعالى جزءًا واحدًا من الرحمة يتراحم به جميع المخلوقات؛
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:
«جَعَلَ اللهُ الرَّحمةَ في مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»
[2]؛
أي: إن ما يُرى من أثَر الرحمة في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، ما يَعقِل منها، وما لا يعقِل، حتى ما يُرى في رحمة الفرس بولدها وغير ذلك، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف برحمته تعالى التي لا حدود لها؟!
الرحمةُ سببٌ واصلٌ بين الله تعالى وبين عباده، بها أَرسَل إليهم رُسلَه، وأنزل عليهم كُتبَه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دارَ ثوابه، وبها رَزَقهم وعافاهم، وأَنعَم عليهم، فبَيْنَهم وبينَه سببُ العبودية، وبينَه وبينَهم سببُ الرحمة [3].
المؤمن رحيمٌ بالخلق، يتميَّز بقلب حيٍّ مرهَف رقيقٍ ليِّن، يَرِقُّ للضعيف، ويأسى للحزين، ويَأْلَمُ للمُبْتلى، ويحنُّ على اليتامى والفقراء والمساكين، ويُعِين ذا الحاجة الملهوف، ويُبغِض القسوة والإيذاء؛ فهو مصدر رحمةٍ وخَيْرٍ وبِرٍّ وسلام.
ممَّا تُستجلَبُ به رحمة الله، وتُستنزَل به من السَّماء: أن يتراحم الناس، ويُشِيعوا الإحسان والرفق والرأفة فيما بينهم، وأن يَعطِف بعضُهم على بعض، وأن يحبَّ المرء لأخيه من الخير ما يحبُّه لنفسه، وأن يتواصَوْا بالرحمة فيما بينهم؛
قال الله تعالى مادحًا أهلَ الْمَيمنة:
{وَتَوَاصَوْا بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِٱلْمَرْحَمَةِﱠ}
[البلد: 17].
من لم يكن في قلبه رحمةٌ للخلق، فقد نُزِع منه رحمة ربما لا تدركه بعدها رحمةُ الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ فقد ربط الله رحمته وتحقُّقها للمرء بأن يحقِّقها هو مع الخلق؛ فإن الله تعالى قد أنزل الرحمة بين عباده ليتراحَمُوا، وطلب منهم ذلك.
أخبر النبيُّ ﷺ أن رحمة الله مقصورة على عباده الرحماء؛
قال ﷺ:
«إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»
[4].
قال النَّبِيُّ ﷺ:
«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»
[5]؛
أي: إن الَّذين يَرحَمون مَن في الأرضِ مِن إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيرِه؛ شَفَقةً ورَحمةً ومُواساةً، يَرحَمُهم الرَّحمنُ برَحمتِه الَّتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ، فيَتفضَّل عليهم بعَفوِه وغُفرانِه وبرِّه وإحسانِه؛ جزاءً وفاقًا. فارحَموا جميعَ مَن في الأرضِ مِن أنواعِ الخَلْقِ، يَرحَمْكم مَن في السَّماء، وهو اللهُ تعالى العليُّ بذاتِه، المستوِي على العرشِ فوقَ سَمَواتِه.
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه سبب حديث الباب، قَالَ:
قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»
[6].
قال النبيُّ ﷺ الأسوُة الحسنة والرحمةُ المهداة، يَضرِب الْمَثَل بالرحمة بالضُّعفاء من الصبية والأطفال:
«إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»
[7].
انظر إلى رحمته ﷺ بالطَّير والحيوان؛
فعن عبد الله بن مسعود قَالَ:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: «مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟» قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»
[8].
إن رسالة الإسلام عمادُها الرحمة، التي لولاها ما قامت؛ قال تعالى:
{فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ}
[آل عمران: ١٥٩].
إن الرحمة علامة على الإيمان، وعَدَم الرحمة علامةٌ على الشَّقَاء، ومن رحمة الله على المرء أن يضع في قلبه الرحمة؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»
[9].
17. ينبغي أن تسع الرحمة الخلق جميعًا؛
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَا يَضَعُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، كُلُّنَا يَرْحَمُ، قَالَ: «لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ؛ يَرْحَمُ النَّاسَ كَافَّةً»
[10].
18.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»
[11].
19. مما ينبغي أن يُعلَم: أن الرحمةَ صفةٌ تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كَرِهَتْها نفسُه، وشقَّت عليها، فهذه هي الرَّحمة الحقيقية، فأرحمُ الناس بك من شَقَّ عليك في إيصال مصالحك، ودفع الْمَضارِّ عنك.
20. من رحمةِ الأبِ بولده: أن يُكرِهَه على التَّأدُّب بالعلم والعمل، ويشقَّ عليه في ذلك بالضَّرب وغيره، ويَمنَعه شَهَواتِه التي تعود بضرره، ومتى أَهمَل ذلك من ولده، كان لقِلَّة رحمته به، وإن ظنَّ أنه يَرحَمه ويُرفِّهُه ويُريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل؛ كرحمة الأمِّ؛ ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليطُ أنواع البلاء على العبد؛ فإنه أَعلَم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته، من رحمته به؛ ولكن العبد لجهله وظُلمه يتَّهِم ربَّه بابتلائه، ولا يَعلَم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه [12].
المراجع
1. "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 483).
2. رواه البخاريُّ (6000)، ومسلم (2752).
3. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 35).
4. رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).
5. رواه أبو داود (4941)، والترمذيُّ (1924)، وقال: حديث حسن صحيح.
6. رواه البخاريُّ (5997)، ومسلم (2318).
7. رواه البخاريُّ (707).
8. رواه أبو داود (2675)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2268).
9. رواه أحمد (9700)، وأبو داود (4942)، والترمذيُّ (1923)، وقال الألبانيُّ في صحيح الترغيب والترهيب" (2261): حسن.
10. رواه أبو يعلى (4258)، وصحَّحه الألباني في "الصَّحِيحَة" (167)، وفي "صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب" (2253).
11. رواه البخاريُّ (3467)، ومسلم (2245).
12. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/ 174).
1- هذا الحديث يُعَدُّ من أصول الإسلام، وجامعًا من جوامع الخير للمسلم في الدنيا والآخرة، وفيه بيانٌ لفرائضَ عظيمةٍ من فرائضِ الإسلام، لا يتحقَّق إيمانُ العبد إلا بها.
2- الرجل في الحديث من الأعراب من ساكني الصحراء، وهو من أهل نَجْدٍ، قيل: اسمُه ضِمَامُ بنُ ثعلبةَ t وافدُ بني سعدِ بنِ بكرٍ[1]
3- في الحديث لم يَذكُر ﷺ الشهادةَ للرجل؛ لأنه علِم أنه يَعلَمها، أو عَلِم ﷺ أنه إنما يسأل عن شرائع الإسلام الفِعلية دون القَولية، أو ذكَرَها ولم يَنقُلها الراوي لشُهرتها، وإنما لم يَذكُر الحجَّ؛ إما لأنه لم يكن فُرِض بعدُ، أو لأنه لم يكن واجبًا عليه، أو أنه ذكَره وراوي الحديث اختصره[2]
4- في الحديث إشارة إلى أن الصلواتِ الخمسَ هي أعظمُ أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عَمودُ دين الإسلام، وأَكثَرُ العبادات ذِكْرًا في القرآن، وآخرُ وصايا الرسول ﷺ، وقد سَمَّاها اللهُ تعالى إِيمانًا.
5- في الحديث إشارةٌ إلى أن الفرائضَ وَحْدَهَا إذا التزمها صاحِبُها على الوجه الذي يَرْضَاهُ الخالقُ سبحانه، فهو من النَّاجِينَ يومَ القيامة بلا شكٍّ، وإن تَرَك غيرها من النوافل.
6- قوله: (فَأَدبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ)، قيل معناه: لا أُغيِّر الفروضَ المذكورَةَ بزيادةٍ فيها ولا نُقْصَانٍ منها. ولا يصحُّ أن يُقال: إن معناه: لا أفعلُ شيئًا زائدًا على هذه الفروض المذكورة من السُّنَنِ، ولا من فُرُوضٍ أُخَرَ إن فُرِضَتْ؛ فإنَّ ذلك لا يجوزُ أن يقوله ولا يعتقدَه؛ لأنه مُنكَرٌ، والنبيُّ ﷺ لا يُقِرُّ على مثله.
7- مُراد الأعرابيِّ أنَّه لا يَزيدُ على الصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيامِ رمضانَ، وحجِّ البيت شيئًا من التطوُّع، ليس مرادُه أنَّه لا يعمل بشيءٍ من شرائعِ الإسلام وواجباته غيرِ ذلك، وهذه الأحاديثُ لم يُذكر فيها اجتنابُ المحرَّمات؛ لأنَّ السائل إنَّما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنَّة [3]
المراجع
- انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 106).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 107).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 517).
في تشريع الوصية رحمة ولُطف بالعباد؛ ففيها تذكيرٌ دائم بالموت، والاستعداد له، ومن ثَمَّ الحرص على تأدية الحقوق، أو الإيصاء بتأديتها بعد الموت، وكذلك الإيصاء بأعمال البِرِّ التي تَعُود على الناس بالخيرِ، وتَعود على الموصي بالأجْرِ والثَّوابِ.
في الحديث الحثُّ على الْمُبادَرة بكتابة الوصية قبل مُباغتة الموت.
في الحديث بيان أنَّه لا ينبغي للمسلم - رجُلًا كان أو امرأةً - ولا يحقُّ له إذا كان يمتلك شَيئًا يُوصِي فيه من الأموالِ ونحوها، أو عليه من الحقوق والديون، أو فرَّط في شيء من الكفَّارات والزَّكواتِ، وهَلُمَّ جرًّا، أنْ تَمضِيَ عليه لَيلتانِ أو أكثرُ إلَّا ووَصيَّتُه بما يتطلَّب الإيصاءَ به مَكتوبةٌ ومَحفوظةٌ عِندَه، فإذا وصَّى بذلك، أُخرِجَت الدِّيونُ مِن رَأسِ المالِ، وأُخرِجَ غيرُها مِن ثُلثِ التَّرِكة.
الوصيةُ معناها: العَهد، وهي أن يَعهَد الإنسانُ بعد موته لشخص في تصريف شيء من ماله، أو بالنظر على أولاده الصغار، أو يَعهَد لشخص في أيِّ شيء من الأعمال التي يَملِكها بعد موته، فيُوصي به؛ مِثْلُ أن يَكتُب الرجل: وصيَّتي إلى فلان بن فلان، بالنظر على أولادي الصغار، ووصيَّتي إلى فلان بن فلان بتفريق ثُلث مالي أو رُبعه أو خُمُسه في سبيل الله. وصيَّتي إلى فلان في أن ينتفع بما خلَّفت من عقار أو غيره، أو ما أشبه ذلك؛ فالوصيةُ: عهدُ الإنسان بعد موته إلى شخص بشيء يَملِكه [1].
في الحديث أن الحَزْم والاحتياط للمسلم أن تكون وصيَّتُه مكتوبةً عنده، ويُستحبُّ تعجيلُها، وأن يَكتُبها في صحَّتِه، ويُشهِدَ عليه فيها، ويَكتُب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدَّد له أمرٌ يحتاج إلى الوصيَّة به، ألحقه بها. قالوا: ولا يُكلَّف أن يَكتُب كلَّ يوم محقَّرات المعاملات، وجُزئيَّات الأمور المتكرِّرة [2].
في قوله: «عنده» إشارةٌ إلى أنه ينبغي أن يحتفظ الإنسان بالوصية والوثائق عامَّةً، وألَّا يسلِّط عليها أحدًا؛ بل تكون عنده في شيء محفوظ محرَّز؛ كالصندوق وغيره؛ لأنه إذا أهملها، فربَّما تضيع منه، أو يسلَّط عليها أحد يَأخُذها ويُتلِفها، أو ما أَشبَه ذلك [3].
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي اللَّه عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ» فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: «لاَ» ثُمَّ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ - أَوْ كَثِيرٌ - إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ»
[4].
المراجع
1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 460، 461).
2. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74).
3. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 465).
4. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).
8. في الحديث الحثُّ على الوصيَّة، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها؛ لكنَّ مذهب الجماهير أنّها مندوبةٌ لا واجبة، وقال داود وغيره من أهل الظّاهر: هي واجبةٌ؛ لهذا الحديث، ولا دلالةَ لهم فيه؛ فليس فيه تصريح بإيجابها؛ لكن إن كان على الإنسان دَيْنٌ أو حقٌّ، أو عنده وَدِيعة ونحوُها، لَزِمه الإيصاء بذلك [1].
9. حكى ابنُ الْمُنذِر الإجماعَ على أن وصيَّة الكافر جائزةٌ في الجُمْلة، وقد بحث فيه السُّبكيُّ من جهة أنّ الوصيَّةَ شُرِعت زيادةً في العمل الصّالح، والكافرُ لا عَمل له بعدَ الموت، وأجاب بأنّهم نظروا إلى أنّ الوصيّة كالإعتاق، وهو يصحُّ من الذِّمِّيِّ والحربيِّ [2].
10. في الحديث أنَّ الأشياءَ المهمَّةَ ينبغي أنْ تُضبَطَ بالكتابة؛ لأنَّها أثبَتُ من الضَّبطِ بالحِفظ، وأقوى في الاستدلال.
11. ذهب الجمهور إلى أن الوصية لا يُعمَل بها، ولا تَنفَع إلَّا إذا كان أَشهَد عليه بها، لا أنّه يَقتصِر على الكتابة دون إشهاد. وقال الإمام محمّدُ بنُ نصرٍ الْمَرْوَزيُّ: يكفي الكتابُ من غير إشهاد؛ لظاهر الحديث [3]. وقال القرطبيُّ: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التّوثُّق، وإلّا فالوصيَّةُ المشهود بها متَّفق عليها ولو لم تكن مكتوبةً [4].
12. تنقسم الوصية إلى أقسام: منها واجبة، ومنها محرَّمة، ومنها مباحة.
13. الوصية الواجبة: هي أن يُوصِيَ الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة؛ لئلَّا يَجحَدها الوَرَثة، لا سيَّما إذا لم يكن عليها بيِّنة؛ كأن يكون على الإنسان دَيْنٌ أو حقٌّ لغيره، فيجب أن يُوصيَ به، لا سيَّما إذا لم يكن فيه بيِّنة؛ لأنه إذا لم يوصِ به، فإن الورثة قد يُنكِرونه، والورثة لا يُلزَمون أن يصدِّقوا كلَّ من جاء من الناس وقال: إن لي على ميِّتِكم كذا وكذا، لا يَلزَمهم أن يصدِّقوا، فإذا لم يوصِ الميِّت بذلك، فإنه ربما يكون ضائعًا، فمن عليه دَيْنٌ؛ يعني: حقٌّ في ذمَّته لأحد، فإنه يجب عليه أن يوصيَ به [5].
14. ذهب كثيرٌ من أهل العلم، أن الإنسان يجب أن يُوصيَ إذا كان عنده مالٌ كثيرٌ بما تيسَّر لأقاربه غير الوارثين، أما الوارثُ، فلا يجوز أن يوصى لهم؛
لقول الله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ }
[البقرة: 180]،
فخرج من ذلك، من الوالدين والأقربين من كانوا ورثةً؛ فإن الورثة لا يُوصى لهم، وبَقِيت الآيةُ مُحكَمةً فيما عدا الوارثين [6].
15. الوصيَّة المحرَّمة: إذا أوصى لأحد من الورثة؛ فالوصيةُ للوارث لا تجوز مُطلَقًا، فإن قدِّر أن أحدًا كان جاهلًا، وأوصى لأحد الورثة بشيء، فإنه يُرجَع إلى الورثة بعد موته، إن شاؤوا نفَّذوا الوصية، وإن شاؤوا ردُّوها [7].
16. الوصية المباحة: هي أن يوصيَ الإنسان بشيء من ماله لا يتجاوز الثُّلث؛ لأن تجاوُزَ الثُّلث ممنوع؛ لكن ما دون الثُّلث فهو حرٌّ فيه، وله أن يوصيَ فيه لمن شاء إلا الورثةَ [8].
17. لا يجوز الزيادة على ثُلث التركة في الوصية، وما دون الثُّلث كالرُّبع والخُمس فهو أفضلُ. لذا؛
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:
لو أن الناس غضُّوا من الثُّلث إلى الربع، فإن النبيَّ ﷺ قال لسعدِ بن أبي وقَّاص: «الثُّلث والثُّلث كثير»
[9]،
وكان أبو بكر - رضي الله عنه - أوصى بخُمس ماله، وقال: أرضى بما رضيَ الله لنفسه الخُمس، فأوصى بخُمس ماله؛ وهذا أحسن ما يكون [10].
18. إذا كان الورثة محتاجين، فتركُ الوصية أولى، هم أحقُّ من غيرهم؛
قال النبيُّ ﷺ:
«إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»
[11].
فإذا كان الورثةُ الذين يَرِثونك تَعرِف أن حالهم وَسَطٌ والمالُ شَحيحٌ عندهم، وأنهم إلى الفقر أقربُ، فالأفضلُ ألَّا توصِيَ [12].
19. نَسَب ابن عبد البرِّ القول بعدم وجوب الوصية إلى الإجماع سوى من شذَّ، وقال بوجوب الوصية الزُّهْريُّ وأبو مِجْلَز وعطاء وطلحةُ بنُ مصرِّف في آخرين، وحكاه البيهقيُّ عن الشّافعيِّ في القديم، وبه قال إسحاق وداودُ، واختاره أبو عوانة الإسفرايينيِّ وابن جرير وآخرون [13].
20. في الحديث العملُ بالكتابة؛
لقوله ﷺ:
«إلا ووصيته مكتوبة عنده»،
فدلَّ هذا على وجوب العمل بالكتابة. وفي قوله: «مكتوبة» اسم مفعول إشارة إلى أنه لا فرق بين أن يكون هو الكاتبَ أو غيرَه ممن تَثبُت الوصية بكتابته، فلا بدَّ أن تكون الكتابة معلومةً، إما بخطِّ الموصي نفسِه، أو بخطِّ شخص معتمَد، وأما إذا كانت بخطٍّ مجهول، فلا عبرةَ بها، ولا عَمَلَ عليها [14].
21. الجمهور على أنّ الوصيّة غير واجبة لعَيْنها، وأنّ الواجب لعَينه الخروجُ من الحقوق الواجبة للغير، سواء كانت بأداء أو وصيَّة، ومحلُّ وجوب الوصيّة إنّما هو فيما إذا كان عاجزًا عن أداء ما عليه، وكان لم يعلم بذلك غيره ممَّن يَثبُت الحقُّ بشهادته، فأمّا إذا كان قادرًا أو عَلم بها غيره، فلا وجوب [15].
22. الوصيّة قد تكون واجبةً، وقد تكون مندوبةً فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهةً في عكسه، ومباحةً فيمن استوى الأمران فيه، ومحرَّمةً فيما إذا كان فيها إضرارٌ؛ كما ثبت عن ابن عبّاس: الإضرار في الوصيّة من الكبائر، رواه سعيد بن منصور موقوفًا بإسناد صحيح، ورواه النّسائيُّ، ورجاله ثقات [16].
المراجع
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74).
2. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74 - 76).
4. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359).
5. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 461).
6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 461، 462).
7. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 462، 463).
8. شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 463).
9. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).
10. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 463).
11. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).
12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 463، 464).
13. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 358).
14. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 464، 465).
15. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359).
16. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359).
1- يهتمُّ الإسلام بكلِّ شؤون الإنسان الظاهرة والباطنة، ومنها: الطهارةُ والنظافة والجمال، وما تقتضيه الفطرة، حتى إنه جعل الطُّهور شطرَ الإيمان؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[1]
2- في الحديث يُرشِد النبيُّ ﷺ المسلم إلى خصال الفطرة التي فَطَر الله عليها العباد وشَرَعها لهم، وجعل استحسانها مفطورًا في العقول، والمراد بالفِطَر في الحديث الفِطَر السليمة؛ لأن الفِطَر المنحرِفة لا عبرة بها.
3- يتعلَّق بخصال الفطرة أمور دينيّة ودنيويّة؛ مثل تحسين الهيئة، وتنظيف البَدَن، والطّهارة، وحسن مخالطة النّاس بكفِّ ما يُتأذَّى بريحه عنهم، ونحو ذلك.
4- خصال الفطرة ليست منحصرةً في عشْر؛ فقد ثبت في أحاديثَ أخرى زيادةٌ على ذلك، فدلَّ على أن الحصر فيها غير مُراد، واختُلف في النُّكتة في الإتيان بهذه الصّيغة، فقيل برفع الدَّلالة، وأنّ مفهوم العدد ليس بحُجَّة، وقيل: بل كان أُعلِم أوّلًا بالخمس، ثمّ أُعلِم بالزّيادة، وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسَبِ المقام، فذَكَر في كلِّ موضع اللّائقَ بالمخاطَبين[2]
5- ذَكَر ابن العربيِّ أنّ خصال الفِطرة تبلغ ثلاثين خَصْلةً، فإذا أراد خصوص ما ورد بلفظ الفِطرة، فليس كذلك، وإن أراد أعمَّ من ذلك، فلا تنحصر في الثّلاثين؛ بل تزيد كثيرًا، وأقلُّ ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر، فإنّه لم يذكر فيه إلّا ثلاثًا[3]
6- اختُلف في المراد بالفطرة في الحديث، فذَهَب أكثر العلماء إلى أنّها السُّنَّة، وقيل: معناه أنّها من سُنن الأنبياء، وقيل: هي الدِّين.
7- معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وفي بعضها خلافٌ في وجوبه؛ كالختان والمضمضة والاستنشاق، ولا يَمتنِع قَرْنُ الواجب بغيره.
8- قال النَّبِيُّ ﷺ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»[4]
المراجع
- رواه مسلم (223).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 337).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 337).
- رواه البخاريُّ (27).
في هذا الحديث يحذِّر النبيُّ ﷺ أمَّته من المهلِكات السَّبع، التي تُهلِك فاعلَها في الدنيا بما يترتَّب عليها من العقوبات، وتُودِي به في نار جهنَّمَ.
سببُ تسمية هذه الكبائر [موبقات]: أنها تُهلِك فاعلها في الدنيا بما يترتَّب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب[1].
لا تنحصر الموبقات في هذه السَّبع؛ فالغرضُ التَّنْبِيهُ بها إلى أمثالها، أو ما زاد فُحْشُه عن فُحْشِها؛ كالزنى والسَّرِقة، وسببُ الاقتصار على هذه السبع؛ لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها، لا سيَّما فيما كانت عليه الجاهلية[2].
قيل: الكبائر تسع، وروى الحاكم في حديث طويل: «والكبائر تسع» فذكر السبعة المذكورة، وزاد عليها: «عقوق الْوَالِدين الْمُسلمينِ، وَاسْتِحْلَال الْبَيْت الْحَرَام»، وقيل: الكبيرة كلُّ معصية. وقيل: كلُّ ذنب قُرِن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عَبَّاس، رضي الله عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سَبْعمِائة. وقيل: الكبيرة أمر نسبيٌّ، فكلُّ ذَنْب فَوْقَه ذَنْب، فهو بالنسبة إليه صغيرة، وبالنسبة إِلى ما تَحْتَه كبيرة[3].
اقتصاره على ذكر هذه السبع في هذا الحديث يَحتمِل أن تكون لأنها هي التي أُعلِمَ بها في ذلك الوقت بالوحي، ثم بعد ذلك أُعلِم بغيرها، ويَحتمِل أن يكون ذلك؛ لأن تلك السبعَ هي التي دَعَت الحاجة إليها في ذلك الوقت، أو التي سُئل عنها في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلِّ حديث خصَّ عددًا من الكبائر[4].
السحر هو عبارة عن عُقَد وقراءات ونَفَثات يتوصَّل بها الساحر إلى الإضرار بالمسحور، فمنه ما يَقتُل، ومنه ما يُمرِض، ومنه ما يُذهب العقل، ومنه ما يُوجِب العَقد؛ يعني: تعلُّق الإنسان بغيره تعلُّقًا شديدًا، ومنه ما يوجِب الصرف؛ يعني: انصرافه عن غيره انصرافًا كاملاً، فهو أنواع[5].
أصلُ السِّحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأنَّ الساحر لَمَّا أَرَى الباطلَ في صورة الحقِّ، وخيَّل الشيء على غير حقيقته، قد سَحَر الشيء عن وجهه؛ أي: صَرَفه، وهو عمل يقرِّب فيه إلى الشيطان، وبمعونة منه.
من السِّحر الأخذة التي تأخذ العين حتى تظنَّ أن الأمر كما ترى، وليس الأصل على ما ترى.
من أنواع السحر: سحر الكذَّابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السَّبعة الْمُتَحَيِّرة، وَهِي السيَّارة، وكانوا يعتقدون أنها مُدبِّرَة للعالم، وأنها تَأتي بالخير والشَّرِّ، وهم الذين بعث الله إبراهيم الخليل مُبْطِلًا لمقالتهم، وردًّا لمذاهبهم[6].
من أَنْوَاع السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجنُّ، وهم على قسمَيْنِ: مؤمنون وكفَّار، وهم الشياطين، وهذا النوع يحصل بأعمال من الرقى والدَّخَن، وهذا النوع الْمُسَمَّى بالعزائم وعمل تسخير[7].
من أنواع السحر: التخيُّلات والأخذ بالعيون والشَّعْبَذة، وقد قال بعض المفسِّرين: إن سحر السَّحَرة بين يدَيْ فِرعون إنّما كان من باب الشَّعْبذة[8].
من أنواع السحر: الاستعانة بخواصِّ الأدوية؛ يعني: في الأطعمة والدِّهانات[9].
من أنواع السحر: تعلُّق القلب، وهو أن يدَّعي السّاحر أنه عَرَف الاسم الأعظم، وأن الجنَّ يُطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور[10].
أُدخل كثير من أَنْوَاع السحر فِي فنِّ السحر لِلَطافة مداركها؛ لأن السحر في اللُّغَة عبارة عمَّا لَطُف وخَفِيَ سَببُه؛ ولهذا جاء في الحديث: «إِن من الْبَيَان لسحرًا»، وسمِّي السُّحُور لكَونه يَقع خفِيًّا آخِرَ اللَّيل[11].
أكبر واقٍ يقي الإنسان ويحميه من السحر: قراءة الأوراد الشرعية؛ مثل آية الكرسيِّ، وسورة الإخلاص، والمعوِّذتين، وما أشبه ذلك مما جاء في الآيات والأحاديث عن النبي ﷺ [12].
إن شرَّ الساحر من شرِّ النفس الشرِّيرة، فالساحر يَستعين بالشيطان ويَعبُده[13].
قلَّما يتأتَّى السِّحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرُّب إليه، إما بذَبْحٍ باسمه، أو بذَبح يُقصد به هو، فيكون ذبحًا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق[14].
في الحديث بيان عظم جريمة إزهاق النَّفس المعصومة بالإسلام أو الذمَّة أو العهد أو الأمان؛ إلا بالحقِّ؛ كالقتل قصاصًا أو حدًّا أو ردَّةً.
القتل جريمة تَرفَع الأمن، وتَنشُر الخوف، وتَفتِك بالأمَّة وتُضعِفها، وتقطع روابط الإخاء بينها؛
قال تعالى:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
[النساء: 93].
قال تعالى:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
[البقرة: 275].
ورد الإحصان في الشرع على خمسة أَسام: الإسلام والعفَّة وَالتَّزويج والحرية والنِّكاح[14].
اليتامى هم الذين مات آباؤهم قبل البلوغ، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، وهم محلُّ الرفق والعناية والرحمة والشفقة؛ لأنهم كُسرت قلوبهم بموت آبائهم، وليس لهم عائلٌ إلا اللهَ عزَّ وجلَّ، فكانوا محلَّ الرفق والعناية[15].
المراجع
1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 283).
2."شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 84).
3."عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (3/ 114).
4."المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 283).
5. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 573).
6."عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 61).
7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 61).
8."عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 61).
9."عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 61).
10. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 61).
11."عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 61).
12."بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 759).
13."بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 760).
14. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 64).
15. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 309).