1. في الحديث بيان حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر، حيث دار الحديث حول تفصيل خلق الإنسان وتصوير مراحل خلقِه؛ ليتصوَّر حقيقةَ الخَلق، والحياة، والموت، والقَدَر.

2. في الحديث بيان مبدأ الخَلق ونهايته، وأحكام القدر في المبدأ والْمَعاد، فهو جامع لأحوال الإنسان من مبدأ خلقه، ومجيئه إلى هذه الحياة الدنيا، إلى آخر أحواله من الخلود في دار السعادة أو الشقاء، بما كان منه في الحياة الدنيا من كسب وعمل وَفْقَ ما سبق في علم الله وقدره وقضائه.

3. هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النُّبوَّة، ودليل على صدق رسالة النبيِّ ﷺ حيث إنه في أمور الغيب، ففيه وصف تفصيليٌّ لخَلق الإنسان، ولم يكن معروفًا حينها في الطبِّ، وهناك ما هو فوق الطب؛ كتابة الرزق، والأجل، والعمل، والشقاء أو السعادة.

4. في الحديث بيان أن العبرة بالخواتيم، وعلى الإنسان ألَّا يغترَّ بعمله،

وقد قال ﷺ:

«إنما الأعمال بالخواتيم»

([1]).

5. الرزق في الحديث: ما يَنتفِع به الإنسان، وهو نوعان: رزق يقوم به البَدَن، ورزق يقوم به الدِّين. والرزق الذي يقوم به البَدَن: هو الأكل والشُّرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك، والرزق الذي يقوم به الدين: هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث [2] 

6. الله أعلم بكيفية نفخ الروح، والروح من أمر الله؛

قال تعالى:

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًﱠ)

[الإسراء: ٨٥]

حتى إنه في الردِّ على الْمُلحِدين الذين يقولون: "لا نؤمن إلا بما ندركه بالحواسِّ فقط، لا نؤمن بالأثر"، فيُحتَجُّ عليهم: فلماذا تؤمنون بالروح وأنتم لا تدركونها بحواسِّكم؛ بل تدركون أثرها فقط؛ فهي دليل على وجود الحياة؟

7. في الحديث إشارة إلى أن جسد الإنسان يُخلَق قبل رُوحه [3]

8. الروح عجيبة، لها حال في المنام فتخرج من البَدَن؛ لكن ليس خروجًا تامًّا، فتجد نفسك تجوب الفيافيَ، ربما وصلتَ إلى الصين أو إلى أقصى المغرب، وربما طِرْتَ بالطائرة، وربما ركبت السيارة، وأنت في مكانك، واللحاف قد غطَّى جسمك، ومع ذلك تتجوَّل في الأرض، ولسنا نعلم منها إلا ما جاء في الكتاب والسنَّة، وما لا نعلمه نَكِلُ علمَه لله سبحانه وتعالى[4]

9. عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله  

يقول

«كتَب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألْفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماء»

[5].

 والحكمةُ من تلك الكتابة التي يكتبها الملَك كَوْنُ ما كتبه قابلًا للمَحْوِ والإزالة والتغيير، بخلاف ما كتبه في اللوح المحفوظ؛ فإنه ثابتٌ لا يتغيَّر [6].

10 قوله: «شقيٌّ أو سعيد»، والمراد أنّه يَكتُب لكلّ أحد إمّا السّعادة وإمّا الشّقاء، ولا يكتبهما لواحد معًا، وإن أمكن وجودهما منه؛ لأنّ الحُكم إذا اجتمعا للأغلب، وإذا ترتَّبا فللخاتمة؛ فلذلك اقتصر على أربع، وإلّا لقال: خمس [7]

11 للتأمُّل في أهمية الدم في بقاء حياة الإنسان؛ أن أصل الإنسان بعد النُّطفة العَلَقة، والعلقةُ دمٌ؛ ولذلك إذا نزف دم الإنسان هلك.

12 هذه الصورة التفصيلية الواردة في الحديث ذُكرت في القرآن الكريم في أكثرَ من موضع؛ مثل

قوله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ,ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ , ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾  

[المؤمنون: 12 - 14]

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ ﴾

[الحج: 5] .

المراجع

  1.   رواه البخاريُّ (6607).
  2.  "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص85). 
  3.  انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 13). 
  4.  "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص 93). 
  5.  رواه مسلم (2653).
  6.  انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن رجب (ص: 45)، "فتح الباري" لابن حجر (11/ 485). 
  7.  "فتح الباري" لابن حجر (11/ 483).




1- حديث «احفظ الله يحفظك» أصلٌ عظيم في مراقبة الله، ومراعاة حقوقه، والتفويض لأمره، والتوكُّل عليه، وشهود توحيده وتفرُّده، وعجز الخلائق كلِّهم، وافتقارهم إليه.

2- في الحديث بيان أن من حَفِظ الله، حفظه الله، ووجده معه بحفظه، أينما توجَّه، ومن كان الله حافظَه، فممن يخاف، وممن يَحذَر؟! ففي قوله: «يحفظك» مكافأة؛ إذِ الجزاءُ من جنس العمل.

3- في قوله : «احفظ الله تَجِدُه تُجَاهك»: إشارة إلى معيَّة الله الخاصَّة لعباده المؤمنين الطائعين.

4- في الحديث إشارة إلى أن الله تعالى يحبُّ أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج، ويُلَحَّ في سؤاله ودعائه، ويَغضُب على مَن لا يسأله، ويستدعي مِن عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلِّهم سُؤْلَهم من غير أن يَنقُص من مُلكه شيءٌ، والمخلوق بخلاف ذلك كلِّه؛ يكره أن يُسأل؛ لعجزه وفَقره وحاجته.

5- لقد حضَّ النبيُّ ﷺ على الاستعانة بالله في أحاديثَ كثيرةٍ؛ منها:

عن أبي هريرةرضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال:

«احرِصْ على ما ينفعُكَ، واستعِنْ بالله ولا تَعجِزْ»

[1]،

وعن معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه، أن رسول ﷺ أخذ بيده وقال:

«يا معاذُ، والله إني لأحبُّكَ، والله إني لأحبكَ»، فقال: «أوصيكَ يا معاذُ، لا تدعَنَّ في دُبر كلِّ صلاة تقول: اللهم أعنِّي على ذِكركَ وشُكركَ وحُسْن عبادتكَ»

[2]

6- في الحديث بيان أن سؤال الحاجات يكون لله فقط، ولا يُسأل المخلوق شيئًا، وإذا سُئل المخلوق ما يَقدِر عليه، فعلى أنه سبب من الأسباب، وأن المسبِّب هو الله تعالى، لو شاء لَمَنعه من إعطاء السؤال؛ فالاعتماد على الله تعالى وحدَه.

المراجع

  1.  .رواه مسلم (2653).
  2. رواه مسلم (2664)


 1- الحديث ليس المرادُ القويَّ في بدنه؛ لأن قوة البَدَن قد تكون ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوَّةَ في معصية الله، فقوَّةُ البدن ليست محمودةً ولا مذمومةً في ذاتها، إن كان الإنسان استعمَل هذه القوَّة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، صارت محمودةً، وإن استعان بهذه القوَّة على معصية الله، صارت مذمومةً

2- المراد بالقوَّة في الحديث: القوّة المحمودة من شدَّة البدن وعزيمة النّفس؛ لأنها تُعين المؤمن على الطاعة، فيكون أكثرَ عملًا، وأطولَ قيامًا، وأكثرَ صيامًا وجهادًا وحَجًّا، وأشدَّ عزيمةً في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصّبر على الأذى في كلِّ ذلك، واحتمال المشاقّ في ذات اللّه تعالى.

3- قد تكون القوَّة بالمال والغِنى، فيكون المؤمن أكثرَ نفقةً في سبيل الخير، وأقلَّ مَيلًا إلى طلب الدنيا، والحرص على جمع شيء فيها

4- في الحديث بيان أن الخير في كلٍّ من المؤمن القويِّ والمؤمن الضعيف؛ بسبب الإيمان الذى هو صفتهما؛ لكن الله قد بايَن بين خَلقه في داره، ورَفَع بعضهم فوق بعض درجات[1]

5- في الحديث بيان أن على المؤمن بلوغ نهاية الجِدِّ والاجتهاد، مع الاستعانة بالله، والتوكُّل عليه، والالتجاء في كلِّ الأمور إليه، فمَن سلكَ هذين الطريقين، حصل على خير الدارين.

6   - - الأمر بالاستعانة بالله لا يُنافي الاستعانة بالمخلوق فيما يستطيع؛ كحمل متاع، أو قضاء حاجة، فهذا جائزٌ؛ ولكن لا تَشعُر نفسُكَ أنها كاستعانتك بالخالق؛ وإنما عليكَ أن تَشعُرَ أنها كمعونة بعض أعضائك لبعضٍ، كما لو عَجَزتَ عن حمل شيء بيد واحدة، فإنكَ تستعينُ على حمله باليد الأُخرى[2]

7- في الحديث الجمع بين أصلين عظيمين، هما مفهوم التوكُّل ومقصودُه؛ فإنه r أمرَ بالحرص على النفع مع الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ؛ ليجمع بين الفعل وحُسن التوكُّل، وهذا مطابقٌ

لقوله سبحانه:

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾  

[الفاتحة: 5]

وقوله:

  ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[هود: 123]؛

فإن الحرصَ على ما ينفع العبدَ هو طاعةُ الله وعبادته؛ إذ النافعُ له هو طاعةُ الله، ولا شيءَ أنفعُ له من ذلك، وكلُّ ما يُستعان به على الطاعة فهو طاعة، وإن كان من جنس المباح[3]

8- في الحديث النهي عن فعل العاجز من التكاسل، وعدم الحزْم والعزيمة، وليس المعنى: لا يصيبك عجزٌ؛ لأن العجزَ عن الشيء غيرُ التعاجُز؛ فالعجز يكون بغير اختيار من الإنسان.

9- كلمة (لو) ليست حرامًا مطلقًا لا يجوزُ النُّطق بها؛ إنما محلُّ النهي والحرام إن قالها المرء تحسُّرًا على القدر، وتسخُّطًا على قضاء الله، أو ظنَّ فعلًا وحتمًا أنه لو لحصل له كذا من إدراك فوز، أو هربٍ من خسارة، دون ردِّ ذلك إلى قضاء الله وقَدَره، وأنه لا يكون في ملكه إلا ما يُريد، وهو مِثلُ قول الكافرين الذي حكاه الله في القرآن:

﴿  لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾

[آل عمران: 156].[4]

10- في الحديث بيان أن "لو" تُلقي في القلب معارضةَ القَدَر، وتشوِّش به تشويش الشيطان[5]

11- إن قال الإنسان (لو) على وجه التأسُّف على الخطأ، أو أخبر بـ"لو" عن أمرٍ مستقبلٍ بافتراضه لأمرٍ مستقبَلٍ أنه لو فعل كذا سيحصل كذا، أو عن أمرٍ كان في استطاعته أن يفعله لولا المانعُ 

 ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً  ﴾

[هود: 80]،

ومنه قول النبيِّ ﷺ: «لو كنتُ راجمًا امرأةً من غير بيِّنة»[6]، وقوله ﷺ. «لولا أن أشقَّ على أُمَّتي لأمرتهم بالسواك»[7]، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو في الغار مع النبيِّ ﷺ: «لو أن أحدَهم نظَر تحت قدميه لأبصرَنا»[8]

12- الحديث نَهيٌ عَن الْعَجْزِ، وهو التَّسَاهُلُ في الطاعات، وقد استعاذ منه r بقوله: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِن الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَمِن الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ»[9]

13- في الحديث الأمر بالاجتهاد في تحصيل ما ينفع، فالأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفع الإنسان، وقسم يضرُّه، وقسم لا يَنفَع ولا يضرُّ؛ فالإنسان العاقل الذي يَقبَل وصيَّته ﷺ هو الذي يحرص على ما ينفعه[10]

14- في الحديث الأمر بالحرص على كلِّ شيء يَنفَعك، سواءٌ في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت مَنفَعة الدين ومنفعة الدنيا، فقدِّم منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صَلَح صَلَحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين، فإنها تَفسَد

15- في قوله: «احرص على ما ينفعك» إشارةٌ إلى أنه إذا تعارضت منفعتان، إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدِّم المنفعة العليا؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، فتَدخُل في قوله: «احرص على ما ينفعك». وبالعكس إذا كان الإنسان لابدَّ أن يرتكب منهيًّا عنه من أمرين منهيٍّ عنهما، وكان أحدهما أشدَّ، فإنه يَرتكِب الأخفَّ؛ فالمناهي يُقدَّم الأخفُّ منها، والأوامر يُقدَّم الأعلى منها

16-جاءت الشريعة بتكميل المصالح وتحقيقها؛ لقوله ﷺ: «احرصْ على ما ينفعكَ»، فإذا امتثل المؤمنُ أمرَ الرسول ﷺ  فهو عبادةٌ، وإن كان ذلك النافع أمرًا دنيويًّا.

17-الإسلام لا يحبِّذ الضعفَ والاستكانةَ، وينهى عنهما.

18-من أقسام الناس في الإيمان والقوة: المؤمن القويُّ، وهذا خير الأقسام وأفضلها، وهو القسم الوحيد الذي يَصلُح للإمامة في الدين، وهو موضعُها، ومنها مَن له قوةٌ وهمةٌ وعزيمةٌ؛ لكنه ضعيفُ البصيرة في الدين، لا يكاد يميِّز بين أولياء الرحمن من أولياء الشيطان؛ بل يَحسَب كلَّ سوداءَ تمرةً، وكلَّ بيضاءَ شحمةً، يحسب الورمَ شحمًا والدواءَ النافعَ سُمًّا                                                                                                               

المراجع

  1.   "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157).
  2.  "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (2/ 369). 
  3.    انظر: أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 50). 
  4.    انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 421). 
  5.   "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157، 158). 
  6.    رواه البخاري (7238)، ومسلم (1497). 
  7.    أخرجه البخاري (7240). 
  8.    رواه البخاري (3653)، ومسلم (2381).
  9.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 690)، والحديث رواه البخاريُّ (6363). 
  10.    "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/78).  

1.العدوى في الحديث هي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بالمخالَطة.

2.ليس المقصود في الحديث نفيَ وجودِ العدوى؛ وإنما المقصودُ أنه لا عدوى مؤثِّرة بنفسها وذاتِها وطَبْعها؛ وإنما التأثير بتقدير الله عزَّ وجلَّ، إن شاء انتقل الداء من المريض إلى الصحيح بالمخالطة، وإن شاء لم يقع ذلك.

3.على المسلم أن يتوكَّل على الله، ويؤمن أن كلَّ شيء بقَدَر قدَّره الله تعالى، مع الأخذ بالأسباب النافعة، وترك ما قد يُفضي إلى الشرِّ.

4.قوله ﷺ: «لا عدوى» يَشمَل العدوى الحِسِّية والمعنوية الخُلقية، وإن كانت في الحسِّية أَظهَرَ؛ ولهذا أخبر النبيُّ ﷺ أن جليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يُحرِق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة[1]

5.قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا عَدْوَى وَلا صَفَرَ وَلا هَامَةَ»، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ إِبِلِي، تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَأْتِي البَعِيرُ الأَجْرَبُ، فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا، فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ: «فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟»[2]؛ يعني: أن الْمَرض نزل على الأوَّل بدون عدوى؛ بل نزل من عند الله تعالى؛ فكذلك إذا انتقل بالعدوى، فقد انتقل بأمر الله، لا بطبيعته.

6.في قوله ﷺ: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي الفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ»[3] إثبات لنوع خَفيٍّ من الأسباب، ولا يطَّلِع عليه أكثرُ النّاس، ولا يُعلَم إلّا بعد وقوع مسبَّبه؛ فإنّ من الأسباب ما يُعلَم سببيَّته قبل وقوع مسبَّبه، وهي الأسباب الظّاهرة، ومنها ما لا يُعلَم سببيَّته إلّا بعد وقوع مسبَّبه، وهي الأسباب الخَفيَّة.

7.الهامَة فُسِّرت بتفسيرين: الأول: أنها طيرٌ معروف يُشبه البُومة، أو هي البُومة، تَزعُم العرب أنه إذا قُتِل القتيلُ، صارت عظامُه هامةً تطير وتَصرُخ حتى يؤخَذ بثأره، وربما اعتقد بعضُهم أنها رُوحه. التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامةُ هي الطَّير المعروف؛ لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونَعَقَت، قالوا: إنها تَنعِق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليلُ قُرب أَجَله، وهذا كلُّه بلا شكٍّ عقيدةٌ باطلة[4]

8.قوله ﷺ: «ولا صَفَر»: الأقرب أنه شهر صَفَر، كانت العرب يتشاءمون به، ولا سيَّما في النكاح، وأن المراد بالحديث نفيُ كونِه مشؤومًا، وأنه كغيره من الأزمان يُقدَّر فيه الخير، ويقدَّر فيه الشرُّ.

9.قوله ﷺ: «لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»[5] دليل على أن العدوى موجودةٌ؛ أي: لا يُورِدُ صاحبُ الإبِلِ المريضةِ على صاحب الإبل الصحيحة؛ لئلَّا تنتقل العدوى، وكذلك قوله ﷺ: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ»[6]، وفيه إثباتٌ لتأثير العدوى؛ لكن تأثيرها ليس أمرًا حتميًّا، بحيث تكون علَّةً فاعلة، وأَمْرُ النبيِّ ﷺ بالفرار، وأن لا يُورِدَ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ، من باب تجنُّب الأسباب، لا من باب تأثير الأسباب نفسها؛ فالأسبابُ لا تؤثِّر بنفسها.

10.ينبغي للمؤمن أن يتجنَّب الأسباب التي تكون سببًا للبلاء؛ 

لقوله تعالى:

 وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ 

[البقرة: 195].

11.في الحديث أن الفأل هو الكلمة الطيِّبة؛ فإن الكلمة الطيِّبةَ تُدخِل السُّرور على النفس، وتَشرَح الصَّدر، وتُفرِح القلب، وتنشِّط اللسان، وتدعو إلى الخير.

12.                                                                                                                                                                                                    

عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّه ﷺ:

«أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ»

[7]

المراجع

  1. "شرح كتاب التوحيد" لابن عثيمين (2/80).
  2. رواه البخاريُّ (5717)، ومسلم (2220).
  3. (رواه البخاريُّ (2858)، ومسلم (2225).
  4. "شرح كتاب التوحيد" لابن عثيمين (2/80).
  5. رواه مسلم (2221).
  6. رواه البخاريُّ (5707).
  7. رواه البخاريُّ (5734).

1. في الحديث بيان سموِّ دين الإسلام، وحرصه على مصالح العباد، وحياتهم، حيث يحفظ على أتباعه عقولهم، وأبدانهم، ودينهم.

2. قال ﷺ : «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ»: ولم يقل النبيُّ ﷺ: (حرَّما)؛ تأدُّبًا مع الله تعالى، وإشارةً إلى أن أمر النبيِّ ﷺ ناشئٌ عن أمر الله تعالى، فتأدَّب النبيُّ ﷺ، فلم يَجمَع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين [1].

المراجع

1.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 461).

1. هذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام[1].

2. الإحسانُ: هو بذلُ جميع المنافع من أيِّ نَوْعٍ كان، لأيِّ مخلوق يَكُون؛ ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقِّهم ومَقامِهم، وبحسَبِ الإحسان، وعِظَم موقعه، وعظيم نفعه، وبحَسَبِ إيمان المحسِن وإخلاصه، والسببِ الداعي له إلى ذلك[2].

3. المقصود الأعظم من خَلْقِ الموت والحياة هو الاختبار؛ ليَظهَر من أَحْسَنُ عملاً؛ قال تعالى:

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}

[الملك:2]

4. الإحسان المأمور به نوعان؛ أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيامُ بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجَّه عليك من الحقوق. والثاني: إحسان مستحبٌّ، وهو ما زاد على ذلك من بَذْلِ نفع بَدَنيٍّ، أو ماليٍّ، أو علميٍّ، أو توجيه لخير دينيٍّ، أو مصلحة دنيوية[3].

5. كلُّ معروف صدقة، وكلُّ ما أَدخَل السرورَ على الخَلق صَدَقةٌ وإحسان، وكلُّ ما أزال عنهم ما يَكرَهون، ودَفَع عنهم ما لا يرتضُون من قليلٍ أو كثير، فهو صَدَقة وإحسان[4].

6. يُستعمَل لفظ "الكتابة" في القرآن فيما هو واجبٌ حتمٌ؛ إمّا شرعًا؛ كقوله تعالى:

{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}

[النساء: 103]

وقوله:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

[البقرة: 183]

أو فيما هو واقع قَدَرًا لا محالة؛ كقوله:

{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}[5]

 [المجادلة: 21]

7. من أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسانُ إلى من أساء إليك بقول أو فعل؛ قال تعالى:

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}

[فصلت: 34، 35]

8. من كانت طريقتُه الإحسانَ لم يكن له جزاء يُكافئه إلا الإحسان؛

{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}

[الرحمن: ٦٠]

9. الإحسان في العبادة لله تعالى: (أن تعبد الله كأنك تراه)، والإحسان في التعامل مع النفس ألا تُحمِّلها ما لا تُطيق، وتسعى لجعلها مطمئنَّة، والإحسان في التعامل مع الناس كلِّهم؛ مؤمنهم وكافرهم، مَن فوقَك أو من هم أسفلَ منك وتحت يدك، أن تُحسن معاشرة الزوجة والأولاد، بتقويمهم، والتلطُّف معهم، والقيام على شؤونهم، وتلمُّس حاجاتهم، والإحسان في التعامل مع البهائم والدوابِّ، بعدم تحميلها ما لا تُطيق، وإطعامها بما يكفيها، وإحسان ذبحها، والإحسان في التعامل مع الجمادات، بالحفاظ عليها، وهَلُمَّ جرًّا.

10. الإحسان هو فِعْلُ الْحَسَنِ، وهو ضِدُّ القبيح، فيَتَناول الْحَسَنَ شرعًا، والحسنَ عُرْفًا.

11. قوله: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»: هاتان الحالتان من أعجب صور الإحسان، فهذا أَبْعَدُ شيء عن اعتبار الإحسان، وَهُوَ الإحسان في القتل لأيِّ حيوان من آدَمِيٍّ وغيرِه، في حَدٍّ وغيره، حتى إنه ربَّما لا يتصوَّر العقل التوجيهَ لإحسان القتل والذبح؛ فكيف يُتصوَّر الإحسان في إزهاق الروح، وإنهاء الحياة، وفوات النفس؟!

12. الإحسان في قتل ما يجوز قتلُه من النّاس والدّوابِّ يكون بإزهاق نفسه على أسرعِ الوجوه وأسهلِها من غير زيادة في التّعذيب؛ فإنّه إيلامٌ لا حاجة إليه، وهذا النّوع هو الّذي ذكره النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال: «إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ»[6].

13. ظاهر الحديث يقتضي أنّ الله تعالى كتب على كلِّ مخلوق الإحسان، فيكون كلُّ شيء أو كلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوبُ هو الإحسان.

14. الإحسان في الصّبر على المقدورات يكون بالصّبر عليها من غير تسخُّط ولا جزع.

المراجع

  1. ( ) "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
  2.  "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
  3. "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
  4. "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 380).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 382).



  1. في الحديث إشارة إلى اهتمام النبيِّ ﷺ ببناء المجتمع المسلم السويِّ، الذي تتكوَّن لَبِناته من نفوس نَقيَّة سَويَّة، تُعامل ربَّها وتُراقبه وتتَّقِيه بالحرص على الكسب الحلال، ويتعامل أفراد المجتمع بالنقاء والنصيحة وعدم الغشِّ والخداع.

  2. «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»: قاعدة عامة أن من غشَّ فليس على سنَّة النبيِّ ﷺ ولا يتَّبِع طريقه؛ بل هو آثم مرتكب لإثم كبير، وهو غشُّ المسلمين وخداعهم، وأكل أموالهم بالباطل.

  3. في الحديث بيان أن من يَعرِض بضاعته عرضًا جذَّابًا مُغْريًا، يُظهِر منها الحَسَن، ويُخفي منها القبيح؛ كي يَخدَع الناس ويَغُشَّهم، أو يَخلِط الطيِّب من السلع بالرديء، أو نحو ذلك، أن ذلك غشٌّ وخداعٌ وتغرير للمشتري يُخرج التاجر عن سبيل المؤمنين، ويرتكب كبيرة، يَحِلُّ عليه بسببها غضب الله.

  4. في الحديث بيان أن الغشَّ ظُلم للمشتري، وأكل لماله بالباطل، يُحزِنه ويُوغِر صدره، وقد حرَّم الإسلام كل صور الظلم والغشِّ وخيانة الأمانة.

  5. كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صاحِبُه بأنه لا يَدخُل الْجَنَّةَ، ولا يَشُمُّ رائحةَ الجنة، وقيل فيه: مَن فَعَلَه فليس منَّا، وأن صاحِبَه آثِمٌ، فهذه كُلُّها من الكبائر [1].

  6. قال رسولُ الله ﷺ:

    «أيُّها الناسُ، إن اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَل إلا طَيِّبًا، وإن اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال:  ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُوا صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ﴾  [البقرة: 172]، ثم ذكَر الرجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!»

    [2].

  7. من أعظم الغشِّ: الغشُّ في الدين وكتمان الحقِّ؛ كما أخبر الله تعالى عن أحبار بني إسرائيل، الذين كتموا الحقَّ، وأظهروا للناس الباطل، يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ويبتغون بذلك عرَضًا من الدنيا، فضلُّوا وأضلُّوا عن سواء السبيل.

  8. إن كثرة تسلُّطِ الكفَّار على المسلمين بالأسر والنهب، وأخذ الأموال والحريم، إنما حَدَث في هذه الأزمنة المتأخِّرة لَمَّا أن أَحدَث التجَّار وغيرهم قبائح ذلك الغشِّ الكثيرة والمتنوِّعة، وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتحايلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأيِّ طريق قَدَروا عليها، لا يراقبون الله المطَّلِع عليهم [3].

المراجع

1.  "مجموع الفتاوى" (11/ 652).

2. رواه مسلم (1015).

3.  "الزواجر عن اقتراف الكبائر" لابن حجر الهيتميِّ (1/400).



1. في الحديث بيان أن من نازَع الله تعالى في الكبرياء والعظمة بأن تكبَّر وتعظَّم على الناس، فجزاؤه أن يُقذَف في النار؛ إذ لا ينبغي لمخلوق أن يَتعاطاهما؛ لأن صفةَ المخلوق التواضعُ والتذلُّلُ[1]. 

2. في الحديث بيان تحريم الشرع اتِّصافَ الإنسان بالكبرياء والعَظَمة، وجعلهما من الكبائر؛ لأن مَن لاحظَ كمال نفْسه ونَسِيَ مِنَّة الله تعالى عليه بالنِّعَم، كان جاهلًا بنفْسه وبربِّه، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله:

﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ 

 [ص:76]

وصفة فِرْعونَ الحاملةُ له على قوله:

﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾

   [النازعات:24]

فكان جزاؤهما أنهما أشدُّ أهل النار عذابًا[2].

3. في الحديث إشارة إلى أن مَن تَعاطى شيئًا من الكبرياء والعَظَمة، أذلَّه اللهُ تعالى، وصغَّره وحقَّره وأهلَكَه، كما قد أظهر الله تعالى من سُنَّته في المتكبِّرين السابقين واللاحقين[3].

4. الفرقُ بين الكبرياء والعظمة أن الكِبرياء تستدعي متكبَّرًا عليه؛ ولذلك لَمَّا فسَّر ﷺ الكِبرَ، قال:

«الكِبرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمطُ النَّاسِ»[4]

وهو احتقارُهُم، فذكَرَ المتكبَّرَ عليه، وهو الحقُّ أو الخَلقُ، والعَظَمةُ: لا تَقتضي ذلك؛ أي: إن المتكبِّر يلاحِظ ترفُّعَ نفْسِهِ على غيره بسببِ مَزيَّةِ كمال نفسه فيما يراه، والمعظِّم يلاحِظ كمالَ نفْسه مِن غير ترفُّعٍ لها على غيره، وهذا التعظيمُ هو المعبَّرُ عنه بالعُجْبِ في حقِّنا[5].

5. الكِبرُ المنهيُّ عنه هو دفعُ الحقِّ إنكارًا وترفُّعًا، واحتقارُ الناس، وليس من الكِبر لُبْسُ الثياب الحسنة والتجمُّل في المظهر؛ فعن عبدِ الله بنِ مسعودٍ ، عن النبيِّ ﷺ قال:

«لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبه مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ» قال رجُلٌ: إن الرجُل يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنة؟ قال: «إن اللهَ جميلٌ يحب الجمالَ؛ الكبرُ بطَرُ الحقِّ، وغَمطُ الناس»[6]

6. الكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرّداء كما جعل العظمة بمنزلة الإزار؛ ولهذا كان شعار الصّلوات والأذان والأعياد هو التّكبير، وكان مستحبًّا في الأمكنة العالية كالصّفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفًا أو ركب دابّةً ونحو ذلك، وبه يُطفَأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يَهرُب الشّيطان[7].

7. قَالَ تَعَالَى:

﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾

[غافر: ٦٠]

وكلُّ مَن استكبر عن عبادة اللّه لا بدَّ أن يَعبُد غيره؛ فإنَّ الإنسان حسَّاس يتحرَّك بالإرادة[8].

8. الكِبْرُ حرامٌ من الغنيِّ ومن الفقير؛ لكنه من الفقير أشدُّ؛ ولهذا تجد الناس إذا رَأَوْا غنيًّا متواضعًا، استغربوا ذلك منه، واستعظموا ذلك منه، ورأوا أن هذا الغنيَّ في غاية ما يكون من الخُلُق النَّبيل؛ لكن لو يجدون فقيرًا متواضعًا، لكان من سائر الناس؛ لأن الفقر يوجب للإنسان أن يتواضع؛ لأنه لأيِّ شيء يستكبر؟![9]

9. في الحديث إشارة إلى أن المؤمن متواضعٌ هيِّنٌ ليِّنٌ خاضعٌ لربِّه سبحانه، لا يتعالى على خَلق الله.

المراجع

  1. انظر: "معالم السنن" للخطابيِّ (4/196).
  2. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/287).
  3. "مرقاة المفاتيح" للملا علي القاري (4/1573).
  4. رواه مسلم (91).
  5. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/286).
  6. رواه مسلم (91).
  7. "مجموع الفتاوى" (10/ 196).
  8. "مجموع الفتاوى" (10/ 196).
  9. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 552، 553).


1. هذا الحديث من جوامع كَلِم النبيِّ ﷺ. 
2. «لاَ تَغْضَبْ»: وصية جامعة من النبيِّ ﷺ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الغضب جِمَاعُ الشَّرِّ، ومِفتاح كلِّ شَرٍّ، وأن التَّحَرُّز منه جِمَاع الخير.
3. فسَّر بعض العلماء حُسْنَ الْخُلُق بترك الْغَضَب.
4. في الحديث أن الصحابيَّ رَدَّد سؤاله بطلب الوصية مِرَارًا يلْتَمِس أَنْفَعَ من ذَلِك، أَو أَبلَغَ، أَوْ أَعَمَّ، فَلَمْ يَزِدْهُ النبيُّ ﷺ: عَلَى قوله: «لَا تَغْضَبْ»؛ مما يدلُّ على عظم الغضب.
5. الغضب: هو غَلَيان دم القلب؛ طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممّن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرَّمة؛ كالقتل والضّرب وأنواع الظُّلم والعُدْوان؛ وكثير من الأقوال المحرَّمة؛ كالقذف والسّبِّ والفُحش، وربّما ارتقى إلى درجة الكفر، وكالأيمان الّتي لا يجوز التزامها شرعًا، وكطلاق الزّوجة الّذي يُعقِبُ النَّدمَ[1].
6. إن الغضبَ يُخرِج الإنسان من اعتدال حاله، ويجعله يتكلَّم بالباطل، ويرتكب المذموم، ويتشبَّع بالحقد والبغضاء، وغير ذلك من القبائح المحرَّمة.
7. كان من دعائه ﷺ:

«أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا»[2]

وَهَذَا عَزِيزٌ جِدًّا، وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحقِّ، سواءٌ غَضِبَ أو رَضِي؛ فإن أكثرَ الناس إذا غَضِب لا يَتَوقَّف فيما يقول[3].
8. المقصود من الحديث أنِ اجْتَنِبْ أسباب الغضب، ولا تَتعرَّضْ لما يَجلِبه[4].
9. الغَضَبُ نفسُه، لا يتأتَّى النّهي عنه لأنّه أمر طبيعيٌّ لا يزول من الجِبلَّة. وما كان من قبيل الطّبع الحيوانيِّ، لا يمكِن دفعه، فلا يَدخُل في النّهي؛ لأنّه من تكليف الْمُحال، وما كان من قَبيل ما يُكتَسب بالرّياضة، فهو المراد[5].
10. قيل: لا تغضب؛ لأنّ أعظم ما ينشأ عن الغضب الكِبْر؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده، فيَحمِله الكبر على الغضب، فالّذي يتواضع حتّى يذهب عنه عزَّة النّفس، يَسلَم من شرِّ الغضب[6].
11. قيل: «لَا تَغْضَبْ»؛ أي: لا تَفْعَلْ ما يَأْمُرك به الغضب[7].
12. إن مجاهدة النفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأنه ﷺ جعل الذي يملك نفسَه عند الغضب أعظمَ الناسِ قُوَّةً[8].
13. جمع ﷺ في قوله: «لا تغضب» خير الدّنيا والآخرة؛ لأنّ الغضب يؤول إلى التّقاطع، ومنع الرِّفق، وربّما آل إلى أن يؤذيَ المغضوب عليه، فيُنتقَص ذلك من الدِّين[9].
14. من تأمَّل مفاسد الغضب، عَرَف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللّطيفة من قوله ﷺ: «لا تغضب» من الحكمة، واستجلاب المصلحة في درء المفسدة ممّا يتعذَّر إحصاؤه، والوقوف على نهايته، وهذا كلُّه في الغضب الدّنيويِّ، لا الغضب الدّينيِّ[10].
15. قوله ﷺ: «لَا تَغْضَبْ» يَحتمِل أمرين؛ أحدهما: أن يكون مراده الأمرَ بالأسباب الّتي توجب حُسن الخُلق من الكرم والسّخاء، والحِلم والحياء، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإنّ النّفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادةً، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثّاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك؛ بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به؛ فإنّ الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمرَ والنّاهيَ له؛ ولهذا المعنى قال اللّه عزّ وجلّ:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}[الأعراف: ١٥٤]، فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربّما سكن غضبه، وذهب عاجلًا، فكأنّه حينئذ لم يغضب[11].
16. قال ﷺ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ؛ إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[12].
17. الغضب لله محمود، يُثاب عليه المرء إذا أصلح نيَّته، وأن يكون غضبه دفعًا للأذى في الدّين له أو لغيره، وانتقامًا ممّن عصى اللّه ورسوله؛ كما قال تعالى:

{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [13]

[التوبة: 14 - 15]


18. كان النّبيُّ ﷺ لا يغضب إلا لله، فكان لا ينتقم لنفسه؛ ولكن إذا انتُهكت حُرمات اللّه، لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادمًا ولا امرأةً إلّا أن يجاهد في سبيل اللّه[14].
19. مما يُعِين على ترك الغضب: استحضارُ ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثَمَرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشّيطان، وأن يتوضَّأ؛ فقد كان النّبيّ ﷺ يأمر من غَضِب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب، وتسكِّنه، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه.
20. الاستعاذةُ بالله من الشيطان الرجيم تُذهب الغضبَ، وهي من أقوى السلاح على دفع كَيده؛ حيث إن الشيطان هو الذي يزيِّن للإنسان الغَضَب وكلَّ ما لا تُحمَد عاقبتُه؛ ليُرْدِيَه ويُغْويَه ويُبعدَه عن رضا الله تعالى.
21. مما يعالج الغضب: ما قاله النَّبِيُّ ﷺ في خُطبته:

«أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَفَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟! فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ»[15]


22. عن أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[16]


23. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا، عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ - مَرَّتَيْنِ»[17]

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369).
  2. رواه أحمد (18515)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
  3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 372).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  8. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  9. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  10. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  11. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 364).
  12. رواه البخاريُّ (6114)، ومسلم (2609).
  13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369، 370).
  14. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369، 370).
  15. رواه أحمد (11608)، والترمذيُّ (2191)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن.
  16. رواه أحمد (21348)، وأبو داود (4782)، وصححه الألبانيُّ في "مشكاة المصابيح" (5114).
  17. رواه أحمد (2556)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (1320)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد".

1. هذا الحديث من جوامع كَلِمه ﷺ وبديع بلاغته في ذمِّ الشَّهوات، وإن مالت إليها النُّفوس، والحضِّ على الطَّاعات، وإن كرهتها النُّفوس، وشقَّ عليها[1].

2. في الحديث الأمرُ بالابتعاد عن الشَّهوات؛ لأنَّها الطَّريق إلى النَّار، والصَّبرِ على المكاره؛ لأنَّها الطَّريق إلى الجنَّة.

3. في الحديثِ: بيانُ أنَّ طريقَ الجنَّةِ صَعبٌ وشاقٌّ، ويحتاجُ إلى الصَّبر والمعاناة مع الإيمان، وأنَّ طريقَ النار مَملوءٌ بالْمَلذَّاتِ والشهوات في الدنيا.

4. جَعَل الله تعالى النَّارَ من نَصيب الكفَّار والْمُذنبين من خلقه؛ قال تعالى:

{ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}

[آل عمران: 131]

5. امتحن اللهُ سبحانه عباده في الدنيا بالمحرَّمات من الشهوات والشُّبهات، وجعل في النَّفس داعيًا إلى حُبِّها، مع تمكُّن العبد منها، وقُدرته عليها، فمن أدَّى الأمانة، وحَفِظ حدودَ الله، ومَنَع نفسه ما يُحبُّه من محارم الله، كان عاقبتُه الجنةَ؛ كما قال تعالى:

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ 40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}

[النازعات: ٤٠ – ٤١]

6. في الحديث بيان أن العبد يحتاج في الحياة الدنيا إلى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله - عزَّ وجلَّ - فمن كانت نفسُه شريفةً، وهِمَّته عاليةً، لم يَرْضَ لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ، ولا يرضى بالخيانة إلا مَن لا نَفْسَ له[2]. 

7. يدخل في المكاره: الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصّبر على مشاقِّها، وكَظم الغيظ، والعفو، والحِلم، والصَّدقة، والإحسان إلى المسيء، والصّبر عن الشَّهوات، ونحو ذلك[3].

8. في الحديث الظاهرُ أن الشّهواتِ الّتي حُفَّت بها النّارُ هي الشّهوات المحرَّمة؛ كالخمر والزِّنا، والنَّظَر إلى الأجنبيَّة، والغِيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك، أما الشّهوات المباحة فغير مقصودة في هذا الحديث؛ لكن يُكرَه الإكثار منها؛ مخافةَ أن يَجُرَّ الإكثار منها إلى المحرَّمة، أو يُقسِّيَ القلب، أو يَشغَل عن الطَّاعات، أو يُحْوِج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا[4].

9. المراد بالْمَكَاره في الحديث: ما أُمِر المكلَّف بمجاهدة نفسه فيه فعلًا وتركًا؛ كالإتيان بالعبادات على وجهها، والمحافظة عليها، واجتناب المنهيَّات قولًا وفعلًا، وأَطلَق عليها الْمَكاره لمشقَّتها على العامل، وصُعوبتها عليه، ومن جُملتها الصَّبر على الْمُصيبة، والتَّسليم لأمر اللّه فيها[5].

10. الشَّهَوات: هي ما تميل إليه النفس، من غير تعقُّل، ولا تبصُّر، ولا مُراعاة لدِين، ولا مراعاة لِمُروءة؛ فالزِّنى شَهْوةُ الفَرْج، تميل إليها النفس كثيرًا، فإذا هَتَكَ الإنسان هذا الحِجاب، فإنه سيكون سببًا لدخوله النارَ. وكذلك شُرْبُ الخَمر، تهواه النفس، وتميل إليه؛ ولهذا جَعَل الشارع له عقوبةً رادعة بالجَلْدِ، فإذا هَتَك الإنسان هذا الحجابَ وشَرِب الخمر، أدَّاه ذلك إلى النار، وهلُمَّ جرًّا[6].

11. في الحديث إشارة إلى أن مرارة الدنيا هي بعَينها حلاوة الآخرة، يَقلِبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدُّنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأن ينتقل المرء من مرارة منقطِعة إلى حلاوة دائمة، خيرٌ له من عكس ذلك[7].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320).
  2. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 165).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 165).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320، 321).
  6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 87 - 89).
  7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180). 


  1. في الحديث بيان أن القرآنَ يأخذه أناس يتلونه ويقرؤونه؛ فمنهم من يرفعه الله به في الدنيا والآخرة، ومنهم من يَضَعُهم الله به في الدنيا والآخرة، فمن هذا مَن عمل بهذا القرآن تصديقًا بأخباره، وتنفيذًا لأوامره، واجتنابًا لنواهيه، واهتداءً بهَدْيه، وتخلُّقًا بما جاء به من أخلاق، وكلُّها أخلاق فاضلة؛ فإن الله تعالى يَرفَعه به في الدنيا والآخرة [1].

  2. في الحديث إشارة إلى أن القرآن الكريم هو أصلُ العلم، ومَنبَع العلم، وكلُّ العلم، وقد قال الله تعالى:

    ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾

    [سورة المجادلة :١١]

    أما في الآخرة فيَرفَع الله به أقوامًا في جنات النعيم، ويُقال للقارئ: اقرأ ورتِّل واصعد، وله إلى منتهى قراءته صعود في الجنة إن شاء الله[2].

  3. في الحديث بيان أن الله تعالى يرفع من عَمِل بالعلم؛ فهذا الأميرُ الذي كان عبدًا فأُعتق رفعه اللَّه تعالى عليهم بالعلم، وهم يَعرِفون منه ذلك، فيَحترمونه، ويُعظِّمونه، ويُطيعون أمره، فتستقيم أمورهم، وتستقرُّ أحوالهم.

  4. في الحديث بيان أن الله تعالى يضع من لم يعمل بالقرآن، فيُحقِّرهم، ويُصغِّر قدرهم في الدنيا والآخرة؛ بسبب إعراضهم عنه، وعدم عنايتهم به، وتضييعهم حدودَه، وجهلهم بما فيه، وهم الذين لم يؤمنوا به، أو آمنوا ولم يعملوا به؛ كما قال تعالى: 

    ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾

    [البقرة :26][3]

  5. إن الله يرفع بهذا الكتاب من قرأه وعَمِل بمقتضاه مخلصًا، أما من قرأه مرائيًا غيرَ عامل به، وَضَعه الله أسفل السافلين [4].

  6. قال تعالى:

    ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾

    [ الإسراء: 82]

  7. قَالَ أبو الْعَالِيَة: كنتُ آتِي ابْن عَبَّاس وَهُوَ على سَرِيره وَحَوله قُرَيْشٌ، فَيَأْخُذ بيَدي فيُجلسني مَعَه على السرير، فتغامز بِي قُرَيْش، فَفَطِن لَهُم ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: كَذَا هَذَا الْعلم، يَزِيد الشريفَ شرفًا، وَيُجْلس الْمَمْلُوك على الأسِرَّة [5].

  8. في الحديث بيانُ ما كان عليه عمرُ رضي الله عنه من متابعة أمرائه في سياستهم لرعيَّتهم؛ لئلا يُضيعوا حقوقهم، فيكون هو المسؤولَ عن ذلك؛ لأنه أمير المؤمنين.

  9. في الحديث إشارة إلى أن من كان عالِمًا بكتاب اللَّه، وبالفرائض، هو الذي يستحقُّ أن يتولّى أمور المسلمين، وإن كان دنيء النَّسَب، وأن من كان جاهلًا بهذه الأمور لا يستحقُّ ذلك، وإن كان شريف النَّسَب.

  10. في الحديث فضل علم الفرائض، وشَرَفُه؛ فإنه العلم الذي أعلى اللَّه تعالى قَدْرَه، حيث تولّى بنفسه قسمته في كتابه العزيز، ولم يَكِلْه إلى أحد.

  11. عُسْفَانُ مدينة تَبعُد عن مكَّةَ بثمانين كيلو متر.

  12. ابنُ أَبْزَى: هو عبدُ الرحمن بنُ أَبْزَى، مولى نافعِ بنِ عبد الحارث رضي الله عنه، كان عبدًا له وأعتقه.

    المراجع

1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 646، 647).

2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 646، 647).

3. "البحر المحيط الثجاج" لمحمد بن عليٍّ الإثيوبيِّ (16/ 459)

4. مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمباركفوري (7/ 179، 180).

5. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 164)

1. هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ في البيوع؛ فالبيعُ والشراء من المعامَلات الأساسية التي يحتاجها الناس في دنياهم، ولا تستقيم حياتهم إلا بها.

2. حرصت الشريعة على حفظ أموال الناس، وعدم ضياعها، وتحريم كلِّ بيع من شأنِه أن يُحدِث ضررًا بالغًا بالبائع، أو المشتري. لذا؛ حرَّم الله تعالى كلَّ بيع فيه أكلٌ لأموال الناس بالباطل؛ 

قال تعالى:

 ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍۢ مِّنكُمْ ۚ﴾

[النساء: 29].

  1. هذا الحديث قد اشتمل على فوائدَ كثيرةِ النَّفع، جليلةِ القَدْرِ لِمَن فَهِمها حقَّ فَهْمِها، وتدبَّرها كما ينبغي [1]، وقِيلَ: هو أشرف حديث رُوِي في صفة الأولياء [2].

  2. المراد بوليِّ الله: العالمُ بالله، المواظِبُ على طاعته، المخلِص في عبادته [3].

  3. في هذا الحديث من الفقه: أن الله تعالى قدَّم الإعذار إلى كلِّ من عادى وليًّا بأنه محاربُه [4].

  4. الحديث أصلٌ في السلوك إلى الجليل جلَّ جلاله، والوصولِ إلى معرفته ومحبَّته وطريقه [5].

  5. في الحديث بيان أن من كان الله وَليَّه، سَعِد بولايته في الدنيا والآخرة، وجنى ثمارها، ورأى آثارها في نفسه وأهله وماله وولده، وأَغنَته عن كلِّ ولاية سِوَاها؛ قال تعالى:

    وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّٗا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرٗا

    [النساء: 45]،

    وقال تعالى:

    قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ

    [الأنعام: 14]

    وقال تعالى:


    أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (63)

    [يونس: 62-63].

  6. عن وَهْبَ بْنَ مُنَبِّه أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام حين كلَّمه:

    «اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا، أَوْ أَخَافَهُ، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَبَادَأَنِي، وَعَرَضَ بِنَفْسِهِ، وَدَعَانِي إِلَيْهَا، فَأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي، أَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ لِي؟! أَوَيَظُنُّ الَّذِي يُغَازِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي؟! أَوَيَظُنُّ الَّذِي يُبَارِزُنِي أَنْ يَسْبِقَنِي أَوْ يَفُوتَنِي؟! وَكَيْفَ وَأَنَا الثَّائِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لَا أَكِلُ نُصْرَتَهُمْ إِلَى غَيْرِي؟!"

    [6].

  7. قال تعالى:

    إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ

    [الأعراف: 196]

    فالعبد الصالح في كَنَف الله تعالى ورعايته، يَحفَظه، ولا يَكِله إلى نفسه طرفة عَين.

  8. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى، والوَرَع عمَّا حرَّم الله تعالى، وصدق النيَّة فيما عند الله عزَّ وجلَّ [7].

  9. في الحديث بيان أن التقرُّب إلى الله تعالى على درجتين؛ الأولى: أداء الفرائض، والثانية: أداء النوافل، وأحبُّها إلى الله تعالى أداء الفرائض، وتشمل: أداء الواجبات من الصلاة والصيام والزكاة والحجِّ وبرِّ الوالدين، وغيرها، وتركَ المحرَّمات من السرقة والزنا وشهادة الزور وعقوق الوالدين، وغيرها.

  10. السببُ في أن الفرائض مقدَّمة على النوافل: أن الأمر بها جازمٌ، وهي تتضمَّن أمرينِ: الثوابَ على فعلها، والعقابَ على تركها، بخلاف النوافل؛ فإن الأمر بها غيرُ جازم، ويُثاب على فعلها، ولا يُعاقب على تركها، فالفرائضُ أكملُ، فكانت إلى الله - عزَّ وجلَّ – أحبَّ، وأشدَّ تقريبًا [8].

  11. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:

    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

    «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأرضِ»

    [9]

  12. لا معنى للنوافل دون الفرائض؛ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني مُوصِيك بوصية إن حَفِظْتَها، فإن لِلَّه حَقًّا في الليل لا يقبله في النهار، وإن لِلَّه حَقًّا في النهار لا يقبله في الليل، وإنه لا يَقْبَل نافلةً حتى تُؤَدَّى الفريضة" [10].

  13. الفرائضُ أساسٌ وأصول، والنوافل فروعٌ، والولاية إنما تتحقَّق بالنوافل مع الفرائض، لا مع إخلال بها.

  14. في الحديث بيان أنه إذا أحبَّ الله عبدَه، حَفِظه في سمعه، وبصره، ويده، ورجله، ونفسِه كلِّها. ومعنى ذلك أنه لا يَسمَع ما لم يَأذَن الشرع له بسَمَاعه، ولا يُبصر ما لم يَأذَن الشرعُ له في إبصاره، ولا يَمُدُّ يده إلى شيء ما لم يَأذَن الشرع له في مدِّها إليه، ولا يسعى برجله إلا فيما أَذِن الشرع في السعي إليه [11].

  15. في الحديث إشارة إلى أنه لا تشتغل جوارح العبد المؤمن المحبوب المقرَّب إلا بالطاعات، ولا تتحرَّك إلا فيما يُرضي ربَّ العباد.

  16. في الحديث بيان أن المحبوب المقرَّب، له عند الله منزلة خاصَّة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئًا، أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيَصِير مُجابَ الدعوة؛ لكرامته على الله عزَّ وجلَّ [12].

  17. عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

    «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»

    [13]

  18. إن ما في الموت من شدَّة وألم يُحدِث كراهيةً في نفس العبد منه، فيدفع الله تعالى عن المؤمن هذه الكراهية ببشائرَ يُحدِثها، ولطائفَ وكراماتٍ يُظهِرها؛ حتى يحبَّ لقاء ربِّه؛ قال تعالى:

    ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾

    [ النحل: 32]


  19. عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

    «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ؛ وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»

    [14].

  20. خرَّج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذِ بنِ جبل، سمع النّبيَّ ﷺ يقول:

    «إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ» فأولياءُ اللّه تجب موالاتهم، وتَحرُم معاداتهم، كما أنّ أعداءه تَجِب معاداتهم، وتَحرُم موالاتهم

    [15].

  21. أصل الولاية القُرب، وأصل العَداوة البُعد، فأولياء اللّه هم الّذين يتقرَّبون إليه بما يقرِّبهم منه، وأعداؤه الّذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه [16].

  22. من ادّعى ولاية اللّه، ومحبّته بغير طريق طاعته الّتي شرعها على لسان رسوله، تبيَّن أنّه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقرَّبون إلى اللّه تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه، كما حكى اللّه عنهم أنّهم قالوا:

    مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ

    ﱠ [الزمر: 3]،

    وكما حكى عن اليهود والنّصارى أنّهم قالوا:

    نَحۡنُ أَبۡنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُ

    [المائدة: 17]

    مع إصرارهم على تكذيب رُسله، وارتكاب نواهيه، وترك فرائضه [18].

  23. في هذا الحديث أنّ أولياء اللّه على درجتين؛ إحداهما: المتقرّبون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال. والثّانية: درجة السّابقين المقرَّبين، وهم الّذين تقرَّبوا إلى اللّه بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطّاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبّة اللّه، كما قال: «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه»، فمن أحبّه اللّه، رزقه محبّته وطاعته والاشتغال بذكره وخدمته، فأوجب له ذلك القرب منه، والزّلفى لديه، والحظوة عنده [19].

  24. ولا يزال هذا الّذي في قلوب المحبّين المقرّبين يقوى حتّى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره، ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلّا بموافقة ما في قلوبهم، ومن كان حاله هذا، قيل فيه: ما بقي في قلبه إلّا اللّه، والمراد معرفته ومحبَّته وذِكْره

المراجع

  1. "قطر الولي على حديث الولي" للشوكانيِّ (ص: 1)
  2. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (18/ 129).
  3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 342).
  4.  "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (7/ 303).
  5. "المعين على تفهم الأربعين" لابن الملقِّن (ص: 420).
  6. "الزهد" لأحمد بن حنبل (ص: 54).
  7. "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" لمحمد بن عليٍّ الحارثيِّ (2/ 267).
  8. "التعيين في شرح الأربعين" للطوفيِّ (ص: 319).
  9. رواه البخاريُّ (7485)، ومسلم (2637).
  10. الزهد" لهناد بن السري (1/ 284).
  11. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 129).
  12. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 348).
  13. رواه البخاريُّ (2703)، ومسلم (1675).
  14. رواه البخاريُّ (6507)، ومسلم (2683).
  15. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 334).
  16.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 335).
  17.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 336).
  18. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 336، 337).
  19. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 346).

1. في الحديث إشارة إلى أن الله تعالى قد قَسَم الْمَعايش والأرزاق بين الناس في الحياة الدنيا، وجعلهم متفاضِلينَ فيها، فيَبسُط الرزق لمن يشاء، ويُضيِّقه على من يشاء، بحسَبِ حكمته؛

قال تعالى:

 نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ   

[الزخرف: 32].

2. الإنسان بطبعه كثيرُ التطلُّع لما ليس في يده، زائغُ البصر، مولَعٌ بالمقارنة مع الآخرين في أمور الدنيا؛ في شكله، وهيئته، وصحته، ووظيفته، ورزقه، وأولاده، وهَلُمَّ جرًّا.

3. ينبغي للمؤمن ألَّا يتطلَّع ويقارِن في أمور الدنيا؛ بل عليه إذا رأى من نفسه طُموحًا إلى زينة الدنيا، وإقبالًا عليها، أن يُذكِّرها برزق ربِّه العاجل في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح، والآجل في الآخرة في جنَّات النعيم.

4.

قال تعالى:

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَ

[طه: 131]،

ينهى الله تعالى عن إدامة النظر في دنيا الناس، وإطالة النظر في النِّعم التي بيد الآخرين؛ فهذا حال المفتونين بالدنيا، في شرَهٍ دائم، ومقارنات مستمرَّة.

5.

قال تعالى:

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً

[الكهف: ٧]،

فجعل الله تعالى نِعمَه فتنةً واختبارًا، فيَظهَر من يقف عندها ويغترُّ بها، ومن هو أحسنُ عملًا[1]

6. في الحديث إشارة إلى أن الإنسان إذا نَظَر إلى من فُضِّل عليه في الدنيا، تاقت نفسُه إلى مثلِ ذلك، واستَصْغَر أو احتقر ما عنده من نِعَم الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وعَمِيَ عنها؛ فمقارنة الإنسان مع مَن فضِّل عليه في أمور الدنيا في الظاهر، تُورِثه الحُزن والإحباط والسَّخَط، وربَّما الحَسَد والحقد، أما لو نظر إلى مَن دونَه في الدنيا، ومن فوقَه في الدين والتقوى والطاعة، فسيُورثه ذلك القناعة، والرضا، والطمأنينة، والسعادة، وشُكر نعم الله عليه.

7. إذا لم يفعل العبد ما حضَّ عليه النبيُّ ﷺ في الحديث، أُعجِب بعمله، وكَسَل عن الزيادة من الخير، ومدَّ عَيْنَيه إلى الدنيا، وحَرَص على الازدياد منها، وازدراء نِعَم الله عليه، ولم يؤدِّ حقَّها[2]

8. ما من مبتلًى في الدّنيا بخير أو شَرٍّ إلّا ويجد من هو أعظمُ منه بَليَّةً، فيتسلَّى به، ويَشكُر ما هو فيه ممّا يرى غيره ابتُلِيَ به، وينظر من هو فوقَه في الدِّين، فيَعلَم أنّه من المفرِّطين، فبالنّظر الأوَّل يَشكُر ما للّه من النِّعم، وبالنّظر الثّاني يستحي من مَوْلاه، ويَقرَع باب الْمَتاب بأنامل النَّدَم، فهو بالأوّل مسرور لنعمة الله، وفي الثّاني منكسِر النَّفْسِ حياءً من مولاه[3]

9. في الحديث الحثُّ على شكر الله بالاعتراف بنِعَمه، والتحدُّث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعِم، وفعل جميع الأسباب الْمُعينة على الشكر[4]

10. الشُّكر لله هو رأس العبادة، وأصلُ الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصَّةٍ أو عامَّة، إلَّا من الله، وهو الذي يأتي بالخَير والحسنات، ويدفع السُّوء والسيِّئات، فيستحقُّ أن يَبذُل له العباد من الشُّكر ما تَصِل إليه قُواهم، وعلى العبد أن يسعى بكلِّ وسيلة تُوصِله وتُعينه على الشُّكر[5]

11. في الحديث أرشد ﷺ إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القويِّ لشُكر نِعَم الله، وهو أن يَلحَظ العبد في كلِّ وقت من هو دونَه في العقل والنَّسَب والمال وأصناف النِّعَم، فمتى استدام هذا النَّظَر، اضطرَّه إلى كثرة شُكر ربِّه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خَلْقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنَّى كثيٌر منهم أن يصل إلى قريب مما أُوِتَيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثيرًا، ويقول: الحمدُ لله الذي أنعم عليَّ، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا [6]

12. من ابتُلي بشيء أو مصيبة لابدَّ أن يجد عالَمًا كثيرًا أعظمَ منه وأشدَّ مصيبةً، فيَحمَد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء؛ فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظمُ منه [7]

13. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ» [8] أما إذا نَظَر لمن فضِّل عليه في العِلم والدِّين والاجتهاد في العبادة، ومعالجة النّفس بدفع الأخلاق السَّيِّئة، وجلب الحسنة، فهذا ينبغي النّظر فيه إلى الفاضل؛ ليُقتدى به دون المفضول؛ لأنّه يتكاسل بذلك [9]

14.

قال تعالى:

 وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ   

[الزخرف: ٣٣ – ٣٥].

فالدنيا لا تساوي عند الله شيئًا، ولولا لطفُه ورحمته بعباده، وعلمه بضعفهم، وتأثيرِ عَرَض الدنيا في قلوبهم، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعًا عظيمًا كما بالآية؛ ولكن منعه من ذلك رحمتُه بعباده؛ خوفًا عليهم من التسارع في الكفر، وكثرة المعاصي بسبب حبِّ الدنيا.

المراجع

  1.  "تفسير السعديِّ" (ص: 516، 517).
  2.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 515).
  3.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 614).
  4.  "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 54، 55).
  5.  "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 54، 55).
  6.  "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 54، 55).
  7.  "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 54، 55).
  8.  رواه البخاريُّ (6490)، ومسلم (2963).
  9.  "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (8/ 145، 146).

1. في هذا الحديث وصيةٌ جامعةٌ لكلِّ خصال الخير، موجَزة يسيرةٌ في لفظها، يَسهُل على المرء حفظُها، وينبغي عليه العملُ بها، وهو من جوامع الكَلِم التي أوتيها النبيُّ ﷺ؛ كما أخبر عن نفْسه في الحديث عن أبي هريرة : «بُعِثت بجوامع الكَلِم»[1]، وهي التعبير عن الأمور العظام بالألفاظ اليسيرة السهلة. 

2. في الحديث جمع ﷺ لهذا السائل في كلمتين معانيَ الإسلام والإيمان كلَّها؛ فإنه أمرَه أن يجدِّد إيمانه متذكِّرًا بقلبه، وذاكرًا بلسانه، ويقتضي هذا استحضار تفصيل معاني الإيمان الشرعيِّ بقلبه، ثم أمره بالاستقامة على أعمال الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات؛ إذ لا تتأتَّى الاستقامةُ مع شيء من الاعوجاج؛ فإنها ضدُّه[2].

3. قوله ﷺ: «آمنتُ بالله فاستقم» نَظِيرُ قول الله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ 

 [فصلت: 30]

فإن معناه: وَحَّدُوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يَحيدوا عن توحيدهم، ولا أشركوا به غيره، والتزموا طاعته إلى أن تُوُفُّوا على ذلك[3].

4. في الحديث دليل على كمال عقل هذا الرجل السائل للرسول ﷺ؛ لأنه قال: «قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك»، ومعناه: قل لي قولاً واضحًا جَليًّا آخذ به وأعمل به.

5. في الحديث دليل على حرص الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - على الخير، وعلى التفقُّه في الدين، وعلى معرفة الحقِّ والهدى.

6. لا شكَّ أن الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم – هم أسبقُ الناس إلى كلِّ خير، وأحرصُهم عليه، وقد اختارهم الله - عزَّ وجلَّ - لصُحبة نبيِّه، وأَوجَدهم في زمانه، فشرَّفهم بصُحبته، وبالجهاد معه، وبالدفاع والذبِّ عنه، وبأخذ الشريعة منه، ونقلها وتبليغها إلى الناس على التمام والكمال، فكانوا بذلك الواسطةَ بين الناس وبين رسول الله ﷺ، فما عرف الناس حقًّا ولا هُدًى إلا عن طريق الصحابة؛ لأنهم الواسطة بين الناس وبين الرسول ﷺ"[4].

7. من اللائق التعبير بالاستقامة، فيقال: فلانٌ مستقيمٌ، ولا يقال: ملتزمٌ؛ لأن الاستقامة هي اللفظ القرآنيُّ، ولأن الالتزام يعني لزومَ أمرٍ معيَّن، سواءٌ كان صالحًا، أم فاسدًا[5].

8. الاستقامة في ذاتها أمرٌ جامعٌ للإتيان بجميع الأوامر، والانتهاء عن كافَّة النواهي؛ فإن العبد لو تَرَك أمرًا، أو اقترف مَنهيًّا عنه، لم يَكُ مستقيمًا[6].

9. الاستقامةُ تشتمل على العقائد والأعمال والأخلاق، فالاستقامةُ في العقائد أن يجتَنِب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال أن يَحترِز عن التغيير والتبديل، وفي الأخلاق أن يَبعُد عن طرفَيِ الإفراط والتفريط[7].

10. الاستقامة كلمةٌ جامعة، آخِذة بمَجَامع الدين، وهي القيام بين يدَيِ الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد[8].

11. الاستقامةُ تتعلَّق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيَّات، فالاستقامة فيها: وقوعُها لله، وبالله، وعلى أمر الله[9].

12. الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن؛ فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميِّت، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة، فهو فاسد، وكما أن حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزاهدين أيضًا وربوُّها وزكاؤها بها، فلا زكاء للعمل، ولا صحَّة للحال بدونها[10].

13. الاستقامة درجةٌ بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصولُ الخيرات ونِظامُها، ومن لم يكن مستقيمًا في حالته، ضاع سَعْيُه، وخاب جهدُه[11].

14. الاستقامة لا يُطيقها إلّا الأكابر؛ لأنّها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرّسوم والعادات، والقيام بين يدي اللّه تعالى على حقيقة الصِّدق؛ ولذلك قال ﷺ: «استقيموا ولن تُحصوا»[12]؛ أي: استقيموا ولن تَستطيعوا الاستقامة بالكلية؛ ولكن اجتهدوا قدرَ المستطاع، واسألوا الله العَون والثبات[13].

15. الاستقامة الخَصلة الّتي بها كَمُلت المحاسن، وبفقدها قَبُحت المحاسن[14].

16. الاستقامة: هي سلوك الصّراط المستقيم، وهو الدّين القيِّم من غير تعريج عنه يَمْنةً ولا يَسْرةً، ويشمل ذلك فعل الطّاعات كلِّها، الظّاهرة والباطنة، وترك المنهيَّات كلّها كذلك، فصارت هذه الوصيّة جامعةً لخصال الدّين كلّها[15].

17. فاستقم على الدين، واستقم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وذلك بالإخلاص لله عزَّ وجلَّ، والمتابعة لرسول الله ﷺ، واستقم على الصلاة، وعلى الزكاة، والصيام والحجِّ، وعلى جميع شريعة الله[16].

18. قال ابن عبَّاس - رضى الله عنهما - في قول اللَّه تعالى:

{َاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}

[هود: 112]

ما نزلت على رسول اللَّهِ ﷺ في جميع القرآن آيةٌ كانت أَشَدَّ ولا أَشَقَّ عليه من هذه الآية؛ ولذلك قال ﷺ لأصحابه حين قالوا: قد أسرع إليك الشَّيْبُ، فقال: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا»[17].

19. في قوله تعالى:

﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾

[فصلت: 6]

إشارة إلى أنّه لابدّ من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتّوبة والرّجوع إلى الاستقامة؛ فهو كقول النّبيّ ﷺ لمعاذ: «اتّق اللّه حيثما كنت، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها»[18].

20. «قل: آمنت» ليس المراد بذلك مجرَّد القول باللسان، فإن من الناس من يقول: آمنتُ بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين؛ ولكن المراد بذلك قول القلب واللسان أيضًا؛ أي: أن يقول الإنسان بلسانه، بعد أن يُقِرَّ ذلك في قلبه، ويعتقده اعتقادًا جازمًا لا شكَّ فيه؛ لأنه لا يكفي الإيمان بالقلب، ولا الإيمان باللسان؛ بل لا بدَّ من الإيمان بالقلب واللسان.

21. سُئل صدِّيق الأمة وأعظمها استقامةً أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن الاستقامة، فقال: أن لا تُشرك بالله شيئًا. يريد الاستقامة على محض التوحيد[19].

22. قال عثمان بن عفَّانَ رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله[20].

23. قال عليُّ بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهم -: استقاموا: أدَّوُا الفرائض[21].

24.{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وفِّقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل، ووفِّقنا للاستقامة عليه بعد معرفته.

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (2977)، ومسلم (523).
  2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 221).
  3. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 275)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 222).
  4. "شرح الأربعين النووية" للعباد (22/ 5).
  5. انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 214).
  6. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 87)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 457).
  7. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 458).
  8. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 105).
  9. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 105).
  10. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 106).
  11. "شرح النوويّ على مسلم" (2/ 9).
  12. "شرح النوويّ على مسلم" (2/ 9).
  13. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 87).
  14. "شرح النوويّ على مسلم" (2/ 9).
  15. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 510).
  16. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (1/ 572).
  17. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 9). والحديث رواه الترمذيُّ (3293)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع"(3722).
  18. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 510). والحديث رواه أحمد (22059)، والترمذيّ (1987)، وحسّنه الألبانيّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3160).
  19. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104).
  20. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104).
  21. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104).



1. في هذا الحديث إعلام ببعض الأسئلة التي يُسأل عنها العبدُ يوم القيامة؛ ليأخذ العبد حِذْرَه، ويَنظُر إلى حاله، ويُعِدَّ للسؤال جوابًا؛ فكلُّ إنسان مسؤولٌ مسؤوليةً كاملة عن كافَّة أعماله.

2. من رحمة الله تعالى بعباده أنه لم يَجعَل هذه الأسئلة مُبهَمة؛ بل أخبرَنا بها نبيُّه ﷺ، وبيَّنها لنا؛ حتى نستعِدَّ لها، ونُعِدَّ لكل سؤال إجابته.

3. في الحديث بيان أنه لا تزول قدما الإنسان يوم القيامة عن موقف الحساب، حتى يُسأل ويحاسَب عن الأمور الأربعة المذكورة في الحديث.

4. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنهما قال: قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ:

«اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[1].

5. إن أوَّل من تسعَّر بهم النار يوم القيامة: شهيدٌ، وعالمٌ، ومُنفِق، كانت أعمالهم رياءً وسُمعة، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة [2]؛ فعقابهم الشديد هذا على عدم إخلاصهم وفِعلهم الطاعات العظيمة لغير الله، دليلٌ على تغليظ تحريم الرياء، وشدَّة عقوبته، وعلى الحثِّ على وجوب الإخلاص في الأعمال؛ كما قال الله تعالى:

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}

[البينة: 5]

6. في الحديث بيان ربط العلم بالعمل؛ فإنه ﷺ لم يقل: وعن علمه ما قال فيه؟ وإنما قال: ما عَمِل فيه؟ فلينظرِ العبد ما عمل فيما عَلِمه، هل صَدَق اللهَ في ذلك وأخلَصه، حتى يَدخُل فيمن أثنى الله عليه بقوله:

{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}

 [البقرة: 177]

أو خالَف عِلمَه بفعله، فيَدخُل في قوله تعالى:

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ}

[الأعراف: 169]

وقوله تعالى:

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}

[البقرة: 44]

وقوله:

{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[3]

[الصف: 2- 3]

7. يجب أن يَظهَر أثرُ علم الْمَرْءِ في أحواله وأفعاله، وإلا فلا معنى للعلم بلا عمل؛ قال الحسن البصريُّ: " كان الرجل إذا طلب العلم لم يَلبَث أن يُرى ذلك في بَصَره، وتخشُّعه، ولسانه، وصلاته، وزُهده"[4].

8. في سياق الحديث إشارةٌ إلى الخصوص؛ وذلك أنه ليس كلُّ أحد عنده علم يُسأل عنه، وكذا المال، فهو مخصوص بمن له علم، وبمن له مال، دون من لا مال له، ومن لا علم له، وأمّا السّؤال عن الجسد والعمر، فعامٌّ، ويَخُصُّ مِن المسؤولين مَن ذُكِر[5].

9. يُستثنى ممن في الحديث الأنبياءُ، وبعض صالحي المؤمنين؛ كالذين يدخلون الجنة بغير حساب[6]

10. إذا كان خيرُ الناس مَن طال عُمره وحَسُن عمله، فإنه ينبغي للإنسان أن يَسأل اللهَ دائمًا: أن يجعله ممن طال عُمره، وحسُن عمله؛ من أجل أن يكون من خير الناس، وفي هذا دليل على أن مجرَّد طول العمر ليس خيرًا للإنسان؛ إلا إذا حسُن عمله؛ لأنه أحيانًا يكون طول العمر شرًّا للإنسان، وضررًا عليه؛ كما قال الله - تبارك وتعالى -:

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}

[آل عمران: 178]

فهؤلاء الكفُّار يُملي الله لهم – أي: يمدُّهم بالرزق، والعافية، وطول العمر، والبنين، والزوجات - لا لخير لهم؛ ولكنه شرٌّ لهم؛ لأنهم سوف يزدادون بذلك إثمًا[7].

11. التأخير في الأجل، فيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدَّرة، لا تزيد ولا تنقص، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأجاب العلماء بأجوبة، الصحيح منها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك[8].

المراجع

  1. رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (7846)، وقال: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخَين ولم يُخَرِّجاه، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3355).
  2. رواه مسلم (1905).
  3. "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" لأبي عبد الله القرطبيِّ (ص: 632).
  4. "فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي" لأبي عاصم الغمري (3/ 331).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 414).
  6. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (4/ 300، 301).
  7. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 107).
  8. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 114).


1. في هذا الحديث بيان أهمية أمر الزواج في حالتَيِ القدرة عليه، وعدم القدرة، وخصَّ الشباب؛ لأنهم مَظِنَّة قوَّة الشهوة، بعكس الشيوخ.

2. في الحديث بيان أن الزواج أشدُّ حفظًا للبصر من التطلُّع إلى الشهوات، والانشغال الشديد بها عن النافع المفيد في الدين والدنيا؛ لأن الذي يحفظ شهوته بالزواج يَندُر منه التطلُّع.

3. في الحديث بيان أن الصيام يُضعِف الشهوة، فيَقِلُّ تحريكها للنفس لتلمُّسها والانشغال بها، فهي تعمل عمل الإخصاء في الإنسان عن طريق تقليل الشهوة، وليس عن طريق إزالة العُضْوِ كما هو مفهوم الإخصاء.

4. في الحديث علاج لمن لا يَجِد القدرة على الزواج، وربما خاف الفتنة ووجد المشقَّة بفقد النكاح، فرسم لهم ﷺ الطريق لِمُدافعة سَوْرة الشهوة، وهو الصيام.

5. إن الله سبحانه وتعالى تكفَّل بمقتضى وعده إعانةَ من يريد النكاح حتى يعفَّ؛

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ:

«ثلاثة حقٌّ على الله عزَّ وجل عَوْنُهم: الْمُكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل»

[1].

6. إن الزواج هو الطريق الطبيعيُّ لمواجهة الميول الجنسية الفِطرية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول، وربما حدث للإنسان عَنَتٌ ومَشَقَّةٌ بدون الزواج، فكان توجيه النبيِّ للمسلم في هذا الحديث.

7. إن الإسلام لا يحارب دوافع الفِطرة ولا يستقذرها؛ إنما ينظِّمها ويطهِّرها، ويرفعها ويُرقِّيها عن المستوى الشهوانيِّ الحيوانيِّ.

8. يُقيم الإسلام العلاقاتِ الجنسيةَ على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين، التقاءَ نفسين وقلبين وروحين. وبتعبير شامل: التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقَبة، ويتقابل في الجيل الجديد، الذي ينشأ في العُشِّ المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسينِ لا يفترقان.

9. يَعُدُّ الإسلام الزواجَ وسيلةً للتطهُّر والارتفاع، فيدعو الأمَّة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عَقَبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها؛

قال تعالى:

﴿وَأَنكِحُوا ٱلْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾

[النور: ٣٢].

10. يسمِّي الإسلام الزواجَ إحصانًا؛ أي: وقايةً وصيانة.

11. جعل الإسلام الزواج من الطاعات التي يتقرَّب بها المسلم إلى ربِّه، وحضَّ عليه، ووعد من لم يجد بالإعانة من ربِّه.

12. إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار، والإسلام يحيط هذه الرابطة بكلِّ الضمانات التي تَكفُل استقرارها واستمرارها، وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات.

13. إن الإسلام يراعي الميول الجنسية الفِطرية، فجعل الزواج الطريق الطبيعيَّ لهذه الميول، وحضَّ عليه، وجعله من الطاعات، وأَمَر الجماعة المؤمنة بإنكاح الأيامى الفقراء ومساعدتهم ليتزوَّجوا، وفَرَض الآداب التي تمنع التبرُّج والاختلاط والفتنة كي تستقرَّ العواطف، ولا تتلفَّت القلوب لكل داعٍ للشهوات، وفرض حدَّ الزنا وحدَّ القذف، وجعل للبيوت حُرْمَتها بالاستئذان عليها.


المراجع

    1. رواه الترمذيُّ (1655)، والنسائيُّ (3120)، وابن ماجه (2518)، وحسَّنه الترمذيُّ، والبغويُّ في "شرح السنَّة" (5/6)، وصحَّحه ابن العربيِّ في "عارضة الأحوذي" (3/5)، وجوَّد إسناده ابن باز في "حاشية بلوغ المرام" (765).


    1. في الحديث التعبير بالمفاتح لتقريب الأمر على السَّامع؛ لأنَّ كل َّشيءٍ جُعل بينك وبينه حجابٌ فقد غُيِّب عنك، والتوصُّلُ إلى معرفته في العادة من الباب، فإذا أُغلق البابُ، احتِيج إلى الْمِفتاح، فإذا كان الشيء الذي لا يطَّلِع على الغيب إلَّا بتوصيله لا يَعرِف موضعه؛ فكيف يَعرِف الْمَغِيب؟![1]

    2.في الحديث بيان مفاتيح الغيب الّتي استأثر اللّه تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلّا بعد إعلامه تعالى بها.

    3. في الحديث بيان أن علم وقت السّاعة لا يعلمه نبيٌّ مرسَل ولا مَلَك مقرَّب

    لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ 

    [الأعراف: ١٨٧].

    4. إنزال الغَيث لا يعلمه إلّا اللّه؛ ولكن إذا أَمَر به، عَلِمته الملائكة الموكَّلون بذلك، ومَن شاء اللّه من خلقها[2]

    5. لا يَعلَم ما في الأرحام ممّا يُريد أن يَخلُقه اللّه تعالى سواه؛ ولكن إذا أَمَر بكونه ذكرًا أو أنثى، أو شَقيًّا أو سعيدًا، عَلِم الملائكة الموكَّلون بذلك، ومن شاء اللّه من خَلْقِه[3]

    6. لا تَدري نفس ماذا تكسب غدًا في دنياها وأخراها، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ  في بلدها أو غيره من أيِّ بلاد اللّه كان، لا عِلْمَ لأحد بذلك[4]

    7. جعل الله تعالى الساعة غَيبًا، لا يعلمه سواه؛ ليبقى الناس على حَذَر دائم، وتوقُّع دائم، ومحاولة دائمة أن يقدِّموا لها، وهم لا يعلمون متى تأتي، فقد تأتيهم بغتةً في أيَّة لحظة، ولا مجال للتأجيل في اتِّخاذ الزاد، وكنز الرصيد.

    8. هناك من البشر من ادَّعَى علم الغيب في اثنتين من الخمس، وهما: معرفة نزول المطر، وعلم ما في الأرحام.

    9. إن الله تعالى هو الذي يُنزِّل الغيث؛ لأنه سبحانه هو الْمُنشئ للأسباب الكونية التي تكوِّنه، والتي تنظِّمه، وينزِّل الله تعالى وَفْقَ حكمته، بالقَدْرِ الذي يريده، وقد يَعرِف الناس بالتجارب والمقاييس قُرْبَ نزوله؛ ولكنهم لا يَقدِرون على خلق الأسباب التي تُنشئه.

    10. بالنسبة لمعرفة نزول المطر، فإن ما يقوله علماء الطقس ما هو إلا توقُّع؛ فنزولُ المطر عملية معقَّدة للغاية، يَدخُل فيها من العوامل المعروفة وغير المعروفة ما لا يمكِن لمخلوق أن يتحكَّم فيها؛ مثل: كَمِّ ونوع الشحنات الكهربية في السحابة الواحدة، وفي السُّحب المتصادمة، وأثر الرياح الشمسية على أجواء الأرض... إلخ. ويَتِمُّ بواسطة العديد من التفاعلات الطبيعية والكيميائية غير المعروفة بالكامل، من بينها: تصريف الرياح، وتبخير الماء، وتجميع البخار، ونقله بواسطه الرياح التي تُثير السحاب، وتؤلِّف بينه وتَبسُطه في السماء، أو تَرْكُمُه إلى أعلى نطاق الرجع من الغِلاف الغازيِّ، وتستمرُّ في تلقيحه بمزيد من بخار الماء الذى يُثريه، وبهباءات الغبار التي تعمل كنوى للتكثيف في داخله، فتعمل على نموِّ قُطيرات الماء حتى تصل إلى الحجم المناسب لهطول المطر أو البَرَد أو الثلج، كلُّ ذلك والسحابُ في حركة دائبة، فلا يُعلَم أين يَنزِل مَطَرُه، ولا كمُّ المطر النازل، ولا متى ينزل هذا المطر يقينًا لا ظنًّا وتوقُّعًا، إلا الله.

    11.الله سبحانه هو الذي يعلم وحده، ماذا في الأرحام في كل لحظة، وفي كلِّ طَور، من فَيْضٍ وغَيْضٍ، ومِن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جِرْمٌ، ونوع هذا الحمل ذكرًا أم أنثى، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئًا في اللحظة الأولى لاتِّحاد الخلية والبُوَيضة، وملامح الجنين، وخواصَّه وحالته واستعداداتِه؛ فكلُّ أولئك مما يختصُّ به عِلم الله تعالى.

    12. ما توصَّل إليه العلمُ حديثًا من استطاعته معرفة نوع الجنين، فهذا من علم الشهادة، الخاضع لسنن الاستكشاف والمعرفة التي بثَّها الله في الخلق، ويكون ذلك في مراحل الحمل المتأخِّرة من تشكُّل الجنين، دون معرفة أي أمر آخَر؛ مثل الشكل والسعادة والشقاء...إلخ، فاللهُ وحدَه من يعلم ذلك.

    13. قوله: «لا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّه»: دار تفسير العلماء لغَيْضِ الأرحام حول معنيين؛ أحدهما: الدم الذي ينزل على المرأة الحامل، والثاني: السَّقْطُ الناقص للأجنَّة قبل تمام خَلْقِها.

    14. قوله: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا»: ماذا تكسب من خير وشرٍّ، ومن نَفْعٍ وضرٍّ، ومن يُسر وعُسر، ومن صحَّة ومرض، ومن طاعة ومعصية؛ فالكسب أعمُّ من الرِّبح الماليِّ وما في معناه، وهو كلُّ ما تُصيبه النفس في الغَداة، وهو غَيب مغلَق، عليه الأستار. والنفسُ الإنسانية تقف أمام أستار الغيب، لا تملك أن ترى شيئًا مما وراء الستار.

    15. في الحديث بيان أن النفس البشرية تَقِفُ أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود، وعجزها الواضح، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدَّعاة.

    16. من حكمته سبحانه أن مَنعَ الخلق عِلمَ الساعة ومعرفة آجالهم، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر؛ فلو عَرَف الإنسان مقدار عُمُره، فإن كان قصيرَ العمر، لم يتهنَّأ بالعيش، وكيف يتهنَّأ به وهو يترقَّب الموت في ذلك الوقت، فلولا طولُ الأمل لخَرِبت الدنيا، وإنما عمارتها بالآمال، وإن كان طويلَ العمر وقد تحقَّق ذلك، فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرُب الوقت أحدثتُ توبة، وهذا مذهب لا يرتضيه الله عزَّ وجلَّ من عباده ولا يَقبَله منهم، ولا تَصلُح عليه أحوال العالم [5]

    17. من حكمة الله ونِعمـه على عباده أنْ سـتر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم، فلا يزال الكيِّس يترقَّب الموت وقد وضعه بين عينيه، فينكَفُّ عمَّا يَضرُّه في مَعاده، ويجتهد فيما يَنفَعه ويُسَرُّ به عند القُدوم [6]

    18. يدرك الإنسان أمام ستر الغَيب الْمُسدَل أن الخَلْقَ لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، وأن وراء الستر الكثير مما لم يَعلَمه الناس، ولو علموا كلَّ شيء آخَرَ فسيظلُّون واقفين أمام ذلك السِّتر لا يدرون ماذا يكون غدًا؟! بل ماذا يكون اللحظةَ التالية؟! وعندئذ يَذِلُّ كبرياء النفس البشرية وتخشع لله.

    19. هذه الأمور الغيبية تَظلُّ مغلَقةً في وجه الإنسان؛ لأنها فوق قُدرتِه، ووراء علمه، وهي خالصة لله لا يعلمها غيره، إلا بإذن منه وإلا بمقدار.

    20. من أركان الإيمان أن تؤمن بالغيب، وتكتفي منه بما أخبرك الله تعالى به سواء في القرآن، أو من خلال سنَّة رسوله ﷺ.

    21. في الإيمان بهذه الغَيْبيَّات والوقوف عند ما أخبرنا به الوحيُ راحةُ النفس، وبثُّ الأمل، وزيادة التعلُّق بالله تعالى والإيمان به.

    22. عدم تصديق من يدَّعي علم شيء من هذه الغَيبيات بسِحر وشَعْوَذة وتنجيم وتخمين وغيرها، فالآيات واضحة في استحالة ذلك. 


    المراجع

    1. "فتح الباري" لابن حجر (8/514).

    2. "تفسير ابن كثير" (6/ 352).

    3. "تفسير ابن كثير" (6/ 352).

    4. "تفسير ابن كثير" (6/ 352).

    5. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/283).

    6. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/283).

    1- في الحديث ذَكَر رسول الله ﷺ الكاهن والعرَّاف، والمقصود كلُّ من يدَّعي معرفة الغيب من كاهن وعرَّاف ومنجِّم وساحر وضاربِ رملٍ ووَدَعٍ، وكلُّ من يدَّعي أنه يَخرِق حُجُب الغَيب أو المستقبل، أو يؤثِّر في سير القَدَر، ويغيِّر وجهته.

    2- من الأغراض الْمُضِرَّة التي يَذهَب من أجلها الإنسان إلى الكهَّان والعرَّافين: معرفة مكان شيء مسروق، أو مكان شيء فقَدَه، أو لأجل عطف قلب على شخص، أو صرف قلب عن شخص، أو الإضرار بشخص بعمل سحرٍ له يعطِّل حاله، ويُبطِل سَعْيَه، ويُضعف صحَّته... إلخ.

    3- الكاهن هو الذي يُخبِر عمَّا يكون في الزمان المستقبَل بالنُّجوم وما شاكَلها من أكاذيب الجنِّ، المسترَقة من الملائكة عن أحوال أهل الأرض، من قدر أعمالهم، وأرزاقهم، وما يَحدُث من الحوادث، فيأتون الكهنة، فيَخلِطون في كلِّ حديث مِائة كَذِبة، فيُخبرون الناس بها؛ فمَن فعل هذه الأشياءَ واستحلَّها، وصدَّق الكاهن، فقد كفر، ومن لم يستحِلَّها، فهو كافرُ النِّعمة فاسقٌ[1].

    4- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذِبَةٍ»[2].

    5- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ عَقَدَ عُقْدَةً، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»[3].

    6- الكَهَنة رُسُل الشيطان؛ لأن المشركين يُهرَعون إليهم، ويَفزَعون إليهم في أمورهم العِظام، ويصدِّقونهم، ويتحاكمون إليهم، ويَرضَون بحُكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرُّسل، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويُخبرون عن الْمُغيَّبات التي لا يَعرِفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرُّسل[4]. والكهنة قوم لهم أذهان حادَّة، ونفوسٌ شِرِّيرة، وطباع ناريّة، فأَلِفتهم الشّياطين لما بينهم من التّناسب في هذه الأمور، ومساعدتهم بكلِّ ما تصل قدرتهم إليه، وكانت الكهانة في الجاهليّة فاشيةً، خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النّبوّة فيهم.

    7- الكَهانة على أصناف، منها ما يتلقَّوْنه من الجنِّ؛ فإنّ الجنَّ كانوا يصعدون إلى جهة السّماء، فيركب بعضهم بعضًا، إلى أن يدنوَ الأعلى بحيث يسمع الكلام فيُلقيه إلى الذي يَلِيه، إلى أن يتلقَّاه من يُلقيه في أُذن الكاهن، فيَزيد فيه، فلمّا جاء الإسلام ونزل القرآن، حُرِست السّماء من الشّياطين، وأُرسلت عليهم الشُّهب، فبَقِي من استراقهم ما يتخطَّفه الأعلى فيُلقيه إلى الأسفل قبل أن يُصيبه الشِّهاب، وإلى ذلك الإشارة

    بقوله تعالى:

    إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ ثَاقِبٞ

    [الصافات: ١٠] [5]

    8- كانت إصابة الكهَّان قبل الإسلام كثيرةً جدًّا، وأمّا في الإسلام، فقد نَدَر ذلك جدًّا حتّى كاد يضمحلُّ، وللّه الحمدُ[6].

    9- الْعَرَّاف: من يستخرج الوقوفَ على الْمُغَيَّبات بضَرب من فِعل أو قَول[7].

    10- الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رُسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء؛ بل يَبعُد عن رسول الله ﷺ بقدر قُرْبِه من الكاهن، ويُكذِّب الرسول بقدر تصديقه للكاهن[8].

    11- الفَرْقُ بين الكاهن والعرَّاف: أنّ الكاهن إنّما يتعاطى الخَبَر عن الغيب في مستقبَل الزَّمان، ويدَّعِي معرفة الأسرار، والعرَّاف: هو الّذي يتعاطى معرفة الشّيء المسروق ومكان الضّالَّة ونحوهما من الأمور[9].

    12- كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب؛ أحدها: يكون للإنسان وليٌّ من الجنِّ يُخبره بما يَسْتَرِقه من السّمع من السّماء، وهذا القسم بَطَل من حين بَعَث اللّه تعالى نبيَّنا ﷺ. والثّاني: أن يُخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض، وما خَفِي عنه ممّا قَرُب أو بَعُد، وهذا لا يَبعُد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلِّمين هذين الضّربين، وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بُعْدَ في وجوده؛ لكنّهم يَصْدُقون ويَكْذِبون، والنّهيُ عن تصديقهم والسّماع منهم عامٌّ. والضرب الثّالث من الكهانة: المنجِّمون، وهذا الضّرب يَخلُق اللّه فيه لبعض النّاس قوّةً ما؛ لكنّ الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفنِّ العرافة، وصاحبها عرَّاف، وهو الّذي يستدلُّ على الأمور بأسباب ومقدِّمات يدَّعي معرفتها بها، وقد يَعتضِد بعض هذا الفنِّ ببعض في ذلك؛ كالزّجر والطّرق والنّجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلُّها تسمَّى كهانةً، وقد أكذبهم كلَّهم الشّرعُ، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم[10].

    المراجع

    1.  رواه البخاريُّ (6492)، ومسلم (218). 
    2.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 857، 858). 
    3.  رواه البخاريُّ (5884).
    4.  رواه البزَّار (3023)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3041). 
    5.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 253).
    6.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216). 
    7.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216).
    8.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216). 
    9.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 253).
    10.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (7/ 2907).

    1. في الحديث بيان أن الأعمال الظاهرة لا تَحصُل بها التقوى؛ وإنما تَحصُل بما يقع في القلب من عظمة الله وخشيته ومراقبته [1]

    2. في الحديث توجيه إلى الاهتمام بتزكية القلب وتطهيره؛ فإن به اجتناب الشبهات، ومعرفة الحلال من الحرام.

    3. في الحديث بيان أن الأعمال وثوابها وفضلَها يتوقَّف على نيَّة صالحة وإرادة صادقة.

    4. في الحديث توجيه المؤمن إلى أن الواجب عليه أن يدرِّب نفسه على تصحيح النيَّة في أعماله، وأن يَصبِر على المشاقِّ التي تواجهه في سبيل تحصيل ذلك؛ فالأمر ليس بالهيِّن اليسير؛ بل يحتاج إلى صبر وتصبُّر، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتعهَّدون قلوبهم حتى يُخلصوا نيَّاتِهم؛ "كانوا يتعلَّمون النيَّة للعمل كما تتعلَّمون العمل[2]

    5. لو صَلَحت نيَّة المرء، أعانه الله تعالى على عمله، حتى وإن لم يتيسَّـر له أسبابه.

    6. هذا الحديث يدلُّ على ما يدلُّ عليه

    قول الله تعالى:

    يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ ﱠ

    [الحجرات: ١٣]

    فليس بين الله وبين خلقه صلةٌ إلا بالتقوى[3]

    7. العمل على ما في القلب، وعلى ما في القلب يكون الجزاء يوم القيامة؛

    كما قال الله تعالى:

    إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ  

    [الطارق: ٨ – ٩]؛

    أي: تُختبَر السرائر لا الظواهر[4]

    8. في الدنيا الحُكم بين الناس على الظاهر؛ لقول النبيِّ ﷺ: «إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحُجَّته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع»؛ لكن في الآخرة على ما في السرائر، فإذا كانت السريرةُ جيِّدةً صحيحةً، فأبشِرْ بالخير، وإن كانت الأخرى، فقدتَ الخير كلَّه[5]

    9. في الحديث نَظَرُ الله تعالى هو رؤية الله لذلك؛ ليُجازيَ عليه ويُثيبَه، ونظرُ الله ورؤيته محيطةٌ بكلِّ شيء، وإنما المراد من ذلك هنا بالتخصيص ما يُثيب عليه ويُجازي من ذلك، فكلُّ هذا إشارة إلى النيَّات والمقاصد، وأن الْمُجازى عليه ما كان للقلب فيه عملٌ من قصد ونيَّة وذِكر[6]. وَهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْله ﷺ: «ألَا أَنْ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» الْحَدِيثَ [7]

    10. عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ،

    عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ:

    «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»

    [8]

    11. الاهتمام بتصحيح القلب وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنَّظَر في أمراضه وعلاجها أهمُّ ما تنسَّك به الناسِكون؛ فإن القلب لهذه الأعضاء كالْمَلِك المتصرِّف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلُّها تحت عبوديَّته وقهرِه، وتكتسب منه الاستقامةَ والزَّيغ، وتَتبَعه فيما يريد، فهو مَلِكُها، وهي المنفِّذة لما يَأمُرها به[9]

    12. لَمَّا عَلِم عدوُّ الله إبليسُ أن الْمَدَار على القلب، والاعتمادَ عليه، أَجلَب عليه بالوَساوس، وأَقبَل بوجوه الشَّهوات إليه، وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصدُّه عن الطريق، وأَمَدَّه من أسباب الغيِّ بما يَقطَعه عن أسباب التوفيق، ونَصَبَ له من المصايد والحبائل ما إن سَلِم من الوقوع فيها، لم يَسلَم من أن يَحصُل له بها التعْوِيق[10]

    13. لا نجاةَ من مصايد الشيطان ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعريض لأسباب مَرْضَاته، والْتِجَاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسَكناته، والتحقُّق بذُلِّ العُبودية الذى هو أولى ما تلبَّس به الإنسان؛ ليَحصُل له الدخول في ضمان:

    إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ 

    [الحجر: 42]،

    فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولُها يسبِّب تحقيق مقام العبودية لربِّ العالمين[11]

    14. إذا أُشرب القلبُ العبوديةَ والإخلاص صار عند الله من المقرَّبين، وشَمِله استثناء:

     إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 

    [الحجر: 40] [12] 

    15. الْقلب مَلِك والأعضاء جُنُوده، فإذا طَابَ الْمَلِك طابت جُنُوده، وَإِذا خَبُث الْمَلِك خَبُثت جُنُوده [13]

    16. القلب الصالحُ: هو القلب السليم الذي لا يَنفَع يومَ القيامة عند الله غيرُه، وهو أن يكون سليمًا عن جميع ما يكرهه اللهُ ويَسخَطه، ولا يكون فيه سوى محبَّة الله وإرادته ومحبَّة ما يحبُّه الله، وإرادة ذلك، وكراهة ما يكرهه الله، والنُّفور عنه[14]

    17. القلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الْمَيل على الأهواء المضِلَّة، والشهوات المحرَّمة، وليس فيه من خشية الله ما يكفُّ الجوارح عن اتِّباع هوى النفس؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانُها، والجوارح جنوده ورعيَّته المطيعة له المنقادة لأمره، فإذا صلح الملك، صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك، فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه[15]

    المراجع

    1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 121-122)ـ.
    2.  "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/364).
    3.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 61).
    4.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/  62).
    5.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/  62).
    6.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 31، 32).
    7.  "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 121).
    8.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 276).
    9.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).
    10.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).
    11.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).
    12.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 6).
    13.  "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 193).
    14.  "فتح الباري" لابن رجب (1/ 229).
    15. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 229).