الفوائد العلمية
هذا الحديث يُعدُّ من أصول الإسلام، وجامعًا من جوامع الخير للمسلم في الدنيا والآخرة، وفيه بيانٌ لأمور عظيمة من أمور الإسلام، لا يتحقَّق إيمانُ العبد، ولن يتذوَّق حلاوةَ الإيمان حتى تتحقَّق فيه تلك الأمور.
في قوله ﷺ: «طعم طعم الإيمانِ» دليل على أن الإيمان له طَعْم وحلاوة يتذوَّقها بقلْبه مَن استكمل هذه الخصال الثلاث كما تُذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم.
ما ترَك النبيُّ ﷺ بابًا من أبواب الخير إلا دلَّ الأمَّة عليه ورغَّبها فيه، واتَّخذ ﷺ في ترغيب الناس في الخير والأخذ بأيديهم إليه أساليبَ متنوعةً؛ جذْبًا لانتباههم، وتَشويقًا لهم؛ كي يُقبلوا على ما يدعوهم إليه ﷺ.
حلاوة الإيمان هي: عبارة عما يجده المؤمن المحقِّق في إيمانه، المطمئنُّ قلْبُه به، مِن انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله ﷺ [1].
سِرُّ حلاوة الإيمان راجع لكون الإيمانِ هو غذاءَ القلوب وقُوتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سَقِم لم يجدْ حلاوة ما ينفعه من ذلك؛ بل قد يستحلي ما يضرُّه وما ليس فيه حلاوةٌ؛ لغلَبةِ السَّقَم عليه، فكذلك القلب إنما لا يجد حلاوة الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِم من مرض الأهواء الْمُضِلَّة والشهوات المحرَّمة، وجَد حلاوة الإيمان حينئذٍ، ومتى مرِض وسَقِم لم يجِدْ حلاوة الإيمان؛ بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي؛ لأنه لو كمَل إيمانُه لوَجَد حلاوة الإيمان، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي [2].
من وجَد حلاوة الإيمان، استلذَّ بالطاعات، وتحمُّل المشقَّات فيما يرضي الله تعالى، ورسوله ﷺ، وآثر ذلك على عَرَض الدنيا؛ رغبةً في نعيم الآخرة، الذي لا يَبيد ولا يَفنى [3].
في الحديث النص على هذه الثلاث من الطاعات والخصال والأوصاف والخلال، مع أن خصال الخير والإيمان كثيرة؛ ما يدلُّ على عِظَم فضل هذه الثلاث الخصال.
أتى ذكر خصال أخرى غير هذه الثلاث في السنَّة؛ منها: عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ النبيَّ ﷺ، يَقُولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» [4].
العبادة: غايةُ الخضوع والتذلُّل والانقياد، وهي عامَّةٌ لكلِّ ما يُتذلَّل به لله تعالى فيما أَمَر به، فيَشمَل كلَّ عبادة أَمَر الله بها [5].
في الحديث بيان أن على المسلم أن يُخرِج الزكاة عن طِيب نفس، فلا يُخرجها عن كراهية وعدم رضا وعدم ارتياح؛ لأن هذا حُكم الله، وهذا حقٌّ أوجبه الله - عزَّ وجلَّ - في أموال الأغنياء للفقراء؛ شكرًا لله - عزَّ وجلَّ - على هذه النعمة، والزكاةُ من أسباب نماء المال، وأسباب كثرته [6].
يُحتمَل في تحديد الخصال الثلاث في الحديث: أن يكون قوله: «من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا هو» اثنتين، ثم الثالثة ما يتعلَّق بالزكاة، ويُحتمَل أن يكون خصلةً واحدة، وإعطاء الزكاة طيبة بها نفسه هي الخصلة الثانية، وكونه لا يَعمِد إلى شيء فيه عَيْبٌ، وفيه نقص، فيُخرجه، الخصلة الثالثة [7].
في الحديث بيان أنه لا يؤدِّي زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه إلّا مؤمن. وسببُ هذا أنّ المال تحبُّه النّفوس، وتَبخَل به، فإذا سَمَحت بإخراجه للّه - عزّ وجلّ - دلَّ ذلك على صحَّة إيمانها باللّه، ووَعْده، ووعيده؛ ولهذا مَنَعت العرب الزّكاة بعد النّبيِّ ﷺ، وقاتلهم الصّدِّيقُ رضي اللّه عنه على منعها [8].
1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 210).
2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 50، 51).
3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 66).
4. صحيح مسلم (34).
5. "التحبير لإيضاح معاني التيسير" للصنعانيِّ (1/ 167).
6. "شرح سنن أبي داود" للعباد (3/191).
7. "شرح سنن أبي داود" للعباد (3/191).
8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 24).
الفوائد العقدية
قوله: «من عبد الله وحده» هذه الخصلة الأولى من الثلاث، وهي إخلاص العبادة لله - عزَّ وجلَّ - وهذا هو الأساس؛ لأن إفراد الله بالعبادة أساس كلِّ عمل، وكل عمل من الأعمال لا يُقبَل إلا إذا كان خالصًا لوجه الله - عزَّ وجلَّ - وحدَه لا شريك له.
«لا إله إلا الله» هي كلمة الإخلاص والتوحيد، ومعناها: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فهي مشتملة على نفي وإثبات، نفيٍ عامٍّ في أوَّلها، وإثبات خاصٍّ في آخرها، النفيُ العامُّ الذي في أولها هو نفيُ العبادة عن كلِّ ما سوى الله، والإثبات الخاصُّ الذي في آخرها هو إثبات العبادة لله وحده لا شريك له [1].
أفضل شُعب الإيمان وأعلاها: التوحيدُ، وهو شهادة أن لا إله إلا اللهُ، بالقول المواطئ للقلب، بإخلاص وصِدق ويقين، فيطمئنُّ القلب بها، وتَأنَس النفس إليها، فلا يصحُّ شيءٌ من هذه الخصال إلا بها.
1. "شرح سنن أبي داود" للعباد (3/191).
الفوائد الفقهية
قوله: «وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ... إلَخْ» فيه دليل على أنه ينبغي أن يُخْرِج الزكاة من أوساط المال، لا من شِراره، ولا من خياره [1].
هذا الحديث خرج مخرجَ الغالب؛ فإن المرض في الحيوانات نادرٌ، ومُراد النبيِّ تحذيرُ مَن ينتخبون أراذل أموالهم للصدقة، فأما مَن كان كلُّ ما عنده مريضٌ، فإنه يُجزئه أن يُخرجَ عنها المريض كذلك [2].
1. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (4/ 160).
2. انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (7/ 517).
الفوائد التربوية
يجب على الداعية جذبُ انتباه السامع بالعبارات الْمُشَوِّقة، والإجمال ثم التفصيل الذي يُقَرِّب المعلومة إلى المتلقِّي، وهذا فيه حثٌّ على الاهتمام بما سيأتي.
ابتدأ ﷺ بأسلوب في غاية في التشويق، فقال: «ثَلاثٌ مَنْ فعلهن فقد طعم طعم الإيمانِ»، يعني: ثلاث خِصال من خِصال الخير، مَن حصَّلها وتحقَّق بها وجَد حلاوة الإيمان، وأبهم النبيُّ ﷺ الخصال الثلاث بدايةً؛ تشويقًا للمستمع مما يضمن متابعتَه للمتكلِّم ﷺ حتى يتبيَّن هذه الخصال الثلاث.
الاهتمام بلُغة الأرقام في الدعوة، وتقديم العدد على المعدود له جانبٌ كبيرٌ في لَفت الانتباه؛ فذِكْرُ العدد يجعل الإنسان يضبط العدد، ولو نَسِي شيئًا، فإنه سيعلم أنه حصل نقصٌ؛ لأنه لابدَّ أن يطابق العددُ المعدود، فإذا ذُكر العدد أولاً، فإنه يجعل الإنسان يطالب نفسه بالمعدود حتى يطابق العدد، فهذا من فوائد تقديم العدد [1].
1. "شرح سنن أبي داود" للعباد (3/191).
الفوائد الحديثية
هذا الحديث أخرجه أبو داود منقطعًا، ووصله الطبرانيُّ في المعجم الصغير.
لم يرْوِ عبدُ الله بنُ معاويةَ الغاضريُّ رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ إلا هذا الحديث [1].
1. انظر: "المعجم الصغير" للطبراني (1/ 334).
الفوائد اللغوية
«ثلاثٌ»: هنا التنوين عِوَضٌ عن كلمة؛ فالتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف؛ أي: ثلاثُ خصال.
قوله: «ثلاث» مبتدأ مرفوع، وجَوَّزَ الابتداءَ به مع أنه نكرة كونُه مضافًا إلى نكرة، فخُصِّص؛ فأصله: "ثلاثُ خصالٍ"، ثم حُذف المضاف إليه بعد ذلك، وعُوِّض عنه بالتنوين [1].
«ثلاثٌ مَن فعَلهنَّ»؛ أي: ثلاث طاعات إذا اكتسبهن المؤمن مجتمِعةً، واستقرَّت في نفسه، وجد فيهن حلاوة الإيمان، والعدد هنا ليس لحصر الخصال التي يجد المؤمن بتحصيلها حلاوة الإيمان؛ بل الحديث نصَّ على ثلاث منها فقط.
طعم الإيمان: فيه استعارة مكنية؛ حيث شبَّه الإيمان بشيء محسوس يُطعَم ويُتذوَّق ويُلتذُّ به، وحذف المشبَّه به، وأتى بشيء من لوازمه، وهو الطعم.
«طعم طعمَ الإيمان»: يتجلَّى في هذه الجملة براعة الاستهلال (براعة الْمَطلَع) وحُسْن الابتداء.
استخدم النبيُّ ﷺ الذَّوْقَ والطَّعْمَ مع أمر قلبيٍّ، وإنْ كان الذوقُ والطعمُ إنما يدخُل مع المأكول والمشروب من باب المجاز؛ كقوله تعالى:
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ فَذُوقُوا ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ﴾
﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَٰقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾
مبالغةً في إيصال المعنى [2].
7. قوله: «رافدة عليه» الرافدة: فَاعِلَة من الرَّفْد، وهو الإعانة؛ أي: مُعينة، يُقال: رَفَدْتُه أَرفِدُه إذا أَعَنْتُه؛ أي: تُعِينُه نفسُه على أداء الزكاة. وانتصابها على أنها حال من "نفسه"، والضمير الذي في "عليه" يرجع إلى الإعطاء، الذي يدلُّ عليه قوله: "وأعطى"، والمعنى: مُعينة على إعطائها؛ أي: أداء الزكاة.
8. وقوله: «ولكن مِن وسَطِ أموالكم» الوسطُ يأتي في اللغة بمعانٍ مختلفة؛ منها الأفضلُ؛
﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾
أي: أفضلُهم وأخيرُهم، ويأتي بمعنى المنتصَف بين نقيضين؛
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾
أي: بين طرَفَيْ نَقيض، بين الإفراط والتفريط، وهذا المقصود هنا.
9. قوله: «طيبةً بها نفسه»؛ أي: حال كونه طيِّبةً بالزكاة نفسُه، وإنما أتت طيِّبة لاستنادها إلى النفس، يُقال: طابت نفسُه بالشيء، إذا سَمِحت به من غير كراهة ولا غضب.
10. قوله: «اللئيمة»: نُصِب على أنها صفة "للشَّرَط" ومعناها الدنيئة.
1. انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (7/ 515).
2. انظر: "شرح المشكاة للطِّيبيِّ الكاشف عن حقائق السنن" (2/ 446).