1. في الحديث بيان ما أَعَدَّه الله تعالى في الجنَّة للصالحين من عباده وأوليائه، ووعده الصالحين من جِنس ما يعرفونه من مَطعَم ومَشرَب ومَلبَس ومَنكَح، وغيرِ ذلك، ثم زادهم من فضله ما لا يعرفونه فقال: «ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت» ولا يَخطُر على القلب تصوير ما لم يَرَ ولم يسمع، فقال: «ولا خَطَر على قلب بشر»[1].

  2. حضَّ الله تعالى عباده على المسارعة إلى الجنة

    فقال تعالى:

     وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ

    [آل عمران: 133]

    وأخفى لهم فيها ثَوَابًا لا يَعلَم مِقدارَه إلا اللهُ تعالى؛ جزاءً على أعمالهم.

  3. ليس مفهومُ الحديث أن الجنة ثمنٌ للعمل الصالح، وأنها حقٌّ للمرء وعوض يستحقُّ دخولها ونيل نعيمها بمجرَّد عمله الصالح.

  4. من رحمة الله تعالى أن جعل الأعمال الصالحة سببًا لدخول الجنة؛ مع أنها لا تؤدِّي شكر بعض النِّعم التي أنعمها الله على عباده.

  5. لَا تعارُضَ بين الحديث وبين قول النبيِّ : «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لا، وَلا أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا...» [2] الحديث. فليس تَوارُدُ النَّفْي والإثبات على معنًى واحِدٍ؛ فالمنفيُّ استحقاقُ الجنة بمجرَّد الأعمال، وكَوْنُ الأعمالِ ثَمَنًا وَعِوَضًا للجنة ونعيمها؛ إذ إن كل الأعمال الصالحة لا تؤدِّي شكر نعمة من نعم الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ كنعمة العقل أو البصر والسمع... إلخ؛ بل إن توفيق العبد الصالح لهذه الأعمال هو من فضل الله.

  6. إن الأعمال الصالحة من توفيق اللّه وفضله ومَنِّه، وصَدَقته على عبده، أن أعانه عليها ووفَّقه لها، وخَلَق فيه إرادتها والقُدرة عليها، وحبَّبها إليه، وزيَّنها في قلبه، وكرَّه إليه أضدادها، ومع هذا، فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، ولا هي على قدره؛ بل غايتُها إذا بذل العبد فيها نُصْحَه وجُهْدَه، وأوقعها على أكمل الوجوه، أن تقع شكرًا له على بعض نِعَمه عليه، فلو طالبه بحقِّه لبَقِي عليه من الشُّكر على تلك النِّعمة بقيَّة لم يقم بشكرها[3].

المراجع

  1. " كشف الْمُشكِل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (3/ 433).
  2. رواه البخاريُّ (5673).
  3. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 115).

  1. هذا الحديث من أعظم الزّواجر عن ترك الجمعة، والتّساهُل فيها، وفيه إخبارٌ بأنّ تركها من أعظم أسباب الخِذلان.
  2. أمر النبيُّ  بإقامة الجُمُعة بالمدينة بعد الهجرة، ولم يُقِمْها بمكَّةَ، وهذا يدلُّ على أنه كان قد فُرِضت عليه الجمعة بمكَّة[1]
  3. يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا»[2]
  4. قوله: (يقول على أعواد منبره)؛ أي: منبره الّذي من عُود، لا على الّذي كان من الطِّين، ولا على الجِذع الّذي كان يستند إليه، وهذا الْمِنبر عُمِل له  سنةَ سبع، وقيل سنة ثمانٍ، عَمِله له غلام امرأة من الأنصار كان نجَّارًا، واسمه - على أصحّ الأقوال – ميمون، كان على ثلاث دَرَج، ولم يزل عليه حتّى زاده مروانُ في زمن معاوية ستَّ دَرَج من أسفله... قال: إنّما زدتُ عليه لَمّا كَثُر النّاس، ولم يزل كذلك حتّى احترق المسجد النّبويُّ سنةَ أربع وخمسين وستّمائة، فاحترق[3]
  5. في الحديث إشارة إلى أن اعتياد ترك الجمعة يغلِّب الرَّين على القلب، ويزهِّد النُّفوس في الطّاعة، وذلك يؤدِّي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين، فيَغفُلون عن اكتساب ما يَنفَعُهم من الأعمال، وعن ترك ما يضرُّهم منها.
  6. يومُ الجمعة أحدُ أعياد المسلمين الثلاثة، فهو عيد الأسبوع؛ قال ابن خزيمة : (باب الدّليل على أنّ يوم الجمعة يوم عيد، وأنّ النّهيَ عن صيامه إذ هو عيد، والفرق بين الجمعة وبين العيدين: الفِطْرِ والأضحى، إذ جاء بنهيِ صومهما مفردًا، ولا موصولًا بصيام قبلُ ولا بعدُ)[4]؛

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

    سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ»

    [5]

  7. من فضائل يوم الجمعة: أن من مات فيه أو في ليلته - وهو مؤمن - وُقِيَ فتنةَ القبر وعذابه؛

    فعن عبد الله بن عمرو أن النبيَّ ﷺ قال:

    «مَا من مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ»

    [6]

  8. خُصَّت صلاة الجمعة من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائصَ لا توجد في غيرها، من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإقامة، والاستيطان، والجهر بالقراءة[7]
  9. كل فضائل صلاة الجمعة هي من تفضُّل الله تعالى على عباده، فقد اختارها بأمره، واختصَّها بفضله، فكان لها في الدنيا والآخرة هذا الشأن العظيم.

المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن رجب (8/66).
  2.  رواه مسلم (854).
  3.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 397).
  4.  "صحيح ابن خزيمة" (3/ 315).
  5.  رواه ابن خزيمة (2161)، وأحمد (8025)، وصحَّحه الشيخ شاكر في شرح المسند (8012) .
  6.  رواه أحمد (6582)، والترمذيُّ (1074)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3562).
  7.  "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 384). 


  1. في الحديث بيان الإجلال والتعظيم والتكريم لهذا الكتاب، حيث وضعه الله تعالى عنده فوق عرشه.
  2. في الحديث إثبات أن لله سبحانه و تعالى غَضَبًا كما أَنَّ له رَحْمَةً؛ لكن رحمة الله سبحانَه سبقت غَضَبَه؛ فاللهُ أرحمُ بعباده من الْأُمِّ بوَلَدِها.
  3. فِي سبق الرحمة إشارة إلى أن نصيب الْخلق منها أكثر من نصيبهم من الغضب، وأن رحمته سبحانه تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، فرحمتُه سبحانه تشمل الشخص جَنينًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وناشئًا، قبل أن يَصدُر منه شيء من الطاعة، ولا يَلحَقه الغضب إلا بعد أن يَصدُر عنه من الذنوب ما يستحقُّ معه ذلك[1].
  4. إن رحمة الله تعالى سبقت غضبه؛ لأن رحمته تعالى تُدرِك عباده من غير حقٍّ سابق لهم؛ بل تفضُّلاً منه سبحانه وتعالى.
  5. إن مَدَار وجود هذا الكون كلِّه واستمراره، وما يحتويه، على رحمة الله تعالى، وإن غضبه سبحانه وتعالى كالعارض. لذا؛ اشتقَّ الله تعالى لنفسه أسماءً من الرحمة والرأفة ونحوها، ولم يشتقَّ لنفسه اسمًا من الغضب[2].

المراجع

  1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 111).
  2. "آثار الشيخ المعلمي" (7 / 126).

  1. «يومان يلعبون فيهما» هما: يوم النَّيْرُوز، ويوم الْمِهْرجان، والنَّيروز: أوَّل يوم في السَّنَة، معرَّب نَوْرُوز، وهو أوَّل يوم تتحوَّل الشّمس فيه إلى بُرْج الحَمَل، وهو أوّل السَّنَة الشّمسيّة، كما أنّ غُرَّة شهر المحرَّم أوّل السّنة القمريّة. وأمّا مِهْرجان، فالظّاهر بحُكم مقابلته بالنَّيروز أن يكون أوَّل يوم الْمِيزان[1]
  2. يومُ النَّيروز، ويوم الْمِهرجان: هما يومان معتدلان في الهواء، لا حرٌّ ولا بَرْد، ويستوي فيهما اللّيل والنّهار، فكأنَّ الحكماء المتقدِّمين المتعلِّقين بالهيئة اختاروهما للعيد في أيّامهم، وقلَّدهم أهلُ زمانهم؛ لاعتقادهم بكمال عقول حكمائهم، فجاء الأنبياء، وأبطلوا ما بنى عليه الحكماء[2]
  3. قوله: «يوم الأضحى ويوم الفطر» قدَّم الأضحى؛ لأنّه العيد الأكبر، وفيه نهاية من اللُّطْف، وأمرٌ بالعبادة؛ لأنّ السّرور الحقيقيَّ فيها.
  4. قال اللّه تعالى:

    ( قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ)

    [يونس: 58].

  5. العيدان يقعان شكرًا على ما أَنعَم به من أداء العبادات التي وَقتَهَا، فعيدُ الفطر شُكرًا لله تعالى على إتمام صوم رمضان، وعيد الأضحى شكرًا لله تعالى على العبادات الواقعة في العشر،  أعظمُها إقامةُ وظيفة الحجِّ [3]
  6. للمسلمين ثلاثة أعياد: الأول: عيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة، وعيد الأضحى وعيد الفطر.
  7. ذكر ابن خُزيمة الفرق بين عيد يوم الجمعة، وعيد الأضحى وعيد الفطر؛ قال رحمه الله تعالى: (باب الدّليل على أنّ يوم الجمعة يوم عيد، وأنّ النّهيَ عن صيامه إذ هو عيد، والفرق بين الجمعة وبين العيدين: الفِطْرِ والأضحى، إذ جاء بنهيِ صومهما مفردًا، ولا موصولًا بصيام قبلُ ولا بعدُ) [4]؛

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:

    «إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ»

    [5]

  8. عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مرتَّب على إكمال صيام رمضان، وهو يوم الجوائز لمن أحسن صيام رمضان وقيامه، وأخلص لله تعالى في أعماله، وهو غُرَّة شهر شوَّال.
  9. عيد النحر، هو ختام عشَرةِ أيَّام هي أفضل الأيام، وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشَرة؛

    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:

    «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ» قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ»

    [6]

  10. عيد النحر هو اليوم العاشر من ذي الحجَّة، ومن عيد النحر أيضًا: يومُ عرفةَ قبله بيوم، وبعده أيام التشريق الثلاثة، فصارت أيام عيد النحر خمسة أيام؛ كما في حديث عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، قَالَ:

    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

    «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»

    [7]

  11. عيد النحر أعظم من عيد الفطر، وهو أكبر العيدين، وأفضلهما، وهو مترتِّب على إكمال الحج[8]
  12. أنزل الله تعالى آية

    ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾

    [المائدة: 3]،

  13. في أعظم أعياد الأمة الحنيفية؛ فإنه لا عيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان، وهو عيد النحر، ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول  لله   بعامَّة المسلمين[9]
  14. أفضلُ أيّام الأسبوع يومُ الجمعة باتّفاق العلماء، وأفضلُ أيّام العام هو يوم النّحر، وقد قال بعضهم: يوم عرفة، والأوّل هو الصّحيح؛

    فعَن النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:

    «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ»

    [10]

     – يوم القَرِّ: الحادي عشر من ذي الحجة - وهو يومُ الْحَجِّ الأكبر؛ كما ثَبَت عن النَّبِيِّ  أنه قال:

    «يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ»

    [11].[12]

المراجع

  1.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1069).
  2.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1069).
  3.  "شرح سنن أبي داود" لبدر الدين العينيِّ (4/ 477).
  4.  "صحيح ابن خزيمة" (3/ 315).
  5.  رواه ابن خزيمة (2161)، وأحمد (8025)، وصحَّحه الشيخ شاكر في شرح المسند (8012).
  6.  رواه البخاريُّ (969).
  7.  أخرجه أبو داود (2419)، والترمذيُّ (773) والنسائيُّ (4186)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (2090).
  8.  "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 276).
  9.  "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (1/ 542). .
  10.  أخرجه أحمد (19075)، وأبو داود (1765)، وابن خزيمة (2866)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (1549).
  11.  أخرجه البخاريُّ (3177)، ومسلم (1347).
  12.  "مجموع الفتاوى" (25/ 288).

1- شَرَع الله تعالى للمسلمين الاجتماع في أوقات معلومة، منها ما هو في اليوم والليلة كالصلوات الخمس، ومنها ما هو في الأسبوع، وهو صلاة الجمعة، ومنها ما هو في السنة وهو صلاة العيدين، والوقوف بعرفة للحجَّاج.

2- ما شرعه الله تعالى للمسلمين من الاجتماع هو عبادة لله تعالى، منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحبٌّ؛ فالتعبُّد لله تعالى بهذا الاجتماع يكون استجابةً لله والرسول، وطلبًا للأجر والثواب ورضا الله تعالى، وخوفًا من عقابه.

3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ»[1]

4- خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضِية للدرجات المذكورة؛ قال ابن الجوزيِّ: وما جاؤوا بطائل، وقال المحبُّ الطّبريُّ: ذكر بعضهم أنّ في حديث أبي هريرة إشارةً إلى بعض ذلك، ويُضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك، وقد فصَّلها ابن بطّال، وتَبِعه جماعة من الشّارحين، وتعقَّب الزَّيْن بن الْمُنير بعض ما ذَكَره، واختار تفصيلًا آخَرَ أَورَده[2]

5- مما ذُكر من الدرجات السبع والعشرين: إجابة المؤذِّن بنيَّة الصّلاة في الجماعة، والتّبكيرُ إليها في أوّل الوقت، والمشيُ إلى المسجد بالسَّكينة، ودخول المسجد داعيًا، وصلاة التّحيّة عند دخوله، وانتظارُ الجماعة، وصلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، وشهادتهم له، وإجابة الإقامة، والسّلامة من الشّيطان حين يَفِرُّ عند الإقامة، والوقوف منتظرًا إحرام الإمام أو الدّخول معه في أيِّ هيئة وَجَده عليها، وإدراك تكبيرة الإحرام، وتسوية الصّفوف وسدُّ فُرَجِها، وجَوابُ الإمام عند قوله: سَمِع اللّه لمن حَمِده، والأمنُ من السَّهو غالبًا، وتنبيهُ الإمام إذا سها بالتّسبيح أو الفتح عليه، وحصولُ الخشوع والسّلامة عمَّا يُلهي غالبًا، وتحسين الهيئة غالبًا، واحتفاف الملائكة به، والتّدرُّب على تجويد القراءة وتعلُّم الأركان والأبعاض، وإظهار شعائر الإسلام، وإرغام الشّيطان بالاجتماع على العبادة، والتعاون على الطاعة، ونشاط المتكاسل، والسّلامة من صفة النّفاق ومن إساءة غيره الظّنَّ بأنّه تَرَك الصّلاة رأسًا، وردُّ السّلام على الإمام، والانتفاعُ باجتماعهم على الدّعاء والذّكر، وعود بركة الكامل على النّاقص، وقيام نظام الأُلفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصّلوات، والإنصات عند قراءة الإمام، والاستماع لها، والتّأمين عند تأمينه؛ ليوافق تأمين الملائكة [3]

6- ما ذُكر من الدرجات هي أقوال تخمينيّة ليس عليها نصٌّ، والجزء والدّرجة بمعنًى واحدٍ هنا؛ لأنّه عبَّر بكلِّ واحد منهما عن الآخر، وقد ورد تفسيرهما بالصّلاة، وأنّ صلاة الجماعة بسبع وعشرين صلاةً فُرادى، والحديث حثَّ على الجماعة [4]

7- المراد بهذه الأجزاء والأضعاف والدَّرَج معنًى واحدٌ - واللهُ أعلم - وَهُوَ: أن صلاة الفذِّ لها ثوابٌ مقدَّر معلوم عِنْدَ الله، تزيد صلاة الجماعة عَلَى ثواب صلاة الفذِّ خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين[5] 

8- وجه الجمع لاختلاف الأحاديث في عدد الدرجات؛ إما لأن العدد القليل لا ينفي الكثير، أو أنه أُعلِم بالقليل أولاً، فأَعلَم به، ثم أُعلِم بالكثير فأَخبَر به، أو أن ذلك يختلف بحسب الصلاة، ومحافظة هيئتها، وخشوعها، وكثرة جماعتها، وشرف البُقعة، ونحو ذلك

المراجع

  1. أخرجه البخاريُّ (644)، ومسلم (651).
  2.  "فتح الباري" لابن حجر (2/ 133).
  3.  "فتح الباري" لابن حجر (2/ 133، 134).
  4.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 358).
  5.  "فتح الباري" لابن رجب (6/ 15).

1- في الحديث بيان حُرمة المساجد ومكانتها؛ لأنّها بُيوتُ الطَّاعات، وأساسُها على التَّقوى، وهي بُيوتٌ خُصَّت بالذِّكر، وبُقَع أُسِّست للتقوى والعمل الصالح.

2- كان المسجد أوَّلَ لَبِنةٍ، وأساسَ بناء الدولة الإسلامية، فكان بناءُ المسجد هو أوَّلَ عمل قام به الرسولُ ﷺ بعد هجرته إلى المدينة.

3- كان المسجدُ على عهدِ رسول الله ﷺ موطنَ الدعوة، ودارًا للفتوى، وبه يَلْقى الوفودَ والسُّفراء، ومنه كانت تنطلق الغزواتُ للجهاد في سبيل الله، وإليه تعودُ بعد أداء مَهمَّتها، وهَلُمَّ جرًّا.

4- توعَّد الله تعالى من يضيِّق على المساجد

بقوله تعالى:

(وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ)

[البقرة: 114].

5- في الحديث تسمية المساجد والأسواق بالبلاد، ولعلَّه تلميحٌ إلى

قوله تعالى:

( وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ )

[الأعراف: ٥٨]

. فالمؤمن سَمِع كتاب الله بعقلِه، فوَعَاه وانتفع به؛ كالأرض الطيِّبة أصابها الغَيث فأَنبَتت، والكافرُ بخلافه.

6- قال تعالى:

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}

[النور: 36، ٣٧].

7- المساجد بيوت الله تعالى؛

قال تعالى:

( وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا )

[الجن: 18]

وقال ﷺ:

«ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله»

[1]

8- المساجدُ أحبُّ البقاع إلى الله؛ لأنها مَحَلُّ ذِكره وعبادته، وقراءة شَرْعِه، وغير ذلك من مصالح الدنيا والدِّين؛ ولهذا كان بَذْلُ المال فيها من أفضل أنواع البذل، والبذلُ فيها من الصَّدقة الجارية، وهي أفضل من أن يَجعَل الإنسانُ مالَه في أُضْحِية أو عَشاء أو ما أَشبَه ذلك، فإذا جَعَل مالَه في بناء المساجد وعمارتها، كان ذلك أفضلَ؛ لأن المساجد صدقةٌ جارية باقية عامَّةٌ، كلُّ المسلمين ينتفعون بها، المصلُّون والدارسون والمتعلِّمون والمعلِّمون، والذين آواهم البَرْد أو الحَرُّ إلى المساجد، إلى غير ذلك[2]

9- حثَّ النبيُّ ﷺ على بناء المساجد، وبيَّن فضلها؛

قال ﷺ:

«من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله، بنى الله له مِثلَه في الجنَّة»

[3]

10- قال تعالى:

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}

[التوبة: 18]

ويَدخُل في الآية عمارتها المادية، وعمارتها المعنوية بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، ونحو ذلك من الطاعات.

11- أبغض الأماكن وأشدُّها كراهيةً عند الله تعالى هي الأسواق؛ لما فيها من اللَّغَط، واللَّغْو، والغِشِّ، والخداع، والكَذِب، والرِّبا، والأَيْمان الكاذبة، وكثرة الحَلِف، وإخلاف الوعد، والغَفْلة عن ذكر الله تعالى، وغير ذلك ممَّا في معناه.

12-الأسواق مخصوصة بطلب الدنيا، "وقُصَّاد الأسواق شياطينُ الجنِّ والإنس من الغَفَلة الذين غَلَبهم الحرِص والشِّدَّة، وهذا لا يورِث إلا دُنُوًّا من الشيطان وحزبه، اللهمَّ إلَّا مَن يَعمِد إلى طلب الحلال الذي يَصُون به دينه وعرضه؛

(فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ)

[البقرة: ١٧٣]"[4]

13- ينبغي لمن يدخل السوق التحلِّي بآداب الإسلام، وأخلاقه، ومكارمه، ويتَّقي الله، ويذكره؛

قال رَسُول اللهِ ﷺ:

«مَنْ قَالَ حِينَ يَدْخُلُ السُّوقَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة»

[5]

المراجع

  1.  رواه مسلم (2699).
  2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 656، 657).
  3.  رواه البخاريُّ (439)، ومسلم (533).
  4.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 930، 931).
  5.  رواه أحمد (327)، وابن ماجهْ (2235)، والترمذيُّ (3428)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1694). 

  1. هذا الحديث يُعدُّ من أصول الإسلام، وجامعًا من جوامع الخير للمسلم في الدنيا والآخرة، وفيه بيانٌ لأمور عظيمة من أمور الإسلام، لا يتحقَّق إيمانُ العبد، ولن يتذوَّق حلاوةَ الإيمان حتى تتحقَّق فيه تلك الأمور.

  2. في قوله ﷺ: «طعم طعم الإيمانِ» دليل على أن الإيمان له طَعْم وحلاوة يتذوَّقها بقلْبه مَن استكمل هذه الخصال الثلاث كما تُذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم.

  3. ما ترَك النبيُّ ﷺ بابًا من أبواب الخير إلا دلَّ الأمَّة عليه ورغَّبها فيه، واتَّخذ ﷺ في ترغيب الناس في الخير والأخذ بأيديهم إليه أساليبَ متنوعةً؛ جذْبًا لانتباههم، وتَشويقًا لهم؛ كي يُقبلوا على ما يدعوهم إليه ﷺ.

  4. حلاوة الإيمان هي: عبارة عما يجده المؤمن المحقِّق في إيمانه، المطمئنُّ قلْبُه به، مِن انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله ﷺ [1].

  5. سِرُّ حلاوة الإيمان راجع لكون الإيمانِ هو غذاءَ القلوب وقُوتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سَقِم لم يجدْ حلاوة ما ينفعه من ذلك؛ بل قد يستحلي ما يضرُّه وما ليس فيه حلاوةٌ؛ لغلَبةِ السَّقَم عليه، فكذلك القلب إنما لا يجد حلاوة الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِم من مرض الأهواء الْمُضِلَّة والشهوات المحرَّمة، وجَد حلاوة الإيمان حينئذٍ، ومتى مرِض وسَقِم لم يجِدْ حلاوة الإيمان؛ بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي؛ لأنه لو كمَل إيمانُه لوَجَد حلاوة الإيمان، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي [2].

  6. من وجَد حلاوة الإيمان، استلذَّ بالطاعات، وتحمُّل المشقَّات فيما يرضي الله تعالى، ورسوله ﷺ، وآثر ذلك على عَرَض الدنيا؛ رغبةً في نعيم الآخرة، الذي لا يَبيد ولا يَفنى [3].

  7. في الحديث النص على هذه الثلاث من الطاعات والخصال والأوصاف والخلال، مع أن خصال الخير والإيمان كثيرة؛ ما يدلُّ على عِظَم فضل هذه الثلاث الخصال.

  8. أتى ذكر خصال أخرى غير هذه الثلاث في السنَّة؛ منها: عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ النبيَّ ﷺ، يَقُولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» [4].

  9. العبادة: غايةُ الخضوع والتذلُّل والانقياد، وهي عامَّةٌ لكلِّ ما يُتذلَّل به لله تعالى فيما أَمَر به، فيَشمَل كلَّ عبادة أَمَر الله بها [5].

  10. في الحديث بيان أن على المسلم أن يُخرِج الزكاة عن طِيب نفس، فلا يُخرجها عن كراهية وعدم رضا وعدم ارتياح؛ لأن هذا حُكم الله، وهذا حقٌّ أوجبه الله - عزَّ وجلَّ - في أموال الأغنياء للفقراء؛ شكرًا لله - عزَّ وجلَّ - على هذه النعمة، والزكاةُ من أسباب نماء المال، وأسباب كثرته [6].

  11. يُحتمَل في تحديد الخصال الثلاث في الحديث: أن يكون قوله: «من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا هو» اثنتين، ثم الثالثة ما يتعلَّق بالزكاة، ويُحتمَل أن يكون خصلةً واحدة، وإعطاء الزكاة طيبة بها نفسه هي الخصلة الثانية، وكونه لا يَعمِد إلى شيء فيه عَيْبٌ، وفيه نقص، فيُخرجه، الخصلة الثالثة [7].

في الحديث بيان أنه لا يؤدِّي زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه إلّا مؤمن. وسببُ هذا أنّ المال تحبُّه النّفوس، وتَبخَل به، فإذا سَمَحت بإخراجه للّه - عزّ وجلّ - دلَّ ذلك على صحَّة إيمانها باللّه، ووَعْده، ووعيده؛ ولهذا مَنَعت العرب الزّكاة بعد النّبيِّ ﷺ، وقاتلهم الصّدِّيقُ رضي اللّه عنه على منعها [8].


المراجع

1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 210).

2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 50، 51).

3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 66).

4. صحيح مسلم (34).

5. "التحبير لإيضاح معاني التيسير" للصنعانيِّ (1/ 167).

6. "شرح سنن أبي داود" للعباد (3/191).

7. "شرح سنن أبي داود" للعباد (3/191).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 24).

1- في الحديث إشارة إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابتَه، وإلى ما يمنع من إجابته.

2- في هذا الحديث إشارةٌ إلى أنه لا يُقبل العمل، ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وإن أكل الحرام يُفسِد العمل، ويَمنَع قَبوله، وفيه إشارة إلى مانع من موانع استجابة الدعاء، وهو أكل الحرام.

3- في هذا الحديث الحثُّ على الإنفاق من الحلال، والنّهيُ عن الإنفاق من غيره، وفيه أنّ المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك، ينبغي أن يكون حلالًا خالصًا، لا شُبْهةَ فيه[1]

4- في الحديث بيان أن مَن أراد الدعاء مؤمِّلاً من الله الإجابة، فعليه الاعتناء بالرزق الحلال، والإنفاق من الحلال، قبل أن يرفع يدَيه متضرِّعًا إلى السماء.

5- في الحديث إشارة إلى الأثَر السيِّئ في تغذية الصبيِّ الصغير بالحرام، وإن لم يكُن عليه الوِزْر[2]

6- هذا الحديث اشتمل على قاعدة عظيمة، وأصلٍ من أصول الدين، وهو أن الله لا يَقبَل من الأعمال والأقوال والاعتقادات والصَّدَقات إلا ما كان حلالاً طيِّبًا طاهرًا من مُبطلات الأعمال كلِّها؛ كالرياء والعُجب وغيرهما.

7- قال تعالى:

﴿يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد﴾

[البقرة: 267].

8- ينادي الله الرسل:

﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾

ليمارسوا طبيعتهم البشرية التي ينكرها عليهم الغافلون؛ فالأكل من مقتضيات البشرية عامَّةً، أما الأكلُ من الطيِّبات خاصَّةً، فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكِّيها ويَصِلها بالملأ الأعلى، ويأمرهم أن يُصلحوا في هذه الأرض؛ فالعمل من مقتضيات البشرية عامَّةً، أما العمل الصالح، فهو الذي يميِّز الصالحين المختارين، فيجعل لعملهم ضابطًا وهدفًا، وغايةً موصولة بالملأ الأعلى.

9- في الحديث إشارة إلى أنه ليس المطلوب من الرسول أن يتجرَّد من بَشَريَّته؛ إنما المطلوب أن يرتقيَ بهذه البشرية فيه إلى أُفقها الكريم الوضيء، الذي أراده الله لها، وجعل الأنبياء روَّادًا لهذا الأفق ومثلاً أعلى.

10-وصف الله تعالى المؤمنين بالطيبين

بقوله تعالى:

﴿ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾

[النحل: ٣٢]؛

فالمؤمن كلُّه طيِّبٌ، قلبُه ولسانُه وجسدُه، وذلك بما سكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة، التي هي ثمرة الإيمان، وهي داخلة في اسمه كذلك، فهذه الطيباتُ كلُّها يقبلها الله تعالى.

11- في الحديث بيان أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلالُ، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالاً، فالعملُ صالح مقبولٌ، فإذا كان الأكلُ غيرَ حلالٍ، فكيف يكون العمل مقبولاً؟!

12- من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء: إطالةُ السفر، والسفر بمجرَّده يقتضي إجابةَ الدعاء؛

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

«ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ، لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» 

[3]

فذِكْرُ الرسول ﷺ للسفر يدلُّ على أن له تأثيرًا في إجابة الدعاء، ولاسيَّما إذا طال؛ لأنَّه مَظِنَّةُ حصول انكسار النفس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاقِّ، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء[4]

13- المقصود بقوله: «ثم ذكر الرجُل يُطيل السفر» هو الذي يُطيل السفر في الجهاد والحجِّ وغيرها من أسفار الطاعات؛ إذ الشَّعَثُ دليلٌ على الإحرام، فإنه لا يَجبُره شَعَثُه وغبارُه من إثم مَطعمِه ومَشرَبه. وإنما ذكَر ذلك لأن الحاجَّ قد أثَّر به السفر، وأخذ منه الجَهْدُ والبلاء، وأصابه الشَّعَثُ، وعلاه الغُبارُ، فهو يدعو حينئذٍ وهو ظانٌّ ظنَّ اليقين أنه مُستَجابٌ له؛ فكلُّ ما فيه من التَّعَب والنَّصَب إنما هو لله، وفي سبيل الله؛ لكنَّه لا يُستجاب له؛ لأنه متلبِّس بالحرام، وقوَّته التي رفَع بها يدَه إلى ربِّه نشأت من الحرام[5]

14- من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء: حصولُ التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشَّعَث والاغبرار؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

«رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»

[6].

لذا؛ كان النبيُّ ﷺ يَخرُج إلى الاستسقاء مُتبذِّلًا متواضعًا؛

فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه:

«أن النبيَّ ﷺ استسقى فقلَبَ رداءَه»

[7]

15- قيل: إن الشَّعَث والغُبْرة من أسباب إجابة الدعاء؛ لكن هذا قد يَرِد عليه أن التورُّع عن المباحات بدون سبب شرعيٍّ مذموم، فيقال: المراد بالحديث: أن هذا الرجل يهتمُّ بأمور الآخرة أكثر من اهتمامه بأمور الدنيا[8]

16- من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء: مدُّ اليدين إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابته؛ ففي الحديث عن النَّبيِّ ﷺ قال:

«إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهَ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»

[9]

ورفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياضُ إبطيه.

17- من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء: الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته، وهو مِنْ أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء.

18- ىفي الحديث بيان أن من يُلِحُّ في الدعاء لله رافعًا يديه مع مخالفته وعِصيانه أنه ليس أهلاً للإجابة؛ لكن يجوز أن يستجيب الله تعالى له تفضُّلاً ولُطفًا وكَرَمًا[10]

19-خمسُ خصال بها تمام العمل: الإيمانُ بمعرفة اللّه عزّ وجلّ، ومعرفةُ الحقِّ، وإخلاصُ العمل للّه، والعملُ على السّنَّة، وأكل الحلال، فإن فقدتَ واحدةً، لم يرتفع العمل؛ وذلك أنّك إذا عرفتَ اللّه عزّ وجلّ، ولم تعرف الحقَّ، لم تنتفعْ، وإذا عرفتَ الحقَّ، ولم تعرف اللّه، لم تنتفع، وإن عرفتَ اللّه، وعرفت الحقَّ، ولم تُخلِص العمل، لم تنتفع، وإن عرفتَ اللّه، وعرفت الحقَّ، وأخلصتَ العمل، ولم يكن على السّنَّة، لم تنتفع، وإن تمَّت الأربع، ولم يكن الأكل من حلال، لم تنتفع[11]

20-   قال النبيُّ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهَ إِلاَّ الطَّيِّبَ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ، يُرَبِّيها كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ»[12]

21- الطيِّب من الأعمال: ما كان خالصًا لله، موافقًا للشريعة، والطيِّب من الأموال: ما اكتُسِب عن طريق حلال، وأما ما اكتُسب عن طريق محرَّم، فإنه خبيث[13]

22. «يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء» ومَدُّ اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء؛ كما جاء في الحديث: «إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ، يَسْتَحِيي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفعَ يَديْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»[14]

المراجع

  1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 100).
  2.  انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 26).
  3.  أخرجه الإمام أحمد (7510)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (32)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (3031).
  4.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 150).
  5.  انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 128)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 655).
  6.  رواه مسلم (2622).
  7.  رواه البخاريُّ (1011)، ومسلم (894).
  8.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 150).
  9.  رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1635).
  10.  "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
  11.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 262، 263).
  12.  أخرجه البخاريُّ (1410)، ومسلم (63).
  13.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 141).
  14.  رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1635).

30- الطيبات هي التي أحلَّها الله تعالى واكتُسِبت عن طريق شرعيٍّ، وما سوى ذلك، سواء لم يُحِلَّه الله كالخمر والْمَيتة، أو أحلَّه الله؛ ولكن اكتُسِب عن طريق محرَّم كالسرقة والغصب، فكلاهما حرام، ليس من الطيبات، الأول محرَّم لذاته، والثاني محرَّم لكسبه[1]

31- رفع اليدين في الدعاء من أسباب الإجابة، ويكون الرفع بأن ترفع يديك تَضُمُّ بعضَهما إلى بعض، بمحاذاة أعلى الصدر، ودعاء الابتهال تَرفَع أكثرَ من هذا، حتى إن النبيَّ في دعاء الاستسقاء رفع يديه كثيرًا حتى ظنَّ الظانُّ أن ظهورهما نحو السماء من شدَّة الرفع، وكلَّما بالغتَ في الابتهال، فبالغْ في الرفع[2]

32-  هل رفع اليدين مشروع في كل دعاء؟ هذا على ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: ما ورد فيه رفع اليدين. والقسم الثاني: ما ورد فيه عدم الرفع. والقسم الثالث: ما لم يرد فيه شيء.

33- الدعاء الذي ورد فيه رفع اليدين؛ مثل: إذا دعا الخطيب باستسقاء، أو استصحاء؛ فإنه يرفع يديه، والمأمومون كذلك؛ ففي حديث أنس - رضي الله عنه - في قصّة الأعرابيِّ الذي طلب من الرسول r في خُطبة الجمعة أن يستسقيَ، فرفع النبيُّ  ﷺ يدعو، ورفع الناس أيديَهم معه يَدْعون[3]، ومما جاء في السنَّة رفع اليدين في القُنوت في النَّوَازل أو في الوِتر، وكذلك رفع اليدين على الصَّفا، وعلى الْمَرْوة، وفي عَرَفةَ، وما أشبه ذلك[4]

34- الدعاء الذي ورد فيه عدم رفع اليدين؛ كالدعاء حال خطبة الجمعة في غير الاستسقاء والاستصحاء، فلو دعا الخطيب للمؤمنين والمؤمنات، أو لنصر المجاهدين، في خطبة الجمعة، فإنه لا يرفع يديَه، ولو رفعهما، لأُنْكِر عليه؛ ففي صحيح مسلم عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ أنه رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ، فَقَالَ: «قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ  ﷺ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ»[5]، وكذلك رَفْعُ اليدين في دعاء الصلاة؛ كالدعاء بين السجدتين، والدعاء بعد التشهُّد الأخير، وما أشبه ذلك[6]

35- الدعاء الذي لم يرد فيه الرفع ولا عدمه؛ فالأصل الرّفع؛ لأنه من آداب الدعاء، ومن أسباب الإجابة؛ قال النبيُّ ﷺ: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهَ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»[7][8]

36- هناك أحوالٌ قد يُرَجَّحُ فيها عدم رفع اليدين في الدعاء وإن لم يَرِد؛ كالدعاء بين الخُطبتين مثلاً، فهنا لا نعلم أن الصحابة كانوا يَدْعون فيرفعون أيديَهم بين الخُطبتين، فرفعُ اليدين في هذه الحال محلُّ نظر، فمن رَفَع على أن الأصل في الدعاء رفع اليدين، فلا يُنْكَرُ عليه، ومن لم يرفع بناءً على أن هذا ظاهر عمل الصحابة، فلا يُنكر عليه، فالأمر في هذا إن شاء الله واسع[9]

37- الخبيث هو ما استخبثه الشرع؛ فالمرجع في كون الشيء طيِّبًا أو خبيثًا إلى الشرع، لا إلى أذواق الناس، فلا يمكِن أن يُرَدَّ هذا إلى عقول الناس؛ لأنه يفتح من الشرِّ والخلاف ما هو معلومٌ؛ فمثلاً: بعض الناس يستقذر ويستخبث أكلَ الجَراد، ومن الناس من يستخبث الضَّبَّ، وهما حلال، وعلى هذا؛ فالاستخباث ليس مرجعه للكراهة الطبيعية؛ لأن كل إنسان يكره ما لا يعتاد أكله[10]

المراجع

  1.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 142).
  2.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 150).
  3.  أخرجه البخاريُّ (1014)، ومسلم (897).
  4.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 150، 151).
  5.  رواه مسلم (874).
  6.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 151).
  7.  رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1635).
  8.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 151).
  9.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 151).
  10.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 149).