الفوائد العلمية
في الحديث بيان ما أَعَدَّه الله تعالى في الجنَّة للصالحين من عباده وأوليائه، ووعده الصالحين من جِنس ما يعرفونه من مَطعَم ومَشرَب ومَلبَس ومَنكَح، وغيرِ ذلك، ثم زادهم من فضله ما لا يعرفونه فقال: «ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت» ولا يَخطُر على القلب تصوير ما لم يَرَ ولم يسمع، فقال: «ولا خَطَر على قلب بشر»[1].
حضَّ الله تعالى عباده على المسارعة إلى الجنة
وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
وأخفى لهم فيها ثَوَابًا لا يَعلَم مِقدارَه إلا اللهُ تعالى؛ جزاءً على أعمالهم.
ليس مفهومُ الحديث أن الجنة ثمنٌ للعمل الصالح، وأنها حقٌّ للمرء وعوض يستحقُّ دخولها ونيل نعيمها بمجرَّد عمله الصالح.
من رحمة الله تعالى أن جعل الأعمال الصالحة سببًا لدخول الجنة؛ مع أنها لا تؤدِّي شكر بعض النِّعم التي أنعمها الله على عباده.
لَا تعارُضَ بين الحديث وبين قول النبيِّ ﷺ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لا، وَلا أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا...» [2] الحديث. فليس تَوارُدُ النَّفْي والإثبات على معنًى واحِدٍ؛ فالمنفيُّ استحقاقُ الجنة بمجرَّد الأعمال، وكَوْنُ الأعمالِ ثَمَنًا وَعِوَضًا للجنة ونعيمها؛ إذ إن كل الأعمال الصالحة لا تؤدِّي شكر نعمة من نعم الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ كنعمة العقل أو البصر والسمع... إلخ؛ بل إن توفيق العبد الصالح لهذه الأعمال هو من فضل الله.
إن الأعمال الصالحة من توفيق اللّه وفضله ومَنِّه، وصَدَقته على عبده، أن أعانه عليها ووفَّقه لها، وخَلَق فيه إرادتها والقُدرة عليها، وحبَّبها إليه، وزيَّنها في قلبه، وكرَّه إليه أضدادها، ومع هذا، فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، ولا هي على قدره؛ بل غايتُها إذا بذل العبد فيها نُصْحَه وجُهْدَه، وأوقعها على أكمل الوجوه، أن تقع شكرًا له على بعض نِعَمه عليه، فلو طالبه بحقِّه لبَقِي عليه من الشُّكر على تلك النِّعمة بقيَّة لم يقم بشكرها[3].
المراجع
- " كشف الْمُشكِل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (3/ 433).
- رواه البخاريُّ (5673).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 115).
الفوائد العقدية
7. لقد ضلَّت القَدَرية بفَهمهم لمثل هذا الحديث؛ أنهم يدخلون الجنة بأعمالهم، وهي حقٌّ بمجرَّد الأعمال دون مشيئة اللّه؛ بل ذلك النعيم عوض وثمن، والردُّ على بدعتهم هذه أنه مهما اجتهد العباد في الطاعات والصالحات، حتى لو كان كلُّ نَفَس منهم طاعةً لله تعالى، فهم في محض مِنَّته وفضله وتوفيقه، ومن اعتدَّ بعمله وأنكر فضل الله تعالى ومِنَّته، فقد أنكر إحسانه، وفسدت طَوِيَّتُه، ومن ثَمَّ عقيدته.
الفوائد الحديثية
8. روى عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أكثرُ من ثمانمائةٍ، ما بين صحابيٍّ وتابعيٍّ، وله خمسةُ آلافِ حديث وثلاثُمِائةٍ وأربعةٌ وسبعونَ حديثًا، اتَّفَق البخاريُّ ومسلم منها على ثَلاثمِائة حديث، وانفرد البخاريُّ بثلاثةٍ وسبعين حديثًا [1].
9. الحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ[2].
10. اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين؛ الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً. والثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ[3].
11. لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
12. لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة[5].
13. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات[6]
14. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو سورة منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة[7].
15. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص[8].
16. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه[9].
17. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية[10].
18. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية[11].
19. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية[12].
20. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر أحدٌ منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ[13].
21. إن أحسن ما يقال في الحديث القدسيِّ: إنه ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزّ وجل، ونقتصر على هذا ولا نبحث هل هو من قول الله لفظًا ومعنى، أو من قول الله معنى ومن لفظ النبيِّ ﷺ؛ لأن هذا فيه نوع من التكلُّف، وقد نُهينا عن التكلُّف، ونُهينا عن التنطُّع وعن التعمُّق[14].
المراجع
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 72).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236، 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 243).
الفوائد التربوية
22. تربية المدعوِّ على شكر نعم الله تعالى، وأولها شكره على توفيقه للطاعة.
23. عدم اغترار النفس بالطاعات مهما كانت، ولو كانت بعدد الأنفاس؛ فذلك محض فضلٍ ومِنَّة من الله تعالى على عبده، تستوجب أن يكون عبدًا شكورًا.
24. الاعتراف بفضل الله ورحمته أن جعل الأعمال الصالحة سببًا لدخول الجنة والنجاة من النار، يكون بزيادة الاجتهاد في الطاعات والأعمال الصالحة.
الفوائد اللغوية
25. الباء في قوله تعالى:
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
للسببية لا للمعاوضة؛ فالمعنى جزاءً بسبب ما كانوا يعملون.
26. "ما" في قوله ﷺ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»: موصولة؛ بمعنى: أعددتُ لهم الذي لم تَرَه عينٌ، ولم تسمع به أذن... إلخ، ويجوز أن تكون نكرةً موصوفة؛ بمعنى: أعددت لهم شيئًا لم تره عين، ولم تسمع به أذن... إلخ.
27. "لا" هي لِمُطلَق النفي، ولا تنفي الجنس هنا، وإلا لكانت "لا عينَ ولا أُذنَ"؛ ولكن لَمَّا كانت "عين وأذن وقلب" نكراتٍ في سياق النفي، فقد أفادت الشمول؛ فكل العيون لم تَرَ، وكل الآذان لم تسمع، وكل قلوب البشر لم يخطر عليها.
28. إن جمال التشبيه في اللغة يكتسب جماله من المشبَّه به؛ فكيف إذا كان المشبَّهُ به غيرَ متخيَّل، إنه مجهول التصوُّر، غير معقول التخيُّل، لا تدركه الأفهام ولا الأوهام ولا الأحلام؛ جزاءً لعملهم الصالح.
29. في قوله: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ» صورةٌ تَنقُل المؤمن إلى عالم غير محسوس، لا توجد صورة لتُشبَّه به حتى يقترب المعنى له؛ بل يكفيه أن يعلم أنه مُعَدٌّ ومهيَّأ ومستور من قِبَل الله، أخفاه الله لعباده الصالحين مما لم تره عين، أو لم تسمع به أُذن، ولم يخطر على قلب بشر.
30. قُرَّة أَعْيُن: أَقَرَّ اللَّه عَيْنَه؛ أي: أعطاه حتى تَقَرَّ فلا تَطْمَحَ إلى من هو فوقَه، ويقال: حتى تَبْرُدَ ولا تَسْخَنَ؛ فللسُّرور دمعةٌ باردة، وللحُزن دمعة حارَّة [1].
المراجع
- "مختار الصحاح" للرازيِّ (ص: 250).