الفوائد العلمية
1. في الحديث بيان حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر، حيث دار الحديث حول تفصيل خلق الإنسان وتصوير مراحل خلقِه؛ ليتصوَّر حقيقةَ الخَلق، والحياة، والموت، والقَدَر.
2. في الحديث بيان مبدأ الخَلق ونهايته، وأحكام القدر في المبدأ والْمَعاد، فهو جامع لأحوال الإنسان من مبدأ خلقه، ومجيئه إلى هذه الحياة الدنيا، إلى آخر أحواله من الخلود في دار السعادة أو الشقاء، بما كان منه في الحياة الدنيا من كسب وعمل وَفْقَ ما سبق في علم الله وقدره وقضائه.
3. هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النُّبوَّة، ودليل على صدق رسالة النبيِّ ﷺ حيث إنه في أمور الغيب، ففيه وصف تفصيليٌّ لخَلق الإنسان، ولم يكن معروفًا حينها في الطبِّ، وهناك ما هو فوق الطب؛ كتابة الرزق، والأجل، والعمل، والشقاء أو السعادة.
4. في الحديث بيان أن العبرة بالخواتيم، وعلى الإنسان ألَّا يغترَّ بعمله،
5. الرزق في الحديث: ما يَنتفِع به الإنسان، وهو نوعان: رزق يقوم به البَدَن، ورزق يقوم به الدِّين. والرزق الذي يقوم به البَدَن: هو الأكل والشُّرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك، والرزق الذي يقوم به الدين: هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث [2]
6. الله أعلم بكيفية نفخ الروح، والروح من أمر الله؛
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًﱠ)
حتى إنه في الردِّ على الْمُلحِدين الذين يقولون: "لا نؤمن إلا بما ندركه بالحواسِّ فقط، لا نؤمن بالأثر"، فيُحتَجُّ عليهم: فلماذا تؤمنون بالروح وأنتم لا تدركونها بحواسِّكم؛ بل تدركون أثرها فقط؛ فهي دليل على وجود الحياة؟
7. في الحديث إشارة إلى أن جسد الإنسان يُخلَق قبل رُوحه [3]
8. الروح عجيبة، لها حال في المنام فتخرج من البَدَن؛ لكن ليس خروجًا تامًّا، فتجد نفسك تجوب الفيافيَ، ربما وصلتَ إلى الصين أو إلى أقصى المغرب، وربما طِرْتَ بالطائرة، وربما ركبت السيارة، وأنت في مكانك، واللحاف قد غطَّى جسمك، ومع ذلك تتجوَّل في الأرض، ولسنا نعلم منها إلا ما جاء في الكتاب والسنَّة، وما لا نعلمه نَكِلُ علمَه لله سبحانه وتعالى[4]
9. عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله ﷺ
«كتَب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألْفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماء»
والحكمةُ من تلك الكتابة التي يكتبها الملَك كَوْنُ ما كتبه قابلًا للمَحْوِ والإزالة والتغيير، بخلاف ما كتبه في اللوح المحفوظ؛ فإنه ثابتٌ لا يتغيَّر [6].
10 قوله: «شقيٌّ أو سعيد»، والمراد أنّه يَكتُب لكلّ أحد إمّا السّعادة وإمّا الشّقاء، ولا يكتبهما لواحد معًا، وإن أمكن وجودهما منه؛ لأنّ الحُكم إذا اجتمعا للأغلب، وإذا ترتَّبا فللخاتمة؛ فلذلك اقتصر على أربع، وإلّا لقال: خمس [7]
11 للتأمُّل في أهمية الدم في بقاء حياة الإنسان؛ أن أصل الإنسان بعد النُّطفة العَلَقة، والعلقةُ دمٌ؛ ولذلك إذا نزف دم الإنسان هلك.
12 هذه الصورة التفصيلية الواردة في الحديث ذُكرت في القرآن الكريم في أكثرَ من موضع؛ مثل
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ,ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ , ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ ﴾
الفوائد العقدية
13. في هذا الحديث ردٌّ لقول القَدَرية واعتقادهم أن العبد يَخلُق أفعاله كلَّها من الطاعات والمعاصي[1]
14. في الحديث إثبات القدَر، كما هو مذهب أهل السُّنة، وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقَدَره؛ خيرها وشرِّها، نفعها وضرِّها[2]
15. لا يجب على الله رعاية الأصلح، خلافًا لمَن قال به من المعتزلة؛ لأن في الحديث أن بعض الناس يذهَب جميع عمره في طاعة الله، ثم يُختَم له بالكفر فيموت على ذلك، فيدخل النار، فلو كان يجب عليه رعايةُ الأصلح لم يُحبط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها، ولا سيَّما إن طال عُمره، وقَرُب موته من كفره[3]
16. في الحديث أن الملائكةَ - عليهم السلامُ - منهم الموكَّلون ببني آدم، وأنهم عبيدٌ يُؤمَرون ويُنهَوْن؛ لقوله r: «فَيُؤمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ»، والآمرُ له هو الله عزَّ وجلَّ.
17. الرُّوح ليست من جنس هذا البدن، ولا جنس العناصر والمولَّدات منها؛ بل هي آخَرُ مخالِفٌ لهذه الأجناس خلافًا لما يراه الجهمية والمعتزلة أن الرُّوح جزء من أجزاء البدن، أو صفة من صفاته، والفلاسفة المشاؤون، ومَن سلك سبيلهم أثبتوا وجود الروح مستقلَّة عن البدن [4]
18. في الحديث أن تقدير أمر الإنسان؛ رزقه وأجله وعمله، وهو في بطن أمه، وهو تقدير خاصٌّ لا يُنافي القدر الأول في اللوح المحفوظ[5]
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 296).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 39).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 490).
- انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (3/31-32).
- "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 12).
الفوائد التربوية
19. لو تلمَّس الإنسان الحكمة من خلق الإنسان طَوْرًا بعد طور، وهو القادر سبحانه على أن يقول للشيء: كن فيكون؛ فهي تربية إيمانية على التأنِّي في الأمور، وعدم استعجال النتائج، كما أنها توضيح للارتباط الوثيق الذي جعله الله تعالى بين الأسباب والمسبِّبات، والمقدِّمات والنتائج، ومراعاة نواميس الكون في ذلك .
20. قول ابن مسعودرضي الله عنه: «وهو الصادق المصدوق»: فيه تعظيم الصحابة للنبيِّ ، وتذكير المتلقِّين الذين سيتلقَّون الحديث بما يجعلهم في حالة نفسية متأهِّبة ومستعدَّة لتلقِّي الغَيب، والتسليم التامِّ للصادق المصدوق .
21. عدم القطع لأحد بأنه من أهل الجنة أو أهل النار، من ظاهر أعماله؛ فالأعمال بالخواتيم، والقلوب بين يدي الله تعالى يقلِّبها كيف يشاء.
الفوائد الفقهية
22. يختلف العلماء على أن نفخ الروح في الجَنين إنما يكون بعد مِائة وعشرين يومًا، وهو ما دلَّت عليه الأدلة، وحينئذ فقط تتعلَّق به الأحكام الفقهية، فإذا سقط الجنين في ذلك الوقت صُلِّي عليه - كما هو في مذهب الإمام أحمد - وكذلك تجري عليه أحكام الإرث ووجوب النفقة وغيرهما؛ لحصول الثقة بحركة الجنين في الرحم.
23. الطَّوْرَ الثالث هي الْمُضغَة، هذه المضغة تكون مخلَّقة وغير مخلَّقة بنصِّ القرآن؛
﴿ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾
فلو سقطت هذه الْمُضغة غير مخلَّقة، لم يكن الدمُ الذي يَخرُج نِفاسًا؛ بل دمٌ فاسد. ولو سقطت هذه المضغة قبل أن تخلَّق، وكانت المرأة في عِدَّة، لم تنقضِ العِدَّة؛ لأنه لابد في انقضاء العِدَّة أن يكون الحَمْلُ مخلَّقًا، ولابدَّ لثبوت النِّفاس من أن يكون الحمل مخلَّقًا؛ لأنه قبل التخليق يُحتمَل أن تكون قطعةَ لحم فقط، وليست آدميًّا، فلذلك؛ لا نَعدِل إلى إثبات هذه الأحكام إلا بيقين بأن يتبيَّن فيه خَلق إنسان[1].
24 في الحديث أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر؛ لقوله ﷺ: «ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوحَ»، وينبني على هذا: أنه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه، فإنه يُغسَّل، ويكفَّن، ويصلَّى عليه، ويُدفَن في مقابر المسلمين، ويسمَّى ويُعَقُّ عنه؛ لأنه صار آدميًّا إنسانًا، فيَثبُت له حكم الكبير. وأنه بعد نفخ الروح فيه يَحرُم إسقاطه بكلِّ حال، فإذا نُفخت فيه الروح، فلا يمكِن إسقاطه؛ لأن إسقاطه حينئذ يكون سببًا لهلاكه، ولا يجوز قتله وهو إنسان.
المراجع
- انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين [ص 90، 91]