112 - العملُ بالسُّنة وتجنُّب المُحْدَثات

عن العِرباضِ بنِ ساريةَ قال: قام فينا رسولُ الله ﷺ ذاتَ يوم، فوعَظَنا موعظةً بليغةً، وَجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَت منها العيونُ، فقيل: يا رسول الله، وعظْتَنا موعظةَ مُوَدِّع، فاعهَدْ إلينا بعهدٍ، فقال: «عليكم بتقوى الله، والسمعِ والطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًّا، وسترَوْنَ من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإيَّاكم والأمورَ المُحدَثاتِ؛ فإن كلَّ بِدعة ضلالة».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. هذا الحديث فيه بعض القواعد العظيمة التي انْبنى عليها الدين، من وجوب التقوى، والاتِّباع، وتحريم الابتداع، وطاعة أُولي الأمر في المعروف، والصبر على أذاهم، واتِّباع سُنَّة الصحابة والخلفاء الراشدين.

2. قوله: (موعظةً بليغةً)؛ أي: تامّةً في الإنذار، وجيزةَ اللّفظ، كثيرةَ المعنى، أو بالَغ فيها بالإنذار والتّخويف

كقوله تعالى:

{وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}[1].

[النساء: 63]

3. لم يكن ﷺ يُطيل الموعظةَ، ولا يَعِظهم كلَّ يوم؛ بل كان يختار الأوقات المناسبة للموعظة؛ لئلَّا يَمَلُّوا ويسأموا، أو تعتادَ قلوبهم ذلك، وكان عبد الله بن مسعود يُذَكِّرُ الناس في كلِّ خميسٍ، فقال له رجُل: يا أبا عبد الرحمن، لوددِتُ أنَّك ذكَّرتنا كلَّ يوم، قال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة، كما كان النبيُّ ﷺ يتخوَّلنا بها؛ مخافةَ السآمة علينا[2].

4. في الحديث استحباب طلَب الوصية من العالِم، وأنها ليست من السؤال المذموم[3].

5. في الحديث إخبار النبيِّ ﷺ عما سيكون من الاختلاف، وفي هذا دليلٌ على صدق نبوَّته ﷺ[4].

6. في الحديث الأمر بالاعتصام بسُنَّة النبيِّ ﷺ عند الاختلاف، ثم بسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعده

ويشهد له قول الله تعالى:

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِ} [5].

[النساء:59]

7. «وَجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَت منها العيونُ» هذان الوصفان قد مدح الله بهما عباده المؤمنين في غير موضِع من القرآن

فقال:

{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}

[المائدة: 83]

وقال تعالى:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

 [الأنفال: 2]

وقال تعالى:

{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ 34 الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 

[الحج: 34، 35]

وقال تعالى:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}

[الحديد: 16]

8. قوله: «عبدًا حبشيًّا»: ساقه ﷺ في مَضرِب المثَل – مبالغةً - عن الشيء الذي لا يكاد يوجد؛ كما روى جابر بن عبد الله ﭭ أن رسول الله ﷺ قال:

«مَن بنى مسجدًا لله كمِفْحَصِ قَطَاةٍ، أو أصغرَ، بنى الله له بيتًا في الجنة»[6]،

ومِفْحَص القَطاة: موضع الطائر الذي يَبيض فيه، وقدر مِفْحَص قَطاة لا يكون مسجدًا لشخصٍ آدميٍّ[7]؛ فإنه ﷺ قال في حديث معاوية:

«إن هذا الأمر في قريش لا يُعاديهم أحدٌ إلا كبَّه الله على وجهه؛ ما أقاموا الدين»[8].

9. قيل في معنى «عضُّوا عليها بالنواجذ»: المحافظة على هذه الوصية بالصبر على مقاساة الشدائد، كمن أصابه ألمٌ فأراد أن يصبر عليه، ولا يستغيث منه بأحد، ولا يُريد أن يُظهر ذلك عن نفْسه، فجعل يشتدُّ بأسنانه بعضها على بعض[9].

10. قوله: «الأمور المحدَثات»: الأمور الْمُحدَثة في الدين على قسمين: إما أن يكون محدَثٌ ليس له أصلٌ في الدين، فهذا باطلٌ مذمومٌ، وإما أن يكون له أصلٌ قيس عليه، واشتُقَّ منه، فهذا ليس بمذموم؛ إذ الحداثة في حدِّ ذاتها ليست محلًّا للمدح أو الذم، وإلا فقد قال الله تعالى:

{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [10].

[الأنبياء: 2]

11. المراد بالبدعة: ما أُحْدِث في الدين مما لا أصلَ له في الشريعة يدُلُّ عليه، فأما ما كان له أصلٌ من الشرع يدُلُّ عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعةً لغةً، وما كان محدَثًا في أمور الدنيا فلا عَلاقة له بالبدعة هنا[11].

12. قوله: «كل بدعة ضلالة» هذا من جوامع كَلِمه ﷺ، فإنَّه قعَّد قاعدةً في هذا الدين بعبارة موجَزة يَسيرة

وهي كقوله ﷺ:

«مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ»[12]

فكل مَن أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة[13].

13. استحسان السَّلَف لبعض الأفعال على أنها بدعة؛ كقول عمرَ بنِ الخطَّاب عن جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد: «نِعمَ البدعةُ هذه»[14]، إنما ذلك في البِدَع اللغوية، لا الشرعية؛ فإن فعله له أصلٌ في الشرع؛ فإن النبيَّ ﷺ صلَّى بالناس، ثم خشيَ أن تُفرض عليهم، فترك ذلك، فلما تولَّى عمرُ جمعَهم على أُبيِّ بن كَعب وقال قولته تلك، فلم تكن بدعةً شرعية[15].

14. قوله: «أوصيكم بتقوى اللّه»؛ أي: بمخافته والحَذَر من معصيته

قال تعالى:

{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}

[النساء: 131]

أي: بأقسامها الثّلاثة، وهي تقوى الشِّرْكِ، وتقوى المعصيةِ، وتقوى ما سوى اللّه، وهذا من جوامع الكلم؛ لأنّ التّقوى امتثال المأمورات، واجتناب المنهيَّات، وهي زاد الآخرة تُنجيكم من العذاب الأبديِّ، وتبلِّغكم إلى دار السُّرور، وتوجب الوصول إلى عتبة الجلال والقُدس والنُّور[16].

15. قوله ﷺ: (فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا)؛ يعني: أن من يعش منكم ويُمَدَّ له في عمره، فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ اختلافًا كثيرًا في الولاية، واختلافًا كثيرًا في الرأي، واختلافًا كثيرًا في العمل، واختلافًا كثيرًا في حال الناس عمومًا، وفي حال بعض الأفراد خصوصًا، وهذا الذي وقع؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لم ينقرضوا حتى حصلت الفتن العظيمة في مقتل عثمان رضي الله عنه، وعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبلها مقتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وغير ذلك من الفتن المعروفة في كتب التاريخ[17].

16. قوله ﷺ: (فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا) ينطبق على كل زمن، فالذين عُمروا منا يجدون الاختلاف العظيم بين أول حياتهم وآخر حياتهم، فمن عاش ومُدَّ له في العمر، رأى التغيُّر العظيم في الناس، وحصل خلاف بين الأمة في السياسة، وفي العقيدة، وفي الأفعال، والأحكام العملية[18].
17.

قال تعالى:

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِ}

[النساء: 59]

طاعة الله أصل، وكذلك طاعة رسوله ﷺ أصل بما أنه مُرسَل منه، أما طاعة أولي الأمر من المؤمنين فهي تبع لطاعة الله وطاعة رسوله، فلم يكرِّر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كرَّرها عند ذكر الرسول ﷺ ليقرِّر أن طاعتهم مستمَدَّة من طاعة الله وطاعة رسوله.
18.

قال ﷺ:

«السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»[19].

19.

قال ﷺ:

«وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا»[20].

المراجع

  1. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 251).
  2. رواه البخاريُّ (70)، ومسلم (2821).
  3. انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 66).
  4. انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 66).
  5. انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 67).
  6. رواه ابن ماجه (738)، وصحَّحه البوصيريُّ في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (1/ 94).
  7. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 300)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 88).
  8. رواه البخاريُّ (3500).
  9. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 301)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 89).
  10. انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 147)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 98).
  11. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 127).
  12. رواه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).
  13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
  14. رواه البخاريُّ (2010).
  15. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
  16. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 251). 
  17. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 280).
  18. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 282).
  19. رواه البخاريُّ (7144).
  20.  رواه مسلم (1838).


الفوائد الفقهية

20. قوله: «عبدًا حبشيًّا». قيل: ذُكر على سبيل الْمَثَل؛ إذ لا تَصِحُّ خلافته لقوله ﷺ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ»[1]. وقيل: تَصِحُّ إمارته مُطْلَقًا، وكذا خلافتُه تَسَلُّطًا كما حدث في القرون المتأخِّرة[2]. 

21. قوله: «عبدًا حبشيًّا»: يَحتمِل أن النبيَّ ﷺ أخبر بفساد الأمر، ووضعه في غير أهله، حتى تُوضع الولاية في العبيد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا؛ تغليبًا لأهون الضررين، وهو الصبرُ على ولاية مَن لا تجوز ولايته؛ لئلَّا يُفضيَ إلى فتنة عظيمة[3].

22. قوله: «وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ»، سواءٌ كانت إمرتُه عامَّةً؛ كالرئيس الأعلى في الدولة، أو خاصَّةً كأمير بلدة، أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك[4].

23. قوله: (والسمع والطاعة): هذا الإطلاق مقيَّد بما قيَّده به النبيُّ ﷺ حيث قال: «إنما الطاعة في المعروف»[5]، يعني فيما يُقرُّه الشرع، وأما ما يُنكره الشرع، فلا طاعة لأحد فيه، حتى لو كان الأبَ أو الأمَّ أو الأمير العامَّ أو الخاصَّ؛ فإنه لا طاعة له[6].

24. كلُّ ما أمر به وليُّ الأمر، إذا كان معصيةً لله، فإنه لا سمع له ولا طاعة، يجب أن يُعصى عَلَنًا ولا يُهتمَّ به، إن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله، فإنه لا حقَّ له في السمع والطاعة؛ لكن يجب أن يُطاع في غير هذا؛ فليس معنى ذلك أنه إذا أَمَر بمعصية، تسقط طاعته مطلَقًا؛ إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعيَّن الذي هو معصية لله، أما ما سوى ذلك، فإنه تجب طاعته[7].

25.

قال تعالى:

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِ}

[النساء: 59]

فطاعةُ وليِّ الأمر في غير معصية طاعةٌ لله ولرسوله"[8]. 

26. قوله: «عليكم بسُنَّتي»؛ أي: الزَموا سُنَّتِي، والسُّنَّة: الطريقة، وهي: كلُّ ما نُقل عن النبيِّ ﷺ من قولٍ، أو فعلٍ، أو إقرار[9].

27. أمر ﷺ بالرجوع إلى سُنَّة الخلفاء الراشدين لعلمه أنهم لا يُخطئون سُنَّته، فيما يَستخرجونه من سُنَّته بالاجتهاد، ومن هذا الباب قتالُ أبي بكر مانعي الزكاة، وقتال عليٍّ المارقة.

28. أمر ﷺ بالرجوع إلى سُنَّة الخلفاء الراشدين؛ لعلمه أن شيئًا من سُنَّته لا يَشتهِر في زمانه، وإن علِمه الأفراد من صحابته، ثم يَشتهِر في زمان الخلفاء، فيُضاف إليهم، فربما يتذرَّع أحدٌ إلى ردِّ تلك السُّنة بإضافتها إليهم، فأطلق القول باتِّباع سُنتهم؛ سدًّا لهذا الباب [10].

29. قوله: «وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين» المراد بهم: أبو بكر، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ رضوان الله عليهم أجمعين؛ فإنهم الذين انعقد عليهم الإجماعُ بالخلافة الراشدة، وربما يكون المراد بهم العلماءَ وأئمة الإسلام المجتهدين في أصول الأحكام؛ فإنهم خلفاؤه في إحياء الحقِّ، وإعلاء الدين، وإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم[11].

30. في الحديث دليل على أن واحدًا من الخلفاء الراشدين إذا قال قولًا وخالفه غيره من الصحابة، كان المصير إلى قوله أَوْلى، وإليه ذهب الشافعيُّ - رضي الله عنه - في القديم، قال: والحديث يدلُّ على تفضيل الخلفاء الراشدين على غيرهم من الصحابة، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة[12].

31. قوله: «وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين» فسنَّة هؤلاء الخلفاء تأتي بعد سنَّة الرسول ﷺ، فلو تعارضت سنَّة خليفة من الخلفاء مع سنَّة محمد ﷺ، فإن الحكم لسنَّة محمد ﷺ لا لغيرها؛ لأن سنَّة الخلفاء تابعة لسنَّة النبيِّ ﷺ[13].

32. «وإياكم ومحدثاتِ الأمور»؛ أي: المحدثاتِ في دين الله؛ وذلك لأن الأصل فيما يَدين به الإنسان ربَّه، ويتقرَّب به إليه، الأصل فيه المنع والتحريم، حتى يقوم دليل على أنه مشروع؛ ولهذا أنكر اللهُ - عزَّ وجلَّ - على من يحلِّلون ويحرِّمون بأهوائهم

فقال تعالى:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}

[النحل: 116]

وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن بها

فقال:

{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}

[الشورى: 21]

وقال:

{قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}[14].

[يونس: 59]

33. أمور الدنيا لا يُنكَر على مُحْدَثاتِها إلا إذا كان قد نُصَّ على تحريمه، أو كان داخلًا في قاعدة عامَّة تدلُّ على التحريم؛ لأن الأصل الحلُّ، إلا ما نصَّ الشرع على تحريمه؛ كتحريم الحرير والذهب على الرجال، وتحريم ما فيه الصورة، وما أشبه ذلك[15].

34. قوله: «فإن كل بدعة ضلالة» يشمل ما كان مبتدَعًا في أصله، وما كان مبتدَعًا في وصفه. فمثلًا: لو أن أحدًا أراد أن يَذكُر الله بأذكار معيَّنة بصفتها أو عددها، بدون سنَّة ثابتة عن رسول الله ﷺ، فإنا ننكر عليه، ولا ننكر أصل الذكر؛ ولكن نُنكر ترتيبه على صفة معيَّنة بدون دليل[16].

35. كلُّ بدعة ضلالة، وفي الحديث ردٌّ على مَن يقسِّم البدعة في الدين إلى حسنة وسيئة[17].

المراجع

  1. رواه أحمد (12900)، وغيره، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2188).
  2. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 252).
  3. انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 137)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 97).
  4. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 276).
  5. رواه البخاريُّ (7145)، ومسلم (1840).
  6. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 276 - 278).
  7. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 278).
  8. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 279).
  9. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 409).
  10. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 89)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 272).
  11. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 137).
  12. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634، 635).
  13. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 283).
  14. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 283).
  15. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 285).
  16. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 286).
  17. انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 76).


الفوائد التربوية

36. ينبغي للعالِم أن يتخوَّل أصحابه بالموعظة، ولا يُكثر عليهم.

37. يُستَحب للرجُل أن يسأل العالِمَ والداعيةَ وَعْظَه.

38. على الواعظ أن تشتمل موعظته القواعد العامَّة، والأمور الكلية.

الفوائد الحديثية

39. لفظ الأربعين: «وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ»؛ أي: صار أميرًا أدنى الخَلق، فلا تستنكفوا عن طاعته، أو ولو استولى عليكم عبد حبشيٌّ فأطيعوه؛ مخافةَ إثارة الفتن، فعليكم الصَّبْرَ والْمُداراة حتّى يأتيَ أمر اللّه[1].

المراجع

  1. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 252).


الفوائد اللغوية

40. البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، ومنه البلاغة، والأصل فيه أن يجمع الكلام ثلاثة أوصاف: صوابًا في موضوع اللغة، ومطابقة للمعنى المراد منه، وصدقًا في نفْسه، وكلام الرسول ﷺ أحقُّ بهذه الأوصاف من بين كلام سائر الخَلْق[1].

41. الفاء في «فإنه» للتسبيب، جَعَلت ما بعدها سببًا لِما قبلها؛ يعني: من قَبِل وصيَّتي، والْتَزَم تقوى الله، وقَبِل طاعة من وُلِّي عليه، ولم يهيِّج الفتن، أَمِن بعدي مما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعيب الآراء، ووقوع الفتن[2].

42. قوله: «فعليكم بسنَّتي» تأكيد تلك الوصية على سبيل الالتفات، وعَطَف عليه قوله: «وإياكم ومحدثاتِ الأمور» تقريرًا بعد تقرير، أو توكيدًا بعد توكيد، وكذا قولُه: «تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ» تشديد على تشديد[3].

43. قوله: «ذرفت منها العيون»؛ أي: بَكَت العيون من الخشية والخوف، وهذا مجازٌ؛ فإن الأصل: ذرفت الدموعُ لا العيون، فإسناد الذرف إلى العيون كإسناد الفَيض إليها

كما في قوله تعالى:

{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} 

[المائدة: 83]

فكأن أعينَهم ذَرَفت مكانَ الدمع مبالغةً فيها، وإنما قدَّم وَجَل القلوب على بكاء العيون للدلالة على أن الموعظة قد أثَّرت فيهم باطنًا وظاهرًا[4].

44. قوله: «وإن عبدًا حبشيًّا»: (عبدًا) خبر لكان المحذوفة مع اسمها، وهذا مشتهر في اللغة بعد (إن) و(لو).

45. «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي»: اسْمُ فِعْل أمر بمعنى: الْزَموا؛ أي: بطريقتي الثابتة عني واجبًا أو مندوبًا.

46. «النواجذ» جَمْعُ نَاجِذَةٍ، وهي الضِّرْسُ الأخير، وقيل: هو مُرادِف السِّنِّ، وقيل: الأضراس، وقيل: الضواحك، وقيل: الأنياب، والعضُّ بالنواجذ مَثَلٌ في التمسُّك بهذه الوصية بجميع ما يمكِن من الأسباب الْمُعِينة عليه، كمن يتمسَّك بشيء ثم يستعين عليه بأسنانه؛ استظهارًا للمحافظة[5].

47. الْعَضُّ كناية عن شِدَّةِ مُلَازَمَةِ السُّنَّةِ وَالتَّمَسُّكِ بها؛ فإذا أمسك الإنسان بيديه بالشيء وعضَّ عليه بأقصى أسنانه، فإن ذلك يكون أشدَّ تمسُّكًا مما لو أمسكه بيد واحدة، أو بيدين بدون عضٍّ، فهذا يدلُّ على أن النبيَّ ﷺ أمرنا أن نتمسَّك أشدَّ التمسُّك بسنَّته وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعده [6].

48. «عضوا عليها بالنواجذ»، قيل: هذه استعارة تمثيليّة، شبَّه حال المتمسِّك بالسُّنّة المحمَّديّة بجميع ما يمكِن من الأسباب الْمُعينة عليه بحال من يتمسَّك بشيء بيديه ثمّ يستعين عليه؛ استظهارًا للمحافظة في ذلك[7].

49. «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ»: أسلوب تحذير، وعُطف على قوله: «فعليكم»؛ للتّقرير والتّوكيد؛ أي: احذروا الأمور الّتي أُحدثت على خلاف أصل من أصول الدّين، واتّقوا أحداثها. «فإنّ كلَّ محدَثة بدعة»؛ أي: في الشّريعة. «وكلّ بدعة»: بنصب (كلّ)، وقيل: برفعه[8].

المراجع

  1. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 88).
  2. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634).
  3. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634).
  4. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 633).
  5. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634).
  6. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 253). 
  7. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 253). 
  8. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 253). 


مشاريع الأحاديث الكلية