الفوائد العلمية
1- الحديث ليس المرادُ القويَّ في بدنه؛ لأن قوة البَدَن قد تكون ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوَّةَ في معصية الله، فقوَّةُ البدن ليست محمودةً ولا مذمومةً في ذاتها، إن كان الإنسان استعمَل هذه القوَّة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، صارت محمودةً، وإن استعان بهذه القوَّة على معصية الله، صارت مذمومةً
2- المراد بالقوَّة في الحديث: القوّة المحمودة من شدَّة البدن وعزيمة النّفس؛ لأنها تُعين المؤمن على الطاعة، فيكون أكثرَ عملًا، وأطولَ قيامًا، وأكثرَ صيامًا وجهادًا وحَجًّا، وأشدَّ عزيمةً في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصّبر على الأذى في كلِّ ذلك، واحتمال المشاقّ في ذات اللّه تعالى.
3- قد تكون القوَّة بالمال والغِنى، فيكون المؤمن أكثرَ نفقةً في سبيل الخير، وأقلَّ مَيلًا إلى طلب الدنيا، والحرص على جمع شيء فيها
4- في الحديث بيان أن الخير في كلٍّ من المؤمن القويِّ والمؤمن الضعيف؛ بسبب الإيمان الذى هو صفتهما؛ لكن الله قد بايَن بين خَلقه في داره، ورَفَع بعضهم فوق بعض درجات[1]
5- في الحديث بيان أن على المؤمن بلوغ نهاية الجِدِّ والاجتهاد، مع الاستعانة بالله، والتوكُّل عليه، والالتجاء في كلِّ الأمور إليه، فمَن سلكَ هذين الطريقين، حصل على خير الدارين.
6 - - الأمر بالاستعانة بالله لا يُنافي الاستعانة بالمخلوق فيما يستطيع؛ كحمل متاع، أو قضاء حاجة، فهذا جائزٌ؛ ولكن لا تَشعُر نفسُكَ أنها كاستعانتك بالخالق؛ وإنما عليكَ أن تَشعُرَ أنها كمعونة بعض أعضائك لبعضٍ، كما لو عَجَزتَ عن حمل شيء بيد واحدة، فإنكَ تستعينُ على حمله باليد الأُخرى[2]
7- في الحديث الجمع بين أصلين عظيمين، هما مفهوم التوكُّل ومقصودُه؛ فإنه r أمرَ بالحرص على النفع مع الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ؛ ليجمع بين الفعل وحُسن التوكُّل، وهذا مطابقٌ
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
فإن الحرصَ على ما ينفع العبدَ هو طاعةُ الله وعبادته؛ إذ النافعُ له هو طاعةُ الله، ولا شيءَ أنفعُ له من ذلك، وكلُّ ما يُستعان به على الطاعة فهو طاعة، وإن كان من جنس المباح[3]
8- في الحديث النهي عن فعل العاجز من التكاسل، وعدم الحزْم والعزيمة، وليس المعنى: لا يصيبك عجزٌ؛ لأن العجزَ عن الشيء غيرُ التعاجُز؛ فالعجز يكون بغير اختيار من الإنسان.
9- كلمة (لو) ليست حرامًا مطلقًا لا يجوزُ النُّطق بها؛ إنما محلُّ النهي والحرام إن قالها المرء تحسُّرًا على القدر، وتسخُّطًا على قضاء الله، أو ظنَّ فعلًا وحتمًا أنه لو لحصل له كذا من إدراك فوز، أو هربٍ من خسارة، دون ردِّ ذلك إلى قضاء الله وقَدَره، وأنه لا يكون في ملكه إلا ما يُريد، وهو مِثلُ قول الكافرين الذي حكاه الله في القرآن:
﴿ لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾
10- في الحديث بيان أن "لو" تُلقي في القلب معارضةَ القَدَر، وتشوِّش به تشويش الشيطان[5]
11- إن قال الإنسان (لو) على وجه التأسُّف على الخطأ، أو أخبر بـ"لو" عن أمرٍ مستقبلٍ بافتراضه لأمرٍ مستقبَلٍ أنه لو فعل كذا سيحصل كذا، أو عن أمرٍ كان في استطاعته أن يفعله لولا المانعُ
﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾
ومنه قول النبيِّ ﷺ: «لو كنتُ راجمًا امرأةً من غير بيِّنة»[6]، وقوله ﷺ. «لولا أن أشقَّ على أُمَّتي لأمرتهم بالسواك»[7]، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو في الغار مع النبيِّ ﷺ: «لو أن أحدَهم نظَر تحت قدميه لأبصرَنا»[8]
12- الحديث نَهيٌ عَن الْعَجْزِ، وهو التَّسَاهُلُ في الطاعات، وقد استعاذ منه r بقوله: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِن الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَمِن الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ»[9]
13- في الحديث الأمر بالاجتهاد في تحصيل ما ينفع، فالأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفع الإنسان، وقسم يضرُّه، وقسم لا يَنفَع ولا يضرُّ؛ فالإنسان العاقل الذي يَقبَل وصيَّته ﷺ هو الذي يحرص على ما ينفعه[10]
14- في الحديث الأمر بالحرص على كلِّ شيء يَنفَعك، سواءٌ في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت مَنفَعة الدين ومنفعة الدنيا، فقدِّم منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صَلَح صَلَحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين، فإنها تَفسَد
15- في قوله: «احرص على ما ينفعك» إشارةٌ إلى أنه إذا تعارضت منفعتان، إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدِّم المنفعة العليا؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، فتَدخُل في قوله: «احرص على ما ينفعك». وبالعكس إذا كان الإنسان لابدَّ أن يرتكب منهيًّا عنه من أمرين منهيٍّ عنهما، وكان أحدهما أشدَّ، فإنه يَرتكِب الأخفَّ؛ فالمناهي يُقدَّم الأخفُّ منها، والأوامر يُقدَّم الأعلى منها
16-جاءت الشريعة بتكميل المصالح وتحقيقها؛ لقوله ﷺ: «احرصْ على ما ينفعكَ»، فإذا امتثل المؤمنُ أمرَ الرسول ﷺ فهو عبادةٌ، وإن كان ذلك النافع أمرًا دنيويًّا.
17-الإسلام لا يحبِّذ الضعفَ والاستكانةَ، وينهى عنهما.
18-من أقسام الناس في الإيمان والقوة: المؤمن القويُّ، وهذا خير الأقسام وأفضلها، وهو القسم الوحيد الذي يَصلُح للإمامة في الدين، وهو موضعُها، ومنها مَن له قوةٌ وهمةٌ وعزيمةٌ؛ لكنه ضعيفُ البصيرة في الدين، لا يكاد يميِّز بين أولياء الرحمن من أولياء الشيطان؛ بل يَحسَب كلَّ سوداءَ تمرةً، وكلَّ بيضاءَ شحمةً، يحسب الورمَ شحمًا والدواءَ النافعَ سُمًّا
المراجع
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157).
- "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (2/ 369).
-
انظر: أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 50).
-
انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 421).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157، 158).
-
رواه البخاري (7238)، ومسلم (1497).
-
أخرجه البخاري (7240).
-
رواه البخاري (3653)، ومسلم (2381).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 690)، والحديث رواه البخاريُّ (6363).
-
"شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/78).
الفوائد العقدية
19-إن "لو" تفتح عمل الشيطان؛ أي: تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم، حتى تقول: لو أني فعلت لكان كذا. فلا تقل هذا؛ إذ إن هذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تُخلَق السموات والأرض؛«ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل»
20-يجب العلم أن الله تعالى لا يفعل شيئًا إلا لحِكمةٍ خَفِيت علينا أو ظَهَرت لنا؛
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
فبيَّن أن مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم، وكم من شيء كَرِه الإنسان وقوعه، فصار في العاقبة خيرًا له؛
وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ
21-«قدر الله وما شاء فعل»: الاحتجاج بالقدر في موضعه لا بأس به؛ ولهذا قال الله لنبيِّه ﷺ :
تَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ
فبيَّن له أن شِركهم بمشيئته، والاحتجاج بالقدر على الاستمرار في المعصية، هذا حرام لا يجوز؛ لأن الله قال:
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ
22-الاحتجاج بالقدر ممنوع إذا أراد الإنسان أن يستمرَّ على المعصية؛ ليَدفَع اللَّوم عن نفسه، نقول مثلًا: يا فلان، صلِّ مع الجماعة، فيقول: والله لو هداني الله لصلَّيتُ، فهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يحتجُّ بالقدر؛ ليستمرَّ في المعصية والمخالفة؛ لكن إن وقع الإنسان في خطأ وتاب إلى الله، وأناب إلى الله وندم وقال: إن هذا الشيء مقدَّر عليَّ؛ ولكن أستغفر الله وأتوب إليه. نقول: هذا صحيح، إن تاب واحتجَّ بالقدر، فليس هناك مانع[3]
23-في الحديث إثبات صفة المحبة لله - عزَّ وجلَّ - حقيقةً.
24-يجوز أن يحتجَّ الإنسان بالقَدَر على ما ليس في مقدوره، ولا يجوز له أن يحتجَّ بالقَدَر ويتكاسل عن الفعل الذي يستطيع.
1- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/83، 84).
2- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/85).
3- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 86).
الفوائد الحديثية
25-عقد الإمام البخاريُّ بابًا في صحيحه باسم: باب ما يجوز من اللَّوْ[1]
26-جميع ما أدخل البخاريُّ في باب (ما يجوز من اللَّوْ) مما يُستقبَل مما لا اعتراض فيه على قَدَر، ولا كراهةَ في قوله جُملة؛ مثل قوله : «ولو كنتُ راجمًا أحدًا بغير بيِّنة لرجمتُ هذه»؛ لأنه إنما أخبر عما يَعتقِد أنه كان يفعله لولا المانعُ له، وما في قدرته فعلُه، وما انقضى وذهب ليس في القدرة، ولا في الإمكان فعله بعدُ[2]
27-وقع التعارض ظاهرًا بين هذا الحديث وحديث: «هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم؟!»[3] وعند التأمُّل لا تَدَافُع؛ إذ المراد بمدح القوَّة: القوَّةُ في ذات الله، وشدَّة العزيمة، وبمدح الضعف: لينُ الجانب، ورقَّةُ القلب، والانكسار بمشاهدة جلال الجبَّار، أو المراد بذمِّ القوَّة: التجبُّر والاستكبار، وبذمِّ الضعف: ضعفُ العزيمة في القيام بحقِّ الواحد القهَّار، على أنه لم يقل هنا: إنهم يُنصَرون بقوة الضعفاء؛ وإنما مراده بدعائهم أو بإخلاصهم أو نحو ذلك مما مرَّ[4]
المراجع
- انظر: صحيح البخاري (9/ 85).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157، 158).
- رواه البخاريُّ (2896).
- "فيض القدير" للمناويِّ (1/ 83).
الفوائد التربوية
28-المفاضلةُ تبعَثُ على زيادة العمل لإدراك الأجر.
29-مراعاة جَبْر خاطر المفضول؛ فإن الأفضلية لا تَعني أن المفضول لا خيرَ فيه؛ بل «في كُلٍّ خيرٌ».
30-تعليم الناس مفهوم التوكُّل الصحيح، وهو الاستعانةُ بالله مع العمل، وقد ظهر ذلك في الحديث بالأمر بالحرص على النافع، مع الأمر بالاستعانة بالله.
31-تعليم الناس التفرقة بين الاحتجاج بالقَدَر مع التقاعُس عن العمل، وبين الاحتجاج بعد العمل، وفوات المطلوب.
32-ينبغي على الداعية أن يربط بين الأمر والنهي ببيان السبب والدليل؛ فيقول: لا يجوزُ هذا الأمر بسبب كذا؛ كما قال النبيُّ ﷺ مُعلِّلًا: «فإن "لو" تفتحُ عمل الشيطان».
الفوائد اللغوية
33-قال ﷺ: «وفي كل خير»؛ لئلا يتوهَّم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه، وهذا الأسلوب يسمِّيه البلاغيون الاحتراز، وهو أن يتكلَّم الإنسان كلامًا يُوهِم معنًى لا يَقصِده، فيأتي بجملة تبيِّن أنه يقصد المعنى المعيَّن، ومثال ذلك في القرآن
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ
( أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا )
يُوهِم أن الآخرين ليس لهم حظٌّ من هذا،
34- الواو في قوله: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ واستعنْ بالله» بمعنى المعية، فتقتضي الجمعَ، فتكون الاستعانةُ مقرونةً بالحرص، فلا بد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من بداية الحرص عليه.
35- «احْرِصْ» من حَرَص يَحرِص كضَرَب يَضرِب، ويقال: حَرِصَ كسَمِعَ. «ولا تَعْجِز» بفتح كسرها
1-"شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 77، 78).